في خطابها الذي ألقته بمناسبة حصولها على جائزة برنهارد هارمز (Bernhard Harms)، الممنوحة من معهد كييل للاقتصاد العالمي (ألمانيا) في الثلاثين من نوفمبر 2023، حذّرت غيتا غوبيناث (Gita Gopinath)، النائبة الأولى للمديرة العامة لصندوق النقد الدولي، من الآثار الضارّة لتنامي الانقسام الجيوقتصادي للعالم. فمنذ بداية الحرب في أوكرانيا، زاد حجم التجارة داخل كلٍّ كتلة من الكتلتين اللتين تضمّان الدول المتحالفة سياسيا (استنادا إلى تصويت كل دولة في الأمم المتحدة بخصوص إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا واصطفافها إلى جانب الولايات المتحدة أو روسيا) بنحو 1.

5 نقطة مئوية أكثر مقارنة بنمو حجم التجارة بين هاتين الكتلتين.

نحن في زمنٍ تعمل الجغرافيا السياسية فيه على تشكيل الاقتصاد العالمي أكثر فأكثر، وتُلقي عواقب لعبة القوة بين الدول بظلالها الدائمة على أسواق السلع الأساسية، كما أنها تغيّر مشهد الاقتصاد الكلّي، وتؤدّي إلى التفتّت التجاري والسياسي للعالم.

كان للأحداث الجيوسياسية التي عرفها العالم بين عامي 2000 و2018 (لا سيما هجمات الحادي عشر سبتمبر من عام 2001 على الولايات المتحدة، و«الربيع العربي» والضربات الصاروخية ضد سوريا) تداعيات على أسواق الطاقة في 70% من الحالات. وارتفعت نسبة العلاقة بين مشكلات إمداد الأسواق العالمية بالحبوب والأحداث الجيوسياسية خلال الأعوام القليلة الماضية من 10% قبل عام 2018 إلى 30% إبّان الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وإلى أكثر من 50% خلال الحرب الروسية الأوكرانية.

ممّا يبعث أكثر على الدهشة هو أن المقالات الإخبارية نفسها تعزو الاضطرابات التي تعرفها السوق العالمية لجميع فئات السلع الأساسية إلى التطورات الجيوسياسية في العالم منذ الغزو الروسي لأوكرانيا والحرب التجارية الدائرة بين الولايات المتحدة والصين.

تكشف هذه المؤشرات النصّية عن علاقة معقّدة بين الأحداث الجيوستراتيجية والاقتصاد العالمي. فمن ناحية، تؤثّر المخاطر الجيوسياسية على الدورة الاقتصادية بسبب الخسائر والفرص الاقتصادية التي تترتّب عنها، وغالبا ما يكون ذلك من خلال التقلّبات التي تشهدها أسواق السلع الأساسية، إذ إن هذه الأسواق تقع في قلب التطورات الجيوقتصادية، وغالبا ما تتحمّل الكلفة النّاجمة عن تفتّت المبادلات التجارية والعقوبات الاقتصادية. ومن ناحية أخرى، تعمل هذه الأسواق على تسريع أو تأخير القرارات الجيوسياسية. ومن الأمثلة الحديثة التي تدلّ على ذلك توقيت الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي تزامن مع ارتفاع أسعار النفط والضغط الواقع على أسواق السلع الأساسية بسبب التوترات الاقتصادية التي عرفتها أوروبا، الأمر الذي منح لروسيا ميزةً استراتيجية بالغة الأهمية.

ترسم الأبحاث الاقتصادية صورة قاتمة إلى حدٍّ ما عن التأثيرات المترتّبة عن هذه الأحداث الأخيرة. إن الاضطرابات التجارية المستمرّة هي على وشك التسبّب في إحداث خسائر كبيرة ودائمة للاقتصاد العالمي، وستُلحق الضرر الأشدّ بالبلدان الفقيرة على وجه الخصوص. في منشورٍ صدر عن مركز أبحاث السياسات الاقتصادية (التفتّت الجيوقتصادي والمخاطر النّاجمة عن اقتصاد عالمي متصدّع) عقب مؤتمرٍ نُظّم من طرف صندوق النقد الدولي في الخامس والعشرون من مايو 2023، وجّه الباحثون تحذيرا قويا من الانخفاض الكبير الذي يشهده الإنتاج في البلدان المعتمدة على المواد الخام.

