تحفة فنية تتألق بالروح وجمال الانتماء :أحب مكان، وطني السودان !!!
تاريخ النشر: 23rd, January 2024 GMT
د. الهادي عبدالله أبوضفائر
في تلك اللحظات الساحرة من الشعور الخالد، انغمست في عالم آخر عندما سمعت صوتا ينادي: "اربطوا الأحزمة، ستحط الطائرة في مطار بورتسودان." كانت تلك كلمات السر لرحلة انتظرتها طويلا، حيث تناوبت الأفكار والتوقعات في خيالي. كأنما تمهد لاكتشاف أفق جديد، كلما اقتربت اللحظة كلما زاد شغف الانتظار.
الوطن لا يقاس بالمسافات، بل بعمق الروابط والعلاقات. في هذا السرادق الجميل، نجد أنفسنا محاطين بأجمل لحظات الحياة، حيث يتواصل القلب مع تراب الوطن بلغة الحب الخالدة. استمعتُ إلى همس يخترق أذني، يناديني بحمرة الشفق المنسكب علي الجبال، وأمواج البحار عندما تتكسر على شاطئ تحبه يقول: مرحباً بك، بلكنة ادروب ،ابكر، تيه، سيد أحمد، البلولة، وبزغرودة مريومة والسرة وفيفيان وحلوم انفتحت أمامي أفاق الشوق والترقب، اندمجت مشاعر الحماس والفضول، وكأنني أعيش في رواية غنية بالتفاصيل ومترفة بالأحداث. الأفق يتسع أمامي كانما يعد لتجربة فريدة، وسطوع الشمس احب مكان وطنّي السودان، يرسم تحفة فنية، يظهر الفارق العميق الذي تتجلى فيه حكمة الإله . حتى الكلام.. نبرات حروفها تختلف، تروي قصة كل إنسان بتفصيل بصماته، وتفرد لونه. إنها رحلة الحياة التي تجعلنا نشعر بتباين الأشياء وتعمق العواطف بين البشر، إذ لابد ولا مفر من قبول الاختلاف.
في تلك اللحظة المؤثرة أثناء الخروج من الطائرة رأيت أقدار الحرب في الوجوه الكالحة، تحكي لحظات آهات الوطن الصامتة على فراش اليأس، حيث اتكأ على وسادة غزلان الأبناء، متسائلاً عن مستقبلهم الذي تهيمن عليه رياح الشتات وأعاصير الفرقة وزمان الغربة والارتحال. وكانت من قبل نصائحه الحكيمة تتسلل إلى قلوبنا بلطف، حذِّرنا من خطورة الحال لكن هيهات، حتى انهك جسده النحيل حمى الانقسام وصداع الانفصال. في لحظة هدوء سمع أصوات أبنائه يتشاكسون بلا هموم، وكأن روح الأم الحنونة تهمس في أذنهم بحذاري من الاحتراب. رغم حرارة الحمى التي تحاصر جسده، وشحوب بشرته، يتألق ببريق لا يُلتبس وإشراق لا يخفى. في حواره الفصيح، خلع رداء الصمت وكشف عن مشاعره الصادقة كفى كفى دمارا وحروبا، من سويداء قلبه الحنون المعذب بألم الفراق. رغم الدماء والدمار والخراب ما زال الوطن يحمل الكبرياء عنواناً للصمود والتحدي في وجه المصاعب و التحديات. يا وطن، قد عرفنا قيمتك وروعتك في هذه اللحظات. ولكن بعد أن ضاع منا الامن والاستقرار.
في الذاكرة كان هناك وطناً، يتراقص مع الزمن على أوتار الحنين، ويتكسر صدى الأيام في جدران القلب. ينطلق الحديث عنه كقطعة فنية تنسجها أقدار الحياة، فترسم في خيوط الذاكرة أحداثا لا تُمحى، وفي طياتها تتلألأ حكايا الأجداد وطيب الأوقات. ها هو الوطن، في لحظة خراب، وبيوتنا تسكنه الكدايس( القطط) ظهرت بوضوح قيمة الوطن كحصن يقينا في الشدائد، وباتت تفاصيل الطفولة وحكايات الجدات والجدود تبدو ككنوز لا يمكن قياس قيمتها. أصبحنا ندرك أن الوطن هو المأوى في الأوقات الصعبة، والمرفأ الآمن عند العواصف. في هذه الأيام الصعبة، تظهر قوة الوطن كسند للأفراد، حيث تتردد آهاتهم في عقولهم وتتأرجح مع أضواء الأمل. وكلما تعاظمت المحنة والنزوح، زادت قيمة الوطن كملاذ آمن يحتضن العائدين. وكما يقال، "السفر يبلي والوطن يرحِّب"، فإن الرحيل يُرهق الروح ويثقل الأجسام، ولكن عند عودة الإنسان إلى أرضه يجد السلام ودفء الوطن تكتمل اللوحة ومعها تكتمل الفرحة، حيث يتناغم جمال الأماكن بروح الانتماء، وينمو الحب للوطن كزهرة تتفتح في أرجاء القلب. وهكذا يدوم الوطن، ككنز لا يشبع منه القلب، وكقصيدة جميلة تُروى في زوايا اللحظات.
