د. سعيد بن سليمان العيسائي **
وقبل الانتقال لزيارة بورنموث، أودُ أن أشير إلى بعض الأمور والأشياء التي لم أستطع القيام بها، نظرًا لضيق وقت الزيارة، آملًا أن أقوم بها في المرة المقبلة بإذن الله. ومن هذه الأمور أنني لم أتمكن من زيارة أكاديمية "ساندهيرست" العسكرية وجامعة "كمبردج" العريقة، وبعض الجامعات العريقة الأخرى، كما إنني لم أتمكن من زيارة بعض الصحف ودور النشر البريطانية.
وكان لهيئة الإذاعة البريطانية "القسم العربي" تأثير في نفسي منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، فقد كنت من المحبين لسماع هذه المحطة. وأذكر ما كان يُردده بعض مذيعيها "القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية"، والرسائل كانت تُرسل على العنوان التالي: "BBC Arabic Service London Bush House". وأخبرني أستاذنا الشيخ: سالم بن ناصر المسكري، أنَّ مبنى "Bush House" ما زال موجودًا، ولكنه تحوَّلَ إلى كلية الملك "King’s College".
ومن الأمور التي لم أستطع القيام بها كذلك، ركوب تاكسي لندن الشهير، الذي يوجد شبيه له في ليموزين مطار القاهرة تقريبًا، ولم نتمكن من القيام بجولة سياحية في باص "أوتوبيس لندن السياحي"، والقيام بجولة بالقارب في نهر التايمز.
حجزنا القطار إلى "بورنموث" من محطة "واترلو Waterloo"، وهي إحدى أكبر محطات القطارات التي تتحرك إلى مُعظم المدن والمقاطعات البريطانية، ولعل البريطانيين سمّوا هذه المحطة بهذا الاسم، تخليدًا للمعركة الفاصلة التي وقعت في 18 يونيو عام 1815 في قرية "واترلو" قرب بروكسل عاصمة بلجيكا، وهي آخر معارك الإمبراطور الفرنسي: "نابليون بونابرت"، وهُزم فيها هزيمة كبيرة. ومن المعارك التي انهزم فيها الفرنسيون بقيادة نابليون بونابرت معركة "أبي قير البحرية" التي وقعت في 2 أغسطس 1798، وسماها الإنجليز "معركة النيل". ومن الصراعات التجارية بين بريطانيا وفرنسا، التنافس بين شركة الهند الشرقية البريطانية، وشركة الهند الشرقية الفرنسية، الذي انتهى باستحواذ شركة الهند الشرقية البريطانية على جزر الهند الشرقية.
أودُّ هنا أن أشير إلى أننا قبل التوجه إلى بورنموث، قررنا زيارة أكسفورد وجامعتها العريقة ذات الصيت لمدة يوم واحد من الصباح إلى المساء. تحركنا صباحًا من لندن متجهين إلى أكسفورد، لأنها أقرب من كامبردج بحيث تكفيها زيارة يوم كامل بالقطار ووصلناها في وقت مبكر قبل الظهر. أول ما استرعى انتباهي هو موقف الدراجات الهوائية القريب من محطة القطار التي خُصصت لها ساحة تتسع للمئات من هذه الدراجات، ولست أدري هل هي لطلاب الجامعة، أو لعاملين في مؤسسات هذه المدينة؟ توجهنا في الباص السياحي ذي الطابقين المخُصص للجولة السياحية لمدة ساعة مع سماعات أذن بعدة لغات، تشرح لنا فيها المتحدثة معالم المدينة، وكليات الجامعة عند التوقف قربها، أو المرور عليها.
