هل يمكننا الهروب من علّة (سبب) وجودنا، وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بالكتابة؟ هل يمكننا فهم جوهر الكائنات بمجرد مشاهدتها حيّة، والتعبير من خلال الكتابة، عن ماهيتها الحقيقية؟ هل يمكن للكاتب أن يشعر بالضجر من «مهنته» وأن يتخذ في «لحظة إشراقية» ربما قرار التوقف عن التأليف للبحث عن بديل آخر؟
هذه هي الأسئلة الأساسية التي تطرحها رواية الكاتب الإيطالي أليساندرو باريكو «مستر جوين» (نقلتها إلى العربية أماني فوزي حبشي، «منشورات الجمل») صحيح هي أسئلة «كلاسيكية»، مثلها مثل موضوعات الرواية كلها، إلا أنها تعكس بعمق اهتمامات باريكو، الذي يرسم ذلك عبر شخصية رئيسية خيالية ومحببة، شخصية منجذبة إلى التشويق اللذيذ تجعل من العمل ممتعًا للغاية وتحثنا على القراءة ليتبين لنا في النهاية أنها أقل طيشا بكثير ممّا كنّا نجدها عليه مع بداية الكتاب أو على الأقل كما تخيلنا ذلك.
تبدأ الرواية من اللحظة التي يقرر فيها الكاتب الإنجليزي جاسبر جوين البالغ من العمر ثلاثة وأربعين عامًا أن يتوقف عن الكتابة. كان سبق له أن نشر ثلاث روايات وكتاب ومقالات بحثية وقصتين قصيرتين أكسبته نجاحا شعبيا ونقديا كبيرا، ما جعله يبدو على «الموضة» في إنجلترا (وإن كان غير معروف كثيرًا في أي مكان آخر) ليتسابق عليه الجميع؛ ومع ذلك كان غير راضٍ عن حياته، إذ قد سئم من الكتابة، وأدرك «بوضوح مذهل» أن ما يفعله لم يعد يرضيه، لذا نشر مقالة (عبارة عن قائمة) في صحيفة الجارديان ذكر فيها اثنين وخمسين أمرًا وعد نفسه بأنه لن يفعلها بعد الآن، وآخر هذه الأمور: التوقف عن تأليف الكتب.
اعتبر وكيله الأدبي و«محرره» وصديقه، توم بروس شيبرد، هذا البيان بمثابة استفزاز؛ لم يأخذ كلامه على محمل الجد ولكن عندما اتصل بالكاتب، فهم أن الأمر لم يكن كذلك: كان جوين مصممًا تمامًا ولا رجعة عمّا قاله، بل أضاف صراحة بأن «الكتابة عن الأذى قد انتهت». يشعر المحرر بالمأزق والحيرة في كيفية أن يتعامل مع التقلبات المزاجية لواحد من كتّابه المفضلين، عندها يبدأ بممارسة الضغط عليه لثنيه عن هذا القرار، لكن جميع المحاولات باءت بالفشل.
شيئًا فشيئًا، ومع هذا الشعور بالحرية الذي لفه، بدأ جوين يشعر بنوع من فراغ لا يمكن إدارته بسهولة. بدأ بالافتقاد إلى فعل الكتابة البسيط. شعر بعذاب الحنين إلى هذا الجهد اليومي لترتيب أفكاره في شكل جملة مستقيمة. ببساطة لم يكن يعرف ماذا سيفعل بعد ذلك؟ لماذا لا تُصبح مترجمًا أو دليل سفر؟ يقول له وكيله: لا. الإجابة الواضحة الوحيدة التي تتبادر إلى ذهنه هي أن يكون ناسخا، أي كتابة الصور الشخصية. نزل عليه «هذا الوحي» أثناء زيارة مرتجلة لمعرض تُعرض فيه الصور؛ لقد اتضح الأمر في ذهنه: سيكون ناسخًا، وسيرسم أيضًا صورًا، ولكن بأدواته التي هي الكلمات. صورا نهائية لعارضات أزياء عاريات في بيئة تجبرهن على الكشف عن أنفسهن...
خياره هذا كان بمثابة بحث عن وسائل جديدة للتعبير ولهذا الغرض، بحث عن ورشة عمل، واهتم بالإضاءة والصوت والديكور، ثم انطلق في البحث عن الموديلات. إنها بداية تجربة غير عادية ستضع الكاتب التائب تحت الاختبار القاسي. أعتقد أنه يتوجب عليّ أن أتوقف عن المزيد من الكشف عن تفاصيل الرواية، لكي نسمح لأنفسنا بقراءتها والشعور بالدهشة من خيال أليساندرو باريكو، ومن شخصياته غير المحتملة في كثير من الأحيان، التي تقترب أحيانًا من الرسوم الكاريكاتورية وذلك كي تساعدنا بشكل أفضل على اكتشاف حقيقة ما يرمي إليه في الختام: كيف «كلّ واحد منا هو صفحة كتاب» بل أنه كتاب «لم يكتبه أحد من قبل، والذي نبحث عنه عبثًا في رفوف عقولنا».
