د. الهادي عبدالله أبوضفائر

في تلك اللحظات الساحرة من الشعور الخالد، انغمست في عالم آخر عندما سمعت صوتا ينادي: "اربطوا الأحزمة، ستحط الطائرة في مطار بورتسودان." كانت تلك كلمات السر لرحلة انتظرتها طويلا، حيث تناوبت الأفكار والتوقعات في خيالي. كأنما تمهد لاكتشاف أفق جديد، كلما اقتربت اللحظة كلما زاد شغف الانتظار.

وحينما توقفت مراوح الطائرة عن الدوران، شعرت بنسمات الهواء تلفّ حولي وتطوقني، كموسيقى خفيفة تلاطف وجداني. كمن استحم بعطر وتنشف بنور.. وبينما كنت أرفع نظري للنافذة، رأيت الوطن كأجمل لوحة فنية ترسمها فرشاة الإنسانية. إنه السند الذي يجمع بين رونق الأمان ودفء الانتماء، حيث يتلاقى القلب مع تراب الوطن لينسجا قصيدة حب تتغنى بها الأرواح. فالوطن ليس مجرد قطعة من الأرض، بل سرادق تظلل الحياة برفق، وتحمل في ثناياها تفاصيل تجعلها أجمل من أي قصيدة شعر. مثل همس النسيم وترنيمة الطيور، وحقا.. يستمد الإنسان قوته وجماله من أرض الانتماء. فأنا لم أختار وطني، ولكنني وُلدت لأعشقه.

الوطن لا يقاس بالمسافات، بل بعمق الروابط والعلاقات. في هذا السرادق الجميل، نجد أنفسنا محاطين بأجمل لحظات الحياة، حيث يتواصل القلب مع تراب الوطن بلغة الحب الخالدة. استمعتُ إلى همس يخترق أذني، يناديني بحمرة الشفق المنسكب علي الجبال، وأمواج البحار عندما تتكسر على شاطئ تحبه يقول: مرحباً بك، بلكنة ادروب ،ابكر، تيه، سيد أحمد، البلولة، وبزغرودة مريومة والسرة وفيفيان وحلوم انفتحت أمامي أفاق الشوق والترقب، اندمجت مشاعر الحماس والفضول، وكأنني أعيش في رواية غنية بالتفاصيل ومترفة بالأحداث. الأفق يتسع أمامي كانما يعد لتجربة فريدة، وسطوع الشمس احب مكان وطنّي السودان، يرسم تحفة فنية، يظهر الفارق العميق الذي تتجلى فيه حكمة الإله . حتى الكلام.. نبرات حروفها تختلف، تروي قصة كل إنسان بتفصيل بصماته، وتفرد لونه. إنها رحلة الحياة التي تجعلنا نشعر بتباين الأشياء وتعمق العواطف بين البشر، إذ لابد ولا مفر من قبول الاختلاف.

في تلك اللحظة المؤثرة أثناء الخروج من الطائرة رأيت أقدار الحرب في الوجوه الكالحة، تحكي لحظات آهات الوطن الصامتة على فراش اليأس، حيث اتكأ على وسادة غزلان الأبناء، متسائلاً عن مستقبلهم الذي تهيمن عليه رياح الشتات وأعاصير الفرقة وزمان الغربة والارتحال. وكانت من قبل نصائحه الحكيمة تتسلل إلى قلوبنا بلطف، حذِّرنا من خطورة الحال لكن هيهات، حتى انهك جسده النحيل حمى الانقسام وصداع الانفصال. في لحظة هدوء سمع أصوات أبنائه يتشاكسون بلا هموم، وكأن روح الأم الحنونة تهمس في أذنهم بحذاري من الاحتراب. رغم حرارة الحمى التي تحاصر جسده، وشحوب بشرته، يتألق ببريق لا يُلتبس وإشراق لا يخفى. في حواره الفصيح، خلع رداء الصمت وكشف عن مشاعره الصادقة كفى كفى دمارا وحروبا، من سويداء قلبه الحنون المعذب بألم الفراق. رغم الدماء والدمار والخراب ما زال الوطن يحمل الكبرياء عنواناً للصمود والتحدي في وجه المصاعب و التحديات. يا وطن، قد عرفنا قيمتك وروعتك في هذه اللحظات. ولكن بعد أن ضاع منا الامن والاستقرار.

