الغرب.. لم يعد وحده في العالم
تاريخ النشر: 22nd, January 2024 GMT
الغرب.. لم يعد وحده في العالم
نجح تود في توجيه النظر لمكمن الضعف والهشاشة في السياسات الاستراتيجية لقوى الغرب التي تعاني من مصاعب جمة في ضبط توازنات العالم الراهن.
كتب كثيرون من قبل تود عن «نهاية الهيمنة الغربية»، وعبّر ماكرون عن هذا الوضع بعبارة «نهاية المركزية الغربية»، بعد قرون أربعة من السيطرة الأحادية على العالم.
شكل العالَم البروتستانتي محورَ الرأسمالية الاقتصادية والليبرالية الفردية نتيجةً عوامل ثقافية أساسية كانتشار الكتابة والتعلم، وأخلاقيات العمل، والانضباط المهني والسلوكي الصارم.
توازنات النظام الدولي المستقبلية ستؤول لحلف روسي ألماني له جذور جيوسياسية وأنثروبولوجية، وانكفاء العالم البروتستانتي المتمحور حول أميركا، وصعود الجنوب مستقلا عن الغرب.
يصعب على الغرب استيعاب أنه لم يعد وحده في العالم، وعليه أن يفكر جيداً فيما قد يقدم للبشرية راهناً، بعد انحسار القيم المرجعية لديه ولم يعد نظامه السياسي المجتمعي فاعلاً ولا ناجعاً في سياقه الأصلي.
* * *
«هزيمة الغرب»، عنوان الكتاب الأخير للمؤرخ وعالم الإنثروبولوجيا الفرنسي المشهور «أمانويل تود»، وقد أثار فورَ صدوره هذه الأيام جدلا واسعاً متشعباً. الكتاب هو خلاصة قراءة «تود» للنظام الدولي الجديد من زاوية حرب أوكرانيا الممتدة منذ سنتين.
وبعكس المقاربات السائدة، يرى «تود» أن روسيا في طور الانتصار على حلف شمال الأطلسي الذي هو في حقيقته حلف جديد يتمحور حول مثلث «لندن- وارسو- كييف»، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تنجح في هذه الحرب لأسباب موضوعية جوهرية.
وفي مقدمة هذه الأسباب ما أطلق عليه تود «العدمية الناتجة عن انهيار البروتستانتية»، وهو هنا يستعيد أطروحة ماكس فيبر الشهيرة في ربطه بين الإصلاح البروتستانتي ونشأة الرأسمالية الحديثة.
لقد شكل العالَم البروتستانتي (أميركا وبريطانيا وألمانيا والدول الاسنكدنافية) محورَ الرأسمالية الاقتصادية والليبرالية الفردية، نتيجةً لعوامل ثقافية أساسية من بينها انتشار الكتابة والتعلم، وأخلاقيات العمل، والانضباط المهني والمسلكيات الصارمة.
بيد أن هذه القيم التي استمرت مدة طويلة في شكل قوالب ثقافية رغم تراجع الممارسة الدينية، قد انحسرت كلياً اليوم بما يفسر، حسب المؤلف، التقهقرَ الصناعي في هذه البلدان وانهيار النظم التعليمية فيها ودمار الأسرة وتخلخل آليات الانضباط الاجتماعي المرتبطة بها.
وقد ظهرت هذه الثغرات خلال جائحة كورونا، وبرزت في الحرب الأوكرانية الحالية عندما بدا جلياً للعيان أن الصناعة العسكرية الأميركية عاجزة عن توفير حاجيات جيش كييف، بما ينذر بنصر روسي قريب في النزاع القائم، رغم الوعود الغربية.
وفي هذا السياق، يرفض تود النظرَ إلى الصراع الدائر على الساحة الأوكرانية كما لو أنه حرب استعمارية تقليدية، بالنظر إلى الوشائج العضوية بين منطقتي القرم ودونباس مع روسيا، كما يرفض اعتبارها حرباً بين الديمقراطية والاستبداد أو صداماً بين ما يسميه «الأوليغارشيات الليبرالية» و«الديمقراطية التسلطية».
ما تعنيه هذه العبارات هو أن الديمقراطية التمثيلية في الغرب انهارت كلياً، وما أصبح سائداً في المجتمعات الغربية هو تحكم قوى بيروقراطية متنفذة لا تعبّر عن الجسم السياسي السيادي وإن كانت معايير الحرية السياسية متوفرة، بينما يتمتع النظام الحاكم في روسيا بشرعية حقيقية وقبول شعبي لا شك فيهما وإن كانت مساحة الحرية العمومية محدودة.
الخلاصة التي يصل إليها المؤلف هو أن توازنات النظام الدولي المستقبلية ستؤول لقيام حلف روسي ألماني له جذوره الجيوسياسية والأنثروبولوجية العميقة، وانكفاء العالم البروتستانتي المتمحور حول أميركا على نفسه، وبروز الجنوب كقوة صاعدة مستقلة عن الغرب.
ليس من همنا هنا تقويم أطروحة أمانويل تود، الذي عرف بحسه الاستراتيجي الثاقب، وهو الذي توقع عام 1976 تفكك الاتحاد السوفييتي انطلاقاً مِن نظريته في أنساق القرابة الأسرية. ما نريد أن نضيفه هو أن أهمية أطروحة تود تتمثل في استخدامه العواملَ الثقافيةَ في رصد المعطيات الجيوسياسية، بدلا من نموذج صراع القوة المهيمن على الدراسات الاستراتيجية.
