بناء الجسور.. نحو نهجٍ عراقيٍّ في فهمِ الألمان اجتماعياً
تاريخ النشر: 23rd, January 2024 GMT
التفاعلات الثقافيَّة عبارة عن نسيجٍ من التجارب والقصص ووجهات النظر التي تتجمع عندما يلتقي أفراد من مناطق مختلفة من أنحاء العالم، وبالنسبة للعراقيين الذين يجدون أنفسهم في ألمانيا، فإن فهم تعقيدات الشخصيَّة الاجتماعيَّة الألمانيَّة يمكن أن يكون مفيداً، وفي بعض الأحيان صعباً. وفي هذه المقالة نتعمق في تجارب العراقيين الذين تفاعلوا مع المشهد الاجتماعي الألماني، سعياً إلى بناء جسور التفاهم بين ثقافتين متنوعتين.
إنَّ الطابع الاجتماعي الألماني هو انعكاسٌ للتاريخ الغني والقيم الثقافيَّة والأعراف المجتمعيَّة التي تطورت على مرّ القرون، وعندما يتعامل العراقيون مع الألمان، سواء على المستوى المهني أو الشخصي، فمن الضروري فهم تعقيدات هذه الشخصيَّة الاجتماعيَّة المختلفة عنهم، وفي هذه المقالة سنسعى لكشف تطور الشخصيَّة الاجتماعيَّة الألمانيَّة وقيمها الأساسيَّة والاعتبارات المهمَّة والتي على العراقيين أنْ يأخذوها بنظر الاعتبار عند التعامل مع الألمان.
السياق التاريخي
لفهم الشخصيَّة الاجتماعيَّة الألمانيَّة، من الضروري الخوض في السياق التاريخي الذي شكلها، إذ يتميز تاريخ ألمانيا بنسيجٍ من الأحداث، بما في ذلك الإمبراطوريَّة الرومانيَّة المقدسة، والإصلاح البروتستانتي، ومُثل التنوير، والمراحل الزمنيَّة المضطربة مثل الحرب العالميَّة الأولى والحرب العالميَّة الثانية، وكان لآثار الحرب العالميَّة الثانية وتقسيم ألمانيا إلى شرقٍ وغربٍ تأثيرٌ عميقٌ في تلك الشخصيَّة، وإنَّ جدار برلين الذي ظلَّ يفصلُ بين شرق برلين وغربها لمدة تقرب من ثلاثة عقود لم يكن يرمز إلى الانقسام المادي فحسب، بل كان يرمز أيضاً إلى الاختلافات الصارخة في الإيديولوجيات السياسيَّة وأساليب الحياة.
كانت يوم إعادة توحيد ألمانيا الشرقيَّة والغربيَّة في العام 1990 بمثابة لحظة محوريَّة في تاريخها، ولقد جمعت مجتمعين لهما خصائص مميزة، وخلقت مزيجاً معقداً من الثقافات والقيم، ولعلَّ عمليَّة إعادة التوحيد هذه تستمرُ في التأثير على الطابع الاجتماعي الألماني.
من بغداد إلى برلين - العراقيون في ألمانيا
العراق، «مهد الحضارة» له تاريخٌ يمتدُّ لآلاف السنين، وتشملُ مساهمته في الحضارة الإنسانيَّة التقدم في الرياضيات وعلم الفلك والأدب والهندسة المعماريَّة وسنّ التشريعات القانونيَّة، ومع تنوع سكانه الذي يشمل مختلف الأعراق والأديان والتقاليد، يعدُّ العراق بلداً عامراً في الثراء الثقافي، والشخصيَّة الاجتماعيَّة العراقيَّة هي انعكاسٌ لهذا التنوع، وإنّ كرم الضيافة والروابط الأسريَّة الوثيقة والتمسك القوي بالتقاليد هي من السمات المميزة للثقافة العراقيَّة، وعلى الرغم من التحديات التي واجهتها البلاد في العقود الأخيرة، إلا أنَّ صمود الشعب العراقي وقوته أمام هذه التحديات سجل علامة بارزة في
تاريخه.
من جانبٍ آخر تقدم ألمانيا مشهداً ثقافياً متميزاً، فهي دولة معروفة بالدقة والكفاءة والوعي البيئي، وهي قوة أوروبيَّة ذات تاريخ غني بالمساهمات الثقافيَّة والفلسفيَّة والفكريَّة، وعندما يجد العراقيون أنفسهم على الأراضي الألمانيَّة، فإنَّهم يشرعون في رحلة الاستكشاف
والتكيف.
وبالنسبة للعراقيين في ألمانيا يعدُّ بناء جسور التفاهم الثقافي عمليَّة مستمرة، ويبدأ الأمر بالاعتراف بالاختلافات في الطابع الاجتماعي بين الثقافتين واغتنام فرصة التعلم المتبادل، هنا يجب على العراقيين أنْ يأخذوا الوقت الكافي للتعرف على العادات والتحيات والآداب الاجتماعيَّة الألمانيَّة، وإنَّ فهم هذه المعايير واحترامها خطوات أساسيَّة في بناء علاقات
إيجابيَّة.