في الذاكرة كان هناك وطناً، يتراقص مع الزمن على أوتار الحنين، ويتكسر صدى الأيام في جدران القلب. ينطلق الحديث عنه كقطعة فنية تنسجها أقدار الحياة، فترسم في خيوط الذاكرة أحداثا لا تُمحى، وفي طياتها تتلألأ حكايا الأجداد وطيب الأوقات. ها هو الوطن، في لحظة خراب، وبيوتنا تسكنه الكدايس( القطط) ظهرت بوضوح قيمة الوطن كحصن يقينا في الشدائد، وباتت تفاصيل الطفولة وحكايات الجدات والجدود تبدو ككنوز لا يمكن قياس قيمتها. أصبحنا ندرك أن الوطن هو المأوى في الأوقات الصعبة، والمرفأ الآمن عند العواصف. في هذه الأيام الصعبة، تظهر قوة الوطن كسند للأفراد، حيث تتردد آهاتهم في عقولهم وتتأرجح مع أضواء الأمل. وكلما تعاظمت المحنة والنزوح، زادت قيمة الوطن كملاذ آمن يحتضن العائدين. وكما يقال، "السفر يبلي والوطن يرحِّب"، فإن الرحيل يُرهق الروح ويثقل الأجسام، ولكن عند عودة الإنسان إلى أرضه يجد السلام ودفء الوطن تكتمل اللوحة ومعها تكتمل الفرحة، حيث يتناغم جمال الأماكن بروح الانتماء، وينمو الحب للوطن كزهرة تتفتح في أرجاء القلب. وهكذا يدوم الوطن، ككنز لا يشبع منه القلب، وكقصيدة جميلة تُروى في زوايا اللحظات.

لك الله، يا وطن. رغم الضيق والتحديات، تتبسم بالحياة وتجلب الراحة بسمةً هادئة في وجه الزمن. تنساب البسمة وكأنها شارة وداع لكل المحن، ترتدي الرحمة وشاحاً لتغطي كل مشاعر الإحن والمحن. في ضيق الهموم وفي ساعة الوحدة، تكون ملجأ يُخفِّف الأعباء ويرد الروح.. ويرد الموت مهتوك القناع. يابلادي تنشرين أحضانك شراعاً للرحمة، ورياح المحبة تملأ الفضاء، ترفع أكفك دعاءاً، كلما تسارعن خطوات الزمن، يبقى دعاؤك سلاحاً يحميني. انت كالطيف يفيض بالطل والندي، يحمل الأمل ويلامس الشغاف ويروي الجفاف. في عبيرك يتسع القلب ويستطيل الزمان، بسماتك تشفي الجروح. بدون محاباة، نحن بحاجةٍ لك يا وطن لنستريح، ونحتفظ بروحك الطيبة كسلاح لنواجه تحديات الحياة.

