الجزيرة:
2024-07-03@15:04:46 GMT

العشائر الفلسطينية ومخططات الاحتلال

تاريخ النشر: 23rd, January 2024 GMT

العشائر الفلسطينية ومخططات الاحتلال

لا يعتبر ما طرحه رئيسُ الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو-حول خُطته لإدارة قطاع غزّة بعد الحرب اعتمادًا على العشائر في غزة- جديدًا على العقل الصهيوني في التعامل مع الفلسطينيين. وإن كان من نافلة القول لنتنياهو أن عليك ألا تَعِد بجلْد الدبّ قبل صيده.

وقد أحسنت الهيئة العامة للعشائر الفلسطينية بالمبادرة إلى التأكيد على رفض المخططات الصهيونية، وأن جميع أبناءها يقفون وراء المقاومة وأنها الحاضنة الشعبية لها.

لكن هذه المحاولة لم تكن الأولى وقد لا تكون الأخيرة، فقد بدأ العقل الصهيوني محاولة استخدام ورقة العشائر منذ ازدياد نشاط الاستيطان اليهودي في فلسطين إبّان الانتداب البريطاني في محاولات لاستمالة رؤساء عشائر، ونسج علاقات معهم كإحدى أدوات السيطرة والاختراق، ويعتبر ذلك امتدادًا للعقل الاستعماري عبر التاريخ في أدوات اختراقه للمجتمعات، إذ دائمًا ما كان زعماء العشائر في المجتمعات المستعمرة جزءًا من أدوات الاتصال والسيطرة وشراء الولاءات.

ما يتردّد اليوم على لسان القادة الإسرائيليين -من خطط إدارة قطاع غزة بعد الحرب وتقسيم القطاع لمناطق تسيطر عليها العشائر والعائلات التي ستتولى الاتصال مع الإسرائيليين في توزيع المساعدات وتدبير حياة السكان وَفق خططهم- هي اللغة ذاتها التي ردّدتها المنظومة الإسرائيلية في التخطيط المسبق لإدارة ما يسمّونه: "السكان الفلسطينيين" بعد احتلال عام 1967.

برز في المداولات الإسرائيلية -وَفق الأرشيف الإسرائيلي ما قبل النكسة- سيناريوهات عديدة للتحدّي الأبرز الذي سيواجههم بعد السيطرة على الضفة الغربية، وكانت الإدارة من خلال العشائر أحد أفضل هذه السيناريوهات.

سيطرت عائلات إقطاعية كانت منتشرة في أنحاء فلسطين حينها على أغلب الأراضي الزراعية في المناطق السهلية. امتلكت هذه العائلات مساحات شاسعة وسيطرت على قرى بأكملها ووظفت الناس للفلاحة

عمدت سلطات الاحتلال فعلًا بعد النكسة إلى تطبيق هذا النموذج، الذي فشل لاحقًا، فاعتمدت بشكل رسمي على "المخاتير" من ممثلي العائلات والعشائر من أجل التواصل معهم في الأمور العامة، فإذا ما أرادوا اعتقال شخص جاؤُوا إلى منزل المختار وطلبوا منه أن يرشدهم، وكذلك في تحديث السجلات المدنية، ومتابعة الأوضاع الإنسانية، والتواصل الحياتي، وما إلى ذلك. لم يكونوا عملاء، لكنهم كانوا وسطاء بين المجتمع والإدارة المدنية التي يشرف عليها جيش الاحتلال في الضفة.

لم يكن هذا السلوك مقتصرًا على الإسرائيليين، فالبريطانيون من قبلهم نحَوا المنحى ذاته في اللعب بهذه الورقة، وتغليب عائلات وعشائر على حساب أخرى؛ من أجل السيطرة على المجتمع.

أضر نهج الاستعمار في اللعب على ورقة العشائر في فلسطين بالحركة الوطنية الفلسطينية أيَّما ضرر، يمكن تتبع ما قام به البريطانيون من دعم عائلات ضد أخرى في فترة الانتداب البريطاني؛ من أجل كبح جماح الحركة الوطنية حينها، من الأمثلة البارزة ما قامت به عائلة كبرى كانت تنافس عائلة الحسيني في السيطرة على قيادة القرار الفلسطيني في تلك الفترة، إذ تحالفت مع البريطانيين وشكلت ما عرف بعصابات السلام التي واجهت الحركة الوطنية والثوار حينها، وساهمت في إحباط المقاومة المسلّحة ضد البريطانيين عام 1937.