إنَّ أحد الجوانب الأولى التي يواجهها العراقيون عند التعامل مع الألمان هو أهميَّة الالتزام بالمواعيد، ففي ألمانيا لا يعدُّ الحضور في الوقت المحدد مجرد مسألة مجاملة، بل إنها علامة على احترام وقت الآخرين، وقد تكون الأعراف الثقافيَّة العراقيَّة أكثر استرخاءً في هذا الصدد، لكنَّ التكيف مع الإحساس الألماني بالالتزام بالمواعيد أمرٌ بالغ الأهميَّة للتفاعل معهم والتأثير
فيهم.
سمة أخرى من سمات الشخصيَّة الاجتماعيَّة الألمانيَّة هي الصراحة، إذ يقدّر الألمان التواصل الواضح والمفتوح، وقد يظهرون على أنهم صريحون ومباشرون في طرحهم لأفكارهم، وتتجذّر هذه الصراحة في الالتزام بالشفافيَّة والصدق، وقد يحتاج العراقيون إلى تكييف أسلوب تواصلهم ليتوافق مع هذه السمة
الاجتماعيَّة.
تعدُّ الكفاءة وأخلاقيات العمل القويَّة أيضاً جزءاً لا يتجزأ من الشخصيَّة الاجتماعيَّة الألمانيَّة، ويفخر الألمان بقدرتهم على العمل بجدٍ وتحقيق معايير عالية في مساعيهم المهنيَّة، وفي حين أنَّ العراقيين قد يشتركون في الالتزام بالعمل الجاد، فإنَّ فهم النهج الألماني في الكفاءة يمكن أنْ يعززَ التعاون في البيئات المهنيَّة.
وبالرغم من أنَّ اللغة الإنكليزيَّة مستخدمة على نطاقٍ واسعٍ في ألمانيا، إلا أنَّه ينبغي على العراقيين تعزيز اندماجهم الثقافي من خلال تعلم بعض العبارات الألمانيَّة الأساسيَّة، ولا يسهل هذا الجهد التواصل فحسب، بل يوضح أيضاً احترام الثقافة المضيفة. ومن المهم أنْ نتذكر أنَّ هذه الخصائص يمكن أنْ تختلفَ بين الأفراد، وليس كل الألمان سيظهرون هذه السمات بالدرجة نفسها، ففضلاً عن ذلك، ألمانيا بلدٌ متنوعٌ يضمُّ أشخاصاً من خلفيات مختلفة، لذلك يمكن أنْ تكون هناك اختلافاتٌ إقليميَّة وفرديَّة في السلوك والقيم، ويمكن أنْ تكون القوالب النمطيَّة أو التعميمات الواسعة حول أي مجموعة من الأشخاص مضللة وغير عادلة، لذلك من الضروري التعامل مع هذه الأوصاف بحذرٍ وفهم التنوع الثقافي.
كيفيَّة التعامل مع الألمان
عندما يتعين على العراقيين التعامل مع الألمان، سواء على المستوى المهني أو الشخصي، فمن الضروري التعامل مع هذه التفاعلات بحساسيَّة ثقافيَّة وعقليَّة منفتحة، وإنَّ بناء العلاقات الإيجابيَّة والتواصل الفعال بين الثقافات يتطلب فهم واحترام اختلافات بعضنا البعض، في ما يلي بعض الأفكار التي يجب مراعاتها عندما يرغب العراقيون في التفاعل مع الألمان:
* كن دقيقاً.
* تواصل بشكلٍ مباشرٍ وواضح.
* احترم المساحة الشخصيَّة للآخر.
* تعرف وافهم ثقافة العمل الألمانيَّة.
* أكد على الاحتراف.
* كن منفتحاً على ملاحظاتهم.
* تكيف مع الأعراف الاجتماعيَّة.
* تعلم اللغة الألمانيَّة.
* قم ببناء العلاقات وتطويرها تدريجياً.
* تمسك بالتنوع المجتمعي.
* كن واعياً من الصور النمطيَّة.
وتذكر أنّ بناء علاقات ناجحة عبر الثقافات ينطوي على الاحترام المتبادل والفضول والرغبة في التعلم من بعضنا البعض، ومن خلال إظهار الحساسيَّة الثقافيَّة والقدرة على التكيف، ويستطيع العراقيون تعزيز التفاعلات الإيجابيَّة والمثمرة مع الألمان على المستويين المهني
والشخصي.
خاتمة
غالباً ما تعكس الأمثال الألمانيَّة جوانب الشخصيَّة الاجتماعيَّة الألمانيَّة، بما في ذلك القيم وأخلاقيات العمل والعلاقات الشخصيَّة، في ما يلي بعض الأمثال الألمانيَّة التي تقدم نظرة ثاقبة للقيم والمواقف الاجتماعيَّة الألمانيَّة:
* النظام نصف الحياة.
* مشغول كالنمل
* الأفكار حرة ولا تكلف.
* الأشياء الجيدة تستغرق وقتاً.
* الصدق يدوم أطول
* ما لا تريد أنْ يفعله بك. لا تفعله بأي شخص آخر.
* كل بداية صعبة.
* القوة تكمن في الهدوء.
وأخيراً تتجاذب الأضداد. هنا نرى تركز القيم الشخصيَّة الاجتماعيَّة للألمان على صفات مثل الاجتهاد والصدق والصبر واحترام الآخرين، وإنها توفر لمحة عن الحكمة الثقافيَّة والأعراف الاجتماعيَّة التي شكلت المجتمع الألماني مع مرور
الوقت.
