مع بداية تأسيسه دعائم دولته، وجد محمد علي باشا، مؤسس النهضة الحديثة لمصر، أن الطب والاهتمام بتنشئة جيل من الأطباء المصريين، هو أمر ضروري من أجل تحقيق دعائم التطور والاستقلالية. وبالتأكيد، هو أمر يجب أن يكون ضمن أولويات الدولة الحديثة. 

ووفق ما تروي يسرا سلامة، أستاذ مساعد التاريخ الحديث بالجامعة الإسلامية بمنيسوتا بالولايات المتحدة.

فقد اختار الباشا 100 طالب متفوق من طلبة الأزهر، وأنشأ لهم مدرسة الطب بأبي زعبل عام 1827م. وهي المنطقة التي كانت تضم المستشفى العسكري التابع للجيش النظامي الذي كان قد أنشأه الباشا حديثا في ذلك الوقت. 

عهد بخط الثلث

كان على الأطباء المتخرجين في مدرسة الطب أن يقسموا على ميثاق شرف مزاولة المهنة قبل أن ينخرطوا فيها. وكان القسم مكتوبًا بخط الثلث، على ورقة في أعلاها ثلاث دوائر محددة بغصني زيتون. وفي الدائرة الأولي مكتوب «مجدد العلوم في الديار المصرية حضرة الداوري الأعظم.. أيد الله ولي النعم محمد علي».

وكان نص هذا العهد: أقسم بالله العظيم ونبيه الكريم محمد صلي الله عليه وسلم علي أني أكون أميناً حريصاً على شروط الشرف والبر والصلاح في تعاطي صناعة الطب وأن أسعف الفقراء مجاناً ولا أطلب أجرة تزيد علي أجرة عملي وإني إذا دخلت بيتاً فلا تنظر عيناي ماذا يحصل فيه ولا ينطق لساني بالأسرار التي يأتمنوني عليها ولا أستعمل صناعتي في إفساد الخصال الحميدة ولا أعاون بها علي الذنوب ولا أعطي سُمّاً البتة ولا أدل عليه ولا أشير به ولا أعطي دواء فيه ضرر علي الحوامل ولا إسقاط لهن وأكون موقراً وحافظاً للمعروف مع الذين علموني مكافئاً لأولادهم بتعليمي إياهم ما تعلمته من آبائهم فما دمت حريصاً علي عهدي وأميناً علي يميني، فجميع الناس يعتبرونني ويوقرونني وإن خالفت ذلك فأكون بمرذل المحتقر والله شهيد علي ما أقوله قد تم العهد.

بعد خمس سنوات تخرجت الدفعة الأولى في هذه المدرسة، حيث كان ناظر المدرسة الفرنسي -والطبيب المقرب من الباشا- "كلوت بك"، الذي جاء إلى مصر عام 1824 وعُين في الحكومة المصرية عام 1825. قد اختار عشرين طالبًا منهم، حيث بقي ثمانية منهم في المدرسة، للعمل بالتدريس كمعيدين، وأرسل الاثني عشر الباقيين إلى العاصمة الفرنسية باريس لاستكمال دراستهم. أما بقية خريجي الدفعة، فقد وُزعوا على المستشفيات والخدمة الطبية في الجيش.

وفي عام 1838م، عادت البعثة الطبية الأولى من فرنسا؛ وكانت مدرسة الطب والمستشفى قد نُقلا إلى القاهرة، حيث أصبحا في موضعهما الأشهر طيلة العقود التالية، وهو "قصر العيني". حيث أُلحق أعضاؤها بالمستشفى والمدرسة مدرسين لعلوم الطب. ومنذ ذلك الحين، بدأت العيادات لطبية تنتشر في ربوع القاهرة قبل أن تتواجد في الأقاليم المصرية المختلفة.

ورغم كونه ليس مصريا؛ إلا أن الطبيب الإيطالي "ماندريشي" كان سببا في نشأة الرعيل الأول من "الأطباء الخصوصيين" في عهد الأسرة العلوية. فقد كان أول طبيب خصوصي للباشا قبل إنشائه لمدرسة الطب، وقد شهد إلى جواره مذبحة القلعة عام 1811م.