برزت عائلة الحسيني في تلك الفترة متصدرة الحركة الوطنية إلا أنه ورغم كل المواقف التي تحسب لها تاريخيًا فإن تأسيس وبناء الحركة الوطنية وفق أسس عشائرية عليه ما عليه من مآخذ، خاصة أنَ الثوار الحقيقيين على الأرض من أبناء البسطاء في القرى والأرياف ليسوا ذوي صلة بالصراعات النخبوية بين العائلات الكبيرة، وليسوا ممثلين في أقطابها.

جسَدت ثورة الشهيد عزالدين القسام حينها مثالًا مغايرًا لقائد عمل بسرية لتشكيل خلايا مقاومة، وفي الوقت نفسه كان زاهدًا تمامًا في أي موقع سياسي مرتبط بالعلاقة والصراعات مع هذه الأقطاب، ليكون التمايز والفجوة الكبيرة بين القيادات القسامية الشعبية المقاومة، والقيادات السياسية النخبوية العشائرية المتصدرة.

تعود أزمة العلاقة بين مقاومة الاستعمار والعشائر في فلسطين إلى ما هو أقدم من ذلك، وتمثلت في أسوأ صورها وتداعياتها على الحركة الوطنية الفلسطينية في فترة الإقطاع التي تجذّرت في أواخر الحكم العثماني، واستثمرها الاستعمار البريطاني في فترة الانتداب.

سيطرت عائلات إقطاعية كانت منتشرة في أنحاء فلسطين حينها على أغلب الأراضي الزراعية في المناطق السهلية. امتلكت هذه العائلات مساحات شاسعة وسيطرت على قرى بأكملها ووظفت الناس للفلاحة.

كانت هناك العديد من العائلات قاسية مستغلة لصغار الفلاحين، تستخدم التعذيب والتنكيل بشكل لا يوصف، فالفلاح يعمل لديها طوال النهار مقابل وجبة لا تقيه من الجوع، كان الإقطاعي يتفقد الفلاحين وهو على صهوة الحصان وبيده السوط الذي طالما هوى على ظهور العمال.

امتلكت عائلات إقطاعية سجونًا وأماكن للتصفية الجسدية، حتى إن أعراض الناس كانت مباحة أمام الإقطاعي، وقصورهم ما زالت شاهدة على تلك الحقبة السوداء لحكم العائلات.

ومن المفارقات إبّان فترة الانتداب البريطاني أن اضطر بعض الفلاحين الفقراء إلى بيع أراضيهم لهؤلاء الإقطاعيين من أبناء العائلات الكبيرة من أجل شراء سلاح للدفاع عن الوطن!

بالعودة إلى الاحتلال الإسرائيلي بعد نكسة 1967، فقد عمل على زيادة دور العشائر وصولًا إلى تشكيل ما أطلق عليه "روابط القرى"، حيث سعت إسرائيل لاستبدال الدور المدني للعشائر بدور سياسي على حساب الحركة الوطنية الفلسطينية، لكن هذا المشروع فشل في انتخابات البلديات عام 1976، حيث سيطرت الحركة الوطنية بممثليها على البلديات، واعتبر ذلك انتكاسة كبيرة لمشروع العشائر، فيما وأدت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 هذا المشروع إلى الأبد.

تعتبر العشيرة جسمًا مجتمعيًا نقيضًا للمجتمع المدني، إذ إنَّ أيَّ دور لأحدهما هو على حساب الآخر، إذا ما قويت العشيرة ضعفت الأحزاب، لكن يبدو أن كل مَن يحكم يلعب بهذه الورقة.