وتمثل الرحلة من بغداد إلى برلين رحلة تحويليَّة بالنسبة للعراقيين الذين يجدون أنفسهم في ألمانيا، وإنَّ فهم الشخصيَّة الاجتماعيَّة الألمانيَّة والتكيف معها أمرٌ ضروريٌ لبناء جسور التفاهم الثقافي بين مجتمعين متنوعين، وبينما يتنقل العراقيون في المشهد الألماني الذي يتسمُ بالكفاءة والتوجيه والوعي البيئي، فإنَّهم يشرعون في رحلة من التعلم المتبادل والنمو، ومن خلال فهم الحساسيَّة الثقافيَّة، والتكيف مع ثقافة مكان العمل، وتعزيز الالتزام المشترك بالاستدامة البيئيَّة، يستطيع العراقيون في ألمانيا سدّ الفجوة بين تراثهم العراقي الغني والطابع الاجتماعي الألماني
الديناميكي.
ومن المهم أنْ نلاحظَ أنَّ هذه التحديات ليست مستعصية على الحل، وأنّ العديد من الأجانب يندمجون بنجاحٍ في المجتمع الألماني مع الحفاظ على هوياتهم الثقافيَّة الخاصة، وإن بناء التفاهم بين الثقافات، وتعلم اللغة، والانفتاح على الاختلافات الثقافيَّة يمكن أنْ يساعد في التغلب على هذه التحديات وتعزيز التفاعلات الإيجابيَّة بين الألمان والأجانب. وفي هذا التبادل الثقافي، يحظى كل من العراقيين والألمان بفرصة الاحتفال بنقاط قوتهم وتقاليدهم مع إقامة روابط تتجاوز الحدود، وإنَّ بناء جسور التفاهم ليس مجرد رحلة، بل هي شهادة على جمال التنوع الثقافي والتجربة الإنسانيَّة
المشتركة.
المصدر: شفق نيوز
كلمات دلالية: العراق هاكان فيدان تركيا محمد شياع السوداني انتخابات مجالس المحافظات بغداد ديالى نينوى ذي قار ميسان اقليم كوردستان السليمانية اربيل نيجيرفان بارزاني إقليم كوردستان العراق بغداد اربيل تركيا اسعار الدولار روسيا ايران يفغيني بريغوجين اوكرانيا امريكا كرة اليد كرة القدم المنتخب الاولمبي العراقي المنتخب العراقي بطولة الجمهورية الكورد الفيليون الكورد الفيليون خانقين البطاقة الوطنية مطالبات العراق بغداد ذي قار ديالى حادث سير الكورد الفيليون مجلة فيلي عاشوراء شهر تموز مندلي الاجتماعی الألمانی على العراقیین العراقیون فی ة الاجتماعی ة الألمانی من الضروری فی ألمانیا
إقرأ أيضاً:
التنوع الثقافي في عمان ... نموذج التسامح والوحدة الوطنية
بدر العبري: التنوع الثقافي أساس لتعزيز الهوية العمانية
الحبيب سالم المشهور: التعددية الثقافية تراث وطني للأجيال
أحمد النوفلي: التعايش العماني تأصيل للقيم الإنسانية
مصطفى اللواتي: التسامح ضرورة لحماية المجتمع من التطرف
في إطار ثقافي غني بتنوعه وأصالته، تبرز سلطنة عمان كنموذج حي للتعددية الثقافية التي أثرت الحياة العمانية وأغنتها، فمن خلال التنوع الثقافي والمذهبي والعقائدي الذي تميز به المجتمع العماني، تمكنت البلاد من بناء بيئة متسامحة تتميز بتآلفها، وهو ما جعلها وجهة تشهد على قيم التسامح العريقة المتأصلة في نفوس العمانيين.
في هذا الاستطلاع، نعرض مجموعة من الآراء التي تعبّر عن رؤية مجموعة من الكتاب والمفكرين العمانيين حول موضوع التعددية الثقافية، مستعرضين كيف تشكل هذا التنوع من خلال عوامل التاريخ والجغرافيا والسياسات الاجتماعية والدينية التي دعمت الاستقرار والتعايش، وصولاً إلى التركيبة الاجتماعية المتفردة في عمان، متناولين انعكاسات التعددية على الوجدان الوطني وكيف أسهمت هذه العوامل مجتمعة في بناء مجتمع متسامح وقادر على العيش المشترك.
التعدد الثقافي
بداية قال الكاتب والباحث بدر العبري حول "التعدد الثقافي في بناء مجتمع عماني متسامح" إن "المجتمعات بطبيعتها ليست على صورة واحدة"، موضحًا أن الهويّة الثقافية الواحدة بمعناها الحرفي لا وجود لها، حيث يمكن للمجتمعات أن تشترك في خيوط جامعة فيما بينها، إلا أنها تظل، من حيث البداية، متباينة. حيث أن المجتمع العماني هو أحد الأمثلة الواضحة على هذا التباين، فهو ليس على صورة وهوية واحدة، حيث تضافرت عدة عوامل جعلت منه مجتمعًا متنوع الثقافات والهوية. وأكد أن هذا التباين يعود لأسباب مختلفة، من أبرزها تباين التضاريس في عمان التي تشمل البحر والسهل والجبل والصحراء والبادية والواحات، مما أوجد بيئات متنوعة أثرت في تباين الهوية العمانية الثقافية، وأسهمت في تكوين ملامح متعددة لهذا المجتمع.
