فيديو| توثّيق أطول كهف في المملكة بصفته وجهة جيولوجية سياحية جديدة
تاريخ النشر: 23rd, January 2024 GMT
كشف المتحدث الرسمي لهيئة المساحة الجيولوجية السعودية طارق أبا الخيل، أن الهيئة وثّقت وجهة جيولوجية سياحية جديدة بحرّة خيبر البركانية شمال شرق المدينة المنورة.
وقال: إن فريقاً جيولوجياً متخصصاً من هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، وثّق أطول كهف في المملكة من "البازلت" يمتد طوله قرابة خمسة كيلو مترات، وسيتم ترشيحه ليكون معلماً سياحياً بعد اكتمال الدراسات الفنية له، وتم إطلاق اسم أبو الوعول عليه نسبة لوجود هياكل عظمية لعدد كبير من الوعول.
المساحة الجيولوجية: اعتماد "بحرة خيبر البركانية" وجهة سياحية جديدة.#نشرة_الظهيرة | #قناة_السعودية pic.twitter.com/EOqcScQc3z
— أخبار قناة السعودية (@saudiatv_news) January 22, 2024وعد هذا الكهف ثروة سياحية تغذّي مشاريع الحدائق الجيولوجية التي تعمل عليها إدارة السياحة الجيولوجية بالهيئة، إضافة إلى أنه سيسهم في فتح مجال واسع للباحثين والأكاديميين في هذا المجال.
فيديو | منطقة حرة خيبر..
خبير الكهوف م. محمود الشنطي: بمساحة تبلغ حوالي 12 ألف كيلو متر مربع ينتشر فيها العديد من المعالم الجيولوجية البديعة #الإخبارية pic.twitter.com/bDFyw6O1og
المصدر: صحيفة عاجل
كلمات دلالية: هيئة المساحة الجيولوجية
إقرأ أيضاً:
المكان بصفته فضاء روائيا
من الصعب التعامل مع تمثيل المجتمعات الخليجية من خلال الرواية دون التعامل مع المكان كعامل بناء حاسم في هندسة الرواية، وعليه كان تركيزي على مسقط كفضاء روائي مشغول بكيفية مقاربة مسقط كمكان وذاكرة وتاريخ حفل بالكثير من المنعطفات الحادة، على مستوى الأحداث السياسية والتغيرات الاجتماعية، دون إغفال العلاقة الحميمية مع المكان بصفتها مدينتي، ومنزل الخطوة الأولى بالنسبة لي، وبداية التشكل النفسي والعاطفي، بل والمكان الذي يشكل أول تصور عن العالم وممكناته، أو كما يعبر عنه باشلار في كتابه جماليات المكان: «المكان الأول في وجداننا العاطفي -سواء كان كوخا أو قصرا- يترك أثره في اللاوعي الذي يعيد إنتاج الصور عن ذاك المكان، ومع مرور الزمن لا تكون تلك الصورة مطابقة غالبا للواقع، بل إنها مطابقة لذكرى المكان في مخيلتنا».
لذا فإن التعامل مع المكان كفضاء روائي هو تعامل مع ذكرى المكان في مخيلتنا، وهذا ينطبق على الرواية التي تأخذ منحى تاريخيا أو حتى تلك التي تقع أحداثها في الوقت المعاصر، فالرواية هي في كل أشكالها كتابة للتاريخ، فكل ما يحدث في اللحظة هو تاريخ للحظة قادمة، وكلمة الحاضر في حد ذاتها تصبح ماضيا فور النطق بها، كما تقول الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبوريسكا.
أما فيما يخص دوافع اختيار مسقط العتيقة كفضاء روائي لروايتيّ «الباغ» و«دلشاد»، فأظن أن الموضوع شخصي جدا وله علاقة بالرغبة في إنقاذها -مسقط- من بركة النسيان التي كانت تغرق فيها بتسارع غير مبرر، لا سيما وأنها ليست فقط عاصمة البلاد التاريخية لدولة البوسعيد، منذ انتقالها من الرستاق في عهد السلطان حمد بن سعيد بن أحمد بن سعيد عام ١٧٩٢، بل لكونها تضم أيضا أول مستوطنة بشرية في عُمان وهي «مستوطنة الوطية» التي يرجع تاريخها إلـى الألف العاشر قبل الميلاد، وعُثر فيها على قطع من الفخار ومواقد للنار وأدوات صوانية حادة على شكل أنصال وسهام، بالإضافة إلى النقوش الصخرية التي تحكي حكاية سكانها وصراعهم مع الحيوانات المتوحشة.
