مع توجه الناخبين في 76 دولة إلى صناديق الاقتراع في عام 2024، فإن هذا العام هو عام تحطيم الأرقام القياسية بالنسبة للديمقراطية. ومع ذلك، فهو يتزامن مع ارتفاع مثير للقلق في الشعبوية اليمينية التي تلقي باللائمة بشكل متزايد على السياسات الرامية إلى معالجة تغير المناخ باعتبارها السبب وراء الصعوبات الاقتصادية التي يعاني منها الناخبون، وعلى الرغم من الإمكانات الواضحة للمبادرات الخضراء من أجل تعزيز الدخل والإنتاجية والنمو الاقتصادي، فإن اليسار التقدمي يكافح من أجل صياغة سردية مضادة مقنعة.
لو نظرنا إلى النقاش الدائر حاليا في المملكة المتحدة حول خطة الازدهار الأخضر التي أقرها حزب العمال بقيمة 28 مليار جنيه إسترليني (35.5 مليار دولار أمريكي)، والتي قدّمها كأداة رئيسية «لجعل بريطانيا قوة عظمى في مجال الطاقة النظيفة»، لوجدنا أنه بدلًا من التركيز على المبالغ التي سيتم إنفاقها، يجب أن تركز النقاشات على ما الذي نحتاجه لإكمال المهمة المذكورة. ليس الهدف هو حل المشكلة من خلال إنفاق الأموال مع الأمل بأن تسير الأمور بشكل جيد؛ بل يجب تقديم استراتيجية لحشد استثمارات ضخمة من القطاعين العام والخاص من أجل تحقيق هدف جماعي.
ولكي يجعل حزب العمال من الطاقة النظيفة محركا لاستراتيجياته الصناعية والمالية والإبداعية، فإنه يحتاج إلى سردية جديدة بحيث يتعين عليه أن يُظهر بأن الحكومة المصممة على إنجاز المهمة سوف تعمل مع الشركات للاستثمار والابتكار بطريقة تركّز على تحقيق النتائج، وهذا سوف يؤدي إلى مهارات جديدة ووظائف ومكاسب في الإنتاجية وأجور أعلى.
يستطيع حزب العمال أن يدعم قضيته من خلال ست حجج. أولا، لا ينبغي أن يكون هناك أي مفاضلة بين العمل المناخي والنمو الاقتصادي. تتمتع المملكة المتحدة بصناعة خضراء وأسواق رأسمالية ضخمة يمكنها الاستفادة منها من خلال استثمارات القطاع العام الموجهة نحو تحقيق أهدافها. سوف تبلغ قيمة الصناعات الخضراء أكثر من 10 تريليونات دولار على مستوى العالم بحلول عام 2050، وفي المملكة المتحدة تنمو هذه الصناعات بمعدل أسرع بمقدار أربعة أضعاف مقارنة ببقية الاقتصاد. عندما يكون لدى الاستثمار العام مهمة واضحة، سيكون قادرًا على خلق أسواق جديدة وحشد الاستثمار الخاص وزيادة القدرة التنافسية على المدى الطويل، ويعد قطاع الصلب الأخضر في ألمانيا مثالا جيدا حيث يدين بالفضل لنموه إلى برنامج القروض الخضراء التابع للبنك العام الألماني، والذي ساعد في خلق سوق جديدة تماما للصلب الذي يتسم بالكفاءة في استخدام الكربون.
ثانيًا، يمثل تمويل المناخ استثمارًا وليس تكلفة، ومن الممكن أن تعمل السياسات الموجهة نحو تحقيق الأهداف على حشد استثمارات القطاع الخاص وذلك من خلال زيادة القدرة الإنتاجية للشركات وتحفيز النشاط الاقتصادي عبر القطاعات، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تأثيرات غير مباشرة إيجابية الآن وفي المستقبل. لقد تطلبت مهمة أبولو التابعة لناسا والهبوط على سطح القمر البحث والتطوير ليس فقط في مجال تكنولوجيا الفضاء الجوي ولكن أيضًا في مجال التغذية والمواد والإلكترونيات والبرمجيات. إن الهواتف المزودة بكاميرات وبطانيات القصدير وحليب الأطفال وبرامج الكمبيوتر ليست سوى عدد قليل من مئات الابتكارات التي لا تزال تفيدنا حتى اليوم.