لك الله، يا وطن. رغم الضيق والتحديات، تتبسم بالحياة وتجلب الراحة بسمةً هادئة في وجه الزمن. تنساب البسمة وكأنها شارة وداع لكل المحن، ترتدي الرحمة وشاحاً لتغطي كل مشاعر الإحن والمحن. في ضيق الهموم وفي ساعة الوحدة، تكون ملجأ يُخفِّف الأعباء ويرد الروح.. ويرد الموت مهتوك القناع. يابلادي تنشرين أحضانك شراعاً للرحمة، ورياح المحبة تملأ الفضاء، ترفع أكفك دعاءاً، كلما تسارعن خطوات الزمن، يبقى دعاؤك سلاحاً يحميني. انت كالطيف يفيض بالطل والندي، يحمل الأمل ويلامس الشغاف ويروي الجفاف. في عبيرك يتسع القلب ويستطيل الزمان، بسماتك تشفي الجروح. بدون محاباة، نحن بحاجةٍ لك يا وطن لنستريح، ونحتفظ بروحك الطيبة كسلاح لنواجه تحديات الحياة.
في قلب الشمال الإفريقي، حيث تتلاقى أشعة الشمس مع زهور الصحراء، ترسم لنا وطنا يسمى السودان. يكسو النيل الخالد أرضه الطيبة، حيث يغمر الناس بلطفه ويضيء بالأقمار المتلألأة سمائه. فهو ليس مجرد أرضاً، بل معبداً يحتضن في جدرانه الرقة والحنان. النسيم العليل يسافر بعبق طيبه، والأزهار ترقص بفرح في ربوعه. هناك، تتداخل الرقة والحنان كألحان موسيقية تعزفها الرياح. يتجسد التراث ككنز لا يقدر بثمن، وتتشكل الثقافات المتعددة. بمزيج فريد من الخلفيات والتراث، يرسم لوحة فنية تجمع بين العراقة والحداثة. لا تقتصر على حدوده الجغرافية، بل تتجاوز إلى أفق إفريقيا، حاملاً معه السعادة والإشراق. يتمايل كألوان الطيف، مشعاً بالإفريقية موقعاً وسحنة وبالعروبة فنوناً وثقافة. وفي تلك الأرض الباسمة، يسطع الغد بأمل مشرق، ينبت كزهرة زاهية في حضن إفريقيا. السودان، حيث السمرة وسواد الطين يتلاقيان ويتمازجان في جمال الإنسان. هكذا يتجسد وطننا في رؤية تنقلنا عبر أروقة التاريخ والطبيعة، حاملةً روح الفخر والجمال في كل كلمة, في روعة الوطن، تتجلى جمالية الإنسان في عزته وكرامته فيصبح الوطن أكثر من مجرد قطعة أرض. بل مسرحاً للحكايات الإنسانية الجميلة، حيث يتناغم الإنسان والوطن في رقصة هادئة تنطلق من أعماق الإنسان. يتحدث الوطن بلسان شعبه، يعزف أوتار الوحدة والتلاحم. إنها ليست مجرد كلمات، بل هي ترانيم الوطنية تتغنى بالأرض الجميلة وبأهلها الشرفاء ترسم كلمات الفخر والهوية. "أنا إفريقي أنا سوداني". لحناً يتسلل إلى أعماق الوجدان، ينبعث فخراً من كل قلب، حيث الوطن شامخاً في صدورنا، بكل فخر وشجاعة. كل نغمة تحمل معها قصة من المجد والتضحيات، ونحن نفتخر بأصالة تلك الدماء التي سطرت تاريخاً خالدا لا يمحى.
Abudafair@hotmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
ضياء الدين بلال يكتب: القوة الخفية التي هزمت حميدتي (2-2)
سألني كثيرون عن عدم ذكر شرائح مجتمعية مهمة كان لها إسهام كبير في هزيمة مشروع حميدتي الانقلابي.