وقد تولى ماندريشي التدريس في مدرسة الطب بأبي زعبل عند إنشائها عام 1826م. وكان صاحب فضل على الرعيل الأول، والذي ضم أسماء لامعة، منها الطبيب "إبراهيم النبراوي"، والذي كان ضمن البعثة العائدة من فرنسا، وقد اختاره محمد علي باشا عام 1838م، ليصير طبيبًا خاصًا له. 

النبراوي صاحب الحظوة

كان للطبيب النبراوي الحُظوة عند باشا مصر، الذي قام بترقيته إلى رُتبة "أميرلاي/ أمير لواء"، واصطحبه معه في رحلته إلى أوروبا عام 1847م للعلاج. واحتفظ الطبيب بمنصبه هذا في عهد إبراهيم باشا -الذي لم يستمر طويلا ومات في حياة أبيه- وكذلك احتفظ بوظيفته في عهد الخديوي عباس حلمي الأول. 

لكنه -في الواقع- لم يبقَ طويلاً؛ بسبب رفض الخديوي عباس حلمي لكل ما هو فرنسي، وكان النبراوي باعتباره ذي تعليم باريسي، فقام الباشا الجديد بإقصائه، واستقدم طبيبا ألمانيا هو "جريسنجر" عام 1850م، للعمل كأستاذ في مدرسة الطب وطبيبًا خاصًا له. لكن الطبيب لم يتمكن من إكمال مهامه، بسبب ما أشيع عن جو الدسائس والمؤامرات الذي كان يسود في بلاط الخديوي عباس حلمي، فعاد إلى بلاده عام 1852م، وحل محله طبيب ألماني آخر هو "راير"، الذي كان يشغل نظارة مدرسة الطب وقتها.

ومن عباقرة ذلك العصر أيضا "محمد شافعي بك"، الذي كان ضمن بعثة محمد علي باشا إلى فرنسا في نوفمبر 1832م؛ وعاد إلى مصر عام 1838م لعُين في مدرسة الطب مُعلمًا للأمراض الباطنية، وتَرقى إلى أنْ صار رئيسًا لها عام 1847م، وكان أول مصري تولّى رئاستها.

البقلي.. الطبيب المحسود

رغم هذا، كان الطبيب الألمع في عصر الخديوي عباس حلمي، والجراح الأشهر في أرجاء القطر المصري، كان الطبيب "محمد علي البقلي"، والذي بلغ من المهارة ما جعله يتمتع بحسد ناظر مدرسة الطب الألماني، والذي كان يُشاركه تخصص الجراحة، ويعلم مدى مهارة البقلي.

ولأنه كان معروفا بأذنه القابلة للدسائس، لم يكن صعبا على الطبيب الألماني أن يكيد الدسائس لغريمه المصري المعروف لدى الخديوي، حتى أقصاه الأخير عن عمله في مدرسة الطب؛ بل ونُقل البقلي إلى وظيفة مفتش صحة قسم قيسون في منطقة المغربلين والحلمية. لكن النجاح أبى أن يتركه.

ترك البقلي باشا ابن قرية زاوية البقلي بمركز تلا، الذي أفقده الخديوي عمله في مستشفى القصر العيني كـ "باشجراحًا"، وأستاذًا لعمليات الجراحة الصغرى والكبرى، والتشريح الجراحي. البلاط الخديوي، واستقر في المغربلين والحلمية وفتح عيادة هناك وذاع صيته فيها. ليعود بعد تولي سعيد باشا الحكم.

عينه الباشا الجديد طبيبًا خاصًا له، وأنعم عليه برتبة الأميرالاي، وأخذه معه في رحلته لأوروبا للعلاج من مرضه العُضال عام 1862م. وفي عهد الخديوِ إسماعيل، ارتقى البقلي إلى أنْ صار رئيس المستشفى ومدرسة القصر العيني، ونال رُتبة الباشاوية. وتُوفي بحُمى التيفود خلال الحرب المصرية الحبشية في عهده عام 1876م.