أما مستوطنة رأس الحمراء فيرجع تاريخها إلى خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وهي قرية صيادين كما تبين من اللقى التي تمثلت في أدوات الصيد البحرية والصنارات. كما عُثر فيها على مواقد للنار وقطع من الحلي للنساء، بل واتضح وجود طقوس لدفن الموتى استعدادا لانتقالهم للعالم الآخر.
مع أهمية كل ما ذكرته أعلاه وجوانب أخرى، آثرت ألا أتطرق إليها هنا، إلا أن أهمية مسقط بالنسبة لي هي أيضا أهمية الكشف عن إنسان هذا المكان بتنوعه العرقي والديني واللغوي والثقافي، وعن العلاقات التي ضمت كل هذا التنوع وصنعت النسيج الفريد لأهل مسقط، وأيضا من علاقة سكانها بها، ذاكرتهم التي أحاول أن أستدعي أجزاء منها لتأثيث فضائي الروائي بوصفه مكانا حاويا للمنعطفات التاريخية، على المستويين الفردي والجماعي، وفي ميزانيّ الهامش والمتن.
ولهذا فإن مسقط التي أستدعيها في الكتابة، ليست مسقط التي في الكتب، بل مسقط التي في ذاكرتي، وكيف كان لهذه الذاكرة أن تعيد تشييد مسقط من خلال الرواية، مستعينة -عندما دعت الحاجة- بالمراجع والموسوعات والأراشيف في الهند وإنجلترا وأراشيف الصور والأفلام الوثائقية واللقاءات الميدانية مع أهلها من كبار السن الذين خبروها وخبروا أحداثها جيدا.
على المستوى الشخصي، أنا أعرف مسقط كوني مسقطية من الجيل الخامس، وهكذا عرفتها بالولادة والعيش في تفاصيلها وبين أناسها وخبرة أهلي فيها، أما مسقط التي أكتبها كفضاء روائي فهي مسقط التي أعيد توليفها من كل هذا، من المراجع ومن الصور المحفوظة في الأراشيف، ومن خيالاتي والصور الشبحية في ذهني، ومن عاطفتي المتأججة، ومن رغبتي العميقة في إنقاذ ذاكرتي مما مر عليها من تقلبات، وإنقاذ ذاكرة مسقط من محاولات التحديث العبثية، التي ارتأى من ارتأى أنه لا يمكنه فعل ذلك إلا بمعاول الهدم وإزالة المزارع والباغات «الحدائق» وعلامات المكان التي أرخت لذاكرة المسقطيين، في محاولة لتكريسها كمدينة ملحقة بقصر الحكم والمؤسسات التابعة له.
بدأت حركة توسعة مسقط منذ بدايات السبعينيات مع وصول السلطان قابوس بن سعيد إلى سدة الحكم، ويمكن فهم ذلك من خلال الحاجة لتوسعة رقعة العمران مع ما يناسب نمو الجهاز الإداري للدولة وتعدد مفاصله ومؤسساته، بالإضافة إلى ازدياد عدد السكان وخاصة الوافدين.
خرج أهل مسقط منها بشكل طبيعي ليقيموا في امتداداتها وإحداثياتها الجديدة، ولتصبح مسقط محافظة مترامية الأطراف، يحدها البحر من الشمال والشمال الشرقي، وتحدها من الغرب محافظة جنوب الباطنة، ومن الجنوب محافظتا الشرقية والداخلية.
أما مسقط الآن فهي مدينة يسكنها حوالي ثلث سكان عمان، الذين جاءوا من شمالها وجنوبها وشرقها وغربها، في هجرات ابتدأ زخمها منذ بداية السبعينيات ولن يتوقف، فهذه هي أقدار العواصم، ليختلطوا في نسيج متجانس ومتباين في الوقت نفسه، ويعمل بطريقة ما على رفع حوائط لا مرئية بين مكوناته الدقيقة.
