دارين مهدي.. سيرة العطاء والغياب
تاريخ النشر: 22nd, January 2024 GMT
«أعتقد إذا رب العالمين أخذ أمانته يوما ما أحب أن يحتفل الأحياء بدلا من النواح والبكاء». (دارين مهدي)
أنبل الأصدقاء أولئك الذين يخلدون الصداقة ويبقون عليها، هكذا خطرت في بالي عبارتها هذه وأنا أتصفح كتاب (دارين مهدي.. سيرة.. تأملات.. شهادات) الصادر حديثا بجهود صديقات الراحلة دارين مهدي (1984-2020): غدينة العيسائي، وسناء حصاري، وعبير المعمري، اللواتي جمعن كتابات دارين المنشورة في حساباتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن كيف عرفتُ دارين؟
بما أنها ابنة للصديق الدكتور مهدي جعفر، فهي غنية عن التعريف، وجديرة بالتعارف، فالدكتور مهدي له مكانة عالية رفيعة لدي، وبيننا تقاطعات جميلة مشتركة. «الابنة الفخورة بأبيها دوما وأبدا»، كتبتْ هذه العبارة في حسابها على تويتر، وتحتها الملصق الإعلاني الخاص بتدشين كتاب (لعمان مع المحبة) للدكتور مهدي جعفر وآنجيل شو، وكان حفل توقيع الكتاب في معرض مسقط للكتاب 2020، تحديدا يوم الأربعاء 19 فبراير. تزامن الحدث مع وجودي في مسقط وقتها لتوقيع روايتي «الأحقافي الأخير»، وكنت قد قابلت الدكتور مهدي، وتحدثنا عن روايتي «الأحقافي الأخير»، لكن الدكتور مهدي مهتم أكثر بروايتي «موشكا».
بكّرت الراحلة دارين بالحضور إلى ركن توقيع الكتاب، وكان هاجسها البيئي حاضرا أيضا، بتعليقها على الأكياس البلاستيكية المنتشرة في معرض الكتاب، حيث يضع المشترون الكتب في أكياس بلاستيكية، فأتذكر قولها: «لماذا لا نستعيض عن البلاستيك بأي مادة أخرى ولتكن كرتونية».
كان ذلك اللقاء الأول بدارين، رغم أننا كنا نتواصل عبر منصة إكس؛ فقد نشرت مرة على حسابها صورا ومع العبارة التالية: «التقاطات من رحلة أمس إلى جبل سمحان الآسر!، درجة الحرارة 18 درجة مئوية، والغيوم تستجيب للريح في مشهد جميل»، وعلقت على منشورها من ألمانيا: «أنت كنتِ على جبل الصلاة (جبل سمحان) بالشحرية يسمى (دهق ءصولوت) والمنطقة الواقعة أسفل الجبل الممتدة من مرباط إلى حدبين تسمى (صولوت)، فردت بتعليق آخر: «ما بستغرب هالتسمية أبدا، المشاعر اللي تحس بها وأنت على القمة صلاة للخالق والمنظر اللي يحيط بك يشهد بعظمته عزوجل، شكرا على مشاركتنا هالمعلومة محمد «.
التقينا مرة أخرى في مناسبة أقامتها جمعية البيئة العمانية عن الدكتور الراحل محسن العامري، وقد شاركتُ بورقة في المناسبة، وكانت دارين موجودة، وقد أحضرت معها رواية «الأحقافي الأخير» للتوقيع عليها، بعد ذلك اللقاء بأسابيع، كتبت لي دارين تسألني عن (فن الهيدان)، وهو فن مرباطي، يُقام في مناسبات العزاء وفراق الأحبة.
«كاتبنا الجميل بغيت مساعدتك، ماعرفت أفك الشفرة بالضبط الكلام اللي يرددوه في هذا المقطع».
«أهلا دارين الغالية... أي مقطع بالضبط؟».
«أحاول أرسله لك لكن ما ارتسل، خليني أحاول مجددا، بس برسل لك الرابط، من يوتيوب أيضا.. فن الهيدان / الدان.... حاولت أبحث في جوجل لكن ما كان واضح كثير».
«هذا فن ذو جذور إفريقية.. نحن ندين للعنصر الأفريقي بالحفاظ على أغلب فنون ظفار، خاصة المغناة في المدينة، أما بالنسبة للكلمات فسأجيب لك النص».
« لما سمعت البوق تخيلت ذلك، أكون شاكرة لك كاتبنا كثيرا».
«بحثت عن الكتاب وللأسف لم أجده. سأبحث من جديد عن النص وأرسله لك. ولايهمك».
«هو كلامهم ما مفهوم صحيح في المقطع ولا أنا بس يتهيألي؟.. يعني معظمه دان دان دان هيدانه».
«فعلا كلامهم غير مفهوم.. ولكن بصرف النظر عن الكلمات.. إلا أن الطقس وحده فريد.. العادة أن الموت مصحوب بالصمت والبكاء لكن أن يصاحبه أداء وطبل فهذا تفرد بحد ذاته».
«أتفق معك! شاهدت برنامج وثائقي عن فنون ظفار على اليوتيوب ووصف الباحث للطقوس كان جدا ممتع!.. أعتقد إذا رب العالمين أخذ أمانته يوما ما، أحب أن يحتفل الأحياء بدلا من النواح والبكاء».
ها نحن يا دارين ننفذ رغبتك، نحتفل بالكتابة عنك، كما احتفينا بك، حينما زرع لك والدك عدة شتلات من أشجار اللبان، في مناطق متفرقة من ظفار، على سفح جبل سمحان، وفي ريسوت، وفي الحدائق المنزلية للأصدقاء.
