الواثق البرير بين الصحوة والغفلة
تاريخ النشر: 23rd, January 2024 GMT
عندما يقدم أي قيادي سياسي يتبوأ مقعد الأمين العام لحزب، أو رئيس للحزب، يكون للكتابة ثلاث مدلولات.. الأول أنه يريد أن يقدم فكرة يكسر بها حالة من الجمود، أو يشرح موقف يعتقد قد فهم خطأ.. الثاني يريد أن يفتح حوارا حول الرؤية التي يقدمها في المكتوب.. الثالث أن يتجاوز حدود الحوار سياج الحزب إلي المجتمع خارج الحزب.
أرسل إلي صديق من قيادات حزب الأمة مقالا للسيد الواثق البرير الأمين العام لحزب الأمة، بعنوان " المؤتمر الوطني في المرحلة القادمة ضرورة حتمية أم استسلام لأهداف الحرب" الغريب أن المقال لا يحمل تاريخ الصدور أو النشر، و إن كان البيان حسب المادة التي يحتويها كتب بعد الحرب، و ربما يكون المقال نفسه ردا على المقال الذي كان قد كتبه عبد الرحمن الغالي بعنوان " قراءة أولية في إعلان أديس أبابا بين تقدم و قوات الدعم السريع و مقترح تطويره لحوار سوداني سوداني جامع" ثم اللقاء الذي أدراه " راديو دبنقا" مع عبد الرحمن الغالي.. أن قرأة مقال البرير عبارة عن " وصف الحالة" و المقالات الوصفية للحالة دائما لا تحمل بين أحشائها رؤى فكرية تجذب القاريء للتعليق عليها، و لكن من خلال الوصف تجد هناك الكاتب يقف على بعض المحطات و يركز عليها، و هي تحمل مضامين سياسية التعليق عليها يكون من المصلحة. يقول الواثق في المقال (اتضح جلياً بعد قيام الحرب سيطرة مجموعة علي كرتي على الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى، وسعيهم لإعادة حزبهم المباد بإدارة هذه الحرب التي هدفها الأساسي و أد الثورة وإعادة النظام البائد للواجهة عبر إشعال أوارها) أن سيطرة مجموعة على كرتي على الجيش و الأجهزة الأمنية لم تكن بالوضوح إلا بعد إشعال الحرب، تيقن البرير أن مجموعة على كرتي تسيطر على الجيش و كل المؤسسات الشبه عسكرية. ثم ينتقل الكاتب إلي فقرة أخرى تتعلق بالفقرة أعلاه، و لكنها تبين التناقض الكبير الذي يقع فيه البرير، لا أدري هل كان واعيا لهذا التناقض أم هو مجرد تبرير لأخطاء أرتكبها التحالف الذي هو جزءا منه.. يضيف البرير (إشراك المؤتمر الوطني أو مجموعة علي كرتي غير ممكن بعد هذه الحرب اللعينة، ليس من باب فش الغبينة، ولكن لأن المجموعة اصلاً لا تؤمن بالتغيير الذي حدث بعد الثورة ولا بالسلام الشامل العادل ولا بالمشاركة في الشأن الوطني عبر التحول الديمقراطي) سؤال للبرير إذا كان الجيش تحت أمرة على كرتي و مجموعته و هؤلاء هم الذين يديرون الحرب لماذا تريد أن تفتح حوارا مع الأدوات و لا تفتحها مع الذي يدير هذه الأدوات و يملك القدرة على السيطرة عليها؟
يتضح من إثارة عملية إشراك المؤتمر الوطني في الحوار، أن الأمين العام لحزب الأمة يريد بالمقال الرد على مقال عبد الرحمن الغالي، و المقابلة التي أجراها "راديو دبنقا" مع الغالي رغم أن الغالي كان قد قدم مقاله للحوار داخل الحزب، و أن رشا عوض الناطق الرسمي بأسم مجموعة " تقدم" هي التي انتقدت المقال في مقالين كانا قد نشرا في كل من " سودانيل و التغيير" و ردت عليها رباح الصادق المهدي، مما يؤكد أن هناك إختلاف في وجهات النظر داخل حزب الأمة في قضية " الحرب و كيفية التعامل معها" و أن ينقل الحوار خارج اسوار الحزب للفضاء العام فرصة طرح الأراء و البدايل، و هي خطوة إيجابية لأنها تنقل الناس من وسائل العنف إلي العقل.. رغم أن الصراع السياسي بعد الثورة بين أن القوى السياسية و الذين يدورون في فلكها أغلبيتهم وقعوا في دائرة الاستقطاب الحاد التي يجعلهم يعطلون العقل و يكتفون باستخدام المعاول لهدم خصومهم.