ولابد أن أذكر الأسباب التي حدت بي لزيارة أكسفورد وجامعتها العريقة:
أولها: سُمعة الجامعة وصيتها كنموذج للجامعات البريطانية العريقة. وثاني هذه الأسباب هي رغبتي في زيارة مدينة في الريف البريطاني خارج لندن للاطلاع على الطبيعة والتضاريس المختلفة. أما ثالث هذه الأسباب، فهو أنني قرأت كتابًا ترجمه وطبعه المجمع الثقافي بأبوظبي بعنوان: "جراح أكسفورد"، أو "قصة قاموس أكسفورد"، وهو من أجمل ما قرأت، تحكي قصة جراح أيرلندي، اتُهِمَ في الحرب الأهلية في أيرلندا، وحُكِمَ عليه بالسجن، وكان يبعث بقصاصات إلى رئيس قاموس أكسفورد طوال سنوات إعداد القاموس، ولم يكن رئيس القاموس، أو الأعضاء يعلمون أنَّ هذه الجذاذات أو القصاصات التي تأتيهم بشكل دائم، وعليها ملاحظات قيمة هي من سجين إلا بعد سنوات طويلة.
ولقد مررنا على صندوق البريد الخاص بأول رئيس لقاموس أكسفورد، لعله هو الصندوق الذي يتقبل أو يستلم رسائل ذلك الطبيب السجين.
وهنا نودُّ الإشارة إلى أنه لا تذكر أكسفورد إلا وتذكر جامعتها وقاموسها الشهير قاموس أكسفورد "Oxford English Dictionary"، ومما قرأته في هذا الكتاب المترجم أنَّ اللغة الإنجليزية كانت في وقت مضى هي لغة العامة من الناس، أما لغة الطبقة العليا، وطبقة النبلاء والمتعلمين، وكبار رجالات الدولة، فقد كانت اللغة الفرنسية.
وطالما نحن في الحديث عن اللغة الإنجليزية، فإنَّ هناك مصطلحًا اسمه "إنجليزية الملكة Queen's English"، وتُسمى غالبًا بـ"إنجليزية بِي. بِي. سِي BBC English".
مَرَّ بنا الباص السياحي على مُعظم الأماكن السياحية في أكسفورد، بخاصة الأماكن القريبة من كليات الجامعة كالكنائس والكاتدرائيات، وبعض المحلات التجارية، والمتجر الذي تسوقت منه "أليس" في فيلم "أليس في بلاد العجائب" وفيلم "لورد أوف ذ رنج (Lord of The Ring)"، توقفنا عند مكتبة جامعة أكسفورد التي تسمى "تحفة العصور الوسطى"، أو كما تُسمى "مكتبة بُودلي"، أو "مكتبة السير توماس بودلي" التي تمَّ افتتاحها للعلماء عام 1602، وهذه المكتبة هي أحد أقدم المكتبات في أوروبا، وثاني أكبر مكتبة في بريطانيا بعد مكتبة لندن، وتُنسب هذه المكتبة إلى "السير بودلي" الذي تبرع بهذه المكتبة، ومساحة هذه المكتبة 117 ميلًا، أي ما يعادل 160 كم مربعًا، وفي العام 1912، وبموجب قانون حقوق الطبع أصبحت مكتبة "بودلي" مركزًا قانونيًا لإيداع الكتب التي تصدر في المملكة المتحدة، يُشار إلى أن استخراج أي كتاب من هذه المكتبة يستغرق 6 ساعات من وقت الطلب. وخلال الجولة ذكرت المترجمة أن أحد المحسنين الذين قدموا تبرعات لجامعة أكسفورد هو "موريس" صاحب سيارات "موريس" البريطانية القديمة، التي تأسست عام 1919 في أكسفورد، واسترعى انتباهي كلمة المُحسن في الترجمة للإشارة إلى "موريس"، وليس المُتبرع، يقال: إنه قدَّمَ للجامعة، ولبعض الجمعيات المدنية في تلك الفترة أكثر من 30 مليون جنيه استرليني.
