تدور حرب خفية بين صفوة السودانيين من وراء الحرب التي تعرك البلد بثفالها وتدور على أشدها بين الإسلاميين “شيعة نظام الإنقاذ” ومعارضتهم التي تعرف بـ”قحت” قوى الحرية والتغيير التي كانت من وراء الثورة على نظامهم. وتتقاذف الجماعتان المسؤولية عما آل إليه السودان من حرب أهلية لا يعرف أحد إن كان سلم بعدها أم تفرق أيدي سبأ.

ومادة هذه الحرب من وراء الحرب هو التاريخ، بل اجتراره. ويأتي تاريخ دولة المهدية (1885-1898) في عين عاصفتها، وهي الدولة التي قامت في عام 1885 بعد أن نهض بالثورة لأجلها، الفقيه الصوفي محمد أحمد عبدالله الفحل (1843-1885)، فقال إنه المهدي انعقد عليه تجديد الإسلام في التوقيت المعلوم لمثله، وهو بداية القرن الـ14 الهجري (1882 الميلادي)، والقضاء على النظام التركي – المصري الذي حكم السودان بعد غزوه في عام 1821. فقال عنه إنه خرج عن الدين، واستبد بالأمر، وحكم بغير شريعة الله ورسوله. وقال في منشور له للسودانيين إن الأتراك “يسحبون رجالكم بالسلاسل ويسجنوهم بالقيود” لأجل الجزية التي لم يأمر بها الله ولا رسوله. وخلفه على الدولة بعد وفاته المعجلة، عبدالله بن محمد التقي، المشهور بـ”التعايشي” (1846-1899)، من شعب البقارة بغرب السودان الذي ارتبط اسمه بقوات “الدعم السريع” حالياً. وجاءت نهاية الدولة في عام 1898 في سياق حملات التكالب الأوروبي على أفريقيا في النصف الثاني من القرن الـ19 بحملة إنجليزية تزعم “استرداد” السودان للخديوية المصرية التي تمرد عليها بالثورة.

وظلت دولة المهدية “عظمة نزاع” بين أطراف الحرب الخفية بين “قحت” والإسلاميين. فاتفق لمعارضي حكومة الإنقاذ، الذين اتخذوا اسم “قوى الحرية والتغيير” بعد سقوط النظام، أن نظام الإسلاميين مقطوع من قماشة الدولة المهدية بقرينة الثيوقراطية، الدولة الدينية، في كليهما، ثم آتى كثير من هؤلاء أنفسهم تاريخ المهدية خلال هذه الحرب ناظرين هذه المرة لا لثيوقراطيتها، بل للمطابقة بين فتح المهدي للخرطوم الظالمة في عام 1885، وهجوم محمد حمدان دقلو “حميدتي” على المدينة ذاتها التي أجحفت دولتها، “دولة 1956” كما يسمونها، في حق هامش البلاد لاستئثار صفوة النيل والسودان الأوسط بها. وتكتمل عناصر المطابقة بحقيقة مجيء دقلو إلى غزو الخرطوم في جند غالبه من “شعب البقارة” الذي كانت له الغلبة في دولة المهدية. وكان فتح الخرطوم في جانب مهم منه وعداً تعاقدت عليه قوى في الهامش وحركات مسلحة، خلال مقاومتها لدولة الإسلاميين (الإنقاذ)، تجسد في الشعار العسكري “كل القوة الخرطوم جوه”.

وجاء دور الإسلاميين هذه المرة للأخذ من تاريخ المهدية ليلحنوا بحجتهم في الحرب القائمة. فكان إغراء استدعاء فتح الخرطوم التاريخي في سياق هجوم “الدعم السريع” الماثل، كما قال أحدهم، مما لا يقاوم من جهتين. فالجهة الأولى أن “حميدتي” جاء للخرطوم بقوات من “شعب البقارة” كما مر. أما الجهة الثانية فهي الاستثمار في إضغان جماعات كثيرة في الشمال والوسط النيلي نفسه على الخليفة والبقارة لاستباحتهم ديارهم التي جاسوا عرصاتها (ساحة الدار) خلال حملة جيشهم لفتح مصر. وتركوا ذكرى فظائع لا تريم.