يذهب البرير إلي محطة أخرى و يقول في المقال (هذه المجموعة تعارض السلام الذي يشمل الجميع ويتمتع فيه السودانيين بالمواطنة المتساوية في الحقوق، وصنفت الشعب السوداني على أساس عرقي وجهوي، واجتهدت في إذكاء روح الفتنة بين أبناء الوطن) في ظل الصراع الدائر في الساحة؛ يظل هذا القول مجرد إتهامات كل جانب يريد رمي الأخر بأنه وراء الأسباب التي قادت للحرب. و الأفضل كان على حزب الأمة الذي يتبنى شعار " التحول الديمقراطي" أن يصل لهذه النتيجة من خلال الحوار. حتى لا تكون مجرد إتهامات تمليها عوامل الصراع. و القيادات التي تتبنى عملية التغيير يجب أن تكون بالجسارة التي تجعلها تقدم على الأفعال التي تحدث أختراقا في جدار الأزمة، و ليس البحث عن تبريرات واهية تقعدها عن الفعل الذي يجب أن تقوم به. ثم يقول البرير في فقرة أخرى (النقطة المهمة هي أنه ليس هناك أي مؤشرات من قبل المؤتمر الوطني على قبول أية لغة تصالحية ولا رغبة له في الجلوس مع الآخرين على قدم المساواة في شأن الوطن، لم يبد ذلك في أفعالهم ولا كتاباتهم ولا أقوالهم، ويكفي أنهم يجتهدون في تبديد كل فرص السلام وإنهاء الحرب( الشيء المحير أن البرير الأمين لحزب في أخر انتخابات أحرز أعلى المقاعد، يحمل حزب قد أسقطه الشعب مسؤولية عدم تقديم مؤشرات تصالحية..! و قد حدث أن قدم إشارات.. عندما أعلنت بعض قيادات قوى الحرية و التغيير منهم " الإمام و عمر الدقير" أن حزب المؤتمر يجب أن يشارك في الفترة الانتقالية و عليهم الانتظار حتى الانتخابات و قال رئيس الحزب في ذلك الوقت البروف إبراهيم غندور موافقين على ذلك و سوف نكون معارضة إيجابية في فترة الانتقال و ننتظر الانتخابات... إليس هذه إشارة؟.. لكن بعض القوى الأيديولوجية؛ هي التي دفعت بحل المؤتمر الوطني بقرار سياسي و حظر عناصره من العمل، و كان لابد أن تكون هناك ردة فعل من عضوية المؤتمر الوطني..
أن أغلبية النخب السياسية التي أدارت الإزمة بعد سقوط النظام كان أغلبها من الناشطين الذين لم يقرأوا تاريخ الصراع السياسي في السودان.. عندما تم حل الحزب الشيوعي من قبل أحزاب " الأمة و الاتحادي و الأخوان" 1965و تطرد نوابه من البرلمان قد قاموا بأنقلاب عسكري ضد النظام الديمقراطي.. و كانت القيادات السياسية في ذلك الوقت تعتقد أن هؤلاء فئة صغيرة لا تجروء على فعل شيء.. و كيف تكون ردة فعل حزب حكم ثلاث عقود و له قاعدة اجتماعية عريضة أرتبطت مصالحها بالنظام السابق و الدولة؟ أن من أهم شروط نجاح القيادات السياسية التي تقود عملية التغيير تكون مدركة لدورها و لديها من التصورات أن لا تجعل البلاد تنزلق للحرب، أو تجعلها في مواجهة مباشرة مع المؤسسة العسكرية، قيادة مدركة لتوازن القوى و كيف تجعل هذا التوازن دائما لصالحها. نسأل الله التوفيق.
zainsalih@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: المؤتمر الوطنی حزب الأمة
إقرأ أيضاً:
رسالة إلى القمة العربية في القاهرة: التاريخ لا يرحم!
لا أحد يريد من القمة العربية التي تنعقد في القاهرة اليوم خطبا رنانة كتلك التي تعودنا على سماعها منذ عقود طويلة فأثرها لا يتجاوز القاعة التي تسمع فيها، ولا أحد ينتظر تكرار الصيغ القديمة لبيانات الشجب والاستنكار والاستهجان فيما «الأمة» تعيش أسوأ لحظاتها على الإطلاق والأرض العربية في غير بلاد تُنهب وتُقسم وتُستقطع وكأنها مشاع للجميع، والناس يقتلعون من أرضهم ومن بيوتهم أو يدفنون فيها هم وأطفالهم.. دع عنك حالة الضياع والضعف والهشاشة التي أصبحت سمة بارزة لكل شيء في العالم العربي: للإنسان وللمؤسسات وبالتالي للفعل العربي في كل الاتجاهات إلا من رحم الله في بعض أوطان ما زالت متمسكة بصلابتها ولو عند الحد الأدنى.