نشير هنا إلى أَنَّ العديد من الجامعات والمكتبات الشهيرة في بريطانيا، كانت مِنحًا وتبرعات، أو هبات من رجال أعمال أو محسنين، أو من خريجي هذه الجامعات من رؤساء، ووزراء، أو وزراء ورجال أعمال، ومن الرؤساء الذين تبرعوا لجامعة أكسفورد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون.
ويمكن القول إنَّ مُعظم الجامعات العريقة في بريطانيا هي من أفضل الجامعات في بريطانيا والعالم، ويقال لها "Red Bricks Universities"، أي جامعات الطوب الأحمر.
وما يميز جامعة أكسفورد وغيرها من الجامعات البريطانية العريقة هو التعليم الفردي "Toturial"، أو تفريد التعليم كما يسمى في بعض الأحيان، والمقصود به أن يلتقي الطالب بأستاذ مُعين، أو لجنة من الأساتذة فيعرض عليهم ما كتبه في بحثه من خلال بحث واستقصاء ودراسة، ثم يأخذ من أساتذته، أو اللجنة الملاحظات التي سجلوها على بحثه، أو أطروحته ليقوم بتعديلها، وهذا يعني أَنَّ الطالب يخضع لتقييم دائم ومستمر من خلال الأساتذة، وهذا يُذكرنا بنظام الحلقات، أو الشيخ المتخصص في مادة مُعينة في نظام التعليمي الديني عند المسلمين، الذي كتبت عنه بحثًا في ندوة قدمتها بجامعة السلطان قابوس.
ومن طريف ما سمعناه في الترجمة الموجودة، في الباص السياحي، أنَّه لم تكن هناك معايير تقييم لطلبة الدراسات العليا في كلية الإلهيات بجامعة أكسفورد، والتي هي من أوائل الكليات التي افتتحت في الجامعة، فكان يلجأ الأساتذة الى نوع من الأسئلة التي فيها شيء من التعجيز والتحدي، كأن يسأل الأستاذ الطالب: كم عدد الملائكة الذين يرفضون على رأس الإبرة. ومن طريف ما سمعناه أيضًا، أَنَّ اليهود منعوا من دخول بريطانيا في فترة من الفترات، لأنهم كانوا يتعاملون بالربا، والكتاب المقدس "الإنجيل" يُحرمُ هذا النوع من التعاملات التجارية. كما أنَّ أساتذة جامعة أكسفورد الذين كانوا يسكنون في مساكن الأساتذة، كانوا يمنعون من الزواج كشرط للسكن والتعيين في الجامعة، حتى لا ينشغلوا عن البحث والعلم بأمور دنيوية وحياتية أخرى. ومما ذُكِرَ أيضًا أنه يُوجد اختلاف في تاريخ إنشاء كل كلية، فمنهم من يُحدده بتاريخ جمع التبرعات، ومنهم من يُحدده بتاريخ إنشاء الكلية.
تحركنا بعد رجوعنا من أكسفورد في اليوم التالي من محطة "واترلو" إلى "بورنموث" للقاء أستاذنا الشيخ: سالم بن ناصر المسكري، والولد مؤيد، الذي يدرس اللغة الانجليزية في أحد معاهدها.
وأول ملاحظة لاحظناها ونحن في القطار، رأينا فتاتين تلبسان القبعة المائلة الشهيرة الشبيهة بقبعات النساء المائلة التي تراها في أفلام الأبيض والأسود الأمريكية والبريطانية القديمة، وكان برفقة هاتين الفتاتين مجموعة من الرجال يلبسون القمصان الطويلة المنفوخة من الخلف، كالتي تراها في العروض المسرحية والبهلوانية، وخُيِّلّ إلينا، أو توقعنا أَنَّ هذه المجموعة من الرجال والنساء جاءوا من عرض فني، أو هم ذاهبون لتقديم عرض فني في إحدى المدن التي سيمر عليها القطار قبل وصوله إلى "بورنموث".