من الممكن أن تعمل استراتيجيات معالجة تغير المناخ على إعادة خلق هذا النمط من خلال الاستثمارات في البنية الأساسية، والنقل، والزراعة، والطاقة، والابتكار الرقمي. إن البلدان التي كانت سبّاقة في استخدام الطرق الموفرة للطاقة من أجل إنتاج الصلب والأسمنت بالإضافة إلى أساليب أنظف لاستخراج المعادن الرئيسية سوف تصبح أكثر قدرة على المنافسة مع تطبيع المعايير الخضراء. كما أن الاقتصاد الرقمي الذي يساعد القطاعات على التحول إلى الاقتصاد الأخضر سوف يجذب الاستثمار العالمي، وبالمثل، يتطلب برنامج الوجبات المدرسية الذي يضمن الوصول إلى وجبات غداء صحية ولذيذة ومستدامة لجميع الأطفال مشتريات عامة تركّز على تحقيق النتائج والتعاون مع الشركات الخضراء المحلية عبر سلسلة الإمدادات الغذائية.
ثالثًا، تتطلب المهمات تمويلًا صبورًا وطويل الأجل ومتحملًا للمخاطر بحيث يمكنه أن يحشد أشكالًا أخرى من التمويل ويدفع التغييرات التحويلية في مراحل مختلفة من دورة الابتكار والأعمال. إذا تم تنظيم التمويل العام بشكل جيد، فإنه قادر على تشكيل بل وخلق الأسواق من خلال توجيه القروض والمنح والضمانات والأدوات القائمة على الديون والأسهم نحو الشركات الراغبة في الاستثمار في حل مشاكل محددة، وعلى الرغم من تقديم هذا المصطلح في كثير من الأحيان كشكل من أشكال «التخلص من المخاطر»، فإن هناك خطأ في فهم المغزى الحقيقي حيث تتطلب هذه الحالات خوض المخاطر، وبالتالي آليات لتقاسم المخاطر والمكاسب.
أما بالنسبة للطاقة المتجددة ففي كثير من الأحيان استثمرت بنوك التنمية الوطنية في مختلف أنحاء العالم في محافظ استثمارية تشتمل على تقنيات عالية المخاطر تشق طريقها نحو التسويق التجاري القابل للتطوير، فمن خلال قيادة المشاريع بالمراحل المبكرة وذات المخاطر العالية والتي تتطلب رأسمالا كبيرا، يصبح بوسع التمويل العام أن يعمل كمستثمر الملاذ الأول، وليس مقرض الملاذ الأخير وأن يؤدي دورا بالغ الأهمية في خلق وتشكيل أسواق خضراء جديدة.
رابعًا، إن قدرات القطاع العام مهمة حيث تتطلب مهمة الطاقة النظيفة الوطنية الطموحة حكومات وطنية وإقليمية ومحلية واثقة وكفؤة ومجهزة تجهيزًا جيدًا بحيث تعمل معًا من أجل استخدام أدوات مثل المشتريات والاستثمارات الموجهة نحو تحقيق النتائج، ومن أجل نشر وتشغيل خطة المناخ التي تبلغ قيمتها 28 مليار جنيه إسترليني بشكل فعال، تحتاج المملكة المتحدة إلى المهارات المناسبة في كل من الصناعات الخضراء وفي مؤسسات القطاع العام، ومع ذلك، أصبحت العديد من الحكومات، بما في ذلك في المملكة المتحدة، تعتمد بشكل مفرط على الشركات الاستشارية الكبرى التي تعتمد نماذج الأعمال الاستخراجية مما أدى إلى تقزم قدرة الدولة، ومع قيام حزب العمال بزيادة اعتماده على الاستشاريين بمقدار أربعة أضعاف، فإن من الواضح أن من الضروري تغيير المسار.
خامسًا، يتطلب التحول الأخضر العادل عقدًا اجتماعيًّا جديدًا وهذا يعني إعادة تعريف الشراكة الاعتيادية بين الحكومة وقطاع الأعمال، وفي حين أن معدلات الربح مرتفعة على مستوى العالم، فإن معدلات الاستثمار ليست كذلك، وذلك بسبب تزايد أهمية قطاع التمويل والأعمال على حساب القطاعات الأخرى، وفي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، يذهب 20% فقط من التمويل إلى الاقتصاد الإنتاجي؛ ويتدفق الباقي إلى مجالات التمويل والتأمين والعقارات التي تتسم بقدر أكبر من المضاربة.
