عندما تفشل المحادثات الثنائية في حل النزاعات بين الدول ذات السيادة، قد تلجأ الأطراف المتضررة إلى هيئة قضائية دولية، مثل محكمة العدل الدولية في لاهاي. كبديل، تتضمن المعاهدات أو الاتفاقات غالبا فقرات خاصة بالتحكيم أو الوساطة في النزاعات من قبل كيان معين مسبقا.
على نحو مماثل، تحدد مواد منظمة التجارة العالمية، التي يقوم عليها النظام التجاري الدولي، الإجراءات الواجب على البلدان الأعضاء اتباعها عندما ينتهك شركاء تجاريون قواعد المنظمة، وخاصة مبدأ الدولة الأولى بالرعاية.
من الأمثلة البارزة على ذلك العقوبات الشاملة التي فرضت على دولة جنوب أفريقيا في ثمانينيات القرن العشرين. ولكن ما لم تكن العقوبات التجارية عالمية تقريبا، فإنها تكون غالبا أقل فعالية من المتوقع. وكما لاحظ ريتشارد حنانيا في تحليل لصالح معهد كاتو في عام 2020، فإن العقوبات التجارية التي تفرضها الولايات المتحدة «تفشل دائما تقريبا في تحقيق أهدافها». علاوة على ذلك، «يترتب على العقوبات تكاليف إنسانية باهظة، وهي ليست غير فعالة فحسب، بل ومن المرجح أن تؤدي إلى نتائج عكسية هَـدّامة».
أحد الأسباب وراء هذا هو أن التجار يمكنهم بسهولة إعادة توجيه البضائع الخاضعة للعقوبات من خلال دول ثالثة، ما لم تكن المشاركة عالمية شبه شاملة. على سبيل المثال، تمكنت إيران من التحايل على العقوبات الغربية من خلال بناء شبكة متطورة لتمرير التجارة. على نحو مماثل، تشير التقارير إلى أن السلع الصينية الخاضعة للعقوبات لا تزال تدخل السوق الأمريكية، حيث تعمل الشركات التي تتخذ من الصين مقرا على إعادة توجيه صادراتها عبر دول أخرى.
أثناء حرب العراق، استخدمت الولايات المتحدة العقوبات المالية لمنع الشركات الأمريكية من التعامل مع نظيراتها في دول ثالثة سهلت المعاملات المحظورة مع العراق. وقد أثبتت هذه «العقوبات الثانوية» كونها أكثر فعالية بأشواط من العقوبات التقليدية على تجارة السلع الأساسية، ويرجع هذا بدرجة كبيرة إلى الدور المهيمن الذي يلعبه الدولار في التمويل العالمي. ونتيجة لهذا، ازدادت العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة عشرة أضعاف على مدى السنوات العشرين الأخيرة.
في أعقاب الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022، فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها عقوبات تجارية ومالية غير مسبوقة على روسيا، بما في ذلك فرض الحظر على التكنولوجيا والصادرات العسكرية. كما فرضوا حدا أقصى لأسعار النفط الروسي عند 60 دولارا للبرميل، بهدف إصابة الاقتصاد الروسي بالشلل مع ضمان قدرة أوروبا على تجنب أزمة طاقة مزعزعة للاستقرار السياسي.
كانت هذه التدابير غير ناجحة إلى حد كبير. ففي حين أجبرت العقوبات المالية تجار النفط على تأمين السفن بتغطية تأمينية مناسبة قبل إتمام المعاملات، لم ينخفض سعر النفط الروسي عن 60 دولارا للبرميل. وبحلول نوفمبر 2023، ارتفع إلى 84.20 دولار، حيث طورت الشركات الروسية أساليب مختلفة لتجاوز القيود الغربية، مثل تكاليف الشحن المضخمة و«أسطول الظل» الذي يتكون من أكثر من 100 ناقلة نفط قديمة. من ناحية أخرى، تفيد التقارير بأن ما تتجاوز قيمته مليار دولار من السلع الخاضعة للعقوبات اختفى وسط توسع «التجارة الشبحية» الروسية. علاوة على ذلك، أدى نظام العقوبات المفروض على روسيا إلى ظهور عدد من الوسطاء، مع تحول دول فعليا إلى «مغاسل» للنفط الروسي وغيره من السلع الخاضعة للعقوبات. عندما تُـرصَـد شركة مخالفة وتُـعاقَـب، تحل محلها غالبا شركة جديدة تعمل تحت اسم مختلف. حتى أن إحدى الشركات اليونانية باعت النفط الروسي للجيش الأمريكي. في الاستجابة للأدلة المتزايدة على التهرب من العقوبات، كثفت الولايات المتحدة وحلفاؤها الجهود لإنفاذ العقوبات.