سألنا أستاذنا الشيخ: سالم بن ناصر المسكري، الخبير بتاريخ بريطانيا وأحوالها، فقال: إِنَّ هذه القبعات "Hats" هي في العادة للنساء اللائي يحملن لقب سيدة "Lady"، ويَكُنَّ عادة من عِلْيَةِ القومِ، ويلبسنَ هذه القبعات لحضور سباق الخيول الملكي السنوي الذي يقال له "Royal Ascoti"، وتوجه الدعوات للحضور من الملكة أو الملك في بريطانيا، والواضح أَنَّ هذا السباق تظهر فيه أنواع وأشكال مختلفة من الطبقات النسائية كما قرأنا عن ذلك.
وأرسل لي الولد محمد حِسابًا على "انستقرام" مُتخصص في إجراء مقابلات مع عدد من المدعوين لحضور سباق "Royal Ascot"، فأجرى مقابلة مع طفل يرتدي الملابس البريطانية التقليدية التي اعتاد البريطانيون الكبار لبسها في مثل هذه المناسبات.
** كاتب وأكاديمي
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
لجنة بيل البريطانية.. اللبنة الأولى في مشروع تقسيم فلسطين
لجنة تحقيق شكلتها بريطانيا بعد الثورة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت عام 1936، وبدأت بإضراب عام استمر عدة شهور. سميت رسميا "اللجنة الملكية لفلسطين"، وتسمى كذلك "لجنة بيل" نسبة لرئيسها إيرل بيل، وهو عضو المجلس الخاص للمملكة المتحدة، ووزير الدولة البريطاني لشؤون الهند سابقا.
بعد أشهر من التحقيق والاستماع إلى شهادات فلسطينيين ويهود، أصدرت اللجنة تقريرا من مئات الصفحات خلصت فيه إلى أن أفضل اقتراح لحل القضية الفلسطينية هو إنهاء الانتداب البريطاني وتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وفلسطينية.
اندلاع الثورةبين عامي 1936 و1939 تحرك الفلسطينيون وحملوا السلاح بوجه الاحتلال البريطاني مطالبين بالاستقلال وإنهاء سياسة الانتداب واستقطاب اليهود وتوطينهم وبيع الأراضي.
وفي تلك الفترة اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى التي خلفت آلاف الشهداء والجرحى، وشهدت فلسطين الإضراب الكبير الذي استمر نحو 6 أشهر وشل العديد من القطاعات، وقد استخدم الجيش البريطاني أساليب وحشية لسحق الثورة، منها الاعتقال الجماعي وهدم المنازل والإعدامات.
كبدت الثورة البريطانيين خسائر فادحة، فشكلوا ما عرفت بـ"اللجنة الملكية لفلسطين" لدراسة أسباب الثورة، واعتبرها كثيرون محاولة لامتصاص غضب الثوار وتهدئة الأوضاع، وتلميع صورة بريطانيا.
أوصت اللجنة في تقريرها المقدم إلى الحكومة البريطانية في 7 يوليو/تموز 1937 بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وضمنته مطالب الشعب الفلسطيني وقلقه من نوايا اليهود إنشاء وطن قومي في فلسطين بمساعدة الحكومة البريطانية.
إعلانودعت اللجنة أيضا إلى ضرورة تعويض نظام الانتداب بنظام المعاهدات الذي اتبعته بريطانيا في العراق، وفرنسا في سوريا، وأيدت الحكومة البريطانية بشدة التوصية بشأن تقسيم فلسطين، ورأت أنه الحل الأمثل للقضية الفلسطينية.
مع تعدد الثورات الفلسطينية ضد الاحتلال البريطاني وأعمال العنف التي مارستها المنظمات الصهيونية، تعددت اللجان التي شكلتها بريطانيا لدراسة إجراءات حكومتها في فلسطين وتقديم توصيات، ومنها لجنة هايكرافت عام 1921م ولجنة شو عام 1929م ولجنة جون هوب عام 1930م ولجنة لويس فرنش عام 1931م ولجنة بيل عام 1936م، ثم لجنة وودهيد عام 1938م.