عمدت السلطة الفلسطينية عقب إنشائها إلى تقوية دور العشائر مرة أخرى، وإضعاف دور الأحزاب والحركات السياسية، ومنحت العشائر امتيازات ونفوذًا وقانونًا خاصًا بها، في الوقت الذي مارست فيه تضييقًا على الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وحاربتها بقوانين صارمة، وأسست هيئة شؤون العشائر. أثّر ذلك سلبًا في إعادة إحياء النعرات العشائرية، وتغذية الصراعات المجتمعية، وانتشرت دواوين العائلات، وتم مأسستها ودعمها ماليًا من قبل السلطة الفلسطينية.

استخدمت السلطة الفلسطينية العائلات والعشائر على حساب الأحزاب والحركات السياسية والمجتمع المدني كإحدى أدوات إحكام السيطرة، وتضخَم دور العشائر بشكل مبالغ فيه مقابل تدهور الحركة الوطنية، حتى إن العشائر باتت تسيطر على جامعات ومؤسسات، من أمثلة ذلك أن عائلة ما تسيطر على جامعة بوليتكنك الخليل، وأخرى تسيطر على جامعة الخليل، وحين انتزعت جامعة بوليتكنك قرارًا من الحكومة بإنشاء كلية للطب قبل سنوات احتجّت جامعة الخليل لأبعاد عشائرية، فكانت تسوية الحكومة للموضوع بتقاسم كلية الطب بين الجامعتين، بحيث يحصل الطالب على شهادته في الطب باسم الجامعتين!! ليس المثال هو المهم، ولكن العقلية السياسية التي غذت هذه النزعات ورعتها ووفرت لها الحاضنة.

عادت سلطات الاحتلال لاستخدام الورقة ذاتها مرة أخرى، حين اتخذت قرارًا في السنوات الأخيرة بإضعاف السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية ضمن مشروع ضم مناطق "ج " في الضفة الغربية، وبرز مخطط تقسيم الضفة إلى سبع إمارات وَفق تصور المستشرق مردخاي كيدار، الذي يدعي أن المجموعة الأقوى في الشرق الأوسط هي "العائلة، ويليها العائلة الموسعة، ثم الحمولة، والقبيلة". ويدعو للتعامل مع الفلسطينيين بموجب "النموذج الناجح في الخليج، والذي يقوم على العائلات المحلية".

ويخلص إلى أنه يجب الاعتراف بغزة كدولة، وإحلال السيادة الإسرائيلية على كل الضفة الغربية، وتفكيك السلطة الفلسطينية، وإقامة سبع إمارات في الخليل وأريحا ورام الله وقلقيلية وطولكرم ونابلس وجنين، وتكون إمارات مستقلة تقوم على العائلات المحلية، ويكون السكان مواطني هذه الإمارات: مواطني إمارة الخليل، أو مواطني إمارة نابلس، وتكون هناك معابر حدودية بين هذه الإمارات وبين إسرائيل، وتكون الترتيبات الأمنية بيد إسرائيل.

تحاول حكومة الاحتلال -وفي ظل عدم وجود خطط وبدائل للإجابة عن السؤال الملحّ عن مرحلة ما بعد الحرب على غزة- التسترَ خلف مخططاتها القديمة الجديدة بإبراز ورقة العشائر كوسيط بينها وبين المجتمع، يعتبر ذلك خطيرًا وسخيفًا في الوقت نفسه، فهو خطيرٌ لوجود مخططات لها جذور تاريخية وممارسات مريبة، وسخيفٌ لأنَ الشعب الفلسطيني وبعد كل هذه التضحيات لن يسمح بأن تكون المرحلة التي تلي هذه التضحيات شبيهة بمرحلة ما بعد ثورة 1936، أو نكبة 1948، أو نكسة 1967، أو أوسلو جديدة.

