د. سعيد بن سليمان العيسائي **
وقبل الانتقال لزيارة بورنموث، أودُ أن أشير إلى بعض الأمور والأشياء التي لم أستطع القيام بها، نظرًا لضيق وقت الزيارة، آملًا أن أقوم بها في المرة المقبلة بإذن الله. ومن هذه الأمور أنني لم أتمكن من زيارة أكاديمية "ساندهيرست" العسكرية وجامعة "كمبردج" العريقة، وبعض الجامعات العريقة الأخرى، كما إنني لم أتمكن من زيارة بعض الصحف ودور النشر البريطانية.
وكان لهيئة الإذاعة البريطانية "القسم العربي" تأثير في نفسي منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، فقد كنت من المحبين لسماع هذه المحطة. وأذكر ما كان يُردده بعض مذيعيها "القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية"، والرسائل كانت تُرسل على العنوان التالي: "BBC Arabic Service London Bush House". وأخبرني أستاذنا الشيخ: سالم بن ناصر المسكري، أنَّ مبنى "Bush House" ما زال موجودًا، ولكنه تحوَّلَ إلى كلية الملك "King’s College".
ومن الأمور التي لم أستطع القيام بها كذلك، ركوب تاكسي لندن الشهير، الذي يوجد شبيه له في ليموزين مطار القاهرة تقريبًا، ولم نتمكن من القيام بجولة سياحية في باص "أوتوبيس لندن السياحي"، والقيام بجولة بالقارب في نهر التايمز.
حجزنا القطار إلى "بورنموث" من محطة "واترلو Waterloo"، وهي إحدى أكبر محطات القطارات التي تتحرك إلى مُعظم المدن والمقاطعات البريطانية، ولعل البريطانيين سمّوا هذه المحطة بهذا الاسم، تخليدًا للمعركة الفاصلة التي وقعت في 18 يونيو عام 1815 في قرية "واترلو" قرب بروكسل عاصمة بلجيكا، وهي آخر معارك الإمبراطور الفرنسي: "نابليون بونابرت"، وهُزم فيها هزيمة كبيرة. ومن المعارك التي انهزم فيها الفرنسيون بقيادة نابليون بونابرت معركة "أبي قير البحرية" التي وقعت في 2 أغسطس 1798، وسماها الإنجليز "معركة النيل". ومن الصراعات التجارية بين بريطانيا وفرنسا، التنافس بين شركة الهند الشرقية البريطانية، وشركة الهند الشرقية الفرنسية، الذي انتهى باستحواذ شركة الهند الشرقية البريطانية على جزر الهند الشرقية.
أودُّ هنا أن أشير إلى أننا قبل التوجه إلى بورنموث، قررنا زيارة أكسفورد وجامعتها العريقة ذات الصيت لمدة يوم واحد من الصباح إلى المساء. تحركنا صباحًا من لندن متجهين إلى أكسفورد، لأنها أقرب من كامبردج بحيث تكفيها زيارة يوم كامل بالقطار ووصلناها في وقت مبكر قبل الظهر. أول ما استرعى انتباهي هو موقف الدراجات الهوائية القريب من محطة القطار التي خُصصت لها ساحة تتسع للمئات من هذه الدراجات، ولست أدري هل هي لطلاب الجامعة، أو لعاملين في مؤسسات هذه المدينة؟ توجهنا في الباص السياحي ذي الطابقين المخُصص للجولة السياحية لمدة ساعة مع سماعات أذن بعدة لغات، تشرح لنا فيها المتحدثة معالم المدينة، وكليات الجامعة عند التوقف قربها، أو المرور عليها.