لا أحد يريد أن يتكرر هذا المشهد الخطابي الممل الذي اعتدناه طويلا في الاجتماعات السابقة، فكل المعطيات والحقائق على الأرض تدفع قادة «الأمة» إلى لحظة إدراك إنْ لم تكن لحظة صحو حقيقية، لحظة إدراك أنّ التاريخ هذه المرة يسجل المشهد الأخير لانهيار الإرادة العربية، وليس بعد مثل هذا الانهيار إلا التلاشي والخروج التام من التاريخ.. وأمة كـ«الأمة العربية» وبكل ما تملك من رصيد حضاري ومنجز إنساني لا يستساغ لها مثل هذا الخروج ولا يليق بها وبتاريخها ذلك.
إن أهم نقطة لا بدّ أن يُؤكد عليها القادة العرب في اجتماعهم اليوم وينعشونها في الوجدان الجمعي، قبل أي حديث عن غزة وعن خطة إعمارها وعن تهجير أهلها، أنهم يجتمعون بوصفهم «أمة» واحدة متماسكة ومترابطة، وأن الجامعة العربية التي يلتقون فيها كيان متماسك يجسد إرادة هذه الأمة ويكشف عن قوتها ومنعتها.. فلا معنى للقمة دون ترسيخ هذه الحقيقة، ودون أن تصل فكرتها للآخر سواء كان عدوا أو صديقا. وفكرة الأمة تختلف عن فكرة القبيلة التي تبقى طوال الوقت في صراع مع ما جاورها من قبائل ولا همّ لها إلا أن تحيك المكائد على سفاسف الأمور فيما يذهب العمق والجوهر في ظل غياب الوعي الحضاري لفكرة الأمة. وبدون حضور هذا الوعي لا معنى للقمة ولا لبياناتها؛ بل إن من شأنها أن تؤكد للعدو حجم مشكلتها والتي تتجلى في عدم قدرتها أن تعي «مجرد أن تعي» أنها «أمة» عظيمة خليق بها أن تفهم قيمة التماسك وأهميته في هذه اللحظة التاريخية بالذات.
وبعد أن يقرَّ القادة العرب حقيقة أنهم أمة واحدة عليهم أن يتحركوا تجاه ما يهددهم من أخطار بوعي الأمة لا بوعي القبيلة، التي ما زال البعض يعيش فيها، وما تفرضه من شعور بالمصلحة الفردية المحصورة في الغالب بأوهام ضيقة وأحلام لا تلبث أن تتلاشى، أما وعي الأمة فيفرض نظرة استراتيجية شاملة للجوانب التاريخية والمستقبلية ويراعي التوازن بينهما.
إن مشروع ترامب لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر والأردن وتحويلها إلى «ريفييرا الشرق الأوسط» لا يمكن أن يواجه حتى بوعي الدولة حتى لو كانت دولة بحجم مصر وإنما يواجه بوعي «الأمة» التي تستطيع أن تظهر قوة وحدتها في مواجهة المشروع (الترامبي/ الصهيوني) وتقول له بثقة الأمة القوية «لا». وهذه «لا» لا تقال لأن قوانين النظام العالمي وتشريعاته تدعمها، فقط، ولكن لأن «الأمة» لا ترتضيها لنفسها ولأنها تعي أنها مقدمة لعمليات تهجير واقتلاع واقتسام قادمة في الطريق لبناء «شرق أوسط جديد» وفق الرؤية الصهيونية المبنية على فكرة إضعاف الأمة العربية وتركها خارج سياق التاريخ.
لكن تحتاج تلك الـ«لا» إلى استشعار ما بقي في الأمة من مكامن القوة وهي، لحسن الحظ، كثيرة ومؤثرة فيما لو كانت الإرادة صداقة لاستخدامها.
ولا يكفي أن تعرض القمة العربية اليوم خطة لإعمار غزة، فالأمر أكبر بكثير من هذا، الأمر متعلق بكرامة الأمة العربية وقدرتها على منع تكرار ما حدث في غزة في مكان آخر مثل بيروت أو رام الله أو دمشق أو حلب أو حتى بغداد. ومنع الأمم الأخرى تنظر إلينا مرة أخرى من منظار الإمبريالية المقيتة التي عاشت الأمة عذاباتها لعقود طويلة.
