الضرر الإيطالي الذي يستحيل إصلاحُه
تاريخ النشر: 22nd, January 2024 GMT
الضرر الإيطالي الذي يستحيل إصلاحُه
اليوم تقف في طابور "الشحوب الديمغرافي" قائمة تضم معظم دول أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام وغيرها.
صنعت الفردانية الجامحة إنساناً لا يكاد يعبأ إلا بـ"الإشباع الفوري"، وبالتالي، لا يريد تحمّل أعباء إنجاب أطفال وتربيتهم.
ما يكتب نهاية هذه الحضارة هو "نمط الحياة الغربي" نفسه.
وما حدث أن نمط الحياة الغربية تحوّل من انحياز للفردية، إلى "فردانية" متألهة.
الضرر يمكن إصلاحه فقط عندما تتغيّر القيم وتتغير معها النظرة إلى الذات والعالم. والدين في قلب ما تتأسّس عليه هذه القيم وهذه النظرة الشاملة.
عندما فرض الحزب الشيوعي الصيني "سياسة الطفل الواحد" عدة عقود حدث تَغيُّر ثقافي عميق لم يفلح تغيير القانون في حلّ مشكلته وبقي الصينيون مُحجمين عن إنجاب مزيد من الأطفال.
* * *
الغرب "أول حضارة مُلحدة في تاريخ البشرية"، على حد قول رئيس تشيكيا السابق فاتسلاف هافيل، والعقود التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي هي حقبة التأزّم الليبرالي الكبير.
وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قرعت "الأزمة المالية العالمية" جرس إنذار لمستقبل الرأسمالية (أو على الأقل مستقبل النيولبيرالية)، وأكد الصعود المتزامن للقوى الشعبوية على جانبي الأطلسي أن الديمقراطية هي الأخرى تنحدر سريعاً على مسار زلق.
ولم تكن هذه الوجوه المتعدّدة لأزمة الحضارة الغربية سوى قمة جبل الجليد التي كان تَزامُنُها (أو حتى تلاحُقُها) دليلًا على أن تحت مياه الأطلسي جبل جليد يوشك أن يصطدم بهذه الحضارة ذات العضلات (الاقتصادية، والعسكرية، والتكنولوجية) الأسطورية، والرأس الصغير.
وجبل الجليد الذي يرجّح أن يكتب نهاية هذه الحضارة هو "نمط الحياة الغربي" نفسه. وما حدث أن نمط الحياة الغربية تحوّل من انحياز للفردية، إلى "فردانية" متألهة.
والفرد المنقطع عن أصله الإلهي وعن الإيمان بغايةٍ يتوجّه إليها مسار الوجود، ليصل إلى مصيره، انقطع، في الوقت نفسه، على "الأسرة الممتدّة" وكل أشكال الجماعية، وتنكَّر لرساليته ثم تنكَّر لإنسانيّته، وصولاً إلى صيحة الملحد الشهير ستيفن هوكينغ، العدمية الصادمة: "الإنسان وسخ كيميائي".
من قلب هذا الجحيم اللاديني ظهر إلى الوجود إنسان جسماني يرى نفسه "الإنسان الأخير" (على طريقة ستيفن هوكينغ لا على طريقة فرانسيس فوكوياما). وعندما تشرّبت شريحة واسعة من الجيل الحالي من الغربيين هذه الفكرة، لم يعد ثمّة مكانٌ لشيءٍ يتجاوز المتعة الفردية وتحقيق الذات الفردي.
بل ظهر في بلدٍ، مثل فيتنام، كان حتى وقتٍ قريبٍ جماعياً بامتياز، جيل يرى، ذكوراً وإناثاً، أن الحصول على وظيفة جيدة أهم من الزواج والعائلة، وهو صدى لانتشار نمط الحياة الفردانية الغربي.
وبالإضافة إلى ما قرّره فاتسلاف هافيل، استعاد بعضهم ما تنبّأ به عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي إيمانيل تود في كتابه "السقوط الأخير" (1976)، وفيه اعتبر البروتستانتية الأميركية سبباً في وصول العالم إلى مرحلة يطلق عليها تود اسم "الصفر الديني"، حيث العدمية تجتاح الحياة الغربية.
