الجغرافيا السياسية تشكّل الاقتصاد العالمي على نحوٍ متزايد
تاريخ النشر: 22nd, January 2024 GMT
في خطابها الذي ألقته بمناسبة حصولها على جائزة برنهارد هارمز (Bernhard Harms)، الممنوحة من معهد كييل للاقتصاد العالمي (ألمانيا) في الثلاثين من نوفمبر 2023، حذّرت غيتا غوبيناث (Gita Gopinath)، النائبة الأولى للمديرة العامة لصندوق النقد الدولي، من الآثار الضارّة لتنامي الانقسام الجيوقتصادي للعالم. فمنذ بداية الحرب في أوكرانيا، زاد حجم التجارة داخل كلٍّ كتلة من الكتلتين اللتين تضمّان الدول المتحالفة سياسيا (استنادا إلى تصويت كل دولة في الأمم المتحدة بخصوص إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا واصطفافها إلى جانب الولايات المتحدة أو روسيا) بنحو 1.
نحن في زمنٍ تعمل الجغرافيا السياسية فيه على تشكيل الاقتصاد العالمي أكثر فأكثر، وتُلقي عواقب لعبة القوة بين الدول بظلالها الدائمة على أسواق السلع الأساسية، كما أنها تغيّر مشهد الاقتصاد الكلّي، وتؤدّي إلى التفتّت التجاري والسياسي للعالم.
كان للأحداث الجيوسياسية التي عرفها العالم بين عامي 2000 و2018 (لا سيما هجمات الحادي عشر سبتمبر من عام 2001 على الولايات المتحدة، و«الربيع العربي» والضربات الصاروخية ضد سوريا) تداعيات على أسواق الطاقة في 70% من الحالات. وارتفعت نسبة العلاقة بين مشكلات إمداد الأسواق العالمية بالحبوب والأحداث الجيوسياسية خلال الأعوام القليلة الماضية من 10% قبل عام 2018 إلى 30% إبّان الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وإلى أكثر من 50% خلال الحرب الروسية الأوكرانية.
ممّا يبعث أكثر على الدهشة هو أن المقالات الإخبارية نفسها تعزو الاضطرابات التي تعرفها السوق العالمية لجميع فئات السلع الأساسية إلى التطورات الجيوسياسية في العالم منذ الغزو الروسي لأوكرانيا والحرب التجارية الدائرة بين الولايات المتحدة والصين.
تكشف هذه المؤشرات النصّية عن علاقة معقّدة بين الأحداث الجيوستراتيجية والاقتصاد العالمي. فمن ناحية، تؤثّر المخاطر الجيوسياسية على الدورة الاقتصادية بسبب الخسائر والفرص الاقتصادية التي تترتّب عنها، وغالبا ما يكون ذلك من خلال التقلّبات التي تشهدها أسواق السلع الأساسية، إذ إن هذه الأسواق تقع في قلب التطورات الجيوقتصادية، وغالبا ما تتحمّل الكلفة النّاجمة عن تفتّت المبادلات التجارية والعقوبات الاقتصادية. ومن ناحية أخرى، تعمل هذه الأسواق على تسريع أو تأخير القرارات الجيوسياسية. ومن الأمثلة الحديثة التي تدلّ على ذلك توقيت الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي تزامن مع ارتفاع أسعار النفط والضغط الواقع على أسواق السلع الأساسية بسبب التوترات الاقتصادية التي عرفتها أوروبا، الأمر الذي منح لروسيا ميزةً استراتيجية بالغة الأهمية.
ترسم الأبحاث الاقتصادية صورة قاتمة إلى حدٍّ ما عن التأثيرات المترتّبة عن هذه الأحداث الأخيرة. إن الاضطرابات التجارية المستمرّة هي على وشك التسبّب في إحداث خسائر كبيرة ودائمة للاقتصاد العالمي، وستُلحق الضرر الأشدّ بالبلدان الفقيرة على وجه الخصوص. في منشورٍ صدر عن مركز أبحاث السياسات الاقتصادية (التفتّت الجيوقتصادي والمخاطر النّاجمة عن اقتصاد عالمي متصدّع) عقب مؤتمرٍ نُظّم من طرف صندوق النقد الدولي في الخامس والعشرون من مايو 2023، وجّه الباحثون تحذيرا قويا من الانخفاض الكبير الذي يشهده الإنتاج في البلدان المعتمدة على المواد الخام.
إن البلدان منخفضة الدخل والمرتبطة بسلاسل التوريد العالمية، على وجه الخصوص، سوف تعاني من خسائر في الإنتاج على المدى الطويل تبلغ 4.3% من الناتج المحلي الإجمالي في حال عرف العالم انقساما جيوقتصاديا حادّا، وذلك لأن العثور على مورّدين جدد أمر مكلّف.