دارين لم ترحل إلا جسدا، أما روحها فحاضرة حضور الأبدية في مفردات الكون.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الدکتور مهدی
إقرأ أيضاً:
حين يُصبح العطاء عِبئاً
في أعماقنا، نتوق جميعًا لأن نكون كرماء، أن نعطي بلا حدود، لأن العطاء بحد ذاته قوة تربطنا بالآخرين وتجعلنا نشعر بأننا جزء من شيء أكبر. لكن، ماذا لو تحوّل العطاء من فضيلة إلى عبء؟ ماذا لو أصبح هذا العطاء، الذي أردناه تعبيرًا عن الحب والكرم، استنزافًا لذواتنا وضياعًا لحدودنا؟
العطاء الزائد، وإن بدا نبيلاً، يحمل في طياته خطراً يُهمَل ذكره في كثير من الأحيان: خطر فقدان التوازن. يقول الكاتب الأمريكي آدم غرانت في كتابه “Give and Take” إن “العطاء المفرط دون وعي يؤدي إلى استنزاف الشخص تمامًا”، مشيرًا إلى أن المانحين الذين لا يضعون حدودًا غالبًا ما يجدون أنفسهم في دائرة من الاستغلال أو التهميش. إن تقديم كل شيء، دون مقابل أو تقدير، لا يعني فقط أنك تضعف نفسك، بل يعني أيضًا أنك تُعلّم الآخرين أن يأخذوا بلا حساب.
في كثير من العلاقات، يصبح العطاء الزائد من طرف واحد وسيلة لإرضاء الآخرين، على حساب النفس. يحدث ذلك بدافع الخوف من الرفض، أو الرغبة في القبول، أو حتى بسبب ثقافة اجتماعية تُمجد التضحية المطلقة. لكن هنا تكمن المشكلة: التضحية التي لا تُقدر، تتحول مع الوقت إلى إحساس بالخذلان. كما قالت الكاتبة الأمريكية هارييت ليرنر في كتابها “The Dance of Anger”، “العطاء بلا حدود ليس حبًا، بل هو فقدان للذات.”
من المؤلم أن نرى كيف يمكن للعطاء المفرط أن يؤدي إلى اختلال التوازن في العلاقات. تخيل علاقة حيث يُعطي شخص كل ما لديه دون أن يتلقى شيئًا في المقابل؛ هذا النوع من العلاقات يخلق استغلالًا غير مقصود، حيث يصبح الطرف الآخر معتادًا على الأخذ دون تفكير. عندما يُتوقع منك دائمًا أن تكون موجودًا، أن تقدم المساعدة، أن تعطي بلا توقف، يصبح من الصعب رسم حدودك. الحدود هنا ليست قسوة، بل هي حماية لعطائك نفسه. كما تقول الباحثة برينيه براون: “الحدود الواضحة هي فعل حب تجاه النفس وتجاه الآخرين. إنها تعني أنني أهتم بك بما يكفي لأخبرك أين يتوقف عطائي.”
لكن لماذا نقع في هذا الفخ؟ جزء من الإجابة يكمن في مفهوم العطاء نفسه، الذي يُصوره دائمًا كرمز للفضيلة. نحن نكبر مع رسائل تُشيد بالعطاء اللامحدود وتربط التضحية بالسعادة، متناسين أن السعادة تأتي من التوازن، لا من المبالغة. العطاء الذي لا يترك مساحة للاهتمام بالنفس، والذي يُمارس دون وعي، يُصبح نقمة. العطاء الحقيقي لا يعني أن تُرهق نفسك من أجل الآخرين، بل أن تشارك معهم من وفرة نفسك، لا من استنزافها.
في بعض الأحيان، يكون قول “لا” أقرب إلى العطاء مما نعتقد. قول “لا” يعني أنك تحترم وقتك، طاقتك، واحتياجاتك. يعني أنك تضع قيمة حقيقية لعطائك، فلا يصبح شيئًا يُؤخذ كأمر مسلم به. تقول الكاتبة شيريل ريتشاردسون في كتابها “The Art of Extreme Self-Care”:: "عندما تقول ‘نعم’ للآخرين طوال الوقت، فإنك تقول ‘لا’ لنفسك.”
لكن، كيف نحافظ على التوازن؟ المفتاح يكمن في الوعي الذاتي. اسأل نفسك: لماذا أعطي؟ هل هو بدافع الحب والكرم؟ أم أنني أعطي لأشعر بالقيمة أو لتجنب الرفض؟ إدراك دوافعك هو الخطوة الأولى نحو عطاء صحي. الخطوة التالية هي تعلم وضع حدود واضحة. الحدود ليست حاجزًا أمام العطاء، بل هي ضمانة لأن يكون عطاؤك حقيقيًا ومستدامًا.
العطاء قيمة عظيمة، لكن قيمته تتضاءل عندما يصبح عبئًا. التوازن هو الحل، ذلك الخط الدقيق بين أن تعطي بسخاء، وأن تحفظ نفسك من الإنهاك والاستنزاف. كما قال الكاتب والفيلسوف البريطاني آلان واتس: “لا يمكنك صب شيء من كوب فارغ. امتلئ أولاً، ثم اعطِ الآخرين مما يفيض عنك.”
تذكّر دائمًا: العطاء الحقيقي يبدأ من عطائك لنفسك. أن تكون كريمًا مع ذاتك، أن تحترم وقتك وطاقتك، هو الأساس الذي يُبنى عليه أي عطاء للآخرين. فلا تجعل من نفسك شعلة تحترق لتضيء الطريق للآخرين، بل اجعلها نورًا مستدامًا يضيء الطريق للجميع، بمن فيهم أنت.