يتطلب ذلك باختصار؛ التعامل برفض حاسم لأي دور للعشائر في تصدّر المشهد الوطني؛ لأنَ تاريخ الشعب الفلسطيني مليء بالتجارب المريرة، وإن كان كل ذلك لا يلغي أدوارًا رائعة وبطولات مؤرخة للعائلات والعشائر في فلسطين في مقاومة الاستعمار، لكنها عائلات البسطاء والفقراء وليست عائلات النخب التي كانت غالبًا الأقدر على بناء تسويات مع المستعمر تضمن لها نفوذها ومصالحها

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: السلطة الفلسطینیة الحرکة الوطنیة الضفة الغربیة العشائر فی فی فلسطین على حساب من أجل

إقرأ أيضاً:

المبادرات الوطنية الفلسطينية: ما المطلوب؟

مع مرور شهور طويلة دون وقف العدوان على قطاع غزة، وارتدادات ذلك المأساوية على سكان القطاع الذين يعانون الحصار والجوع فضلا عن القتل، ومع تواتر الحديث عن خطط "إسرائيلية" بتوافق إقليمي ودولي بخصوص "اليوم التالي" للحرب، ظهرت للعلن بعض المبادرات الفلسطينية المتعلقة بالشأن السياسي من خارج أطر الفصائل.

قبل أسابيع، وقّع المئات من نخب الشعب الفلسطيني على وثيقة بعنوان "نداء من أجل قيادة فلسطينية موحدة"، تدعو إلى مؤتمر وطني فلسطيني، ومؤخرا عقد المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج "ملتقى الحوار الوطني الفلسطيني الثاني" ووجّه بيانه الختامي نداء لتشكيل "تحالف وطني لدعم المقاومة والحفاظ على ثوابت الشعب الفلسطيني"، فضلا عن نداءات ودعوات وجهتها شخصيات أكاديمية مستقلة.

من الواضح أن الدافع الرئيس لهذا الجهد هو استشعار المسؤولية والرغبة في لعب دور وطني في ظل حرب الإبادة من جهة، والخطط السياسية لتصفية القضية الفلسطينية من جهة ثانية. ويدخل في إطار ذلك الخشية من عدم القدرة على استثمار الإنجازات الميدانية للمعركة الحالية إلى منجزات سياسية بحيث لا تضيع تضحيات الناس سدى، لا سيما في ظل تفرد القيادة الحالية لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية بالقرار السياسي مع غياب تام عن المعركة الحالية، في أفضل حالات إحسان الظن، بينما يشي الواقع وبعض التصريحات بتخندق مختلف في الحرب وانتظار فرصة استثمار نتائجها المحتملة أو المرغوبة.

استشعار المسؤولية والرغبة في لعب دور وطني في ظل حرب الإبادة من جهة، والخطط السياسية لتصفية القضية الفلسطينية من جهة ثانية. ويدخل في إطار ذلك الخشية من عدم القدرة على استثمار الإنجازات الميدانية للمعركة الحالية إلى منجزات سياسية بحيث لا تضيع تضحيات الناس سدى، لا سيما في ظل تفرد القيادة الحالية لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية بالقرار السياسي
فما المطلوب اليوم من المبادرات المختلفة؟ وكيف يمكن أن تخدم القضية الوطنية وتتناغم مع متطلبات الحرب؟

ينبغي أولا التذكير باستثنائية المعركة واللحظة التاريخية. لقد أسمى الكيان الحرب الحالية "معركة وجودية"، وهو محقّ في ذلك، إذ تآكلت أو ضعفت الكثير من الأسس التي بنى عليها مشروعه، لكنها أيضا حرب وجودية أكثر بالنسبة لنا كفلسطينيين. فالمطلوب -"إسرائيليا ومن أطراف أخرى- سحق المقاومة (وليس فقط هزيمتها) وتصفية القضية وتهجير الناس إن أمكن. بمعنى أن المبادرات الصادرة عن أي طرف فلسطيني، أكاديميٍّ أو ناشط أو مستقل، ينبغي أن تستحضر حرب الإبادة الدائرة وأهدافها البعيدة والواقع الإنساني المأساوي والمآلات المحتملة.