بدأت الثورة الفلسطينية عام 1936م بإعلان الإضراب الشامل في 20 أبريل/نيسان، وتأسست أثناءها اللجنة العربية العليا التي ضمت جميع الأحزاب الفلسطينية في ذلك الوقت، وكان يرأسها الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين.
دعت الثورة إلى استمرار الإضراب حتى تحقيق ثلاثة مطالب هي: وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين ومنع انتقال أراضي الفلسطينيين إلى اليهود وتشكيل حكومة وطنية.
استمر الإضراب 178 يوما، وأصبح أطول إضراب عام في التاريخ، واستمر معه العصيان المدني وأشكال أخرى مختلفة من النضال، حتى لجأت بريطانيا إلى الحكام العرب للتوسط وإقناع الشعب الفلسطيني بوقف الثورة.
فقد وجه العاهل السعودي الملك عبد العزيز آل سعود -نيابة عن الحكام العرب- برقية إلى اللجنة العربية العليا في أكتوبر/تشرين الأول 1936م يدعوهم فيها إلى "الإخلاد للسكينة حقنا للدماء، واعتمادا على حسن نوايا الصديقة بريطانيا ورغبتها المعلنة في تحقيق العدل".
واستجابت القيادة الفلسطينية وتوقف الإضراب، وفي هذا السياق أعلنت بريطانيا تشكيل "لجنة بيل" للتحقيق في أسباب وأحداث الثورة العربية الكبرى.
إعلان
اجتماعات لجنة بيل
بعد توقف الثورة شكلت بريطانيا لجنة بيل -التي تعرف رسميا باسم "اللجنة الملكية لفلسطين"-، وكانت لجنة تحقيق ملكية رفيعة المستوى، وخلصت إلى اقتراح تغييرات على "الانتداب البريطاني على فلسطين"، وكان يرأسها إيرل بيل، وهو عضو المجلس الخاص للمملكة المتحدة، ووزير الدولة البريطاني لشؤون الهند سابقا.
عينت الحكومة البريطانية لجنة بيل في شهر أغسطس/آب 1936م ومنحتها صلاحيات عديدة منها: التثبت من الأسباب الأساسية للثورة، والتحقيق في كيفية تنفيذ صك الانتداب على فلسطين، والنظر في مدى التزام ممثلي الدولة البريطانية نحو العرب ونحو اليهود.
ووصلت اللجنة إلى فلسطين في الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1936م، في فترة ساد فيها بعض الهدوء، واستمر عملها ستة أشهر عقدت أثناءها 46 اجتماعا، منها 31 اجتماعا علنيا، واستمعت إلى أربعين شاهدا يهوديا، أما الفلسطينيون فقد قاطعوا أعمالها في بداية الأمر بسبب عدم وقف الهجرة اليهودية إلى الأراضي الفلسطينية.
ثم تغير الموقف بعدما أقنع كل من ملك الأردن عبد الله الأول وملك السعودية عبد العزيز آل سعود ورئيس وزراء العراق نوري السعيد اللجنة العربية بالإدلاء بشهادتها، وقد أدلى بشهادات علنية أمام اللجنة كل من مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني ومحمد عزة دروزة وعوني عبد الهادي وجمال الحسيني، إضافة إلى 24 شاهدا.
وبذل القادة الفلسطينيون كل ما في وسعهم لتقديم حجج مفصلة ودقيقة في سبيل إثبات حقوقهم، وفي الوقت نفسه أعربوا عن قلة ثقتهم بالتزام بريطانيا بـ"المعاملة العادلة".
عادت لجنة بيل إلى بريطانيا بعد أن قضت شهرين في فلسطين، ولم يصدر تقريرها إلا في يوليو/تموز 1937م، أي بعد نحو 6 أشهر من مغادرتها فلسطين.