وأضاف "العبري" أن الموقع البحري لعمان وانفتاحها على المحيطات وفرّ للعمانيين فرصة التواصل والتفاعل مع الخارج منذ القدم، حيث سمحت لهم سهولة الهجرة والانفتاح بالاطلاع على حضارات متعددة، كحضارة ما بين النهرين، والسند، وفارس، وشرق آسيا، وأجزاء واسعة من القارة الإفريقية. وشدد على أن هذا الانفتاح لم يكن من اتجاه واحد فقط، إذ شهدت عمان أيضًا هجرة عكسية حيث استقرت فيها قبائل قدمت من تلك الحضارات إلى عمان، ما أسهم في رسم صورة ثقافية متكاملة، وخلق روابط تتجاوز الحدود. وأضاف أن بعض القبائل العمانية هاجرت إلى الخارج، وما زال لها وجود في تلك المناطق التي أشرنا إليها، بينما استقرت قبائل أخرى داخل عمان وأصبحت جزءًا من الهوية العمانية الجامعة، مما زاد من تنوع المجتمع العماني على صعيد الانتماء الكلي والمواطنة.
وأشار بدر العبري إلى أن هذه العوامل التاريخية والجغرافية أسهمت في خلق لوحة ثقافية متباينة في عمان، حيث توجد عدة لغات داخل عمان، منها الكمزارية والشحرية والمهرية والبطحرية والحرسوسية والبلوشية والأردية والفارسية والهندية السندية، بجانب اللغة العربية الأم، والتي تعتبر اللغة الجامعة بين الجميع. ولفت إلى أن هذا التعدد اللغوي يقابله أيضًا تعدد في اللهجات داخل اللغة العربية نفسها، حيث تتميز اللهجات العمانية بجماليات صوتية فريدة وخصوصيات معجمية تساهم في إثراء التجربة الثقافية في عمان، وتُعد مكونًا مهمًا من مكونات الهوية.
كما نوه إلى أن التعدد الثقافي في عمان يتجلى في العادات والتقاليد، إذ تشكلت في عمان لوحات من التقاليد المرتبطة بمناسبات متعددة مثل الأفراح والأعراس والمواسم الدينية، وسفر البحر، ومواسم الأعياد، وغناء الأطفال، والركبان، مما يعكس تنوعًا في العادات يعزز التماسك الاجتماعي. وأوضح أن هذه العادات تشمل تنوعاً في الملبوسات والأطعمة وأنماط الحياة المختلفة، والتي أوجدت تراثًا متجذرًا في المجتمع العماني يجسد الطابع الفريد لهذا المجتمع.
وأكد في الوقت نفسه على أن الانفتاح الذي عاشته عمان في الماضي، سواء بسبب البحر والهجرة، أو في الحاضر بفضل التطورات في العمل والسياحة، ساهم في خلق تعددية دينية ومذهبية داخل المجتمع العماني، وأوضح أن انفتاح المجتمع العماني اليوم على الفضاء الفكري والمعرفي أوجد تعددية معرفية وفكرية إضافية. وأشار إلى أن عمان أصبحت جزءًا من فضاء عالمي مفتوح يتفاعل فيه الثقافي والمعرفي، مما يجعل من الطبيعي أن تنتقل بعض الثقافات المعاصرة إلى عمان، وهو ما يعزز تنوع المجتمع الثقافي في الوقت الحاضر.
وتابع "العبري" الحديث عن تاريخ عمان، مبينًا أن عمق التاريخ العماني الذي يمتد لآلاف السنين أوجد تنوعًا ثقافيًا في العمارة والفنون والمخطوطات والآثار البنائية، حيث أنشئت الحصون والقلاع والأفلاج والأسوار، وتنوعت الأضرحة، مما أضاف جانبًا أثريًا غنياً إلى المشهد الثقافي العماني. وذكر أن الآثار العمانية لا تتوقف عند هذا الحد، بل تشمل الأدوات المعدنية والنحاسية والفخارية والصناعات التقليدية، إضافة إلى أدوات الرعي والبحر ووسائل التنقل، مشيرًا إلى أن هذا التاريخ العريق قد أسهم في تشكيل هوية ثقافية متعددة الأبعاد لأبناء عمان.
في الوقت نفسه أوضح الباحث بدر العبري أن التعددية الثقافية ليست حالة سلبية، بل هي حالة طبيعية لها أبعادها المتعددة، حيث إن منها ما ينقرض أو يضمحل بمرور الزمن، ومنها ما يستمر ويتفاعل مع مجتمعات أخرى، ومنها ما يُستقبل ويصبح جزءًا من المجتمع، فتتثاقف الثقافات وتندمج وتتشكل هويات جديدة، أو يبقى بعضها ضمن الهويات الأصلية، مما يعكس جمال التنوع والتعددية في المجتمع الواحد. وأكد أن التعددية الثقافية تعطي لوحة جمالية تعكس ثراء المجتمعات، وهي توفر، إلى جانب ذلك، ثراء سياحياً واقتصادياً يمكن الاستفادة منه إذا ما تم استثماره بالشكل الصحيح. وأوضح أن السياحة الثقافية لا تقل أهمية عن السياحة الطبيعية، سواء كانت فنية أو دينية أو ثقافية أو معرفية، فهي حالة طبيعية يجدها السائح سواء من خارج البلاد أو من داخلها، وتساهم في خلق فرص عمل جديدة تدعم استقرار الاقتصاد الوطني، مشيرًا إلى أن تنوع الأنشطة السياحية الثقافية يخلق حركة اقتصادية واسعة في المجتمع.