ما يلفت في هذه الرواية القصيرة مسار هذا الكاتب الذي يبحث عن «مهنة أخرى»، مسار يتميز بالبطء والأصالة في البحث عن صور فريدة من نوعها لن تصبح موضوعا لأي منشور، بل من أجل البحث عن هذه الحميمية الأصلية والتجريبية الموجودة في هؤلاء الأشخاص العشرة الذين يبحثون عن أنفسهم والذين يبحث المؤلف عنهم كي يرسم صورهم «بحرفية». هنا إطار القص العام وجوهر اللُحمة الذي يربط الكلام ببعضه البعض.
يقدم لنا باريكو في روايته هذه، غوصًا مثيرًا للاهتمام في أعمق أعماق الكاتب، الذي يجب عليه يومًا ما أن يفعل من منطلق الالتزام، وتحت الضغط، ما فرض نفسه عليه في البداية كضرورة. إنه أيضًا قبول القيود، وثمن النجاح، وصعوبة التعبير عن الذات في سجل آخر غير ذلك الذي يتوقعه الجمهور، وعدم الفهم... أن ينتهي الأمر بكراهية ما أردناه أكثر من كل شيء. أن ندرك أنه على الرغم من كل شيء، تظل الكتابة هي السبب الوحيد لوجودنا، وأنه يجب علينا إعادة اختراع هذه الممارسة.
في أي حال لا تشكل الرواية «رثاء» طفل مدلل. بل هي في الواقع بحث عن طرق جانبية، أكثر خطورة من الطرق المطروقة، وأكثر ثراءً أيضًا بالمشاعر الجديدة والتي تزيل قضبان سجن الملاءمة. نحن بعيدون عن جمع أسرار كاتب خائب الأمل، فالخيال خصب ينجذب القارئ رغم نفسه إلى هذه المغامرة التي تعرف كيف تتجنب الانتظار والمفاجأة عند مطلع الفصل؟
ما هو الفنان؟ يتساءل أليساندرو باريكو في هذه الرواية المثيرة والأنيقة بشكل كبير. للإجابة على هذا السؤال، يدعونا لمتابعة رحلة السيد جوين، التي هي في جزء منها عبارة عن لعبة متطورة، والجزء الآخر مغامرة كوميدية. وإذا أعطانا مفتاح لغز جوين، فمن الطبيعي أن تكون النتيجة غير متوقعة.
يتعامل أليساندرو باريكو مع قلمه بالشعر والمهارة ويغمرنا في رواية مثيرة للاهتمام ولكنها دقيقة على أقل تقدير. فهو يصور بذكاء مفاهيم الكتابة وسحر الكلمات، والفن بشكل عام، الوجود والظهور، وكذلك الحب والصداقة. هذه الرواية، النفاذة والخيالية والأعمق مما تبدو، لها سحر لا يمكن إنكاره وهي رسالة حب حقيقية للأدب، إذ تبدو وكأنها مكتوبة في لحظة خالصة من السعادة الأدبية.
يأخذنا باريكو إلى رحلة في التفكير في عمل الكاتب، من التشبع إلى قلة الإلهام إلى الانتحال. لذا تبدو شخصية السيد جوين وكأنها تبحث عن الكمال الذي قد لا يأتي إلا بالابتعاد عن سبب وجودنا لننخرط فيه بطريقة أخرى. وهنا مفارقة الفن العظيم في أحيان كثيرة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
«دبي للثقافة» تجمع رواد الثقافة في «ملتقى تعبير الأدبي 3»
دبي (الاتحاد)
أعلنت هيئة الثقافة والفنون في دبي «دبي للثقافة»، تفاصيل النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» التي تنظمها يومي 26 و27 نوفمبر الجاري، بهدف تسليط الضوء على قضايا الأدب والشعر والدراسات الإنسانية والثقافة المعاصرة، ودورها في تطوير المجتمع، وإبراز الإنتاج الأدبي المحلي.
ويأتي الملتقى، الذي يندرج تحت مظلة «منصة تعبير»، في سياق التزامات الهيئة الهادفة إلى رفع وتيرة الحراك الثقافي الذي تشهده دبي.