من باب المصداقية، أؤكد أن هذا ليس بحثا تاريخيا ولا سوسيولوجيا، وبالتأكيد هو ليس مقاربة نقدية، فأنا روائية أشتغل بالإنسان وعلاقاته وتعالقاته بالمكان، لأضفي على حركة التاريخ بعدها الإنساني الذي لا يتوقف عن مساءلة نفسه والتاريخ في محاولة لفهمه كماض منتهٍ، وكماض يعيد تشكيل نفسه، بل وربما السيطرة على معطيات الحاضر.
١. طواف مسقط
«مسقط تتنفس التاريخ، تشعر به في هواء الصيف الساخن الثقيل وفي صباحات الشتاء الخفيفة المشرقة، في الأزقة المغبرة والبيوت المتداعية المهملة، حتى أنه يتكثف ويتقطر في قلعتي الجلالي والميراني».
الاقتباس أعلاه هو المدخل الذي وضعه إيان سكيت لكتابه «مسقط وعُمان نهاية حقبة» ولهذا التاريخ الذي أتنفسه ولأسباب شخصية أخرى، أذهب في زيارة دائمة ومتكررة إلى مسقط الصغيرة، مسقط العتيقة، مسقط التاريخية أو مسقط التي تخصني.
أدخل مسقط عبر «مطرح» توأمها التاريخي وجارتها ومنفذها البري إلى داخل عمان، لكني لا آخذ شارع طريق الكورنيش المزين بالمصابيح الفيكتورية وأشجار الزينة، ولا أدخلها من خلال بوابتها أو متحفها المعلق، بل أمضي من مطيرح، وهي أولى حارات مطرح من جهة مسقط، وهكذا سميت تصغيرا لها، أو أول صورة من صورها.
أمضي في «سكة الخيل» الدرب القديمة المندسة بين جوانح الجبل، ولست متأكدة إن كانت سميت بهذا الاسم كونها كانت الدرب التي تأخذها المطايا من مطرح إلى مسقط قبل أن يُحرّم السيد فيصل بن تركي دخول الخيول والجمال بعد واقعة «دخلة مسقط» في ١٨٩٥م، التي حاول فيها أنصار الإمامة الاستيلاء على مسقط وكادوا أن يفلحوا لولا تدخل الإنجليز، أو لأنها الدرب الأقل وعورة عن دروب الجبال، التي كان أهل مسقط يقطعونها راجلين ذهابا إلى مطرح وما وراء ذلك من بلدات تصل حتى إلى سيح المالح.
أمشي بمحاذاة الجبل، محتمية بتعرجاته وصخوره وحميمية الالتصاق به، هذا الدرب هو الذي عرفته في طفولتي، أي في سبعينيات القرن المنصرم، وأنا أعود إلى حارتنا في مسقط في مشوار يومي إلى مدرستي وحارتي، ذلك أني تركت مسقط مبكرا وهجرت مكاني الأول وأنا في الخامسة من عمري، وانتقلت مع أهلي إلى روي، حيث كان أبي يعمل موظفا في مجمع الوزارات في بيت الفلج، لكن ورغم هذا الترك المبكر، إلا أن مسقط لم تتركني، وظلت تجذبني إليها بوشائجها العائلية.
آخذ هذا الدرب، كما أخذته في السبعينيات، متجاهلة الكورنيش الذي وُضعت أسسه كمشروع في أواخر حكم السلطان سعيد بن تيمور ثم افتتح لاحقا، أي بعد دخول العهد الجديد وتحديدا في الثالث من يناير لعام 1973م، وليس في هذا التجاهل أي ضغينة مضمرة، بل أني أجد الكورنيش إضافة جمالية للمكان وضرورة توسعية، مع ذلك فإني أفضل الدرب القديمة التي تأخذني إلى ما هو أبعد من فكرة الخط الواصل بين نقطتين، بل ربما أستطيع أن أقول أنها تمثل ما هو عكس ذلك تماما، فالخط يتحول إلى دائرة لا تلبث أن تصبح دوامة تبتلعني ومسقط في اللحظة عينها.