إن البلدان منخفضة الدخل والمرتبطة بسلاسل التوريد العالمية، على وجه الخصوص، سوف تعاني من خسائر في الإنتاج على المدى الطويل تبلغ 4.3% من الناتج المحلي الإجمالي في حال عرف العالم انقساما جيوقتصاديا حادّا، وذلك لأن العثور على مورّدين جدد أمر مكلّف.

إن الاتّجار بشكل أساسي مع دول تتقاسم قيما مماثلة، أو ما نصطلح عليه بـ «دعم الأصدقاء» (friend-shoring)، من شأنه أن يؤدي إلى إعادة تشكيل العلاقات القائمة بين الدول وبين القطاعات بناءً على التحالفات السياسية، الأمر الذي بإمكانه أن يتسبّب في خسارة تقدّر بنحو 4.6% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وفقا لسيناريو انقسام العالم إلى كُتلتين تجاريتين (المصدر: التكلفة الاقتصادية لـ «دعم الأصدقاء»، ورقة عمل رقم 274، بياتا جافورشيك (Beata Javorcik) ولوكاس كيتزمولر (Lucas Kitzmueller) وهيلينا شفايغر (Helena Schweiger) ومحمد يلدريم (Muhammed Yildirim)، البنك الأوروبي لإعادة الإعمار، 2022).

وفي الوقت نفسه، تعمل سلسلة من التداعيات المالية على تضخيم المخاوف الاقتصادية الناجمة عن هذه التطورات الجيوسياسية، حيث إن الاضطرابات التي تعرفها سلاسل التوريد وأسواق السلع الأساسية تمتد إلى بقيّة الاقتصاد الحقيقي، مما يفرض ضغوطا على النمو والتضخم. ووفقًا لورقة بحثية بعنوان «هل تزيد المخاطر الجيوسياسية من التضخم أم تخفّض منه؟»، نشرها الباحثون داريو كالدارا (Dario Caldara) وسارة كونليسك (Sarah Conlisk) وماتيو إياكوفيلو (Matteo Iacoviello) ومادي بن (Maddie Penn) في يوليو 2023، فإن زيادة المخاطر الجيوسياسية الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم في العالم بنسبة 1.3٪، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 1.5٪. وهذه تداعيات تترتّب عن انخفاض ثقة المستهلك، وارتفاع أسعار السلع الأساسية في الأسواق العالمية، وتشديد الظروف المالية، ممّا يلحق الضرر أساسا بالصناعات المنتجة للسلع في الاقتصادات الأوروبية.

إفغينيا باساري أستاذة باحثة في الاقتصاد بجامعة باريس دوفين

عن لموند الفرنسية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أسواق السلع الأساسیة الولایات المتحدة

إقرأ أيضاً:

وزيرة التخطيط: النظام المالي العالمي يتعرض لاختبار غير مسبوق

ألقت الدكتورة رانيا المشاط، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي، الكلمة الافتتاحية بالدورة الـ18 للمؤتمر الاقتصادي «الناس والبنوك»، الذي ينظمه المركز الإعلامي العربي.

 وقالت رانيا المشاط، إن المؤتمر منصّة مهمة للحوار، وتبادل الرؤى والأفكار حول أبرز القضايا التي تشغل المعنيين بالشأن الاقتصادي المصري، مشيرة إلى أن النظام المالي العالمي يتعرَّض لاختبار غير مسبوق، يتَزامن مع تباطؤ النشاط الاقتصادي جرَّاء الأزمات الصحية والاقتصادية والجيوسياسية المتتالية التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى التحديات الناجمة عن التغيّرات المناخية، فقد أثرت هذه الأزمات والتحديات بالسَلب على قدرة الدول على الوفاء بالتزاماتها المالية والتنموية.