وستتضمن أجندة الملتقى، الذي تستضيفه مكتبة محمد بن راشد، عقد سلسلة من الجلسات النقاشية والندوات التخصصية وورش العمل التفاعلية، بمشاركة نخبة من المتحدثين والمثقفين والمبدعين والكتاب الإماراتيين والمقيمين على أرض الدولة، ومن بينهم الباحث عبدالله الهامور، والكاتب فهد المعمري والشاعرة شيخة المطيري، والذين سيشاركون في ندوة تخصصية بعنوان «سحر الغموض: الألغاز والأسرار في عوالم الأدب والشعر»، التي يتولى إدارتها الإعلامي سعيد المعمري، فيما سيناقش كل من الدكتور حسين مسيح والأديب علي أبو الريش والكاتبة عائشة سلطان في ندوة تخصصية بعنوان «النظرية النفسية في الأدب، وتأثيراتها المتبادلة» التي تديرها الإعلامية عبير المطروشي، أهمية بناء الشخصيات الأدبية وأثرها في الأدب، كما سيشارك محمد سعيد الظنحاني في جلسة «التفاعل الخلّاق: الأدب والمسرح بين النص والتجسيد»، التي يديرها الشاعر والإعلامي عيضة بن مسعود.
ورش عمل
ستتناول جلسات «فضاءات 6 - عوالم مبدعة وتجارب مُلهمة» التي سيتولى إدارتها الإعلاميان الدكتور أيوب يوسف، وإبراهيم استادي، ونخبة من الكتاب والمثقفين، ومن بينهم الكاتب الدكتور إبراهيم الدبل، والروائية صالحة عبيد، والباحث الدكتور حمد بن صراي، والباحثة في التراث الشعبي الدكتورة عائشة بالخير، والناقدة د. مريم الهاشمي، وكذلك المؤرخ د. عبدالله الطابور، والأديبة صالحة غابش، والمؤرخ د. سيف البدواوي، والشاعرة والقاصة د. عائشة الغيص، والكاتبة د. باسمة يونس، حيث سيتناولون خلالها مجموعة من القضايا المتعلقة بالقطاع الأدبي.
من جهة أخرى، سيشهد الملتقى تنظيم مجموعة من ورش العمل، ومن بينها ورشة «كيف تكتب نصاً يحقق ملايين المشاهدات؟»، وفيها تستعرض الكاتبة هند المشهور تقنيات الكتابة بأسلوب جذاب، وأسرار تحقيق الانتشار الواسع.
كما تقدم المدربة جيهان محمد صفر ورشة «تحويل الكلمات إلى ثروة» بهدف مساعدة الكُتّاب الشباب على تحويل مهاراتهم الأدبية إلى مشاريع اقتصادية ناجحة.
وتُختتم الجلسات بأمسيات شعرية يشارك فيها الشعراء عيضة بن مسعود وعوض بالسبع الكتبي، وعبدالله الهدية، ومريم النقبي، وخلفان بن نعمان، وعامر الشبلي، وعارف عمر، وحمدة المر، وعوض النعيمي.
مشاريع نوعية
وقال محمد الحبسي، مدير إدارة الآداب بالإنابة في «دبي للثقافة» إن «ملتقى تعبير الأدبي» يعكس أهمية تفاعل الحركة الأدبية المحلية مع الجمهور.
وأضاف: «يبرز الملتقى حجم الجهود التي تبذلها (دبي للثقافة) في تنظيم مبادرات ومشاريع نوعية قادرة على النهوض بقطاع الثقافة، وتهدف إلى ضمان استدامته وتطوره عبر مد جسور التواصل بين الأجيال، وفتح آفاق جديدة أمام الأقلام الناشئة والمبدعين والمثقفين، وتحفيزهم على التعبير عن آرائهم والمشاركة في تشكيل مستقبل الأدب الإماراتي»، منوهاً بأن الملتقى تحول إلى منصة تفاعلية للكتّاب والأدباء الشباب وأصحاب المواهب تمكنهم من إبراز إنتاجاتهم الأدبية، وتعزيز دورهم في المشهد الثقافي المحلي، ما يساهم في دعم قوة الصناعات الثقافية والإبداعية في دبي.
ويستضيف الملتقى، على هامش فعالياته، مجموعة من المنصات التفاعلية التي تقدمها مجموعة دبي للفلك، ومركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، ومنصة تنمو، وجمعية الإمارات للمكتبات والمعلومات، فيما تقدم خولة السويدي عبر منصة «الأدب التشكيلي» لمحة تعريفية عن العلاقة بين الفنون والأدب.