وانتهى الإسلاميون إلى دمغ المهدية في فتحها للخرطوم كسابقة لهجوم “الدعم السريع” على المدينة وتخريبها واحتلال أجزاء واسعة منها. وهذا مستغرب من إسلاميين كانت المهدية في يوم من الأيام باعث إلهام لهم في نصرة الدين وتحكيمه في المعاش. ومما يستغرب لهم في معارضتهم تعديات “الدعم السريع” في غزو الخرطوم، إعادتهم إنتاج ما أشاعته كتابات أوروبية باكرة مثل “السيف والنار” لأدولف سلاطين باشا، حاكم دارفور تحت الحكم التركي، وقعيد المهدية حتى هرب من الأسر، عن المهدية. وهي كتب لمؤرخين إنجليز رأي مهني سيئ فيها، فكتب أخيراً المؤرخ الإنجليزي فيرغس نيكول عنها قوله إنها مؤلفات فيها تلوين الحقائق بدرجة عالية… امتلأت صفحاتها بازدراء متعمد لكل ما وقف من أجله المهدي”. وقال عنها إنها مما يمكن أن يقال إن مؤلفها الحقيقي هو الميجور إف آر ونجت، رئيس استخبارات الجيش المصري، وحاكم السودان العام لاحقاً، وصدرت بإشرافه المباشر. وكان يريد بها تهيئة الجمهور البريطاني ليرضى عن حكومته متى قررت “استعادة” السودان، كما كان يقال، وليروا في تلك الاستعادة نبلاً حضارياً أبيضاً يستنقذ السودانيين من حكم مستبد شرقي.

ويستغرب المرء أيضاً كيف يصدق إسلاميون ما شاع عن فتح الخرطوم، عن مثل المهدي الذي امتثل لتعاليم الإسلام في فتوح البلدان وأذاعها بين المقاتلين قبل الفتح وخلاله وبعده. وجمع الدكتور محمد المصطفى موسى حامد مؤلف كتاب “أصداء المهدية في العالم” نخبة من هذه التعاليم من منشورات المهدي ونشرها أخيراً لدفع افتراء من قرأوا غزو “الدعم السريع” للخرطوم على ضوء فتح الخرطوم: من ناصروا “الدعم السريع” واستبشروا به، ومن عارضه كالإسلاميين وعدوه كارثة.

ونواصل عن شاهد عيان لفتح الخرطوم على يد أنصار المهدي عليه السلام هو بابكر بدري.

عبد الله علي إبراهيم

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الدعم السریع فتح الخرطوم فی عام

إقرأ أيضاً:

السودان.. حرب «منسية» و ملايين يعانون في صمت

 

مع نهاية عام آخر، تتواصل الحرب المُدمرة في السودان وقد تصل إلى عامها الثالث في منتصف أبريل القادم من عام 2025. ومازال التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار بين طرفي الحرب: الجيش والدعم السريع، بعيد المنال على الأقل في الوقت الحالي.

التغيير ــ وكالات

وتبدو مأساة السودان تائهة في زحام أولويات الإعلام الدولي. أما رقعة الجوع في السودان، فإنها آخذة في التمدد لتصل إلى مناطق جديدة، حسب تقارير إعلامية وأخرى مدعومة من الأمم المتحدة.

“حرب منسية”

وخصصت صحيفة “ديلي مورنينغ” مقالا مطولا للغاية عن الحرب المدمرة في السودان، والتي وصفتها بأنها لا تحظى بمتابعة إعلامية كبيرة بالمقارنة مع حروب أخرى مشتعلة حاليا في العالم.

وبدأت الصحيفة الإنجليزية تقريرها عن الحرب “المنسية” بالقول: “ينبغي ألّا تكون هناك منافسة أو مقارنة حول أي حرب هي الأكثر أهمية في العالم”. وأضافت أن الحرب المُدمرة في السودان بالكاد تُوجد على رادار بعض وسائل الإعلام .

وتابعت أن الحرب بالنسبة للأشخاص الذين يكتوون مباشرة بنيرانها هي مسألة حياة أو موت، “إذ يجب على الجميع خارج السودان أن يفهم ما يحدث في واحدة من أصعب الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث”.