بالإضافة إلى سياسات إعادة التوزيع (مثل ضريبة الثروة التصاعدية)، فإن وضع المصلحة العامة في قلب الاقتصاد يتطلب تدابير إضافية قبل التوزيع. على سبيل المثال، ينبغي لحزب العمال تضمين شروط في خطة الازدهار الأخضر لضمان قدرة المستهلكين على الوصول إلى السلع والخدمات، أو تقاسم الأرباح الناتجة عن الدعم العام مع مجموعة أوسع من أصحاب المصلحة، بما في ذلك العمال.
يجب على الشركات التي تتلقى الدعم الحكومي أن تلتزم بإعادة استثمار أرباحها في الابتكار الأخضر وتحسين ظروف العمل والأجور، وكما أظهر انتصار اتحاد عمال السيارات المتحدين مؤخرا في الولايات المتحدة، فإن النقابات العمالية هي ذات أهمية بالغة لضمان أن يؤدي تخضير الاقتصاد إلى تحسين المهارات، وأن الزيادات في الإنتاجية تقابلها أجور أعلى.
وأخيرًا، يجب أن يُنظر إلى خطة الـ 28 مليار جنيه استرليني على أنها استثمار في المستقبل المالي للبلاد، وعلى الرغم من أن الاستثمار العام قد يؤدي إلى زيادة العجز على المدى القصير، فإن التوسع الاقتصادي الذي يعمل على تخضير القدرة الإنتاجية في التصنيع والخدمات من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف إلى خفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. لم يؤد التقشف المالي على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية إلى إضعاف النسيج الاجتماعي فحسب، بل وأيضا إلى إضعاف الاقتصاد وإمكانات نموه (كما فعل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والذي أدى إلى انخفاض حجم السوق بالنسبة للصناعات في المملكة المتحدة)، ومن خلال إنشاء مركز ديناميكي للاستثمار الأخضر والابتكار في مختلف قطاعات الاقتصاد، بما في ذلك الخدمات العامة مثل التنقل المستدام، تستطيع الحكومة التي تركّز على تحقيق المهمات أن تعمل على تحسين الوضع المالي للبلاد على المدى الطويل، وبالنسبة للمناخ والمجتمع على حد سواء، فإن التقاعس عن العمل هو الخيار الأكثر تكلفة. وتشمل مصادر التمويل السندات الخضراء البريطانية -السندات الحكومية المصممة خصيصًا للمبادرات الخضراء- فضلا عن الإصلاحات المقترحة لقواعد المحاسبة العامة التي عفا عليها الزمن في المملكة المتحدة، وفي الوقت الحالي، يتم احتساب القروض المقدمة من البنوك الاستثمارية الحكومية كجزء من الدين العام الإجمالي، في حين أن العائدات التي تحققها للدولة لا يتم احتسابها.
يؤدي هذا الأمر الغريب إلى تضخيم أرقام الدين العام بشكل مصطنع، وببساطة، من خلال مواءمة قواعدها مع المعايير العالمية، تستطيع المملكة المتحدة الاستفادة من البنوك العامة، مثل بنك البنية التحتية في المملكة المتحدة، بشكل أكثر فعالية.