وفي إيطاليا، تسبّبت هذه الحقبة من التاريخ الغربي في دخول عددٍ من مجتمعاته نفق "شحوب ديمغرافي"، انتقل من تهديد التوازن السكاني، متمثّلاً في قلة الإنجاب، وفي الوقت نفسه، زيادة نسبة المسنّين في المجتمع. ومنذ أشهر، يكرّر الملياردير الأميركي إيلون ماسك إطلاق صيحات تحذير من أن إيطاليا في طريق الاختفاء بسبب "الشحوب الديمغرافي". وأخيراً، أطلقت "لوفيغارو" الفرنسية إنذارها المعنون: "إيطاليا تواجه شبح الانهيار الديمغرافي".
والأرقام التي أوردتها الصحيفة الفرنسية تبعث على القلق في قارّة مسنّة من الواضح أن إيطاليا أصبحت في طليعتها، فبيمنا شهدت مليون ولادة في عام 1964، لم تسجل سوى 393 ألف ولادة في 2022، مقابل نحو 700 ألف حالة وفاة. وهذه المخاوف الناجمة دفعت رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني إلى أن تجعل القضية الديمغرافية موضوعاً مركزياً، وتضع الأسرة في قلب عملها. يربط علماء الديمغرافيا الإيطاليون الظاهرة باتجاهٍ "بدأ في أوائل السبعينيات، عندما بدأت الإيطاليات في تأجيل إنجاب طفلهن الأول لإعطاء الأولوية لاندماجهن المهني"، فانخفض معدل الخصوبة إلى أدنى مما يكفي ليحقق المجتمع حالة الثبات السكاني. وفي المحصلة، يُتَوقَّع تقلص عدد سكان إيطاليا من 59 مليون نسمة إلى أقل من 46 مليوناً عام 2080.
وتثير الظاهرة تساؤلاتٍ بشأن ما يُطلَق عليه اسم "الضرر الذي لا يمكن إصلاحه"، ويتعلّق بنتائج استخدام حقّ الاختيار الفردي على نحوٍ يهدّد استمرار بعض المجتمعات، وقد صنعت الفردانية الجامحة إنساناً لا يكاد يعبأ إلا بـ"الإشباع الفوري"، وبالتالي، لا يريد تحمّل أعباء إنجاب أطفال وتربيتهم.
وحتى في التحربة الصينية، عندما فرض الحزب الشيوعي الصيني قسراً "سياسة الطفل الواحد" عدة عقود حدث تَغيُّر ثقافي عميق لم يفلح تغيير القانون في حلّ مشكلته، وبقي الصينيون مُحجمين عن إنجاب مزيد من الأطفال.
واليوم تقف في طابور "الشحوب الديمغرافي" قائمة دولٍ تضم، إلى جانب معظم دول أوروبا، اليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام.. وغيرها. والضرر يمكن إصلاحه فقط عندما تتغيّر القيم وتتغير معها النظرة إلى الذات والعالم. والدين في قلب ما تتأسّس عليه هذه القيم وهذه النظرة الشاملة.
*ممدوح الشيخ كاتب وباحث مصري
المصدر | العربي الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الصين إيطاليا إنجاب الرأسمالية الشعبوية جورجيا ميلوني الاتحاد السوفيتي سياسة الطفل الواحد العدمية الصفر الديني
إقرأ أيضاً:
بين إيطاليا وإسطنبول.. وداع حزين وتأبين مؤثر ليوسف ندا (شاهد)
أقامت جماعة الإخوان المسلمين مجلس عزاء وتأبين في مدينة إسطنبول التركية لمفوض العلاقات الخارجية السابق للجماعة، يوسف ندا، الذي وافته المنية الاثنين الماضي عن عمر ناهز 93 عامًا.
وحضر المجلس عدد من قيادات بارزة من الجماعة، وعدد من الشخصيات الإسلامية من مختلف الدول، إلى جانب جموع من محبيه الذين استذكروا مسيرته التي جمعت بين العمل السياسي والدعوي، فضلًا عن دوره البارز في المجال الاقتصادي.
وشهدت المراسم كلمات مؤثرة من قيادات الإخوان المسلمين والحاضرين، الذين أشادوا بحكمة ندا وحنكته السياسية التي جعلته واحدًا من أبرز قادة الجماعة.
وأكد المتحدثون أن مسيرته كانت نموذجًا للإصرار على المبادئ والالتزام بالقيم الإسلامية في كل المجالات التي خاضها، سواء في العلاقات الدولية أو النشاط الاقتصادي.
دفن في إيطاليا ومسيرة مليئة بالعطاء
ودفن يوسف ندا، الثلاثاء في إيطاليا حيث أمضى هناك معظم سنوات حياته.