واستمعت اللجنة إلى مئات الإفادات والشهادات في جلسات علنية وأخرى مغلقة سرية، ومنها شهادة زعيم الحركة الصهيونية في ذلك الوقت حاييم وايزمان.
إعلانولم يشارك الفلسطينيون في الجلسات السرية، رغم أن اللجنة سمحت لهم بطلب ذلك، لكن القيادة الفلسطينية خشيت أن يُنظر إليها على أنها تتفاوض مع البريطانيين خلف الأبواب المغلقة.
شكلت الجلسات السرية الإطار الذي جرت فيه مناقشة وإعداد تفصيلات التقسيم، وكان ريغنالد كوبلاند، العضو الأكاديمي في اللجنة، من أشد مؤيدي الفكرة، وقد عمل بشكل وثيق مع المسؤولين البريطانيين المقيمين في فلسطين، بمن فيهم دوغلاس هاريس مستشار حكومة الانتداب في شؤون الرأي، ولويس أندروز حاكم لواء الجليل (اغتيل في أيلول/سبتمبر 1937م)، من أجل الدفع بفكرة تضمين التقرير النهائي للجنة توصية بالتقسيم باعتباره الحل الوحيد الكفيل بحل الصراع بين العرب واليهود في فلسطين.
أعضاء لجنة بيلإضافة إلى رئيسها إيرل بيل، كان من بين أعضاء اللجنة الآخرين لوري هاموند، الذي كان في أواخر العشرينيات من القرن العشرين حاكم ولاية آسام، وهي إحدى الولايات الواقعة في الجزء الشمالي الشرقي من الهند، وكان رئيس لجنة ترسيم الحدود الهندية في سنتي 1935 و1936م.
وكان ضمن اللجنة العضو الأكاديمي ريغنالد كوبلاند، وهو أستاذ التاريخ الاستعماري في جامعة أكسفورد، كما كان خبيرا بالشؤون الأفريقية، ومحررا في مجلة "الطاولة المستديرة" في الفترة بين 1917 و1919م.
كما كان من أعضاء اللجنة أيضا موريس كارتر، الذي شغل في أوائل العشرينيات من القرن العشرين منصب حاكم إقليم تنجانيقا شرق أفريقيا، الذي أصبح يعرف فيما بعد بجمهورية تنزانيا الاتحادية، كما كان رئيس لجنة أراضي كينيا سنتي 1932 و1933م.
أما الخبير القانوني للجنة فكان هارولد موريس، وكان يشغل حينئذ منصب رئيس المحكمة الصناعية في لندن، في حين كان خبير شؤون الشرق الأوسط هوراس رامبولد كذلك عضوا في اللجنة، وهو دبلوماسي سابق عمل في القاهرة وطهران.
إعلانوأقام أعضاء اللجنة في فندق الملك داود، لكنهم استمعوا إلى معظم الشهادات في مبنى حكومي بريطاني كان في الأساس فندق بالاس في شارع أغرون بحي مأمن الله (حي ماميلا بالعبرية) بالقدس الغربية.
تقرير لجنة بيلوفي يوليو/تموز 1937م، قدمت اللجنة تقريرها الذي جاء في أكثر من 400 صفحة وأرجع انتفاضة المواطنين الفلسطينيين إلى رغبتهم في الاستقلال القومي وإلى مخاوفهم من إقامة الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين.
وتحدث التقرير عن استمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين واستيلاء المستوطنين على الأراضي العربية، فضلا عن عدم تكافؤ الفرص بين الفلسطينيين واليهود في عرض قضيتهم أمام الحكومة والبرلمان في بريطانيا، مما جعل الجانب العربي يشكك في قدرة ورغبة الحكومة البريطانية في تنفيذ وعودها.