في المبادرات المذكورة ومثيلاتها تلمح قلقا واضحا على مسألة الشرعية والقيادة والحديث باسم الشعب الفلسطيني والتقرير عنه، ولذلك تظهر دعوات لتحالف أو مؤتمر لإصلاح منظمة التحرير وغير ذلك. بيد أن التجربة التاريخية، وخصوصا في العقدين الأخيرين، تؤكد على أن هذا المسار مسدود بقرار من "أبي مازن" الذي ألغى الانتخابات المتفق عليها ضمن مسار المصالحة خشية من نتائجها. فالحقيقة الماثلة أن ثمة مجموعة قيادية متنفذة متغولة؛ ليس فقط على القرار الوطني الفلسطيني من خلال المنظمة والسلطة، ولكن حتى على قرار حركة فتح نفسها التي نستطيع تلمس عدم رضا بعض قياداتها وكثير من كوادرها وأنصارها عن أداء القيادة.

ومما ينبغي التذكير به أن الشرعية والقيادة في حركات التحرر تختلف عنها في الدول المستقرة، حيث تأتي من الفعل النضالي في الميدان ومدى القدرة على تمثيل آمال الشعب وطموحاته، ثم يتحول ذلك لاحقا لعنوان سياسي أو تأطير رسمي، وليس بالضرورة بانتخابات وتعيينات.

لقد كانت معركة الكرامة بأدائها ونتائجها ورمزيتها عنوانا لتسيد حركة فتح العمل الوطني الفلسطيني وترؤس منظمة التحرير لعقود طويلة. وفي الحرب الحالية يمكن النظر لمن امتلك قرار الحرب، ومن استعد لها، وموقف الناس من مواجهة الاحتلال، ومن الذي يتفاوض معه الأعداء والوسطاء، ومن القادر على وأد الخطط المشبوهة بخصوص إدارة غزة بعد الحرب لتقرير من يقود فعلا ومن يمثل الناس حقا.

وعليه، أفترض أنه لا ينبغي للمبادرات النخبوية أن تنشغل كثيرا بسؤال القيادة والشرعية، ولكن أن تعمل على مسارين أساسيين: الأول العمل السريع والمكثف بكافة الوسائل لتخفيف الضائقة الإنسانية في القطاع، وعلى وجه التحديد تجويع سكان شمال القطاع، والثاني المساهمة في الإطار السياسي لما بعد الحرب.

الأكاديميون والإعلاميون والنشطاء والمستقلون عموما ليسوا سياسيين أو بشكل أدق ليسوا حزبيين وفصائليين، وبالتالي فالمطلوب منهم الكثير من الوضوح والصراحة في الموقف والخطاب والقليل جدا من المجاملات والمواءمات.

تركز معظم المبادرات على فكرة إصلاح منظمة التحرير، بعدِّها مكتسبا فلسطينيا حقيقيا لا ينبغي التهاون فيه، وهذا صحيح، لكن ليس على قاعدة "تأليه" منظمة التحرير وتخليدها وتصنيمها
وعليه، وبغض النظر عن الانتماءات الحزبية أو الآراء السياسية، فالمعركة الاستثنائية تفرض على الجميع مسؤوليات ضخمة. والمطلوب هنا حشد الدعم للمقاومة (بتجريد عام لمن أراد) التي تخوض معركة مصيرية للحفاظ على ما تبقى من القضية، ما يدفع لاتخاذ موقف واضح من القيادة الحالية للمنظمة والسلطة بتوصيف دقيق للمسؤولية والدور والموقف.

تركز معظم المبادرات على فكرة إصلاح منظمة التحرير، بعدِّها مكتسبا فلسطينيا حقيقيا لا ينبغي التهاون فيه، وهذا صحيح، لكن ليس على قاعدة "تأليه" منظمة التحرير وتخليدها وتصنيمها. صحيح أن المنظمة كانت إنجازا وطنيا للفلسطينيين، لكنها كانت بالنسبة للمنظومة الرسمية العربية محطة للتخلي عن مسؤولياتها. وفيما بعد أوسلو، كانت القيادة الفلسطينية نفسها هي من وضع المنظمة في الثلاجة وأخضعها للسلطة الوليدة، وهو ما انعكس جزئيا بعد فوز حماس في انتخابات 2006 واستشعار الحاجة للاستقواء عليها بالمنظمة ولجنتها التنفيذية ومجلسها المركزي. أكثر من ذلك، هب أن المنظمة ضمت إليها حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من الفصائل فضلا عن هيئات وشخصيات وطنية، من يضمن تعامل العالم معها بطريقة تختلف عن التعامل مع حماس بعد فوزها في الانتخابات عام 2006؟ فما بالنا وعباس ومن معه مصرّون على منع حصول ذلك، بل وحتى الاجتماع على مشروع وطني موحد بعد ما يقرب من تسعة شهور من حرب الإبادة؟!