ولفت إلى أن التعددية الثقافية توفر مادة خصبة للسينمائيين والفنانين والكتّاب والأدباء والمترجمين، فهي حاضرة في الأفلام والسينما والموسيقى والشعر والأدب بأنواعه، مما يوفر مساحات إبداعية واسعة للباحثين والمفكرين والفلاسفة. وأضاف أن هذا التنوع الثقافي يثري مجال التوثيق الإعلامي، ويجعل من جمالية التعدد الثقافي مادة خصبة تسافر معنويًا إلى الخارج من خلال الأفلام الوثائقية والسينمائية والموسيقية، والكتب الأدبية والتحليلية، كما يساهم في تشجيع الترجمة إلى لغات أخرى، مما يفتح المجال لتعريف العالم بعمان وثقافاتها ويساهم في دعم السياحة. . وأوضح العبري أن هذه الجوانب جميعها تعكس قيمتين مهمتين: الأولى هي القيمة الجمالية التي يحققها التنوع الثقافي، والثانية هي القيمة التعايشية والتسامحية، مشيرًا إلى أنه كلما كانت المجتمعات أكثر تعددية، كلما زاد تماسكها وانعكس جمال هذا التنوع في روح الوحدة التي تجمعها. وأضاف أن التنوع الثقافي في عمان يعزز مفهوم المواطنة القائمة على الاحترام المتبادل، مما يسهم في إثراء الأبعاد الوطنية والاستثمارية والسياحية، ويساهم في استدامة هذا الإرث الثقافي للأجيال القادمة.
وبيّن الكاتب والباحث بدر العبري أن المجتمع العماني قد حقق هذا التنوع الثقافي المتسامح من خلال ثلاثة أبعاد رئيسية، أسهمت في ترسيخ روح الانسجام وقبول الآخر بين أفراده. أول هذه الأبعاد هو "البعد الذاتي والتاريخي"، الذي أوجد لدى العمانيين قدرة على التآلف والتعايش مع الثقافات المختلفة عبر تاريخ طويل من التواصل الحضاري. وأشار العبري إلى ما جاء في مقال للكاتب زكريا المحرمي بعنوان "عمان من التسامح إلى الانسجام"، حيث أورد شهادة المبشر الإنجليزي ويليام جيفورد بالجريف الذي زار عمان في عام 1863م، ووصف طبيعة العمانيين بأنها الأفضل سجية والأحسن معشرًا من بين جميع الأجناس العربية، حيث أكد أن التسامح بأقصى درجاته كان مكفولاً في عمان، مما أتاح لجميع الأجناس والأديان حرية العبادة وفق معتقداتهم، ومنحهم حرية اللباس وممارسة التقاليد الاجتماعية مثل الزواج ودفن الموتى، دون أي قيود أو مضايقات، وهو ما يعكس متانة الروح التسامحية في المجتمع العماني.
أما البعد الثاني فهو "تسامح سلاطين عمان مع المختلفين دينيًا وثقافيًا"، والذي انعكس من حكام عمان إلى أفراد الشعب، حيث اشتهر السلاطين العمانيون بسعة صدورهم وتسامحهم تجاه أصحاب المعتقدات المختلفة. وذكر العبري مثالاً على ذلك مما أورده هلال الحجري في كتابه "عمان في عيون الرحالة البريطانيين"، حيث ذكر شهادة الرحالة البريطاني جيمز ريموند ويلستد الذي زار عمان في عهد السيد سعيد بن سلطان في عام 1833م، والذي أشار إلى أن حكومة هذا السلطان كانت تتسم بالبعد عن ضروب القمع والاعتقال العشوائي، وامتازت بكرمها ولطفها تجاه التجار القادمين إلى مسقط من مختلف الدول، ما جعل من التسامح سمة جوهرية في السياسة العمانية منذ ذلك الحين، وشجّع على تعزيز الوحدة الوطنية.
أما البعد الثالث فهو "البعد القانوني"، حيث وقفت عمان موقفًا صارمًا ضد كل من يثير النعرات الدينية والمذهبية والقبلية، وأكدت على تجريم الإساءة إلى الثقافات الأخرى، مما أعطى طمأنينة اجتماعية ساعدت على إرساء الاستقرار الداخلي.
ويضيف "العبري" أن هذه القوانين أسهمت بشكل مباشر في تكريس ثقافة التعايش السلمي بين مختلف الأطياف، وأسهمت في مرور الوقت في جعل التسامح جزءًا راسخًا من الهوية العمانية، موضحاً أن هذه القوانين ساعدت على حماية المجتمع من الأفكار السلبية التي قد تهدد التعايش السلمي.