وخلصت اللجنة إلى أن استمرار الانتداب البريطاني على فلسطين يعني مزيدا من التذمر إلى أجل غير مسمى، وقالت إن الانتداب هو الذي بث العداء بين الفلسطينيين واليهود نظرا لتناقض الالتزامات الواردة في صكه، بشكل يستحيل معه تحقيق المطلب الرئيسي لكل طرف دون الإخلال بالالتزام تجاه الطرف الآخر.
ولهذا أوصت اللجنة بأن تتخذ الحكومة البريطانية الخطوات اللازمة لإنهاء الانتداب وتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية مع بقاء القدس وبيت لحم والناصرة تحت الانتداب البريطاني.
وكانت تلك هي المرة الأولى التي ترد فيها فكرة التقسيم، وكانت مقدمة لسلسة مستمرة من مشاريع التسوية التي دعمتها الدول الكبرى، والتي ركزت على تأسيس دولة يهودية في فلسطين، وتوفير أسباب البقاء لها، دون اعتبار للأغلبية العربية.
كما أوصى التقرير بترحيل أكثر من 200 ألف فلسطيني من منازلهم لفسح المجال أمام قيام الدولة اليهودية الجديدة.
وخلص تقرير اللجنة الملكية البريطانية حول فلسطين كذلك إلى أن بنود الانتداب غير عملية وأنه لا يمكن فرضها إلا بقمع السكان العرب، واقترحت بعض التعديلات لتهدئة خواطر الطرفين، فأوصت بتقسيم البلاد إلى ثلاثة أقاليم (كانتونات)، واقترحت منح اليهود أجزاء يحكمونها ذاتيا في الجليل والجزء الأكبر من السواحل الغربية، وإقليما تحتفظ به الإدارة البريطانية يضم القدس وبيت لحم وصولا إلى يافا على البحر الأبيض المتوسط، على أن يتم توحيد القسم الباقي مع شرق الأردن ويكونان دولة عربية.
إعلانفي 7 يوليو/تموز 1937م نشر التقرير النهائي للجنة وجاءت التوصية بالتقسيم بصورة موجزة في آخره مرفقة بخريطة، وقد تمت استشارة الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية بشأن الحدود المرسومة في الخريطة قبل إصدار التقرير، الأمر الذي مكنهما من إقناع البريطانيين بإدراج مناطق محددة ذات أهمية كبيرة ضمن حدود الدولة اليهودية، شملت جميع مناطق الجليل والسهل الساحلي الغربي.
وحددت اللجنة بدقة مساحة المنطقة المخصصة لليهود وتلك التي ستبقى تحت الانتداب، بينما تركت الباقي المخصص للعرب دون تحديد بما يشمل القسم الأكبر من فلسطين مع شرق الأردن.
واعترفت اللجنة أيضا بأن توصياتها لا تكفي لمواجهة أسباب الثورة، فدعت إلى عدم التردد في فرض الحكم العسكري وانتهاج أسلوب العنف في حال تجددها.
ردود الفعل بعد إصدار تقرير اللجنة
وتباينت ردود الفعل تجاه تقرير لجنة بيل، ففي حين رأت الحكومة البريطانية أن مشروع التقسيم هو أفضل حل للمشكلة، أعرب الفلسطينيون عن رفضهم تقسيم فلسطين أو التنازل عن أي جزء منها، وذلك في مؤتمر بلودان في سبتمبر/أيلول 1937م.
أما الحركة الصهيونية، فقد أجمع ممثلوها في المؤتمر الصهيوني العشرين على رفض انتقادات لجنة بيل لنظام الانتداب، ولكنهم اختلفوا فيما بينهم بشأن موضوع التقسيم وطالبوا بمزيد من الضمانات للدولة اليهودية.