ولو أمعن القادة العرب أو من يمثلهم في القاهرة اليوم لرأوا أن حركة التحولات التي تحدث في العالم اليوم تسير في صالحهم لو تحركوا نحوها بوصفهم «أمة» وكيانا سياسيا واحدا؛ فالعلاقة بين أوروبا وبين أمريكا في أسوأ حالاتها.. ورغم أن أوروبا ليست في أفضل حالتها إلا أنها ذاهبة بإرادة قوية نحو المزيد من التماسك والوحدة وإعادة بناء مواطن قوتها لأنها فهمت أخيرا أن عليها مواجهة الأخطار الكبرى التي تحيط بها منفردة هذه المرة بعيدا عن حليفها التاريخي «أمريكا» أو حتى عن حلف «الناتو»، وهذا الأمر يدفع العرب إلى التحرك بذكاء وبوعي الأمة لإعادة بناء علاقاتهم بالاتحاد الأوروبي خدمة لقضاياهم وبناء لمواطن قوتهم الحقيقية.
وإذا كانت أوروبا، وهي كيان لا يمكن مقارنته بالوضع في العالم العربي لا من حيث القوة العسكرية ولا من حيث القوة الاقتصادية والتقدم التكنولوجي، شعرت بالخطر الذي يحيط بها فهرعت إلى فكرة الاتحاد الأوروبي وإلى أي خيط يمكن أن يجمع بينها، فهي لا تملك معطيات «الأمة»، أفلا يشعر العرب بهذا الشعور ويتحسسون مواطن الخطر الذي يوشك أن يخرجهم من التاريخ ويعيدون ترميم «أمتهم» بأنْ يعيدوا الشعور بها وبحقيقتها؟!
وإذا كانت «لا» المنتظرة في وجه تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على غزة بقوة الإمبريالية الأمريكية الجديدة هي أول «لا» ينتظر العرب سماعها في القاهرة اليوم فإن الـ«لا» الثانية المنتظرة هي «لا» التطبيع، و«لا» أوهام «السلام المنفرد» الذي دخلته عواصم عربية مع إسرائيل، كل حسب وهمه وحسب وظيفته، فهو «سلام» كشفت تجارب التاريخ كذبه.
وهذه الـ«لا» لا تخيف إسرائيل وحدها ولكنها تخيف صاحب مشروع التهجير ومشروع «الريفييرا» لأن مشروعه متكئ على ما يمكن أن يحصل عليه من دعم المطبعين المالي والسياسي. ولذلك لا خيار أمام العرب اليوم إلا الاعتراف بشجاعة أن عملية «السلام» مع إسرائيل «انتهت» وليس فشلت وفي هذه الشجاعة حفظ لبعض كرامة عشرات الآلاف الذين سقطوا في عملية الإبادة في قطاع غزة وهي مستمرة اليوم في جنين وطولكرم وغيرها من المدن الفلسطينية.
إن أهم ما تنتظره الشعوب العربية اليوم من قمة القاهرة هو أن تخرج بصورة الأمة التي تملك مشروعا تعمل من أجله، هدفه الأسمى أن تكون الدول العربية دولا قوية: قوية سياسيا واقتصاديا وماليا وعلميا وبحثيا وإعلاميا، وتكنولوجيا بمعنى آخر قوية حضاريا ويتمتع إنسانها ومؤسساتها بالصلابة المستمدة من تاريخها ومنجزها ومن مواردها وأن تعمل الدول مجتمعة على بناء هذه اللابة واستنهاضها.
وهذا هو التحدي الأكبر الذي تواجهه الدول العربية بوصفها أمة، وعندما يتحقق هذا سنجد أن الأمة قادرة على فرض إرادتها لإنهاء القضية الفلسطينية وتحجيم المشروع الاستعماري الإحلالي المتمثل في «إسرائيل» ومنع إبادة شعوب عربية أخرى كما حدث لسكان غزة.
ودون ذلك فإن فكرة التهجير ستتكرر في مدن عربية أخرى في المدى القصير.
وهذا الطرح ليس نتاج لحظة انفعال بل أحسب أنه حقيقة وفي لحظة تاريخية يحيط بها خطر وجودي «للأمة» العربية وهذا الخطر في حاجة إلى موقف بحجم «الأمة» وبحجم التحدي الذي قد يحفظ ماء الوجه العربي، والتاريخ لا يرحم المترددين، ولن يذكر الخطب الرنانة ولا بيانات الشجب والإدانة بل سيتذكر من وقف، ومن تخاذل، ومن خان.