ولابد أن أذكر الأسباب التي حدت بي لزيارة أكسفورد وجامعتها العريقة:
أولها: سُمعة الجامعة وصيتها كنموذج للجامعات البريطانية العريقة. وثاني هذه الأسباب هي رغبتي في زيارة مدينة في الريف البريطاني خارج لندن للاطلاع على الطبيعة والتضاريس المختلفة. أما ثالث هذه الأسباب، فهو أنني قرأت كتابًا ترجمه وطبعه المجمع الثقافي بأبوظبي بعنوان: "جراح أكسفورد"، أو "قصة قاموس أكسفورد"، وهو من أجمل ما قرأت، تحكي قصة جراح أيرلندي، اتُهِمَ في الحرب الأهلية في أيرلندا، وحُكِمَ عليه بالسجن، وكان يبعث بقصاصات إلى رئيس قاموس أكسفورد طوال سنوات إعداد القاموس، ولم يكن رئيس القاموس، أو الأعضاء يعلمون أنَّ هذه الجذاذات أو القصاصات التي تأتيهم بشكل دائم، وعليها ملاحظات قيمة هي من سجين إلا بعد سنوات طويلة.
ولقد مررنا على صندوق البريد الخاص بأول رئيس لقاموس أكسفورد، لعله هو الصندوق الذي يتقبل أو يستلم رسائل ذلك الطبيب السجين.
وهنا نودُّ الإشارة إلى أنه لا تذكر أكسفورد إلا وتذكر جامعتها وقاموسها الشهير قاموس أكسفورد "Oxford English Dictionary"، ومما قرأته في هذا الكتاب المترجم أنَّ اللغة الإنجليزية كانت في وقت مضى هي لغة العامة من الناس، أما لغة الطبقة العليا، وطبقة النبلاء والمتعلمين، وكبار رجالات الدولة، فقد كانت اللغة الفرنسية.
وطالما نحن في الحديث عن اللغة الإنجليزية، فإنَّ هناك مصطلحًا اسمه "إنجليزية الملكة Queen's English"، وتُسمى غالبًا بـ"إنجليزية بِي. بِي. سِي BBC English".
مَرَّ بنا الباص السياحي على مُعظم الأماكن السياحية في أكسفورد، بخاصة الأماكن القريبة من كليات الجامعة كالكنائس والكاتدرائيات، وبعض المحلات التجارية، والمتجر الذي تسوقت منه "أليس" في فيلم "أليس في بلاد العجائب" وفيلم "لورد أوف ذ رنج (Lord of The Ring)"، توقفنا عند مكتبة جامعة أكسفورد التي تسمى "تحفة العصور الوسطى"، أو كما تُسمى "مكتبة بُودلي"، أو "مكتبة السير توماس بودلي" التي تمَّ افتتاحها للعلماء عام 1602، وهذه المكتبة هي أحد أقدم المكتبات في أوروبا، وثاني أكبر مكتبة في بريطانيا بعد مكتبة لندن، وتُنسب هذه المكتبة إلى "السير بودلي" الذي تبرع بهذه المكتبة، ومساحة هذه المكتبة 117 ميلًا، أي ما يعادل 160 كم مربعًا، وفي العام 1912، وبموجب قانون حقوق الطبع أصبحت مكتبة "بودلي" مركزًا قانونيًا لإيداع الكتب التي تصدر في المملكة المتحدة، يُشار إلى أن استخراج أي كتاب من هذه المكتبة يستغرق 6 ساعات من وقت الطلب. وخلال الجولة ذكرت المترجمة أن أحد المحسنين الذين قدموا تبرعات لجامعة أكسفورد هو "موريس" صاحب سيارات "موريس" البريطانية القديمة، التي تأسست عام 1919 في أكسفورد، واسترعى انتباهي كلمة المُحسن في الترجمة للإشارة إلى "موريس"، وليس المُتبرع، يقال: إنه قدَّمَ للجامعة، ولبعض الجمعيات المدنية في تلك الفترة أكثر من 30 مليون جنيه استرليني.
نشير هنا إلى أَنَّ العديد من الجامعات والمكتبات الشهيرة في بريطانيا، كانت مِنحًا وتبرعات، أو هبات من رجال أعمال أو محسنين، أو من خريجي هذه الجامعات من رؤساء، ووزراء، أو وزراء ورجال أعمال، ومن الرؤساء الذين تبرعوا لجامعة أكسفورد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون.
ويمكن القول إنَّ مُعظم الجامعات العريقة في بريطانيا هي من أفضل الجامعات في بريطانيا والعالم، ويقال لها "Red Bricks Universities"، أي جامعات الطوب الأحمر.