ثروة التعددية
من جانبه، يؤكد الحبيب سالم المشهور أن التعددية الثقافية تشكل ثروة عظيمة للوطن، مشيرًا إلى أن الله حبا سلطنة عمان بتنوع ثقافي وفكري يشمل الجوانب الدينية والمعيشية وكافة تفاصيل الحياة، وقد تعامل الأسلاف مع هذه التعددية بوعي متصالح، حيث أسسوا لأدبيات التسامح والتعايش ضمن النسيج الوطني المتين. ويرى المشهور أن هذا التراث القيم من العيش المشترك يعبر عن خبرة عمانية راسخة في فن التآلف والتواصل الحضاري، والتي أسهمت في إنضاج وعي الإنسان العماني، ورفع مستواه الفكري وتحصينه من خطابات التطرف والتعصب والانغلاق.
ويضيف المشهور أن أجواء التعددية تجعل الإنسان أكثر فهمًا للحياة، كما أرادها الله، وهذا ما تحقق بفضل الله للإنسان العماني. وأشار إلى أن عمان تمتلك تاريخًا طويلًا من تجربة العيش المشترك، وأنه من الواجب اليوم أن نحافظ على مكتسبات هذه التجربة، وأن ندفع الأجيال القادمة نحو فهم هذه الحكمة، وتطوير خبرات الأسلاف في التعايش الإيجابي وتحصينهم ضد كل ما قد يهدد هذه المكتسبات والمنجزات. ويرى المشهور أن هذا الهدف لن يتحقق إلا بتعاون الجميع وباستشعارهم الواجب الوطني والديني في هذا الشأن.
وينوّه إلى أن أكبر ما يمكن أن يهدد تعايشنا المشترك وثقافة التسامح في المجتمع العماني هو خطاب التكفير والتعصب المذهبي، الذي بات ينتشر في عالمنا الإسلامي عبر وسائل التواصل والإمكانات التي وفرتها التكنولوجيا الحديثة، مما يفرض على المجتمع العماني تحديًا حقيقيًا لمواجهة هذه الأفكار الضالة، وتحصين الوعي الديني وتعزيز أدبيات التعايش بين مختلف الأفكار الدينية والثقافية.
ولتجاوز هذا التحدي، يقترح الباحث الحبيب سالم المشهور تعزيز الإعلام ليكون ذا تأثير قوي، وخطاب مباشر موجه للشباب، إلى جانب مراجعة المناهج التعليمية بما يواكب التحديات الراهنة. ويؤكد كذلك على أهمية إتاحة المجال لحوارات صريحة مع الشباب، مشيرًا إلى أن الحوار يُعد أفضل وسيلة لتصحيح الأفكار الخاطئة وتحصين المجتمع ضد عوامل الفُرقة والتطرف.
خصوصية عمان
الكاتب والباحث أحمد بن مبارك النوفلي يرى أن المجتمع العماني، كغيره من المجتمعات، يضم المثقف وغير المثقف، كما يحتوي على الصالح والطالح، ويؤثر في محيطه ويتأثر به، إلا أن له خصوصية تميزه ككل المجتمعات التي لها خصائصها الفريدة. ويشير النوفلي إلى أن أبرز ما يميز المجتمع العماني هو قدرته على التعايش بتسامح وتفاهم، وهو ما يجعل هذا المجتمع قادرًا على بناء علاقات إنسانية فريدة، وإن كان هذا لا يعني أنه مجتمع خالٍ تمامًا من التعصب أو التزمت، إذ إن طبيعة البشر تجمع بين الصالح والطالح، ويتخلل حياتهم التصادم والتدافع، مما يجعل الحياة أكثر وضوحًا وتبرز قيمها، مذكّرًا ببيت الشعر الشهير للمتنبي:
"فالضد يُظهر حسنه الضد
وبضدها تتبين الأشياء."
ويرصد النوفلي وجود تعدد ثقافي في عمان ليس فقط في العصر الحالي بل منذ القدم، ومنذ ما قبل الإسلام، حيث ضمت عمان ديانات متعددة كالنصرانية واليهودية والوثنية، وتعايش المسلمون مع غيرهم، وهذا التسامح استمر حتى فترة قريبة، حيث أقر غير المسلمين بتسامح العمانيين، مثلما ذكر الرحالة الإنجليزي جيمز سلك بكنجهام في كتابه "عمان في عيون الرحالة البريطانيين"، عندما زار عمان في عام 1816م، مشيدًا بما شهده من احترام ولطف من العمانيين تجاه الأوربيين، مما أتاح للأجانب التحرك بحرية وأمان في عمان، وعزا هذا التسامح إلى طبيعة العمانيين المسالمة والودودة.
ويعود ذلك إلى أسباب هذا التسامح، مشيرًا إلى التنوع العرقي والثقافي داخل عمان، حيث يضم الشعب العماني تنوعًا عرقيًا يشمل العرب والأفارقة والبلوش والأتراك والهندوس واليهود، مما أدى إلى خلق مجتمع متسامح ومتنوع ثقافيًا ومعرفيًا. ويشير إلى دور الحكومة العمانية في ترسيخ التسامح من خلال سنّ القوانين التي تدعو إلى التعامل الحسن وحماية حقوق الجميع.
