قيل وكُتب الكثير عن الدعوى التي رفعتها جمهورية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة.
بغض النظر عن الجدل القانوني الدقيق الذي يرافق الدعوى، وعن نجاح الدعوى في إدانة إسرائيل من عدمه، وبعيدا عن التفاصيل المتعلقة بما ترتكب إسرائيل من إجرام بحق سكان غزة وأرضها وعمرانها وهوائها، هناك الجانب الرمزي في الموضوع، وهو هام.
الرمزية تجعل الدعوى أبعد من غزة وأكبر من إسرائيل. في رمزيتها، الدعوى ليست ضد إسرائيل على وقائع محصورة في زمان ومكان محدَّدين. إنها محاكمة لفشل العالم الغربي في فرض القيم والمبادئ القانونية والأخلاقية والإنسانية التي لطالما تغنّى بها وحاول تلقينها للعالم وفرضها على الشعوب. فشلٌ عبر العالم وليس في غزة وحدها. هي أيضا دعوى لمحاكمة إخفاق الأمم المتحدة الفادح في نصرة شعب يتعرّض لمحرقة يتابعها العالم عبر البث المباشر، دون أن تتمكن من فعل الحد الأدنى، ودون أن تنجح حتى في إسماع صوتها.
ظلت القناعة سائدة بأن الديمقراطية هي منارة التقدم الإنساني بكل أوجههخلال عقود طويلة استعمل الغرب بقيادة الولايات المتحدة عصا الحقوق والحريات لتأديب أنظمة الحكم في الجزء الجنوبي من العالم وتهديدها وحتى ابتزازها. كان لهذا الغرب آنذاك بعض النفوذ الأخلاقي والسياسي لفرض ما يريد على الآخرين. كانت الأحكام الجاهزة وطريقة تشكيل العالم في معسكرين تشجع على الثقة في هذا الغرب. نجح الإعلام الغربي وماكينات الدعاية الجبارة أيضا في تسويق صورة إيجابية صعب على الآخرين الطعن فيها أو إيجاد صورة مثلها أو تنافسها. كانت منظومات الحكم الغربية تتوفر أيضا على الحد الأدنى من الحياء السياسي فتستمتع للرأي الآخر وتعمل بنصائح المجتمع المدني وتستجيب للضغط الاجتماعي الداخلي.
وظلت القناعة سائدة بأن الديمقراطية هي منارة التقدم الإنساني بكل أوجهه.
ثم بدأت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وزحف اليمين الشعبوي والحروب والكوارث الطبيعية، وبدأ معها يتكشف فشل هذا الغرب وعجزه عن الاستمرار في تبنّي الشعارات التي سعى طيلة عقود لفرضها على العالم.
كانت بداية انكشاف كأنه جليد يزول تدريجيا لتحل محله حقيقة ما كان يغطي. خلال السنوات الثلاثين الأخيرة خسر الغرب ما توهَّم أنه نجاح أخلاقي راكمه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى قبلها. من المثير أن هذا الانكشاف بدأ يتوالى ويتراكم تدريجيا ضمن إيقاع معيّن كأنه بفعل فاعل، إلى أن وصلنا إلى الغزو الروسي لأوكرانيا ومن بعده الحرب الإسرائيلية على غزة. كأن العناية الإلهية أرادت أن يكون غزو أوكرانيا وحرب غزة تتويجا لمسلسل الانكشاف، وأرادت للعالم أن يشاهد بالعين المجرّدة ويقارن بين اندفاع الغرب لنصرة «الحق» هناك وشلله عن مجرد قول كلمة الحق هنا.
هناك شعوب كثيرة عبر العالم تحلم بالانعتاق من الديكتاتورية ونيل قليل من الديمقراطية والحرية، لكن موجة التشاؤم العالمي تكبحها. ويكبحها أكثر ما تشاهد من تناقض الغرب حيال غزة وأوكرانيا.. تناقض يصعب بعده، وربما يستحيل، تشجيعها على الاستمرار في الدفاع عن طموحها. سيكون من السهل بعد اليوم أن تقنع إنسانا في الجزء الجنوبي من العالم بأن الجزء الشمالي ليس نموذجا يُحتذى. لهذا يسخر كثير من الناس اليوم في الهند وإفريقيا وأمريكا اللاتينية من حال الولايات المتحدة وأوروبا، وهم مُحقّون.