ومع وجود العديد من الانتخابات هذا العام، فإن سردية التقدم الأخضر تعد ضرورية، ومن أجل إقناع الناخبين، يتعين عليها أن تُظهر كيف يمكن للاستثمارات العامة والخاصة الجديدة التي تهدف إلى تحقيق نتائج مفيدة اجتماعيا وبيئيا أن تعمل على مضاعفة النمو على مستوى الاقتصاد بالكامل، وهو أمر مفيد للناس والكوكب.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی المملکة المتحدة حزب العمال أن یؤدی أن تعمل من خلال من أجل
إقرأ أيضاً:
«الغيطانى» حكاء الماضى.. سردية الوجع الإنسانى
استلهم التراث وبرع فى الإسقاط صاحب الزينى بركات.. تجربة إبداعية فريدة الجمالية وعمله بالسجاد.. أدوات شكلت إبداعهالغيطانى ومحفوظ.. ثنائية أثقلتها القاهرة القديمة عمل محررًا عسكريًا وكتب عن أحداث الحرب
«كل شىء فى سفر دائم ولكل شىء زمان»
بضع كلمات ربما استطاع من خلالها أن يجسد مشوارا فريدا من الإبداع المختلف، زمن الأشياء، بما يمثله من ماض وحاضر، وجهان استطاع أن يمزج بينهما باحترافية أديب أريب، ذلك السفر الذى يتراوحان خلاله، الماضى والحاضر، بكل ما يحفلان من أحداث رأى بينها تشابها لا ينفك، فقارب بتمكن فيلسوف بين ماض سحيق قد تأنفه الذاكرة، وحاضر نحاول الهروب من ثقله، ليضعنا جميعا رغما عنا وبإرادتنا أمامه.
هذا هو الأديب والصحفى العظيم جمال الغيطانى، ولأنه أبن المدينة العتيقة المدججة بالتاريخ.. القاهرة المملوكية، فقد تفتح وعيه صغيرا على تاريخ طويل من حكايات قديمة تحكيها القصور والمشربيات والقباب والبوابات والمآذن، ماض أفاض عليه بأسئلة شتى، وفجر بداخله فيوضات إبداع لا تنتهى.
* لغة سردية متفردة
هكذا استطاع أن يوجد لنفسه لغة سردية مختلفة، تجمع بين الماضى والحاضر، وكأنها منحوتة من التاريخ وأحداثه، أو كأنها وثيقة تاريخية لا يمكن مضاهاتها، بكل ما يحمله التاريخ من صراعات ووقائع وآمال، حتى إذا ظننت نفسك قد أمسكت بمفاتيح سرده، وجدت نفسك غارقا فى عمق حاضرك وآلامك، فهو يأخذك بكليتك من قبضة حدث مغرق فى القدم ليلقيك عند قدمى حاضرك، لذا فإن حضور التاريخ لدى الغيطانى ليس حضورا شكلانيا أو استحضارا حرفيا، بل هو أداة للإشارة إلى وقائع حاضرة، متعلقة بحلم يكمن فى الذاكرة، إنها تلك السردية التى تقبض بعنفوانها على الزمان بأحداثه واختلافه والمكان بتجلياته وفيوضاته.
ولأنه وعلى طول ما يزيد على الخمسين عملا، استحضر الغيطانى خلالها الموروث الإنسانى فى كل طبقاته الحضارية، وأفاد منه فى تنويع آفاق تجربته فى الكتابة، فقد عدت تجربته الإبداعية من أكثر التجارب نضجًا فى عالم الأدب العربى.
* طبيب الوجع الإنسانى
أدرك الغيطانى أن الوجع الإنسانى لا يختلف من زمن لآخر، إنه التيمة الأكثر تواجدا بين العصور، لذا فقد نصب قلمه معبرا عن ذلك الوجع، خالقا تلك المسافة الجامعة بين الأزمنة مهما بعدت، ليصبح هناك جسر تعبر عليه آلام البشر جميعا عل التقاءها يخفف من وطأتها.
وبحنكة شاب صعيدى تشرب طفلا من شوارع القاهرة المملوكية، وامتهن صناعة السجاد فى بدء شبابه، فقد تمكن من مزج الأزمنة والأحداث التاريخية وإسقاطها على زمن مغاير لزمانها، تماما كما تفعل أنامله فى مزج خيوط السجاد وألوانه ونسجه، وكلها تصب فى هدف وحيد، إزالة تلك الآلام التى تنخر فينا، هكذا تجده يستحضر ماضى الدولة المملوكية ويسقطه على الحاضر الناصرى والساداتى.
فإن تنوع خبراته، ما بين النشأة فى حى شعبى أثرى، ودراسة فن السجاد بإيقاعه الشرقى، والعمل بالصحافة، وصداقته الكبيرة لنجيب محفوظ منذ كان فى الرابعة عشرة من عمره، كلها أهلته لأن يخلق لنفسه مشروعا إبداعيا مغايرا ومتفردا عن كل ما عداه.
«اكتشفت نفسى بنفسى، مش بس كأديب.. ومن تكوينى أدركت أنى ولدت لأكتب من عمر 7 سنوات».