أصل إلى «ريام» قرية البحر التي يعرفها العابرون والغرباء والصيادون، فيتركون قواربهم المتأرجحة بين لعب الموج وسكينة الرمل، ويبتنون بيوتا على فسحة ضيقة بين الجبل والماء، فريام قرية صيادين صغيرة، تقع في الدرب الواصل بين مسقط ومطرح، ومثلها مثل مسقط تسند ظهرها إلى الجبل وتولي وجهها شطر البحر.
أترك قرية ريام ببيوتها الصغيرة وأصعد الدرب الذي شقته كتيبة الهندسة الملكية بين ١٩٢٦-١٩٢٩م عبر جبل ريام، هذا الدرب عينه الذي يبدو مهجوراً الآن يأخذني كما خطط له إلى أعتاب بيت العلم، فقد شق لهذا الغرض تحديدا، أي أن يصل قصر السلطان تيمور بن فيصل بقلعة بيت الفلج.
أصل أعلى العقبة، فأجد الأفق ينكشف عن منظر وكأنه خرج طازجا من كتاب ألف ليلة وليلة، منظر يغوي من يقف عنده، وما زال يغويني إلى يومنا هذا رغم أني لا أفوّت أسبوعا دون الوقوف عليه. لوحة بانورامية تنكشف فيها مسقط بحاراتها من «الجفينة» الواقعة أسفل الجبل الذي أقف عليه مباشرة، حتى قصر العلم الذي تحرسه قلعتا الجلالي والميراني منذ مئات السنين، وعلى الطرف المقابل لهما حارة التكية، المتكئة على جبل السعالي ومنفذ مسقط نحو سداب والبستان.
أترجل من سيارتي فأجلس عند السور القصير الذي يمنع سقوطي في مهاوي الجبل الذي تحتي، أغمض عيني وأستنشق حرارة مسقط ورطوبتها وأعيد تركيب الصورة، الصيرة الشرقية تقابلها الصيرة الغربية، خور المكلا والجريزة، قلعتا الجلالي والميراني، أرى قصر العلم المطل على مرفأ مسقط بسفنه وقواربه وتحصيناته، تحاذيه البرزة ومسجد الخور ومبنى القنصلية البريطانية وحارة ولجات ببيوت سادتها وتجارها و«باغاتها»، وبيت فرانس مقر القنصلية الفرنسية، وأول سفارة للهند بعد استقلالها، ومأتم البحارنة والسوق الداخلي بروائحه الحادة ومذاقاته المتنوعة، ومبنى الجمرك وسور مسقط الذي يفصل داخلها عن خارجها، ويمكننا أن نلمح أبوابه الأربع: المثاعيب والباب الكبير والباب الصغير وباب ولجات.
أما من الناحية المقابلة، فيبدأ الدرب الذي أنشأته فرقة الهندسة بكتيبة مسقط من عند بوابة بيت العلم ثم يمضي إلى حارة العور، لينفذ عبر الباب الكبير فتتلقاه حارات البصرة والدلاليل قبل أن ينحرف عبر الجفينة ويتسلق جبل ريام في التفاف حلزوني مهيب، فيشرف على بحر مطرح والسفن الراسيات في فرضة مطرح أو ميناء السلطان قابوس حاليا.
أتخيل الميجور البريطاني آمر الفرقة الهندسية، يقف هناك تحت صهد الشمس مراقبا العمال العمانيين وهم يعملون معاولهم في الجبل البركاني، ينحتون عبر طبقات الأفيولايت التي تشكلت في العصر الطباشيري المتأخر، منتزعين حجارة عمرها أطول من أعمار كل الأباطرة والملوك والقياصرة والسلاطين مجتمعين. يراقب الميجور عرق العمانيين وهو يسيل محولا جلودهم لمرايا تحت الشمس، تعكس سلطة المكان والزمان والحكام.
أتخيله يلقي الأوامر على مساعده الهندي الذي يوصلها إلى العمال العمانيين في خليط من العربية والأوردية، ليزيحوا الصخور التي فتتتها المعاول ويضعونها على أحلاس الحمير، لتذهب بها إلى ترميم مكان ما أو بناء بيت من بيوتات مسقط.