ويرى أن القيم الإنسانية العريقة هي ما أسست لصورة المجتمع العماني المتسامح الذي نعرفه اليوم، حيث عُرفت عمان منذ القدم بقيمة الاحترام والتعاون والكياسة، وكان نمط العيش الذي فرضه السفر والانخراط في مجتمعات متنوعة كالمجتمعات الإفريقية والمصرية والصينية القديمة قد ساعد العمانيين على التعايش مع الثقافات الأخرى، مما خلق لديهم روح الانسجام والتعاون وتبادل الاحترام مع الشعوب الأخرى. وأشار إلى ما تناوله في كتابه المشترك مع الأستاذ نبال خماش بعنوان "أثر الفقه العماني في السلوك المجتمعي: التسامح نموذجًا"، حيث ذكر العديد من الأمثلة المأخوذة من المدونات الفقهية العمانية التي تتحدث عن الكياسة وأدب التعامل واللياقة الاجتماعية.
ويضيف "النوفلي" أن التسامح والتعايش اللذين عاشتهما عمان في الماضي وما زالت كثير من العمانيين متمسكين بهما لا يكفيان وحدهما اليوم، بل يتطلب الأمر من الدولة أن تعزز هذه القيم من خلال تفعيلها في المناهج التعليمية وتدريسها في المدارس والكليات والجامعات. ويرى أن مجرد الترويج للتسامح عبر الندوات والزيارات الخارجية لن يكون له أثر قوي ما لم يتم ترسيخ هذه القيم في داخل المجتمع نفسه، وأن التدريس وحده لا يكفي، بل يجب أن يكون هناك تطبيق عملي من خلال القدوات والرموز التي ينظر إليها المجتمع ويستلهم منها. ويؤكد النوفلي أن رموز المجتمع يجب أن تمارس التسامح في تعاملاتها اليومية مع جميع الأطياف، حيث يكون تسامحها مثالاً يُحتذى به.
كما يعوّل الباحث أحمد النوفلي على الحكومة في ترسيخ التسامح والتعايش، خاصة في الجوانب الدينية والثقافية، مشيرًا إلى أن التعصب الديني يُعدّ من أشد أنواع التعصب لأنه ينطلق من معتقدات جازمة ويعتبرها البعض مشروعة دينيًا، نتيجة للتعليم الخاطئ والتوجيه غير السليم، فيما الإسلام دين الإنسانية والتسامح والعدل والرحمة. داعيا إلى توسيع الدائرة الثقافية وإتاحة المزيد من الأنشطة الفكرية، التي تؤدي إلى تفاعل الأفكار وتلاقحها مما يعزز ثقافة التسامح وقبول الآخر.
ويرى "النوفلي" أن المجتمع العماني بحاجة إلى استقطاب المفكرين في مجالات التربية والدين والاجتماع والنفس والفلسفة، مشيرًا إلى أن هناك الكثير من الأصوات والأفكار القادرة على المساهمة في إثراء الحوار لكنها محصورة في مساحات ضيقة. ويعتبر النوفلي أنه ما لم تتغير هذه الظروف فإن الواقع لن يتغير، وسنظل ندور في دائرة مفرغة تزيد من الشعور بالاختناق وتغذي التطرف. ويرى أن قمع الفكر والإبداع يؤدي إلى ظهور الكراهية، بينما يؤدي تشجيع الفكر الحر إلى تعزيز التسامح.
ويختتم الباحث أحمد النوفلي قائلاً إن تعزيز الجانب المعيشي للأفراد وتوسيعه يؤثر في ترسيخ التسامح، حيث يرتبط التسامح اجتماعياً وثقافياً بسعة العيش، فكلما توسعت المعيشة اتسع معها الخلق وتحسنت العلاقات، وكلما ضاقت اشتد التوتر وزادت حدّة التعصب، سواء تجاه الأقارب أو الغرباء.
تعايش عمان
يشير الكاتب والباحث مصطفى محسن اللواتي في بداية حديثه إلى أهمية توضيح بعض المصطلحات الأساسية كالتسامح والتعايش والمواطنة، موضحًا أن هذه المفاهيم التي تصب في إطار التعايش السلمي لا تعني بأي حال من الأحوال أن يتخلى الإنسان عن مذهبه أو دينه أو أفكاره أو معتقداته. ويؤكد اللواتي أن المحور الأساسي لهذه المصطلحات هو "قبولنا لبعضنا البعض كما نحن"، بكل اختلافاتنا. ويرى أن الخوف من الانصهار مع معتقدات الآخرين لا معنى له، إذ إن الهدف هو أن نعيش معًا دون أن يؤثر هذا التباين في علاقات الود والمحبة أو المواطنة. ويؤكد أن هذه الروابط تكون أقوى عندما يكون الدين هو الجامع بين أبناء الوطن، مشددًا على أهمية الأخوة الإسلامية كرباط قوي، إذ يقول: "حبل الله معتصم، والتفرق والتنازع فشل".