في قلب الشمال الإفريقي، حيث تتلاقى أشعة الشمس مع زهور الصحراء، ترسم لنا وطنا يسمى السودان. يكسو النيل الخالد أرضه الطيبة، حيث يغمر الناس بلطفه ويضيء بالأقمار المتلألأة سمائه. فهو ليس مجرد أرضاً، بل معبداً يحتضن في جدرانه الرقة والحنان. النسيم العليل يسافر بعبق طيبه، والأزهار ترقص بفرح في ربوعه. هناك، تتداخل الرقة والحنان كألحان موسيقية تعزفها الرياح. يتجسد التراث ككنز لا يقدر بثمن، وتتشكل الثقافات المتعددة. بمزيج فريد من الخلفيات والتراث، يرسم لوحة فنية تجمع بين العراقة والحداثة. لا تقتصر على حدوده الجغرافية، بل تتجاوز إلى أفق إفريقيا، حاملاً معه السعادة والإشراق. يتمايل كألوان الطيف، مشعاً بالإفريقية موقعاً وسحنة وبالعروبة فنوناً وثقافة. وفي تلك الأرض الباسمة، يسطع الغد بأمل مشرق، ينبت كزهرة زاهية في حضن إفريقيا. السودان، حيث السمرة وسواد الطين يتلاقيان ويتمازجان في جمال الإنسان. هكذا يتجسد وطننا في رؤية تنقلنا عبر أروقة التاريخ والطبيعة، حاملةً روح الفخر والجمال في كل كلمة, في روعة الوطن، تتجلى جمالية الإنسان في عزته وكرامته فيصبح الوطن أكثر من مجرد قطعة أرض. بل مسرحاً للحكايات الإنسانية الجميلة، حيث يتناغم الإنسان والوطن في رقصة هادئة تنطلق من أعماق الإنسان. يتحدث الوطن بلسان شعبه، يعزف أوتار الوحدة والتلاحم. إنها ليست مجرد كلمات، بل هي ترانيم الوطنية تتغنى بالأرض الجميلة وبأهلها الشرفاء ترسم كلمات الفخر والهوية. "أنا إفريقي أنا سوداني". لحناً يتسلل إلى أعماق الوجدان، ينبعث فخراً من كل قلب، حيث الوطن شامخاً في صدورنا، بكل فخر وشجاعة. كل نغمة تحمل معها قصة من المجد والتضحيات، ونحن نفتخر بأصالة تلك الدماء التي سطرت تاريخاً خالدا لا يمحى.
Abudafair@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