في ديسمبر، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات «شاملة» على أكثر من 250 شركة وفردا. هذا لا يعني أن الدول الغربية لا ينبغي لها أن تبحث عن أساليب غير عسكرية. لكن انتشار التهرب من العقوبات يدعو إلى التشكيك في فعالية النظام الحالي ويؤكد على حاجة القوى الغربية إلى النظر في التكاليف والمخاطر التي تهدد اقتصاداتها بسبب العقوبات. من المؤكد أن العقوبات الغربية عملت على خفض عائدات روسيا وأثرت على ناتجها المحلي الإجمالي، وإن كان ذلك بدرجة أقل مما كان يأمله كثيرون. ولكن كلما طال أمد استخدام النظام المالي العالمي كأداة للحرب الاقتصادية، كلما بحثت الحكومات والشركات في بلدان الأطراف الثالثة عن بدائل للدولار واليورو ونظام الدفع الدولي سويفت SWIFT.
في حين قد تكون العقوبات تكتيكا فعالا في الأمد القصير، فإن تأثيرها على الأطراف المستهدفة يميل إلى التضاؤل بمرور الوقت، في حين تزداد وطأة العبء الـمُـلقى على البلدان التي تفرضها. وإذا أدى نظام العقوبات المفروض على روسيا إلى تآكل مكانة الدولار في الأسواق المالية الدولية بدرجة كبيرة، فإن التكلفة التي ستتحملها الولايات المتحدة والاقتصادات العالمية قد تتجاوز الفوائد المترتبة على هذه العقوبات بأشواط.
آن أو. كروجر كبيرة الاقتصاديين سابقًا في البنك الدولي، وأستاذة أبحاث أولى في الاقتصاد الدولي في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز .
خدمة بروجيكت سنديكيت
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التجارة العالمیة الولایات المتحدة
إقرأ أيضاً:
الحرب العالمية التجارية التي أعلنها ترمب لا تخصنا في الوقت الراهن
اليوم أعلن ترمب الحرب الأقتصادية علي جميع دول العالم وفرض جمارك باهظة علي صادراتها للولايات المتحدة، وهي أكبر سوق في العالم. هذه الجمارك تهز الأقتصاد العالمي، وتربك سلاسل الإمداد وتضرب أسواق أمال العالمية. واهم من ذلك إنها تهدد بتدمير معمار النظام الإقتصادي العالمي الذى ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وكل هذا ستترتب عليه تحولات جيوسياسية جديدة وتسريع لديناميات أخري ولدت قبل إعلان ترمب الحرب الأقتصادية علي الجميع.
ولكن سياسات ترمب أيضا سيكون لها أثار سلبية باهظة علي الإقتصاد الأمريكي مثل إرتفاع معدلات التضخم، وازدياد العزلة الدولية لأمريكا وتراجع أهمية الدولار حول العالم.
فيما يختص بالسودان، قرارات ترمب لا تاثير لها لانه فرض جمارك علي صادرات السودان جمارك بنسبة ١٠% ولن تؤثر هذه النسبة لا في حجم الصادرات ولا علي أسعارها لان تلك الصادرات أصلا قليلة القيمة في حدود ١٣،٤ مليون دولار في العام السابق، أكثر من ٩٠% منها صمغ لا بديل له والباقي حرابيش حبوب زيتية . كما أن السلع المصدرة لا توجد بدائل لها بسعر أرخص إذ أنها أصلا رخيصة ولا تتمتع بمرونة في السعر ولا الطلب.
كما أن إهتزاز أسواق المال والبورصات وقنوات التمويل الدولي لا تاثير لهم علي السودان لانه أصلا خارج هذه الأسواق وخارج سوق المعونات.
ولكن هذه ليست نهاية القصة لان توجهات ترمب الأقتصادية والسياسية تدفن النظام العالمي القديم وتسرع من وتائر تحولات جديدة في غاية الأهمية. وبلا شك فان موت النظام القديم وميلاد نظام جديد وفوضى الإنتقال سيكون لها تاثير سياسي وإقتصادي علي السودان بسبب تبدل البيئة الدولية التي يعمل فيها السودان السياسي والاقتصادي. ولكن هذه التحولات المضرة لن يتأذى منها السودان مباشرة بل ربما يستفيد منها لو أحسن قادته.
علي سبيل المثال النظام الجديد سيكون متعدد الأقطاب وستنتهي فيه الهيمنة الغربية الأحادية وستزداد مجموعة البريكس أهمية وستزداد أهمية تكتلات أقتصادية أخري أخري في الجنوب العالمي مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وفي أمريكا اللاتينية السوق المشتركة الجنوبية (ميركوسور)، وفي المستقبل منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية . وجود كل هذه البدائل كشركاء أقتصاديين/تجاريين/سياسيين محتملين يتيح للسودان هامش للمناورة وإمكانية الحصول علي شروط أفضل في تعاطيه الأقتصادي والسياسي مع العالم الخارجي.
ولكن الإستفادة من هذه التحولات يحتاج لرجال ونساء يجيدون صنعة الدولة ولا يقعون في فخاخ ألحس كوعك علي سنة البشير ولا الانبطاح غير المشروط كما حدث في الفترة الإنتقالية التي أعقبت سقوط نظام البشير.
معتصم اقرع
إنضم لقناة النيلين على واتساب