وُلد في الإسكندرية عام 1931، وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين في شبابه، وبرز سريعًا كأحد الأسماء القيادية فيها، ليصبح مفوض العلاقات الخارجية للجماعة.
وشغل هذا المنصب لعقود، حيث عمل على تعزيز حضور الجماعة على الساحة الدولية، من خلال بناء علاقات وثيقة مع حكومات ومنظمات وشخصيات مؤثرة حول العالم.
في المنفى، خصوصًا في أوروبا، لعب ندا دورًا حاسمًا في تمثيل الجماعة والعمل على تحسين صورتها الدولية، خاصة في وجه الحملات التي سعت لتشويهها.
ورغم الصعوبات السياسية والقضائية التي واجهها، بما في ذلك اتهامات تتعلق بالإرهاب وتجميد أمواله، تمكن ندا من إثبات براءته في النهاية، ما عزز من مكانته كرجل مبادئ يدافع عن قناعاته بحزم.
إسهامات اقتصادية وفكرية
بعيدًا عن السياسة، لمع اسم يوسف ندا كرائد في الاقتصاد الإسلامي، حيث أسس العديد من المشاريع الاقتصادية التي ساهمت في تطوير منظومة المصرفية الإسلامية، وعُرف عنه الالتزام بقيم الشفافية والعدالة في عمله، وحرصه على تقديم نموذج اقتصادي يستند إلى المبادئ الإسلامية.
دور إقليمي
وكان ليوسف ندا دور مهم في حل النزاعات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في فترات التوتر بين الدول الكبرى في المنطقة.
وكان من أبرز محطاته دوره في الوساطة خلال أزمة الخليج الثانية في عام 1990، بعد غزو العراق للكويت، خلال تلك الفترة، سعى ندا لإيجاد حلول سلمية لتخفيف حدة التوترات بين السعودية ودول الخليج من جهة، والعراق من جهة أخرى، في محاولة للحفاظ على استقرار المنطقة.
كما كان له دور في بناء علاقات بين المملكة العربية السعودية وبعض الدول الغربية والإسلامية، حيث سعى دائمًا لتحقيق المصالحة بين الأطراف المتنازعة وتهدئة الأوضاع السياسية المتوترة في المنطقة، وكذلك دعم اليمن خلال أزمتها مع إريتريا، وأزمة الجزائر.
كان يوسف ندا أحد المدافعين عن ضرورة الحلول السلمية عبر الحوار السياسي بدلاً من المواجهات العسكرية، وكان يراهن على الدبلوماسية في تجاوز الخلافات بين الدول الكبرى في العالم العربي والإسلامي.
التنكيل وسرقة أمواله
تعرض يوسف ندا لعدة محاولات تنكيل وتشويه على مدار سنوات، بينها حملة شنها ضده الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الابن.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2001، اتهم الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الابن، يوسف ندا بضلوع شركاته في دعم الإرهاب وتمويل هجمات 11 سبتمبر، ونتيجة لهذه الاتهامات، جمدت الولايات المتحدة أموال ندا وفرضت عليه إقامة جبرية، حيث خضع لتحقيقات من قبل جهات استخباراتية متعددة. ورغم هذه الضغوط، ثبتت براءته في النهاية من هذه التهم.
في عام 2008، أحالت السلطات المصرية يوسف ندا إلى المحاكمة العسكرية بتهمة "تمويل الإرهاب"، وحُكم عليه غيابيًا بالسجن لمدة 10 سنوات.
لكن في تموز/ يوليو 2012، صدر قرار بالعفو عنه بعد تولي جماعة الإخوان المسلمين السلطة في مصر.
ورغم تبرئته من التهم الموجهة إليه، إلا أن هذه المحاكمات كانت جزءًا من حملات إعلامية وسياسية تهدف إلى تشويه سمعته وتقويض مكانته في المجتمع الدولي.
تعرض يوسف ندا لعدة محاولات لسرقة أمواله وممتلكاته، حيث تم تجميد أصوله المالية في العديد من الدول، مما أثر بشكل كبير على استثماراته ومشاريعه الاقتصادية، هذه الإجراءات كانت جزءًا من محاولات الضغط عليه لتقويض دوره في دعم قضايا الشرق الأوسط والإسلام، ورغم هذه التحديات، ظل يوسف ندا ثابتًا في مواقفه، وواصل دعمه لقضايا الشرق الأوسط والإسلام، مما جعله أحد الأسماء البارزة في الدبلوماسية على الصعيدين الإقليمي والدولي.