لم يخسر الغرب رصيده الأخلاقي وثقة الآخر فيه خارجيا فقط. لقد خسر حتى داخليا، وما الانتخابات المثيرة للجدل التي توصل عنصريين وشعبويين وفوضويين إلى أعلى مواقع اتخاذ القرار في أوروبا والولايات المتحدة إلا تعبير عن ذلك. عن موت الثقة في السياسي التقليدي وما يمثله.. عن تيه وتشكيك في كل شيء. لا أجد قراءة لنتائج الانتخابات في الغرب إلا كونها تعبيرا عن كفر بالديمقراطية وما تحمله وتحيل إليه من قيم وانضباط.
فساد السياسيين في الغرب أصبح دارجا ولا يزعج أحدا. انبطاحهم لعتاة الديكتاتوريين في دول العالم الثالث لم يعد عيبا في نظرهم ونظر شعوبهم. قمع الحريات والأصوات المختلفة لم يعد سرا. التجسس على الناس ومراقبة حركاتهم وسكناتهم بتكنولوجيا شيطانية أصبح نشاطا يوميا يستنزف جهود مؤسسات الحكم ومواردها.
قمع المظاهرات الشعبية بالقوة أصبح هو الآخر رياضة قومية تمارسها حكومات دول أوروبية كبرى مثلما تفعل أيّ حكومة ديكتاتورية في إفريقيا أو آسيا (عنف الشرطة الفرنسية مع «أصحاب السترات الصفراء» نموذج صارخ).
لا أؤمن بأن هناك فرقا في كل ما سبق بين الصين وأيّ حكومة أوروبية أو إدارة أمريكية (عدا في بعض التفاصيل الشكلية مثل حق المواطن الغربي في الذهاب إلى المحاكم لاسترجاع حقه إن استطاع أمام جبروت منظومة الحكم).
واللافت في الأمر أن الحكومات لم تعد تستحي من أي شيء، كاللجوء إلى خيارات التجسس والقوة والتضييق على الحريات، وأيضا طرد اللاجئين بطرق مهينة وإساءة معاملتهم وتغيير القوانين لحرمانهم من أبسط حقوقهم.
لا أحد سيصدّق بعد كل هذا أن الغرب واحة حرية وأمان، خصوصا إذا أُضيف له الضائقة الاقتصادية ومشاكل الهوية والجنوح السهل إلى لوم الجناة الخطأ (لاجئون وأقليات عرقية أو ثقافية أو دينية) وهشاشة المنظومات الاجتماعية الراسخة أمام سطوة منصات الإعلام الاجتماعي العملاقة.
الذين هاجروا من مجتمعاتنا إلى أوروبا قبل ثلاثين سنة وأكثر يدركون الفرق بين آنذاك واليوم. والذين يتأملون الحال منهم يدركون بسهولة أن بذرة الشر كانت موجودة آنذاك، لكن طفوها إلى السطح كان صعبا. بذرة الشر هذه استمرت في الوجود لكن طفوها إلى السطح أصبح أسهل بكثير اليوم لأن الأرضية خصبة لازدهارها.
الغرب اليوم عاجز عن محاسبة إسرائيل لأنه مفلس أمامها، وعاجز عن ردعها لأن ماضيه الأسود مع اليهود يمنعه.
حكم محكمة العدل الدولية في دعوى جنوب إفريقيا، عندما يصدر ويوم يصدر، سيكون حكما على كل هذا بغضِّ النظر إن قال بارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزة أم لا.
المصدر: القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة فلسطين غزة جنوب أفريقيا الاحتلال مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
تأجيل دعوى عرض فيلم الملحد لـ 12 يناير
قررت محكمة القضاء الإداري، تأجيل دعوى عرض فيلم الملحد بالسينمات لجلسة 12 يناير المقبل، وذلك بعد تقديم سيناريو الفيلم لهيئئة المحكمة.