تخبرني إحدى النساء اللواتي أجريت معهن مقابلة قبل كتابة دلشاد، أن جدها عمل في شق هذه الدرب الملتوية، وأن هذا الجد عمل قبل ذلك، أي في حوالي عام ١٩١٤م، في نقل كتيبة أمير ويلز للمشاة والفرقة ٩٥ من مشاة رسل، من مطرح إلى قلعة بيت الفلج. هذه هي فرق التعزيزات التي أرسلها الجيش البريطاني من الهند لمواجهة تقدم قوات الإمامة بقيادة الإمام سالم بن راشد الخروصي، التي أشغلتها في مواجهات مستمرة ما بين تقدم وتراجع حتى ما بعد الحرب العالمية الأولى بين جيش الإمامة والجيش الإنجليزي، والتي أدت بعد ذلك إلى توقيع اتفاقية السيب عام ١٩٢٠م بين السلطان تيمور بن فيصل والإمام محمد بن عبدالله الخليلي، فقُسمت بموجبها عُمان إلى سلطنة وإمامة، وهذه بدورها أدت إلى حرب الجبل الأخضر في بداية خمسينيات القرن المنصرم، بالإضافة إلى أسباب أخرى.
أهبط عقبة ريام لتتلقانا الجفينة ببيوتها الصغيرة المتراصة على جانبي الطريق، بيوت عامرة بأصوات أهلها وخطواتهم، وأجزم أني لو خففت سرعة السيارة أكثر لسمعت الضحكات وربما المشاحنات العائلية خلف تلك النوافذ الصغيرة.
أصل حارة البصرة ببيوتها البيضاء البسيطة وأشجار الجهنميات التي تتسلقها، ثم ألتف لأدخل حارة الدلاليل، فيصبح متحف بيت الزبير على يساري والمركز الصحي على يميني، هذا المركز الصحي الذي حل محل أهم مستشفى في مسقط منذ بدايات القرن العشرين حتى الثلث الأخير منه، مستشفى السعادة الذي أسسه بيتر زويمر لصالح الإرسالية التبشيرية التابعة للكنيسة البروستانتينية الأمريكية، المستشفى الذي عمل فيه الطبيب هاريسون ثم تومس الأب ثم تومس الابن والدكتور بوش ومس ميري وخاتون نعيمة وغيرهم، وأكاد أجزم أن غالب أهل مسقط الذين من جيلي أو ربما منذ جيلين قبلي قد ولدوا فيه على يد هاتين السيدتين، مع ذلك عجزت الإرسالية عن تنصير أكثر من بضعة أشخاص، تنصروا ليسدوا جوعهم.
وراء هذا المستشفى كان هناك مبنى الإرسالية التبشيرية، الذي كان قائما حتى ما بعد منتصف التسعينيات ثم هدم، ومعه هدمت ذاكرة طويلة لأبناء مسقط، فهذا المبنى الذي شيده زويمر ما بين عام ١٨٩٣-١٩٠٤، كان مدرسة وكنيسة ومبنى خاصا لأسرة زويمر وغيرهم من المبشرين.
من المعروف أن محاولات التنصير في عُمان بدأت بتعليم العبيد المحررين الإنجيل، وتم استخدام بعض سكان مسقط للعمل في الكنيسة والمستشفى، ثم تعاقبت الأجيال، وبعد أن يئست الكنيسة من تنصير العمانيين، وبضغط من السلطان سعيد بدأت المدرسة تدخل القرآن الكريم واللغة العربية في منهاجها، فصارت روضة أطفال.
في مبنى المدرسة الملحقة بالإرسالية التبشيرية تعلمت حروف الهجاء وسورة الفاتحة والعد وخربشات الطباشير وعرفت شكل الصلصال ورائحته، وربما هناك بدأت في استخدام آلامي وهواجسي وأسئلتي كمحرك من محركات الخيال.