وأردفت الصحيفة ذاتها: “لا يُمكننا أن نتحدث عن أهمية حياة السود ثم نتجاهل الملايين من الأرواح التي تأثرت بهذا الصراع (في السودان) دون أن نفهم الأسباب الكامنة وراءه”.

ولفتت صحيفة “ديلي مورنينغ” الأنظار إلى أن الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أوقعت آلاف القتلى والجرحى. وفرضت على الملايين النزوح بحثا مكان آمن. فضلا عن معاناة ملايين من السودانيين من أزمة جوع حادة.

وأشار نفس المصدر أنه من “المستحيل” الحصول على الأرقام الحقيقية والكاملة للكارثة التي يعيشها السودان، مُوضحا أن عمال إغاثة يعملون داخل السودان يقول إن الحرب تسببت في “أسوأ أزمة إنسانية في العالم”
وترى “ديلي مورنينغ” أن القوى الغربية تدرك بوضوح حجم المشكلة. أما وسائل الإعلام الكبرى فقد “اختارت إلى جانب الحكومات التي تزودها بالبيانات الصحفية لتقوم بنسخها ولصقها-اختارت- أن تغض الطرف عن الأمر”.

وواصل المصدر أنه في خضم الحرب المدمرة في السودان، تُحقق شركات أسلحة فرنسية أرباحا هائلة من التكنولوجيا المستخدمة في الصراع، وفي انتهاك لحظر أسلحة فرضته الأمم المتحدة. وأضاف: “لا شك أن أطرافا أخرى متورطة أيضا”.

وفي وقت سابق، كشفت منظمة العفو الدولية أن ناقلات جنود مدرعة تستخدمها قوات الدعم السريع قد صُنعت في الإمارات العربية المتحدة ومُجهزة بمعدات فرنسية.

وأشارت صحيفة “ديلي مورنينغ” أن شركات الأسلحة متواطئة في توفير الوسائل، التي يُمكن من خلالها مواصلة القتال. وأضافت أنه لا بد من منع شركات الأسلحة من توريد المعدات العسكرية، التي تُغدي الحرب الأهلية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

ودعت الصحيفة البريطانية إلى بذل المزيد من الجهود من أجل تحقيق وقف دائم لإطلاق النار في “هذه الحرب الأهلية الكارثية”.

الذهب والحرب!

أما صحيفة “فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ” ، فقد سلطت الضوء على الأزمة السودانية بمقال يحمل عنوان :”مليارات من تجارة الذهب تموّل الحرب”.

وذكرت الصحيفة الألمانية ذائعة الصيت أنه أمام الحرب المدمرة التي تدور رحاها في السودان “يجب على المجتمع الدولي وألمانيا ألّا يقفا موقف المتفرج”، بل ينبغي عليهم “حرمان أطراف النزاع من أهم مصادر تمويلهم”، ( في إشارة للذهب).
ولفتت “فرانكفورتر ألغماينه” أن التوصل إلى اتفاق شامل ودائم يُوفر الحماية للسكان المدنيين يبدو أمرا يصعب تحقيقيه على المدى، إذ إن الأطراف المتحاربة: الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ماضيان في خيار المواجهة. وأضافت أن هذا الوضع يزيد من أهمية استكشاف خيارات أخرى لوقف الحرب.

وواصل المصدر ذاته أن “صمود أطراف النزاع لفترة طويلة يعود إلى اعتمادها على موارد مالية كبيرة و دعم خارجي على شكل أسلحة ومعدات”. وأضاف أن “تقييد” مصادر التمويل وإمدادات الأسلحة قد يساعد في تقليل العنف ضد المدنيين.

وكتبت “فرانكفورتر ألغماينه” تقول: “تستفيد كل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع من تجارة الذهب منذ سنوات. ومع استقلال جنوب السودان في عام 2011، حل إنتاج الذهب المتزايد محل النفط كأهم سلعة تصدير للبلاد”.

وأضافت: “يتعلق الأمر بمليارات الدولارات سنويا، والتي تستفيد منها شركات القوات المسلحة وقوات الدعم”.