* ملامح تتضح
مثلت مجموعة الغيطانى القصصية «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» التى صدرت سنة 1969، ملامح مشروعه المتفرد بشكل واضح، واتضح أنها بداية لتيار جديد فى الكتابة، قد نضجت ملامحه مع رواية «الزينى بركات» سنة 1974، و«وقائع حارة الزعفرانى» 1976، و«خطط الغيطانى» 1980، و«إتحاف الزمان بحكاية جلبى السلطان - عام 1985».
تعد رواية الزينى بركات من الروايات البارزة فى الأدب العربى حيث عالجت ظاهرة القمع والخوف، وعرت أسبابها السرية المرعبة.
وانطلاقا من واقع ثقيل يستعيد الغيطانى تاريخ ابن إياس فى «بدائع الزهور»، مجسدًا شخصية سردية موازية لشخصية كبير البصاصين الشهاب الأعظم زكريا بن راضى ووالى الحسبة الزينى بركات فى العصر المملوكى الذى يفضح، خلال فصول الرواية، وسائله فى تعذيب الفلاحين والتجار ليحصل منهم على المال، بالإرغام والإكراه والإقرار بجرائم لم يرتكبوها، بل إنه كان يتلذذ بذلك أمام عينيه، فهو هنا يتناول فكرة السجن منطلقا من شخصية السجان فيما يشبه القراءة النفسية له، باعتباره أداة القهر من خلال شخصية والى الحسبة، الزينى بركات، والشهاب الأعظم زكريا بن راضى، مع حضور الإسقاط السياسى.
يتجلى أمامنا أيضا ذلك الإسقاط السياسى فى أعمال الغيطانى، ولكن على نحو فانتازى فى «هاتف المغيب»، كما لم تفارقه اللغة التراثية فى «دفاتر التدوين» السبعة التى جاءت أشبه بالشذرات والذكريات التى تفيض بالتأمل والسرد الروائى.
وفى «التجليات» مزج فى بردة صوفية بين الحضور الحلم لصورة الأب، وبين أب روحى آخر، تجسد فى شخصية الزعيم جمال عبدالناصر، يحاور الاثنين بلغة سردية ممزوجة بروح التاريخ والحاضر معًا، كما تنوعت هذه اللغة ما بين المشهدية الواقعية فى إيقاعها اليومى، ومحاولة استعادة روح الماضى والبطولة الإنسانية فى مجموعته القصصية «أرض.. أرض»، التى استفاد منها من تقاريره الصحافية التى كان يكتبها ويطالعها حين عمل مراسلاً حربيًا، وكذلك فى رواية الرفاعى، التى نسجها من كلمات للشهيد إبراهيم الرفاعى الذى استشهد وهو يقود جنوده فى حرب الاستنزاف.
* التجريب عند الغيطانى
تمثل رواية «وقائع حارة الزعفرانى» ذروة روح التجريب الفنى فى أعمال الغيطانى، من خلال حدث مروع هو (وباء الزعفرانى) الذى يهدد حياة سكان حارة شعبية فى مقتل، فكل سكان الحارة يفقدون قدرتهم الجنسية عدا شخص واحد غير معروف. وتنفتح الرواية على الحدث ببناء سردى شائق لا يدغدغ حواس القارئ، بحبكة تقليدية، وإنما عبر مسافة مركبة من البحث والتقصى، وإثارة الأسئلة، من خلال معاناة الشخوص، وفى علاقات وسياقات سردية مفعمة بالتجريب والتجديد.
يقول الغيطانى فى «وقائع حارة الزعفرانى»: «استفدت من تجربة ابن إياس اللغوية على الرغم أن الموضوع ليس تاريخيًا، كان ابن إياس يكتب أفظع الحوادث بالهدوء نفسه الذى يكتب به أبسط الحوادث، كان يوجد مسافة موضوعية بينه وبين الحدث، فى الزعفرانى كنت أعبر عن الأحداث بروح محايدة لأننى أحاول أن أستكشف الشخصى فى العام، والماضى فى الحاضر، والعكس أيضًا».