أمضي في درب ضيقة بين مبنيين، ليواجهني مبنى «مدرسة الزهراء»، أول مدرسة للبنات في عمان، الزهراء التي تم بناؤها في عهد السلطان سعيد بن تيمور ولكنها افتتحت في عهد السلطان قابوس، فاستقبلت في سبتمبر 1970م أول دفعة من الفتيات، هذه المدرسة كانت مدرستي الأولى، وما زلت أفخر بذلك، لكني الآن وأنا أكتب أسأل نفسي عن اسمها، الزهراء، فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، هل كان لاختيار الاسم دلالة ما تتعلق بالتنوع المذهبي لمسقط، أم أنه مجرد صدفة؟
بعد سنتين تقريبا افتتحت مدرسة «الشمساء الخليلية» الابتدائية، التي لا تبعد عنها إلا بمقدار السور الذي بينهما لفصل الكبار عن الصغار، فتحولت الزهراء لمدرسة إعدادية وثانوية والشمساء لمدرسة ابتدائية.
أترك المدرستين وألتف لأدخل حارتي، الحارة التي ولدت وعشت فيها سنيني الأولى، حارة الطويان أو الراوية، ولكلا الاسمين دلالة تحيل إلى الماء، فكل الماء العذب الذي يغذي مسقط وسفن زوارها كان يأتي من الطويان أو آباره التي حفرها المسقطيون عند مساقط المياه أسفل الجبال، ثم ينقل عبر أنابيب خصصت لبيوت السركال، أي الحكام، ولتزويد السفن الراسية في خليج مسقط، أو لبيوت الهناقرة الذين نقصد بهم أصحاب المال، أو يحمل في قرب إلى البيوت الأكثر تواضعا.
أما أهل الوادي الكبير الذي يضم حارات اللوغان والطويان وحارة البلوش وحارة الشيخ فكانت نساؤهم تجلب الماء من آبار كثيرة، أهمها طوي الحلوة والطوي العلوية، وتضعه أعلى رؤوسها أو تحمله على خاصرتها في آنية من المعدن تسمى «هاندوة» وجمعها «هواندي» وهي تسمية هندية في الأصل، وأتذكر أني حاولت أن أقلدهن مرة، أن أضع الهاندوة أعلى رأسي وأمشي تلك المشية التي تجمع بين العجلة والوقار في حركة توازن مذهلة.
على بعض هذه الآبار أقيمت بساتين النخيل وأهمها «الطوي الصغيرة» و«طوي الراوية» و«الزبادية» و«المحدوثة». كانت البساتين تسمى على أسماء طويانها، وأهمها على الإطلاق طوي الراوية، حتى بني لها برج يحميها ويحمي بقية الآبار التي وقعت وراءها، وسمي البرج قلعة، قلعة الراوية، الراوية التي كبرتُ في ظلها فصرت روائية.
أخرج من الوادي الكبير متجهة صوب الجنوب الشرقي، أندس في بطن واد يأخذني إلى حارة الزدجال، ولكن قبل أن أصل إلى هناك ألتفت صوب المعبد الهندوسي الذي ما زال قائما ويؤم من قبل الجالية الهندوسية، وتقام فيه احتفالاتهم منذ أكثر من مائة عام.
تقول بعض المصادر إن الهنود بدأوا في استيطان مسقط وتكوين أول مجتمع من تجار بهاتيا في مسقط في عام ١٥٠٧م، وتورد بعض الأخبار والحكايات أن أحد الهنود وكان يعمل طباخًا عند قائد البرتغاليين، ساعد الإمام ناصر بن مرشد على اقتحام أسوار مسقط ومهاجمة البرتغاليين وتحريرها عام ١٦٣٣م، بحيلة احتالها على القائد الذي كان يضغط عليه للزواج بابنته، مما يتنافى مع تعاليم الديانة الهندوسية.
في سيري عبر حارات مسقط لا أكف عن تذكر خطواتي فيها، هذه الذاكرة التي شكلتني والتي أكاد أجزم أنها تشكل وتعيد تشكيل الكاتبة والروائية في داخلي.
هذه تفاصيل زيارتي الشبه روتينية لمدينتي التي أحب، خاصة إذا ما أردت أن أترك للذاكرة رواية مع ما علق فيها من غبار المكان.
٢. غبار الأمكنة أو مسقط باعتبارها فضاء روائيا
يقول حميد الحميداني في كتابه بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي: «يختلف مفهوم المكان عن مفهوم الفضاء، إذ يشير الأول إلى حيز جزئي من فضاء شمولي، في حين أن الفضاء هو مجال عام حاو لكل الأمكنة والأبعاد باختلاف مكوناتها، فالغرفة والبيت والمقهى والشارع هي أجزاء مكانية تشكل محتوى للفضاء الأعم».