لكن القائمة التي أوردتها لم تكن حصرية لمصادر القوة الخفية الناعمة في الدولة السودانية، بل كانت مجرد نماذج، دون أن يعني ذلك امتيازها على الآخرين.
بدأت أشعر بالقلق من أن معارك جديدة ستنشب بعد الحرب الحالية، محورها: من صنع النصر؟ ومن كانت له اليد العليا فيه؟!
لا شك أن هناك من لعبوا أدوارًا مركزية في هزيمة مشروع الميليشيا بعيدًا عن الأضواء، وسيأتي ذكرهم في يوم ما.
بعض الأصدقاء والقراء لاموني على عدم ذكر مشاركة السلفيين وجماعة أنصار السنة، وآخرون تساءلوا عن عدم الإشارة إلى دور الشعراء وكبار المغنيين، مثل الرمز والقامة عاطف السماني.
أما اللوم الأكبر فجاء من عدد كبير من القراء، بسبب عدم التطرق لدور الإعلاميين، لا سيما في الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي.
نعم، لم تكن الحرب التي اندلعت في السودان يوم 15 أبريل 2023 مجرد مواجهة عسكرية تقليدية بين جيش نظامي ومجموعة متمردة، بل كانت حربًا شاملة استهدفت الدولة والمجتمع معًا.
فبينما كانت الرصاصات والقذائف تحصد الأرواح، كانت هناك معركة أخرى، لا تقل ضراوة، تدور في ميدان الوعي والمعلومات، حيث لعب الإعلام الوطني الحر دورًا محوريًا في التصدي لهذا المشروع الغاشم.
في بدايات الحرب، أصيبت مؤسسات الدولة بالشلل، وغابت الأجهزة التنفيذية والإعلام الرسمي.
أما القوات المسلحة، فكانت محاصرة بين الهجمات الغادرة ومحاولات التمرد فرض واقع جديد بقوة السلاح.
وفي تلك اللحظة الحرجة، برز الإعلام كسلاح أمضى وأشد فتكًا من المدافع، يخوض معركة الوعي ضد التزييف والخداع، ويقاتل بالحجة والمنطق لكشف الحقائق ودحض الأكاذيب.
راهن المتمردون ومناصروهم على التلاعب بالسردية الإعلامية، فملأوا الفضاء الرقمي بالدعاية والتضليل، محاولين قلب الحقائق وتقديم أنفسهم كقوة منتصرة تحمل رسالة الحرية والديمقراطية.
لكن الإعلام الوطني الحر كان لهم بالمرصاد، فكشف فظائعهم، وفضح انتهاكاتهم، وعرّى أكاذيبهم.
لم تعد جرائمهم مجرد روايات ظنية مبعثرة، بل حقائق موثقة بالصوت والصورة، شاهدة على مشروعهم القائم على النهب والدمار وإشاعة الفوضى.
لم يكتفِ الإعلام بتعرية التمرد، بل حمل لواء المقاومة الشعبية، فكان منبرًا لتحفيز السودانيين على الصمود، وحشد الطاقات، وبث روح الأمل.
اجتهد الإعلام الوطني في رفع معنويات الجيش، مؤكدًا أن هذه ليست نهاية السودان، وأن القوات المسلحة ستنهض مهما تكالبت عليها المحن، وأن الشعب ليس متفرجًا، بل شريك أصيل في الدفاع عن وطنه.
لم يكن هذا مجرد تفاعل إعلامي عابر، بل كان إعادة تشكيل للوعي الجمعي، وصناعة رأي عام مقاوم يحمي السودان من السقوط في مستنقع الفوضى.
ومع مرور الوقت، استعاد الجيش أنفاسه، وعاد أكثر تنظيمًا وقوة، والتحم بالمقاومة الشعبية التي بشّر بها الإعلام.
وهكذا، تحولت الحرب من مواجهة بين جيش ومتمردين إلى معركة وطنية كبرى ضد مشروع تدميري عابر للحدود.
لقد أثبت الإعلام الوطني أن الكلمة الصادقة، حين تكون في معركة عادلة، تملك من القوة ما يعادل ألف طلقة، وأن الوعي، حين يُدار بذكاء وصدق، يصبح درعًا لا يخترقه التضليل، وسيفًا يقطع أوهام الباطل من جذورها.
هكذا انتصر السودان في معركة الوعي، وهكذا هُزم التمرد قبل أن يُهزم في ميادين القتال.
ضياء الدين بلال
إنضم لقناة النيلين على واتساب