وأوضح المصدر ذاته أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة فرضتا عقوبات على بعض الشركات السودانية المُشاركة في تجارة الذهب. وأضافت أنه “يجب فرض عقوبات على المزيد من الشركات لضمان عدم تعاون مقدمي الخدمات اللوجستية أو شركات التأمين في الاتحاد الأوروبي مع قطاع المعادن في السودان”.

وقالت “فرانكفورتر ألغماينه” في هذا الصدد: “من خلال لائحة الاتحاد الأوروبي بشأن المعادن في مناطق النزاع، تُلزم الشركات بالفعل بضمان أن الذهب المستخدم صناعيا لا يمول الجهات المسلحة”.

وشدد المصدر ذاته على أن “كل هذه الإجراءات لن تؤدي إلى إنهاء بشكل مباشر للحرب، بيد أنها ستساعد على الأقل في الحد من معاناة المدنيين، وإيجاد مساحة للحديث عن وقف إطلاق النار والاعتماد على الحلول السياسية”.

مجاعة تتمدد

“الصراع في السودان يُشعل أزمة مجاعة حادة”. كان هذا عنوان تقرير نشرته صحيفة “ميراج نيوز” الأسترالية للحديث عن تأثير الحرب المباشر على طعام ملايين السودانيين، الذين يُواجهون خطر مجاعة حقيقي في عدة مناطق.

وكتبت “ميراج نيوز” تقول: “يُواجه السودان أزمة مُتفاقمة، مع انتشار واسع للجوع الحاد وتزايد سوء التغذية الحاد والنزوح الجماعي، مما يزيد من تفاقم الوضع الإنساني المُتردي بالفعل، وفق تقرير مدعوم من الأمم المتحدة”.

وتشير تقديرات التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي أن أكثر من 24.6 مليون شخص يُعانون من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد.

وأوضحت صحيفة “ميراج نيوز”، بالاعتماد على معلومات مُستقاة من تقرير للجنة مراجعة المجاعة بالتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، فإن المجاعة اتسعت إلى خمس مناطق ويُرجح أن تمتد إلى خمس مناطق أخرى بحلول شهر مايو القادم.

وأضاف المصدر ذاته أن “عدة مناطق أخرى معرضة لخطر المجاعة، لاسيما تلك التي تشهد تدفقات كبيرة من النازحين”. وأردف أن المناطق المُتضررة تشمل أجزاء من ولايات شمال وجنوب دارفور والخرطوم والجزيرة.

وكتبت “ميراج نيوز” “رغم أن هطول الأمطار فوق المتوسط دعم الزراعة في المناطق التي سمحت فيها الظروف الأمنية بذلك، فإن الصراع المستمر عرقل بشدة الأنشطة الزراعية”. وواصل المصدر ذاته أن المزارعين اضطروا إلى التخلي عن حقولهم، وتعرضت محاصيلهم للنهب أو التدمير.

 

الوسومالجيش الدعم السريع السودان حرب

مقالات مشابهة

  • السودان.. حرب «منسية» و ملايين يعانون في صمت
  • اشتباكات عنيفة بين الجيش والدعم السريع بالخرطوم ودارفور
  • الحركة الشعبية والدعم السريع- رؤى متضاربة وصراع المصير
  • مطابع العملة السودانية تدفع بقافلة دعما لمواطني شرق الجزيرة وتوتي
  • الجيش السوداني يعلن مقتل العشرات من «قوات الدعم السريع»
  • النائب العام : سنصدر أحكام غيابية لمتهمين يتبعون لمليشيا الدعم السريع متواجدين في ( 6) دول
  • معارك عنيفة قرب الخرطوم والنائب العام يتعهد بمحاكمة الدعم السريع
  • البرهان يطالب الأمم المتحدة بموقف حاسم حيال الدول المساندة لـ الدعم السريع
  • السودان..« قوات الدعم السريع» تسيطر على قاعدة عسكرية في دارفور
  • محكمة جنايات كرري تصدر حكما بالإعدام شنقا لمتعاونة مع الدعم السريع وإثارة الحرب ضد الدولة