إن مسك العصا من المنتصف لا يساعد في الضرب ولا الإسناد، بل يغلب على الظن أن يفيد فقط في التلويح من بعيد، وهو أمر غير مفيد في هذه اللحظة الحرجة. إن حساسية المرحلة الراهنة تفرض على الكل الوطني وفي المقدمة منه النخب؛ تسمية الأمور بأسمائها الحقيقية ولعب الدور الوطني المطلوب اليوم. المعركة السياسية التي ستلي الحرب لن تكون أقل منها وطأة وأهمية وصعوبة وخطورة، حيث ستكون ملفات الإغاثة والعلاج وإعادة الإعمار أدوات للضغط والمساومة وفرض الشروط، رغم أنها حقوق إنسانية أساسية بسيطة. ولذا، ينبغي أن يكون صوت الشعب وموقفه معروفا وواضحا وصادحا، يحمي ظهر المقاومةوالمطلوب اليوم قيادة فلسطينية موحدة على خيار المقاومة والصمود والحفاظ على ثوابت الشعب وقضيته، واستثمار بسالة المقاومة وتضحيات الشعب لتحويل الأداء الميداني إلى أهداف سياسية وطنية. فإن كان ذلك بإصلاح منظمة التحرير فبها ونعمت، وإلا فليكن الاستبدال أو الإلغاء إن تطلب الأمر ذلك، فالهيئات وسائل لا غايات ولا سيما في مراحل التحرر.

ينبغي أن تفهم القيادة الفلسطينية المتنفذة والمتنكرة لكل مناشدات الإصلاح والوحدة والعودة للخيار الوطني؛ أن تفردها واستمرار رهانها على مسار التسوية وما يرافق ذلك من تنسيق أمني وما شابه غير مقبول شعبيا ولا يمكن له أن يستمر، بما في ذلك التلويح برفع الغطاء عنها وإعلان خروجها عن الصف الوطني.

إن المعركة السياسية التي ستلي الحرب لن تكون أقل منها وطأة وأهمية وصعوبة وخطورة، حيث ستكون ملفات الإغاثة والعلاج وإعادة الإعمار أدوات للضغط والمساومة وفرض الشروط، رغم أنها حقوق إنسانية أساسية بسيطة. ولذا، ينبغي أن يكون صوت الشعب وموقفه معروفا وواضحا وصادحا، يحمي ظهر المقاومة التي تقود نضاله ويدعم موقفها، والنخب بكافة أشكالها هي التي تحمل مسؤولية تمثيل الشعب والنطق باسمه في هذا المجال، وهذا ما عليها فعله.

x.com/saidelhaj

مقالات مشابهة

  • سبب وجيه للفرح
  • الحركة الوطنية: بيان 3 يوليو نقطة تحول تاريخية لانتصار إرادة الشعب
  • رفض عشائري لإدارة قطاع غزة.. وعجز إسرائيلي عن إيجاد بديل لحماس
  • معضلة إسرائيل القادمة.. من يدير قطاع ​​غزة بعد الحرب؟
  • رويترز: عشائر غزة ترفض الانخراط في الخطة الإسرائيلية لإدارة القطاع بعد الحرب
  • رويترز: هل يحسم المخاتير معضلة نتنياهو في حكم غزة؟
  • عشائر غزة لـعربي21: جميع محاولات الاحتلال لاختراقنا باءت بالفشل
  • المبادرات الوطنية الفلسطينية: ما المطلوب؟
  • الصحة الفلسطينية: الاحتلال ارتكب مجزرتين ضد العائلات في غزة راح ضحيتهما 23 شهيدا
  • بعد شهور من العدوان الجوي والبري.. «فورين أفيرز»: المقاومة الفلسطينية «قوية» وانتصار إسرائيل «يَبْتعد»!