بعد وفاة البقلي باشا؛ خلفه في منصب الطبيب الخاص للخديوِي إسماعيل تلميذه "محمد بدر" أستاذ علم العلاج بمدرسة الطب، الذي تلقى تعليمه في إنجلترا، والذي وصل إلى رتبة البكاوية. وحكي عن وفاء هذا الطبيب أنه لم يُفارق الخديوي إسماعيل بعد عزله ونفيه عام 1879م، فرافقه في منفاه، ولازمه في إيطاليا والآستانة، ولم يعود إلا بعد وفاة الخديوي، وظلت أسرته مرتبطة بالعائلة المالكة، حيث صار نجله "حسن باشا بدر" الطبيب الخاص للملك فؤاد الأول. 

مع رحيل الطبيب بدر بك مع الخديوي إسماعيل، اتخذ الخديوي توفيق أحد تلامذة البقلي باشا طبيبًا خاصًا له، هو الطبيب "سالم باشا سالم"، الذي كان خبيرًا بالعلاج بمياه الآبار، حتى أنه كان له مؤلف في ذلك بعنوان "مياه مصر الشافية وطرق الانتفاع بها كمورد من موارد الثروة القومية". وكان هو من أشار على توفيق بسُكنى حلوان، وإنشاء حمامات حول آبارها. وقد ظل سالم باشا مع الخديوي توفيق حتى وفاته.

علي باشا إبراهيم والنهضة الطبية

ولا يُمكن أن تُنسى تجربة "علي باشا إبراهيم"، الذي قام سنة 1928م بنقل المدرسة والمستشفى إلى المقر الأشهر "القصر العيني" -يُسمى الآن القصر العيني القديم- كما أضاف تجديدات مهمة، مثل إنشاء أول مجلة طبية، وتأسيس الجمعيات والمؤتمرات الطبية. وعاد القصر العيني على يده كما نشأ، مصريًّا بروح إنسانية تهدف إلى علاج البسطاء بلا مقابل، وتحسين الظروف الصحية للمجتمع المصري.

وكان علي باشا إبراهيم نشأ نشأة متواضعة في مدينة مطوبس، حيث عارض والده أن يستمر في تعليمه لكن والدته أصرت على ذلك حتى أثبت نبوغه وتفوقه، وواصل تعليمه في ظروف بالغة القسوة بعد أن سيطر الإنجليز على التعليم في مصر، وجعلوه مكلفًا، وكرسوا عدم الثقة في كل ما هو مصري، سواء في الطب أو في غيره.

وهنا، تتضح عبقرية علي باشا إبراهيم في قيادته لنهضة طبية أعادت إحياء النهضة الطبية التي أسسها كلوت بك في بداية القرن التاسع عشر، وفي تأسيسه كلية الطب بالإسكندرية، وعمله وزيرًا للصحة. مما أعاد الثقة في الطب المصري الحديث رغم ظروف الاحتلال.   

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: محمد علي باشا الطب طلبة الأزهر الخدیوی عباس حلمی القصر العینی محمد علی الذی کان فی عهد

إقرأ أيضاً:

متحف دار الفنون الإسلامية.. مقتنيات وأعمال فنية تختزل التاريخ القديم

يُعد متحف دار الفنون الإسلامية، أول متحف إسلامي من نوعه في المملكة متخصص في الفن الإسلامي، بمقتنياته التي تمثل حقبًا مختلفة من فنون الحضارة الإسلامية ذات القيمة التاريخية والثقافية.

ويحتوي المتحف الواقع في جدة بارك، على أكثر من ألف قطعة أثرية، تتيح للزائر متعة تجربة الانتقال بين الثقافات في العصور المختلفة، تحت سقفٍ واحد، للتعرف على القيم الإسلامية والموروث الثقافي والتاريخي والاجتماعي السائدة قديمًا.