«شاطئ الزبارة».. تحفة جديدة في مشاريع الشارقة السياحية

يمثل شاطئ الزبارة في مدينة خورفكان إضافة فريدة إلى قائمة الوجهات الساحلية التي تم تطويرها وتزويدها بخدمات ومرافق جديدة، ويأتي ضمن توجيهات ورؤية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، الهادفة إلى تعزيز جاذبية المدينة وتحويلها إلى إحدى أبرز الوجهات السياحية، ومع اكتمال مشروع تطويره، يشهد الشاطئ إقبالا كبيراً كونه خياراً مثالياً للترفيه.
يعد شاطئ الزبارة تحفة جديدة تضاف إلى قائمة المشاريع التطويرية في إمارة الشارقة، حيث يجمع بين جمال الطبيعة الساحرة ورفاهية المرافق الحديثة، ذلك لأن تصميمه تم بعناية فائقة ليمثل نقلة نوعية في مفهوم الشواطئ الترفيهية، ويشمل مرافق متكاملة تلبي احتياجات جميع أفراد العائلة، من مناطق ألعاب آمنة للأطفال، ومساحات مخصصة للاسترخاء، وممشى ساحلي يوفر تجربة فريدة لمحبي المشي والاستمتاع بالإطلالات البحرية.
تحسين البنية التحتية
أكد المهندس يوسف خميس العثمني، رئيس هيئة الطرق والمواصلات بالشارقة، أن تطوير مشروعي شاطئي اللؤلؤية والزبارة في مدينة خورفكان يأتي تنفيذاً لتوجيهات صاحب السمو حاكم الشارقة، بهدف تحسين البنية التحتية للمدينة وتعزيز مكانتها.
وبيّن أن المشروع الذي يمتد على طول 1.3 كيلومتر، يتضمن طريقاً بمسارين بعرض 7.3 متر، إضافة إلى تنفيذ ميدان متكامل ومواقف سيارات عمودية تتسع ل 705 مركبات، إلى جانب تطوير ممرات مخصصة للمشاة وأعمدة الإنارة للطريق، ما يعكس حرص الهيئة على تنفيذ مشاريع تواكب أعلى معايير الجودة تلبي تطلعات السكان والزوار.
وأشار العثمني، إلى أن هذا المشروع يشكل إضافة مهمة تعزز مكانة خورفكان إحدى أجمل الوجهات السياحية في الدولة، وخاصة أن شواطئها تعد مقصداً مفضلاً للعائلات والزوار الباحثين عن الاستجمام وسط الطبيعة الخلابة، موضحاً أن المشروع يدعم الجهود الرامية إلى تطوير المدينة وتحسين جودة الحياة. وأضاف أن الهيئة ستواصل تنفيذ المزيد من المشاريع التنموية في الإمارة، بما يسهم في تحقيق رؤية القيادة الرشيدة نحو تعزيز التنمية المستدامة وجعل إمارة الشارقة نموذجاً حضارياً يحتذى به.
شكر وامتنان
عبر سكان مدينة خورفكان عن امتنانهم العميق وتقديرهم الكبير لجهود صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، في تطوير الإمارة ومدينتهم وكافة مناطقها، لافتين إلى ما تم تحقيقه من تطوير كورنيش الزبارة وسبقه كورنيش اللؤلؤية، لتصبح وجهات ترفيهية مميزة للعائلات.
وقالت المواطنة عائشة يوسف المطلعي: «نشكر والدنا صاحب السمو حاكم الشارقة، على مواصلة هذه المكرمات وتنفيذ المشاريع الحيوية والمرافق الجميلة في منطقتي اللؤلؤية والزبارة»، لافتة إلى أن كورنيش الزبارة الجديد يشكل وجهة إضافية للاستمتاع، وأصبح مكاناً مثالياً لتجمع العائلات في بيئة نظيفة ومجهزة بأفضل المرافق الترفيهية.
من جانبه، قال المواطن علي خلفان النقبي: «لقد أصبح شاطئ الزبارة وجهة مفضلة للعائلات، حيث يوفر أجواءً أكثر راحة وجمالاً بعد التجديد، ومن هنا أود أن اتوجه بالشكر لمقام سيدي صاحب السمو حاكم الشارقة، على هذه النوعية من المشاريع الخدمية التي حولت إمارتنا الباسمة إلى أهم المدن السياحية محلياً وعالمياً».
الطبيعة المحلية
قالت المواطنة أسماء الريسي، إن هذه المشاريع التنموية تساهم في تعزيز جودة الحياة وتسهيل الاستمتاع بالطبيعة المحلية، وقد زاد هذا المشروع من جمال مدينة خورفكان عروس الساحل الشرقي، ليصبح كورنيش الزبارة الجديد وجهة تجمع للعائلات في أجواء أكثر راحة وجمالاً.
فيما تصف المواطنة سارة الرئيسي، صاحب السمو حاكم الشارقة بالقائد الملهم ومصدر فخر لنا جميعاً، ونحن نرى بصمته الواضحة في التطور الكبير الذي تشهده الإمارة، معربة عن امتنانها لسموه على مكارمه السخية المتواصلة التي تخدم المواطن.
ويمثل مشروع تطوير كورنيش الزبارة خطوة جديدة نحو تعزيز مكانة خورفكان كوجهة سياحية متميزة، تجمع بين أصالة الطبيعة ورفاهية الخدمات، لتتحول إلى مقصد سياحي راقٍ يلبي تطلعات السكان والزوار، ويعكس رؤية مستقبلية قائمة على التنمية المستدامة والتطوير المستمر.

مقالات مشابهة

  • مجلس رمضاني يناقش التوازن بين الانتماء والعطاء
  • عمران يكشف المعاناة.. قصة ولادة الحياة والموت في ريف كسلا
  • مجرد بداية..ترامب: لا مكان لداعمي الإرهاب ومعادي السامية في الجامعات الأمريكية
  • وزير الأوقاف: القرآن منهج حياة شامل وليس مجرد كتاب ديني
  • إعادة إنتاج الانحدار: ما بين خطاب شوقي بدري والوليد مادبو
  • أجمل ما قيل عن الأم في رمضان
  • «شاطئ الزبارة».. تحفة جديدة في مشاريع الشارقة السياحية
  • برلمانية: الشهداء ضحوا بأنفسهم ليهبوا أوطانهم الحياة
  • الأمم المتحدة ترسم صورة قاتمة للأوضاع في جنوب السودان
  • الأمم المتحدة تحث قادة جنوب السودان على إنقاذ اتفاق السلام