إن الاتّجار بشكل أساسي مع دول تتقاسم قيما مماثلة، أو ما نصطلح عليه بـ «دعم الأصدقاء» (friend-shoring)، من شأنه أن يؤدي إلى إعادة تشكيل العلاقات القائمة بين الدول وبين القطاعات بناءً على التحالفات السياسية، الأمر الذي بإمكانه أن يتسبّب في خسارة تقدّر بنحو 4.6% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وفقا لسيناريو انقسام العالم إلى كُتلتين تجاريتين (المصدر: التكلفة الاقتصادية لـ «دعم الأصدقاء»، ورقة عمل رقم 274، بياتا جافورشيك (Beata Javorcik) ولوكاس كيتزمولر (Lucas Kitzmueller) وهيلينا شفايغر (Helena Schweiger) ومحمد يلدريم (Muhammed Yildirim)، البنك الأوروبي لإعادة الإعمار، 2022).
وفي الوقت نفسه، تعمل سلسلة من التداعيات المالية على تضخيم المخاوف الاقتصادية الناجمة عن هذه التطورات الجيوسياسية، حيث إن الاضطرابات التي تعرفها سلاسل التوريد وأسواق السلع الأساسية تمتد إلى بقيّة الاقتصاد الحقيقي، مما يفرض ضغوطا على النمو والتضخم. ووفقًا لورقة بحثية بعنوان «هل تزيد المخاطر الجيوسياسية من التضخم أم تخفّض منه؟»، نشرها الباحثون داريو كالدارا (Dario Caldara) وسارة كونليسك (Sarah Conlisk) وماتيو إياكوفيلو (Matteo Iacoviello) ومادي بن (Maddie Penn) في يوليو 2023، فإن زيادة المخاطر الجيوسياسية الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم في العالم بنسبة 1.3٪، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 1.5٪. وهذه تداعيات تترتّب عن انخفاض ثقة المستهلك، وارتفاع أسعار السلع الأساسية في الأسواق العالمية، وتشديد الظروف المالية، ممّا يلحق الضرر أساسا بالصناعات المنتجة للسلع في الاقتصادات الأوروبية.
إفغينيا باساري أستاذة باحثة في الاقتصاد بجامعة باريس دوفين
عن لموند الفرنسية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أسواق السلع الأساسیة الولایات المتحدة
إقرأ أيضاً:
الصين تفرض رسوما جمركية بنسبة 34% على جميع السلع الأمريكية
في تصعيد جديد للتوترات التجارية بين واشنطن وبكين، أعلنت الحكومة الصينية اليوم الجمعة فرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 34% على جميع الواردات الأمريكية، على أن تدخل حيز التنفيذ اعتبارًا من 10 أبريل الجاري، وذلك ردًا على الخطوة الأمريكية الأخيرة برفع التعريفات الجمركية على عدد من المنتجات الصينية.
الصين ترد على واشنطنوذكرت وزارة المالية الصينية، أن هذه الإجراءات تأتي في إطار الرد بالمثل على السياسة الحمائية التي تنتهجها الإدارة الأميركية، والتي اعتبرتها بكين تهديدًا مباشرًا لاستقرار التجارة الدولية.
كما كشفت وزارة التجارة الصينية عن فرض ضوابط صارمة على تصدير المعادن الأرضية النادرة المتوسطة والثقيلة إلى الولايات المتحدة، اعتبارًا من 4 أبريل الجاري، مشيرة في بيان رسمي إلى أن هذه الخطوة تهدف إلى حماية الأمن القومي والمصالح الاستراتيجية للصين، والوفاء بالالتزامات الدولية وفقًا للقانون.
وفي سياق متصل، أدرجت بكين 11 شركة ومنظمة أمريكية ضمن قائمة الكيانات غير الموثوقة، مما يفتح المجال أمام اتخاذ إجراءات عقابية مباشرة بحق تلك الكيانات.
مخاوف من اندلاع حرب تجارية شاملةأثارت هذه القرارات موجة من القلق في الأسواق العالمية، وسط تحذيرات من اندلاع حرب تجارية شاملة قد تطال أكثر من 180 دولة ومنطقة حول العالم، نتيجة التعريفات المتبادلة بين أكبر اقتصادين عالميين.
وتهدف الإجراءات الأمريكية، التي يقودها الرئيس السابق دونالد ترامب، إلى دعم الصناعات المحلية، لكنها تواجه انتقادات دولية واسعة بسبب مخاطرها على الاقتصاد العالمي.
وتدعو العديد من الحكومات إلى حوار دولي بناء لتجنب مزيد من التصعيد، في وقتٍ يشهد فيه الاقتصاد العالمي ضغوطًا متزايدة.
الصادرات الصينية تحت الضغطبحسب بيانات الجمارك الصينية، بلغت قيمة الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة في عام 2024 أكثر من 500 مليار دولار، ما يمثل نحو 16.4% من إجمالي صادرات البلاد.