ويتكون المتحف من 6 أجنحة، يمثل كل جناح ثقافة وتراث المسلمين من زاوية معينة، حيث يستعرض الجناح الأول مراحل تطور صناعة الخزف والزجاج من القرن الأول حتى العاشر للهجرة، وذلك عبر صناعة الفخار التي تُعد من أقدم الصناعات البشرية، التي أسهم المسلمون في تطويرها على عدة مستويات، فيما يعرض الجناح الثاني المعادن الإسلامية التي أنتجها المسلمون من القرن الأول وحتى الثالث عشر، منها صناعة المشغولات المعدنية التي تفننوا في زخرفتها بطرق متنوعة، والأواني المعدنية التي تلبي احتياجاتهم اليومية.

ويستعرض الجناح الثالث للمتحف، المسكوكات الإسلامية حيث يضم (500) قطعة نقدية تم تداولها بين الشعوب الإسلامية من العصر النبوي حتى العصر الحديث، بجميع المواد التي سُكت بها النقود قديمًا، من الذهب والفضة والنحاس، وتتواجد في المتحف عدد من القطع النقدية التي تم نقشها بكلمة "نجد" بأمر من الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- لإصلاح الأوضاع النقدية في البلاد آنذاك.

ويبرز المتحف عبر جناحه الرابع مدى تأثير الفنون الإسلامية في الحضارات الأخرى من القرن الثاني حتى القرن الثالث عشر للهجرة، وأهم العوامل التي أسهمت في تعرف الغرب الأوروبي على ثقافة المسلمين، مثل الهدايا التي بعث بها حكام المسلمين إلى حكام الغرب آنذاك، التي ساعدت في إدراك الغرب الأوروبي مدى حرفية وإبداع المسلمين.

ويحتوي المتحف من خلال جناحه الخامس على عدد من المخطوطات القرآنية من القرن الثاني حتى القرن الرابع عشر للهجرة، ومجموعة متنوعة من الخط العربي، بالإضافة إلى وجود عدد من الألواح الخشبية التي كانت تستخدم لتحفيظ القرآن.

فيما خُصص الجناح السادس للمتحف للمنسوجات التي استخدمت في كسوة الكعبة من الداخل والخارج، إضافةً إلى نموذج من ستارة الباب الشامي بالمدينة المنورة، التي صُنعت في العهد العثماني في القرن الثالث عشر من الهجرة.

وتنتهي جولة الزائر لمتحف دار الفنون الإسلامية، عند مكتبة المتحف، التي تحتوي على العديد من الكتب القديمة باللغتين العربية والإنجليزية، التي تثري الزوار بموضوعات من تراث وتاريخ وثقافة المسلمين التي أثرت في التاريخ الأدبي والثقافي وغيرها من العلوم على مر العصور، وشاهدة على ما صنعه عظماء المسلمين قديمًا.

الفن الإسلاميمتحف دار الفنون الإسلاميةقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • شاهد بالصورة والفيديو.. شباب مصريون يمازحون طفل سوداني داخل “االمترو” وضحكون معه والجمهور: (لا تلمونا في حب الشعب المصري بعد هذا المقطع)
  • رئيس صندوق المأذونين : لا نعقد زواجًا مخالفًا للقانون .. الطبيب هو الحكم
  • علماء يحذرون: 30 ألف وفاة سنوياً في إنكلترا وويلز بسبب الحرارة!
  • إسبانيا تدعو لتعليق الشراكة فورًا بين الاتحاد الأوروبي و” إسرائيل”
  • كسوف القرن.. الأقصر تغرق في الظلام والشمس تختفي من السماء
  • أربيل تجمعُ أطباء العراق لمناقشة أمراض العيون (صور)
  • كسوف القرن| الأقصر تغرق في الظلام والشمس تختفي من السماء
  • مستشفي جامعة بني سويف: نهيب بوسائل الإعلام تحري الدقة حول واقعة الطبيب
  • اللوفر أبوظبي يعرض مقتنيات فريدة وقطعاً مُعارة جديدة
  • متحف دار الفنون الإسلامية.. مقتنيات وأعمال فنية تختزل التاريخ القديم