أتحدث هنا عن الفضاء وليس عن المكان، فمسقط كمكان له بعد واحد، واقع بين إحداثيات صارمة، وهذا يختلف بطبيعة الحال عن مسقط كفضاء حاوٍ للأمكنة والناس الذين عاشوا فيها وسجلوا بتجاربهم حيوات متعددة المعاني.
أناس مشوا في دروبها وجعلوا من تعدد أماكنها فضاء واحدا كبيرا، يضم آلامهم وتجاربهم وأشواقهم وأحزانهم، أناس عاشوا أيامهم بشجاعة فائقة وبيأس لا قرار له، وهم يواجهون الأحداث التاريخية من ثورات وحروب وأزمنة جوع وقحط وأوبئة تحط رحالها مع السفن القادمة من الهند ومكران، أناس عاشوا تجارب الفقد والغياب في متوالية لا نهائية من الحزن، وأناس عاشوا الفرح وكأن الله لم يجعل للحزن مكانا في قلوبهم، وكل هذا يشكّل فضاء روائيا غنيا متدافعا ودراميا، ويحتاج لمن يكتبه ويعيد للمكان مكانته.
تعني مسقط في المعجم موضع سقوط الشيء، ومسقط الرمل منتهاه، ومسقط النور في البيت فرجة يقع منها الضوء، ومساقط الغيث أماكن نزوله، وهناك مسقط التي هي مسقط رأسي.
هي مسقط الصغيرة مثل قلب مندس في صدر الجبل ولا منفذ لها إلا شاطئ صغير محاصر بقلعتين بناها البرتغاليون لحماية أنفسهم ورصد أهلها، مسقط بيت السركال والقناصلة والاتفاقيات وملجأ السفن وراحة البحارة ومرفأ التزود بالماء العذب، مسقط مخزن السلاح التاريخي الذي مد الثوار والجيوش على حد سواء، ومسقط التي ضمت أيضا سوقا نشطا للعبيد أيامَ كانت العبودية تجارة مشروعة وحركة اقتصادية هائلة أغنت المستعمرات في الشرق والغرب، ومسقط التوأم السياسي لزنجبار أيامَ كان السلطان سعيد بن سلطان يتنقل في أسطوله الضخم بين عواصمه ليحفظ ملك دولة البوسعيد، وأيامَ كانت الصين والهند وسيلان محطات من محطات ذلك الأسطول التجاري الضخم المحمي بقوة بحرية نافست أساطيل الإنجليز.
مسقط التي تعاقب على حكمها اليعاربة والبرتغاليون والفرس والبوسعيديون، هي مسقط المطمئنة لخليطها من السكان من عرب وعجم وهنود وأفارقة ويهود في وقت ما، والخائفة تاريخيا من غزو قبائل الداخل، التي لم تكف طوال التاريخ عن محاولة الاستيلاء عليها، فجعلت على كل جبل وتلة برج مراقبة.
مسقط الناعسة، ومسقط الغارقة في ظلمة ليلها بعد ضربة النوبة، مسقط المتوارية مثل عروس خلف ستائر الغموض بالنسبة للرحالة الغرباء، ومسقط التي تبذل نفسها للأصدقاء بكرم وتسقيهم من عذوبة آبارها، مسقط بلاد الساسة والصيادين والمزارعين والتجار والمجانين والعشاق.
هذه مسقط التي تخصني، مسقط التي لا أكِلُّ من الذهاب للمشي في طرقاتها رغم أني خرجت منها عام ١٩٧٤م، مسقط التي تعلمت فيها حروف الهجاء واللعب بالطباشير وجربت ضربة المسطرة على باطن الكف وظاهره، وكوّنت فيها الصداقات مع الحجارة والشياه وأشجار المانجو والنخل، وجربت في طويانها وباغاتها التسابق مع الجداجد ومطاولة النخيل والسقوط عن تفرعات أغصان شجرها.