قصور قدرة النظام المالي العالمي

وأكدت أن تلك التحديات كشفت عن قصور قدرة النظام المالي العالمي على حشد التمويل المستقر وطويل الأجل على نطاقٍ واسع للاستثمارات اللازمة، لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، خصوصا مع تزايد الاحتياجات التنموية للدول، حيث اتسعت فجوات التمويل للدول النامية بين 2.5 تريليون دولار و4 تريليونات دولار سنويًا، وتفاقمت التحديات الإنمائية والتي طالت جميع الدول دون استثناء.

وتابعت: «على الرغم من الجهود المبذولة من قِبَل مؤسسات التمويل الدولية والحكومات، إلا أن شدة التحديات تقتضى مواصلة التعاون بين مؤسسات التمويل الإقليمية والدولية لتوفير التمويل العادل والمُنصِف الذي يُلبي الاحتياجات التنموية للدول، إلى جانب تنسيق الجهود بين البنوك المركزية والحكومات على المستوى الدولي لمواجهة الأزمات الدولية المتفاقمة، من خلال التنسيق بين السياستين المالية والنقدية، والتأكد من اتساق تلك السياسات مع إجراءات الإصلاح الاقتصادي، بما يدعم الاستجابة المشتركة للتقلبات المالية».

الاستدامة والتمويل من أجل التنمية الاقتصادية

وأضافت أنه في ظل هذه الظروف الإقليمية و الدولية الاستثنائية، سَعَت الدولة المصرية بكل مؤسساتها لتعزيز صمود الاقتصاد المصري من خلال إصلاحات جادة.

وأشارت إلى أن وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي، بعد الدمج، أطلقت «إطار الاستدامة والتمويل من أجل التنمية الاقتصادية »، الذي تسعى الوزارة من خلاله إلى صياغة سياسة التنمية الاقتصادية القائمة على البيانات والأدلة، لتوفير المعلومات التي تُعزز المناقشات حول الاحتياجات والفرص، وسد الفجوات في مجالات التنمية المختلفة، مع ضمان آليات مراقبة وتقييم قوية لتتبع التقدم وتحسين النتائج، بالإضافة إلى بناء اقتصاد مرن، وتعزيز استقرار الاقتصاد الكلي، من خلال تنفيذ الإصلاحات الهيكلية لزيادة القدرة التنافسية وتحسين بيئة الأعمال، ودعم مرونة السياسات المالية الكلية، والتحول نحو الاقتصاد الأخضر. 

ومن خلال البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية، تعمل الدولة على تنفيذ إصلاحات متنوعة، تُساعد على تعزيز الثقة في الاقتصاد المصري، وتدعم تحقيق نمو احتوائي ومستدام.

مقالات مشابهة

  • متى بشاي: السماح بتمويل استيراد السلع غير الأساسية يؤكد توافر العملات الأجنبية
  • متى بشاي: السماح بتمويل استيراد السلع غير الأساسية يؤكد توافر العملات الأجنبية وانتهاء أزمة شحها
  • الصين تتفوق في مسابقات الهاكرز وسط قلق أمريكي متزايد
  • «العدل للدراسات الاقتصادية»: مصر اتخذت إجراءات عززت من صمود الاقتصاد
  • أسعار السلع الغذائية الأساسية اليوم الثلاثاء 12 نوفمبر 2024 في الأسواق المصرية
  • وزيرة التخطيط: النظام المالي العالمي يتعرض لاختبار غير مسبوق
  • سياسة ترامب الاقتصادية ترخي بظلالها اضطرابات على الاقتصاد العالمي
  • «الأعلى للثقافة» ينظم ندوة عن الرؤية السياسية لتطورات الوضع في المنطقة
  • أسعار السلع الغذائية الأساسية اليوم الاثنين 11-11-2024 في الأسواق
  • عميد كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية يشيد بدور جامعة شيكاغو في دعم الطلاب