ونددت اللجنة العربية بتقرير بيل وبخطة التقسيم، وأصرت على الاحتفاظ بفلسطين دولة موحدة، وفي سبتمبر/أيلول 1937م عقد مؤتمر في بلودان بسوريا حضره 400 مندوب، وقرر المؤتمر أن فلسطين جزء من الوطن العربي ولا يمكن التنازل عن أي جزء منها، وخيّر بريطانيا بين صداقة العرب أو صداقة اليهود.
لم تنفذ توصيات تقرير بيل في ذلك الحين، لكن لجنة وودهيد، التي زارت فلسطين سنة 1938م، درست لوجستيات التقسيم عن كثب، وقررت أنه غير قابل للتنفيذ.
إعلانأما قيادات الحركة الصهيونية، فقد رأت في تقرير بيل دليلا واضحا على استعداد البريطانيين (على المستوى الرسمي) لدعم مبدأ الدولة اليهودية في فلسطين.
وقد استخدمت فيما بعد خريطة التقسيم المدرجة في تقرير بيل أساسا لخريطة التقسيم التي وافقت عليها الأمم المتحدة سنة 1947م.
وعلى الرغم من أن الأمر استغرق عشر سنوات إضافية لتقسيم فلسطين، بعد حرب عام 1948م، والتطهير العرقي الذي راح ضحيته 750 ألف فلسطيني، فإنه يمكن اعتبار توصيات لجنة بيل نقطة تحول وبداية فكرة تقسيم فلسطين.
المرحلة الثانية من الثورةفي البداية لجأت بريطانيا إلى أشد أنواع العنف لقمع المرحلة الثانية من الثورة، التي استأنفها الفلسطينيون بعد أن ثبتت مخاوفهم بشأن السياسة الاستعمارية البريطانية، ولكنها اضطرت تحت تأثير الضغط الثوري الذي امتد من سبتمبر/أيلول 1936 إلى الشهر نفسه من 1939م، إلى التخلي عن مشروع بيل للتقسيم، وخاصة بعد صدور قرار لجنة وودهيد، الذي أعلن عدم إمكانية تطبيق اقتراح اللجنة الملكية حول التقسيم، وطالب بإلغائه.
بعد أن تأكدت الحكومة البريطانية أن فكرة التقسيم غير عملية لما خلفه القرار من مصاعب إدارية وسياسية ومالية، قررت عقد مؤتمر دعت إليه ممثلي الوكالة اليهودية وممثلي الفلسطينيين والدول العربية المجاورة، بهدف التباحث حول "سياسة المستقبل"، وضمنها موضوعات الهجرة إلى فلسطين، وأعلنت أنه "إذا لم تتوصل الأطراف إلى اتفاق في فترة معقولة فإن الحكومة البريطانية ستتخذ قرارها الخاص".
وقد درست لجنة الانتدابات التابعة لعصبة الأمم تقرير اللجنة، ورغم اعترافها بمساوئ الانتداب، إلا أنها اعتبرت قيام دولتين مستقلتين عملا غير حكيم قبل مضي فترة أخرى من إدارة الانتداب.
وأوصت "في حالة قبول مشروع التقسيم" ببقاء الدولتين العربية واليهودية تحت نظام الانتداب في مرحلة انتقالية إلى أن تبرهن كل منهما على أحقيتها بالاستقلال.
إعلانوفي سبتمبر/أيلول 1937م، اتخذ مجلس عصبة الأمم قرارا بتفويض بريطانيا بوضع خطة مفصلة لتقسيم فلسطين، وأجل بحث جوهر الموضوع إلى حين تقديم هذه الخطة.
ويمكن القول بوجه عام بأن تقرير لجنة بيل كان محاولة بارعة لحل مأزق السياسة البريطانية الاستعمارية في المنطقة، فهو حقق للحركة الصهيونية مطلبها الأساسي في تأسيس "وطن قومي لليهود"، وحاول في الوقت نفسه امتصاص الغضب العربي عن طريق منح الفلسطينيين استقلالا شكليا يضمن استمرار السيطرة الاستعمارية البريطانية.