وما يميز جامعة أكسفورد وغيرها من الجامعات البريطانية العريقة هو التعليم الفردي "Toturial"، أو تفريد التعليم كما يسمى في بعض الأحيان، والمقصود به أن يلتقي الطالب بأستاذ مُعين، أو لجنة من الأساتذة فيعرض عليهم ما كتبه في بحثه من خلال بحث واستقصاء ودراسة، ثم يأخذ من أساتذته، أو اللجنة الملاحظات التي سجلوها على بحثه، أو أطروحته ليقوم بتعديلها، وهذا يعني أَنَّ الطالب يخضع لتقييم دائم ومستمر من خلال الأساتذة، وهذا يُذكرنا بنظام الحلقات، أو الشيخ المتخصص في مادة مُعينة في نظام التعليمي الديني عند المسلمين، الذي كتبت عنه بحثًا في ندوة قدمتها بجامعة السلطان قابوس.
ومن طريف ما سمعناه في الترجمة الموجودة، في الباص السياحي، أنَّه لم تكن هناك معايير تقييم لطلبة الدراسات العليا في كلية الإلهيات بجامعة أكسفورد، والتي هي من أوائل الكليات التي افتتحت في الجامعة، فكان يلجأ الأساتذة الى نوع من الأسئلة التي فيها شيء من التعجيز والتحدي، كأن يسأل الأستاذ الطالب: كم عدد الملائكة الذين يرفضون على رأس الإبرة. ومن طريف ما سمعناه أيضًا، أَنَّ اليهود منعوا من دخول بريطانيا في فترة من الفترات، لأنهم كانوا يتعاملون بالربا، والكتاب المقدس "الإنجيل" يُحرمُ هذا النوع من التعاملات التجارية. كما أنَّ أساتذة جامعة أكسفورد الذين كانوا يسكنون في مساكن الأساتذة، كانوا يمنعون من الزواج كشرط للسكن والتعيين في الجامعة، حتى لا ينشغلوا عن البحث والعلم بأمور دنيوية وحياتية أخرى. ومما ذُكِرَ أيضًا أنه يُوجد اختلاف في تاريخ إنشاء كل كلية، فمنهم من يُحدده بتاريخ جمع التبرعات، ومنهم من يُحدده بتاريخ إنشاء الكلية.
تحركنا بعد رجوعنا من أكسفورد في اليوم التالي من محطة "واترلو" إلى "بورنموث" للقاء أستاذنا الشيخ: سالم بن ناصر المسكري، والولد مؤيد، الذي يدرس اللغة الانجليزية في أحد معاهدها.
وأول ملاحظة لاحظناها ونحن في القطار، رأينا فتاتين تلبسان القبعة المائلة الشهيرة الشبيهة بقبعات النساء المائلة التي تراها في أفلام الأبيض والأسود الأمريكية والبريطانية القديمة، وكان برفقة هاتين الفتاتين مجموعة من الرجال يلبسون القمصان الطويلة المنفوخة من الخلف، كالتي تراها في العروض المسرحية والبهلوانية، وخُيِّلّ إلينا، أو توقعنا أَنَّ هذه المجموعة من الرجال والنساء جاءوا من عرض فني، أو هم ذاهبون لتقديم عرض فني في إحدى المدن التي سيمر عليها القطار قبل وصوله إلى "بورنموث".
سألنا أستاذنا الشيخ: سالم بن ناصر المسكري، الخبير بتاريخ بريطانيا وأحوالها، فقال: إِنَّ هذه القبعات "Hats" هي في العادة للنساء اللائي يحملن لقب سيدة "Lady"، ويَكُنَّ عادة من عِلْيَةِ القومِ، ويلبسنَ هذه القبعات لحضور سباق الخيول الملكي السنوي الذي يقال له "Royal Ascoti"، وتوجه الدعوات للحضور من الملكة أو الملك في بريطانيا، والواضح أَنَّ هذا السباق تظهر فيه أنواع وأشكال مختلفة من الطبقات النسائية كما قرأنا عن ذلك.
وأرسل لي الولد محمد حِسابًا على "انستقرام" مُتخصص في إجراء مقابلات مع عدد من المدعوين لحضور سباق "Royal Ascot"، فأجرى مقابلة مع طفل يرتدي الملابس البريطانية التقليدية التي اعتاد البريطانيون الكبار لبسها في مثل هذه المناسبات.