ويتابع "اللواتي" بالإشارة إلى أن سلطنة عمان اكتسبت سمعة طيبة في مجال التعايش بين أبنائها على اختلاف مذاهبهم، حتى باتت تُضرب بها الأمثال، مشيرًا إلى أن هذه السمعة الطيبة لم تأتِ من فراغ، رغم وجود بعض الملاحظات من العمانيين أنفسهم. ويضيف أن هناك عدة عوامل دعمت ترسيخ هذه الصورة في عمان، فيقول: أولًا، "الشعب العماني نفسه"، فقد عُرف الإنسان العماني بطيبة مفرطة تتجلى في كرم الأخلاق وسخاء النفس وجود اليد. وأوضح اللواتي أن العماني بطبعه صاحب طرفة وابتسامة، حتى في أصعب المواقف، محاولًا تحويلها إلى لحظات خفيفة الظل بمساعدته لهجته ومصطلحاته الخاصة. وأضاف أن حالة التعاون ومساعدة الآخرين التي يتميز بها العماني هي خلق أصيل يؤثر في قبول الآخر والتعايش معه بسلام واحترام.
ثانيًا، "السياسات الحكومية"، فقد ساهمت الحكومة من أعلى المستويات في ترسيخ حالة التعايش عبر سياسات وتشريعات طمأنت المواطنين على أن دينهم أو مذهبهم محترم، حيث كفلت حرية الشعائر والممارسات لكل دين أو مذهب ضمن ضوابط معينة. ويشير اللواتي إلى أن القانون العماني يجرّم أي حديث طائفي مذهبي ضد الآخرين، كما أن أي فعل يصب في نفس الإطار يُحدد عقوبته وفق قانون الجزاء العماني، موضحًا أن المراسيم السلطانية لا تميز بين المواطنين في التعيينات الوزارية على أساس مذهبي. وقد أقر بأنه قد تكون هناك اعتبارات قبلية في فترات معينة، ولكن المذهبية بقيت بعيدة عن المشهد بشكل عام. وأكد أن أي اعتقالات سياسية لبعض المجاميع، رغم وجود بعض الملاحظات عليها، شملت معظم الفئات دون تمييز مذهبي أو طائفي. ويضيف اللواتي أن المواطنة قد حلّت في مختلف مفاصل الدولة، بحيث بات المذهب غائبًا تقريبًا عن المشهد العماني.
ثالثًا، "التنوع المذهبي والثقافي"، فقد أوضح اللواتي أن المجتمع العماني يتشكل من مزيج من الأديان والمذاهب المتنوعة، فالإسلام يطغى على المشهد، حيث يتصدره المذهب الأباضي والسني بنسبة واضحة، إلا أن هناك أيضًا حضورًا لافتًا للمذهب الشيعي رغم نسبته القليلة. وأضاف أن هناك أعدادًا قليلة من الهندوس والمسيحيين، ويعكس هذا التنوع المذهبي في عمان تعددًا عرقيًا، حيث يتشكل الشعب العماني من مزيج من الثقافات الهندية والباكستانية والإفريقية، بالإضافة إلى تأثير أقل من الثقافة الفارسية، وذلك من خلال هجرات أبنائها وعودتهم لاحقًا عبر فترات زمنية مختلفة، مما أدى إلى جلب ثقافات متنوعة تشمل اللغات واللباس والطعام والعادات والأفكار وغيرها. وأوضح اللواتي أن هذا التعدد والتنوع الكبيرين كان لهما دور كبير في تعزيز التعايش بين أبناء الوطن، والقبول بالآخر بغض النظر عن الدين أو المذهب، مبينًا أن أسواق عمان كانت تجمع كل هذا الاختلاف العقدي، وأن التجار والعمال كانوا يتعايشون مع هذا التنوع بقبول ومحبة، وأن هذا التعدد في الأفكار والرؤى والعقائد ولّد مزيجًا ثقافيًا جديدًا أصبح جزءًا من الثقافة العمانية التي يعود إليها العمانيون بمختلف مشاربهم.
ويضيف "اللواتي" أن دول الخليج الأخرى أيضًا عاشت حالة التعايش بشكل طبيعي وتلقائي، حيث كان التزاوج بين أبناء المذاهب المختلفة أمرًا اعتياديًا وطبيعيًا، إلى حد أن بعض الناس لم يكن يعرف الحي أو المنطقة التي ينتمي إليها مذهبيًا. ولكنه يشير إلى أن دخول الحركات السلفية والتكفيرية المتشددة قد أثر سلبًا في هذه الدول، حيث أدى إلى تشرذمها تمامًا. ويرى أن الحكومة انتبهت لهذا الخطر منذ البداية، وضربت بيد من حديد على كل من انضم أو انتسب إلى هذه الحركات، وسارعت بإخراج أي شخص يحاول تخريب المجتمع العماني بهذه الأفكار، بغض النظر عن جنسيته.
ويختم الكاتب والباحث مصطفى محسن اللواتي حديثه بالقول إنه رغم تميز التجربة العمانية في التعايش، إلا أنها لا تزال غير مكتملة، وتحتوي على بعض الثغرات، سواء من ناحية السياسات الحكومية والوزارات المعنية بالشأن الديني والثقافي والتربوي، أو من جانب علماء المذاهب المختلفة. مؤكدا أن تمتين اللحمة الوطنية في عمان ليس بالمهمة السهلة، مشيرًا إلى أن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي قد تشكل منافذ للاختراق. ويحث المسؤولين والعلماء على ضرورة العمل لسد أي ثغرة قد تسبب مشكلة في المستقبل، بهدف حماية واستدامة تجربة التعايش العماني.