مسقط التي هي جدي وجدتي وبيوت الأعمام والأخوال وذاكرة أهلي وصويحبات الطفولة، مسقط بألعابها الشعبية، بالمديسوه والحجلة ولعب اللولو، مسقط العيّود، حيث ينصب العيد لمدة ثلاثة أيام في وادينا الذي نسميه «الوادي الصغير» وحيث يجتمع الجيران من بلوش وعرب وعجم وهنود ليحتفلوا بالعيد سوية.
مسقط العاصمة القديمة التي حكمتها السيدة موزة بنت الإمام أحمد بن سعيد بعد وفاة أخيها السيد سلطان بن أحمد فأصبحت وصية على ابنه سعيد، وصهرت قروش الفضة كي تلقم البنادق وتواجه إخوتها الذين حاصروا مسقط راغبين في الاستيلاء على الحكم.
هذه هي مسقط التي أعشق تفاصيلها وحكاياتها وأحداثها الكبرى، ولا أكتفي من الكتابة عنها، أو استدعائها بكل ذاكرتها من لفافات النسيان.
٣. يؤكد حسن البحراوي في كتابه بنية الشكل الروائي أن «المكان يتخذ أشكالا ويتضمن معاني عديدة، بل إنه قد يكون في بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل كله».
لمسقط حضور كبير في مدونات الرحالة والمستشرقين والأدباء من شعراء أوروبيين وغيرهم، لكنني بلا وعي أقمت مشروعي الخاص، مشروعي الذي لم أسمِّه ولم أعِ تشكله إلا بعد أن كتبت دلشاد، روايتي الثانية، لكنه بدأ مبكرا وتحديدا في نصي «خيط» ثاني أو ثالث نصوصي القصصية المنشورة عام 1996م، وكنت أتتبع فيه حركة طفلة منكوشة الشعر، دبقة الأصابع، تسير في دروب مسقط الضيقة وتحاول اللحاق بجدها الذاهب إلى السوق، حتى ينقدها بعض البيسات لتشتري الحلوى من صواني البائعات عند باب المدرسة السعيدية.
كان هذا النص هو أول محاولة من محاولاتي لاسترجاع مسقط أو استرجاع طفولتي وسبرها، ثم غرقت فيها، في مسقط، ووجدت أني لا أستطيع الفصل بيني وبينها، وما بين فضائها وطفولتي.
في عام 2008م نشرت «غبار» وهو عمل تركته بلا تجنيس، العنوان القصير جدا، كان اختصارا لجملة ترددت في ذهني طويلا «ما علق في الذاكرة من غبار الأمكنة».
كان النص طويلًا ومفتوحًا على احتمالات كثيرة وقراءات متعددة، وقد تم تصنيفه من قبل القراء وبعض النقاد ما بين مجموعة قصصية، ورواية قصيرة، ومذكرات، وأدب رسائل.
بعد ذلك وفي المجموعات القصصية التي تلت، حاولت الخروج من مسقط واكتشاف العالم، ظننت أني اكتفيت منها، لكن الرواية أرجعتني إليها، فوجدتها في «الباغ» التي أخذت اسمها من باغ السيدة فاطمة بنت علي جدة السلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله- والمحاذي لحارتنا، والذي لعبت فيه صغيرة وسقطت من على شجرة حتى تركت علامة على جبيني، من باغ السيدة شيّدت باغي، بصبر من يحفر بئرا بإبرة، بحسب تعبير أورهان باموق وهو يصف كتابة الرواية.
ثم كان لا بد من كتابة «دلشاد»، ودلشاد هو تمثلي لتلك الحميمية مع تفاصيل المكان أو كما عبَّر عنها باشلار في كتابه «جماليات المكان» بـ«قيم الألفة»، القيم التي تمتلك من الجاذبية القدر الذي يجعل القارئ يتوقف لا إراديًّا عن قراءة العمل السردي حول مكان ما، ليصغي لذكرياته حوله أو ربما ليتخيله ويسكنه بكل جوارحه.
هكذا أردت أن أخلد فضاءها الروائي الشاسع والمزدحم والمتّخم بالحكايات والأحداث التاريخية والمعاناة، مسقط التي تخصني، والتي صارت تعاني من فقدان للذاكرة يتعاظم يوما بعد يوم.
بشرى خلفان روائية عمانية