كان الدكتور هاني سامح المحامي رفع الدعوى رقم 89012 لسنة 78 وتطالب بإلغاء القرار السلبي الصادر بالرضوخ لخفافيش الظلام وفلول التيارات التكفيرية الرجعية بالامتناع عن العرض بالسينمات المصرية لفيلم الملحد الموافق عليه رقابيا بترخيص الرقابة على المصنفات السمعية والسمعية البصرية رقم 121 لسنة 2023 تأليف وسيناريو الكاتب المستنير ابراهيم عيسى وانتاج السبكي وطالبت كذلك بإلزام وزارة الثقافة بإحالة كل من تعدى على اختصاصات الرقابة على المصنفات التابعة للمجلس الاعلى للثقافة من خفافيش الظلام وفلول التيارات التكفيرية الرجعية الى النيابة العامة عن جرائم الارهاب والتطرف الفكري ومحاولة هدم الدولة المدنية الحداثية لمصر الجمهورية الجديدة
جاء في دفاع هاني سامح المطالبة بعدم قبول دعوى مرتضى منصور استنادا للمادة ٦٧ من الدستور ويوضح ان دعاوى وقف ومصادرة الأفلام يقتصر تحريكها على النيابة العامة ويوضح انه يجب التصدي لفلول الظلام وانه لو ترك الأمر لهم لنسفوا التراث الفني المصري لصالح التكفير والارهاب والرجعية
وجاء في صحيفة الدعوى أن الحركة التنويرية المصرية بدأت منذ عهد باني النهضة محمد علي باشا وانطلقت في عنان السماء بعهد الخديوي اسماعيل حينما قرر التصدي للرجعية الدينية واجتث جذورها وكان من ارهاصاتها عزل شيخ الازهر ومفتي البلاد لدفاعهما عن العبودية وملك اليمين باعتبرها أصل من أصول الدين ورفضهما الحداثة الاوروبية وقيم العدالة الانسانية ثم اشتعلت الجذوة التنويرية على يد الأفذاذ من خيرة عقول مصر من طه حسين و مرقص فهمي و قاسم امين واحمد لطفي السيد الى حملة الشعلة من بعدهم نجيب محفوظ ووحيد حامد وكوكبة مصر الفنية من عادل امام الى نور الشريف الى فنانات مصر اللامعات منذ بدايات الفن المصري وما اثمر من تراث فني عريق شامخ لعنان السماء رغم انف الرجعية وجراثيم التطرف ورؤوس التكفير والتشدد.
وفي الدعوى انه جائت افلام خالدة شكلت منارات وعلامات فارقة في وجدان أمم الشرق الأوسط فكان فيلم الارهابي وفيلم طيور الظلام وافلام بخيت وعديلة حين جسدت دعشنة وتطرف والاعيب اخوان الارهاب المسلمين وجاء فيلم المصير والذي كان سلاحا بيد الدولة حاربت به التكفير وخفافيش الظلام ودعاة الارهاب ورؤوس الشر، وواجهت التكفير بالغناء والرقص فكانت كلمات محمد منير الشجية عالقة بأذهان أجيال عدة تشدوا علي صوتك بالغنى لسة الاغانى ممكنة، غنوتك وسط الجموع تهز قلب الليل فرح، ترقص ارقص غصب عنى ارقص ينشبك حلمك بحلمى ارقص.
وفي الدعوى أن القرار الصادر بالترخيص لفيلم الملحد جاء وفق حجية اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم اعمال الرقابة على المصنفات السمعية والسمعية البصرية القانون رقم 430 لسنة 1955 لتنظيم الرقابة على المصنفات الفنية، وقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 162 لسنة 1993 بشأن اللائحة التنفيذية لتنظيم أعمال الرقابة على المصنفات السمعية والسمعية البصرية وفيه المادة الثامنة وبها أن الأعمال المعروضة على الشاشات المصرية العامة والخاصة قد أجيزت من القائمين على الرقابة على المصنفات الفنية وأصدروا ترخيصا بأنها لا تمس قيم المجتمع الدينية والروحية والخلقية والاداب العامة والنظام العام وهم جهة الاختصاص الوحيدة المنفردة بذلك.
وفي الدعوى عدم جواز ما تنشده تيارات الظلام والرجعية والتكفير من انشاء لجان رقابية لنظر ما ينتجه الفن المصري وتشكل من قبل هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التابعة للتيارات والمؤسسات الدينية في سبيل العودة لدول الظلام الدينية على شاكلة ما تطهر منه الخليج العربي وعلى شبه من دول الارهاب ايران وافغانستان وعصابات الارهاب الليبي واليمني ودواعش سوريا والعراق
واستندت الدعوى الى ما قرره الدستور المصري كنتاج للنهضة الفكرية والتنوير العظيم والحداثة الراسخة والتراث الفرعوني الأعظم على وجه الكون من حرية مطلقة للفكر والفنون والاداب والرأي المستنير واحترام للعلوم الحديثة
اقرأ أيضاًإصابة 5 أشخاص في انقلاب سيارة سوزوكي بالطريق الزراعي بالقليوبية
ضبط شخصين بتهمة غسـل 100 مليون جنيه حصيلة تجارة المخدرات بالقاهرة
ضبط عدد من تجار المخدرات في حملات أمنية مكبرة بمطروح والفيوم