** كاتب وأكاديمي
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
حكم قضائي بمراجعة قرار بريطانيا بيع مكونات طائرات إف-35 للاحتلال الإسرائيلي
حكم قاض بريطاني بضرورة السماح بإجراء مراجعة قضائية بشأن قرار الحكومة البريطانية بيع أجزاء من طائرات إف-35 لدولة الاحتلال الإسرائيلي خلال العدوان الوحشي على قطاع غزة.
ويأتي هذا الحكم الصادر عن القاضي تشامبرلين في إطار طعن قانوني تقدمت به عدة منظمات حقوقية، بما في ذلك منظمة "الحق" الفلسطينية وشبكة العمل القانوني العالمية، ضد الحكومة البريطانية.
وحسب صحيفة "الغارديان" البريطانية، فإنه من المقرر أن تعقد جلسة الاستماع للمراجعة القضائية في أيار /مايو القادم، وذلك بعد قرار الحكومة البريطانية استثناء أجزاء طائرات إف-35 من حظر تصدير الأسلحة المفروض على "إسرائيل"، الذي تم اتخاذه في أيلول /سبتمبر الماضي.
وأثار القرار البريطاني استثناء مكونات المقاتلة من الحظر موجة من الانتقادات والجدل بسبب إمكانية استخدامها في انتهاك للقانون الإنساني الدولي خلال العدوان الوحشي على قطاع غزة، والذي استمر 15 شهرا قبل التوصل إلى وقف إطلاق النار في كانون الثاني /يناير الماضي.
ودافعت الحكومة البريطانية عن قرارها بالاستناد إلى اعتبارات تتعلق بالأمن القومي، حيث أشارت إلى أن بيع مكونات طائرات إف-35 جزء أساسي من البرنامج المشترك مع حلف الناتو، وأنه من غير الممكن سحب هذه المكونات دون التأثير الكبير على برنامج الطائرات، وبالتالي على الأمن الدولي.
من ناحية أخرى، اعترفت الحكومة البريطانية بأن هناك خطرا قائما يتمثل في أن أجزاء طائرات إف-35 قد تُستخدم في انتهاك القانون الإنساني الدولي، لا سيما في سياق عمليات إسرائيل العسكرية في غزة.
لكن الوزراء البريطانيين أكدوا أيضا أن المكونات البريطانية تُعتبر جزءًا لا غنى عنه في برنامج طائرات إف-35، ولا يمكن استبعادها دون التأثير على القوة الجوية المشتركة للحلفاء في حالة نشوب صراع مع دولة مثل روسيا، حسب "الغارديان".
وأشار القاضي تشامبرلين إلى أن القضية تتعلق بمصلحة عامة قوية تتطلب حسما سريعا ونهائيا، موضحًا أن قرار الحكومة البريطانية باستثناء أجزاء طائرات إف-35 من حظر تصدير الأسلحة له أهمية كبيرة على الصعيدين الوطني والدولي.
كما أضاف أن وقف إطلاق النار في غزة لن يؤثر على القضايا الجوهرية والإجرائية المتعلقة بهذه القضية، حيث تستمر المنظمات الحقوقية في تقديم طعونها بشأن تورط الحكومة البريطانية في تصدير الأسلحة التي قد تُستخدم في انتهاك حقوق الإنسان.
تجدر الإشارة إلى أن الحكومة البريطانية كانت قد علقت في أيلول /سبتمبر الماضي نحو 30 ترخيصا لتصدير الأسلحة إلى دولة الاحتلال، إلا أن بعض التراخيص المتعلقة بمكونات طائرات إف-35 استمرت كما هي.
وأكدت منظمة "الحق" الفلسطينية في المحكمة أن اعتداءات الاحتلال في غزة أسفرت عن استشهاد عدد كبير من المدنيين الفلسطينيين وتدمير واسع للبنية التحتية المدنية، موضحة أن هذه الأعمال كانت مدعومة جزئيًا من خلال الأسلحة والمكونات التي زودت الحكومة البريطانية الاحتلال بها.