بروفايل:
ولد جمال الغيطانى فى صعيد مصر، فى مدينة جِهينة بسوهاج فى 9 مايو 1945، ثم انتقلت والدته بعدها إلى القاهرة بسبب عمل الوالد، لتجمع نشأته بين الأصول الجنوبية فى ظل حفاظ الأب والأم على لكنتهما، وبين الترعرع فى الجمالية قلب التاريخ.
كانت أسرته فقيرة، ولكنه يذكر كيف كانت والدته الصعيدية «ذاكرة حية متنقلة للحكم والأمثال والحكايات والثقافة الشفهية»، فكانت تستمع لحكاياته وهو ابن السابعة وتتفاعل مع تخيلاته عن النفق الذى اكتشفه فى الحارة ووجد به التماثيل وحديث أحدهم له، أما والده فكان رجلا عاملا لم يكمل تعليمه «لكن كلامه كان زى الشعر».
بعد أن أنهى الدراسة الإعدادية، التحق بمدرسة الفنون والصنائع بالعباسية، ودرس بها لثلاث سنوات صناعة السجاد، ثم امتهن تصميم السجاد الشرقى وعمل فى أحد مصانع خان الخليلى، ثم انتقل للعمل فى الجمعية التعاونية المصرية لصناع وفنانى خان الخليلى، وأشرف على عدد من مصانع السجاد الصغيرة فى القاهرة والمنيا.
* صداقته بمحفوظ وبدء الإبداع
وهو فى سن ١٤ عاما التقى نجيب محفوظ خلال تمشيته اليومية على كوبرى قصر النيل.
صار نجيب محفوظ أستاذا ومعلما، كما كان بوابته إلى الحياة الثقافية والمثقفين، جمعهما الأدب والصداقة، وعنه يقول «كان أبويا الروحى وسرى كان معاه.. علاقتنا استمرت حتى شهدت على لحظاته الأخيرة».
بدأ الكتابة فى عمر صغير، حين كان مراهقا، وأولى مظاهرها كانت فى القصة القصيرة، التى نشر منها بصورة متفرقة ما يفوق الـ 50 قصة قصيرة فى مصر وبيروت، فى البدايات واجه النشر صعوبة كبيرة، حتى استطاع عام 1969 نشر مجموعته القصصية «أوراق شاب منذ ألف عام» التى قرأها الكاتب والمفكر محمود أمين العالم، وطلب منه العمل محرر ثقافى فى جريدة «أخبار اليوم».
وعمل بعد عام 1974، بقسم التحقيقات الصحفية، ثم صار رئيسا لقسم الأدب فى جريدة أخبار اليوم عام 1985، وأسس جريدة «معرض 68» الأدبية، التى كانت تجمع كُتاب جيله، كما ساهم فى تأسيس جريدة «أخبار الأدب» عام 1993، وظل يرأس تحريرها حتى عام 2011.
* محرر عسكرى ومؤرخ للحرب
بعد هزيمة يونيو 1967، عمل محررا عسكريا على الجبهة حتى حرب أكتوبر 1973 مرورا بحرب الاستنزاف فغطى على مدار 6 سنوات تقريبا ظروف التدريبات، والعمليات العسكرية.
وكتب عن الحرب عدة كتب وروايات ودراسات، منها: «المصريون والحرب: من صدمة يونيو إلى يقظة أكتوبر»، ورواية «الرفاعى»، ورواية «حكايات الغريب» تلتى تحولت إلى فيلم بنفس الاسم عام 1992، ومجموعة قصصية بعنوان «أرض.. أرض»، كما كتب عن الجيوش العربية على جبهة سوريا، وخاصة الجيش العراقى، فى كتابه «حراس البوابة الشرقية».
* برامج وجوائز
قدم أكثر من برنامج تليفزيونى، كان أشهرها «تجليات مصرية»
الجوائز:
نال العديد منها، وكان آخرها جائزة النيل للآداب عام ٢٠١٥.
وتوفى جمال الغيطانى فى 2015.. رحم الله مبدعا أريبا متفردا، كان جزءا من كثير يستحقه أن يطلق اسمه على الدورة السادسة والثلاثين من مؤتمر أدباء مصر، والذى ينطلق يوم ٢٤ من هذا الشهر، فى المنيا،التى شهدت يوما عمله فى مصانعها، لتحتفى عروس الصعيد بابن من أبناء الصعيد، مبدعا وإنسانا.