بيد أن من ميزات عمل تود هو أنه تجنَّب مقاربةَ صدام الثقافات التي تبلورت في الأدبيات الأميركية وفي خطاب المجموعات اليمينية الراديكالية في أوروبا، وهي في عمومها تعاني من أوهام التحديد الغائم وغير التاريخي للهويات الثقافية المشتركة بالنظر إليها كأنساق اجتماعية جامدة بدل اعتبارها منظومات رمزية تتكيف مع التحولات والتغيرات التاريخية والمجتمعية المستمرة.
وقد اتهم تود بأنه يدافع عن الموقف الروسي ويناصر بوتين في حربه ضد أوكرانيا، وسخر البعض من توقعاته ومن إعلانه هزيمة الغرب. ولئن كان من المبرر منهجياً ومعيارياً التشكك في تقويمه السلبي لأداء الغرب في حرب أوكرانيا الحالية وتنبئه بهزيمة الغرب وانتصار روسيا.
لكن نجح تود دون ريب في توجيه النظر إلى مكمن الضعف والهشاشة في السياسات الاستراتيجية للقوى الغربية التي تعاني من مصاعب جمة في ضبط توازنات العالم الراهن. لقد كتب كثيرون من قبل تود عن «نهاية الهيمنة الغربية»، وعبّر الرئيس الفرنسي الحالي ايمانويل ماكرون عن هذا الوضع بعبارة «نهاية المركزية الغربية»، بعد قرون أربعة من السيطرة الأحادية على العالم.
يقول تود في كتابه الأخير: لقد غدا من الصعب على الغرب أن يستوعب أنه لم يعد وحده في العالم، لكن عليه أن يفكر جيداً في ماذا يمكن أن يقدم للبشرية راهناً، بعد انحسار القيم المرجعية لديه ولم يعد نظامه السياسي المجتمعي فاعلاً ولا ناجعاً في سياقه الأصلي.
*د. السيد ولد أباه كاتب وأكاديمي موريتاني
المصدر | الاتحادالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الغرب العالم روسيا حرب أوكرانيا هزيمة الغرب الهيمنة الغربية المركزية الغربية إيمانويل تود ألمانيا أمريكا بريطانيا
إقرأ أيضاً:
آلة يوم القيامة أو اليد المميتة الروسية تثير الرعب في الغرب
بغداد اليوم - متابعة
كشفت وسائل إعلام، اليوم الخميس (21 تشرين الثاني 2024)، عن تفاصيل يوم القيامة أو ما يعرف بالـ "اليد المميتة" الروسية، التي أثارت الرعب في الغرب بعد تحديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقيدة بلاده النووية.
وقالت إنه "وسط تصاعد التوترات بين روسيا والغرب لاسيما دول حلف الناتو، خاصة بعد سماح الولايات المتحدة لأوكرانيا باستعمال صواريخ بعيدة المدى لضرب الداخل الروسي، أقر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أيام تحديث العقيدة النووية للبلاد".
وفي حين نددت واشنطن بما وصفته بـ"الخطاب الروسي غير المسؤول" بعد أن خفف بوتين قواعد بلاده في ما يتصل بشن ضربات نووية. وقال متحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي لوكالة فرانس برس: "هذا هو نفس الخطاب غير المسؤول من جانب روسيا الذي شهدناه خلال العامين الماضيين".
لا شك أن روسيا تعد من أوائل الدول النووية، لجهة مخزونها من الصواريخ النووية.
إلا أن الأخطر في كل ذلك، ما يعرف بنظام "اليد المميتة".
يمكن لنظام "اليد المميتة"، الذي يعود إلى أيام الحرب الباردة، والذي لم تقر روسيا رسمياً بوجوده، أن يطلق ضربات نووية بالمئات حتى لو تم القضاء على جميع القادة الروس.
ففي حال تمت مهاجمة البلاد نووياً، ولم يحصل أي رد، يفترض هذا النظام أن القيادة الروسية انتهت، صفيت وقتلت فيطلق بالتالي 4000 صاروخ نووي على حلفاء الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
فآلة يوم القيامة، عبارة عن جهاز "افتراضي" من شأنه أن يؤدي تلقائيًا إلى التدمير النووي لدولة معتدية، بل حتى انقراض كل أشكال الحياة على الأرض في حالة وقوع هجوم نووي على روسيا.
فقد تطلق هذه الآلة أو النظام تلقائيًا في المرحلة الأولى عددًا كبيرًا من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات (ICBMs) عندما يكتشف إمكانية حصول هجوم نووي وشيك.
أما في المرحلة الثانية فقد يطلق عدة قنابل نووية حرارية ضد الدولة المعتدية على روسيا.
وكان هذا النظام طور من قبل الفيزيائي النووي الأميركي هيرمان خان، وتمت مناقشته في كتابه عن الحرب النووية الحرارية (1960).
خان اعتبر أن هذا النظام يشكل رادعًا لا مثيل له. وأكد أن غياب التدخل البشري من شأنه أن يثير خوفًا أكبر لدى المعتدين المحتملين، ما يقلل من فرص لجوئهم إلى توجيه ضربة نووية في المقام الأول.
على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تقم أبدًا ببناء آلة يوم القيامة هذه، لكن جرت محاكاة لهذا النظام أو الآلة في ما يعرف بعقيدة التدمير المتبادل (MAD)، والتي شكلت أساس الاستراتيجية النووية الأميركية والسوفيتية في الستينيات والسبعينيات.
وفي عام 1993، أكد خبير أميركي في شؤون الجيش الروسي أن الاتحاد السوفييتي طور نوعًا من آلة يوم القيامة في أوائل الثمانينيات، وأن الجهاز لا يزال يعمل في روسيا حتى الآن.