الذكرى المئوية لثورة 1924 (17 والأخيرة)
تاريخ النشر: 22nd, January 2024 GMT
بقلم : تاج السر عثمان
أثر ثورة 1924 على الحركة الوطنية حتى الاستقلال
تطور الحركة الوطنية : 1943- 1956
1
في هذه الفترة ظهرت الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات الطلابية والعمالية والمهنية والقئوية.
كان من نتائج تطور الحركة الوطنية واشتداد عودها ، أن أقدمت الإدارة البريطانية لعمل مؤسسات دستورية بهدف قطع الطريق على التطور السليم للحركة الوطنية، وتأجيل نيل البلاد لاستقلالها.
كانت مذكرة مؤتمر الخريجين في 1942 قد دخلت مباشرة في القضية الجوهرية للحركة الوطنية وهي استقلال السودان وتحديد فترة زمنية للحكم الذاتي.
تبلور الصراع بصورة واضحة وكامتداد للصراع السياسي منذ بواكير السياسة السودانية الحديثة في بداية العشرينيات من القرن الماضي وقيام جمعيتي الاتحاد السوداني واللواء الأبيض، بين التيارين الرئيسيين فيها:
- تيار السودان للسودانيين تحت التاج البريطاني.
- تيار وحدة وادي النيل تحت التاج المصري.
وترك هذا الصراع بصماته على مؤتمر الخريجين حول قضايا محددة مثل:
الموقف من المجلس الاستشارى لشمال السودان الذي عارضه مؤتمر الخريجين، الا أن هناك اقسام من الخريجينرأت الآتي :
- التعاون مع الإدارة البريطانية ، والعمل من داخل المجلس الاستشارى بمساندة ودعم من السيد عبد الرحمن المهدي وطائفة الأنصار، مما أدي لانقسام مؤتمر الخريجين وخروج التيار الداعى للتعاون مع الإدارة البريطانية والذي شكل حزب الأمة عام 1945 كتعيير سياسي عن طائفة الأنصار.
- كان الرد من القسم الآخر من الخريجين هو تكوين حزب الأشقاء أو (الأحزاب الاتحادية) الذي دعا للاتحاد مع مصر كطريق لنيل استقلال البلاد.
وهكذا انفرط عقد مؤتمر الخريجين.
2
تبلور الصراع بطريقة واضحة بين التيارين الرئيسيين:
أ – تيار يدعو الي التعاون مع الإدارة البريطانية والدخول في مؤسساتها الدستورية ونيل الاستقلال تحت التاج البريطاني (حزب الأمة).
ب – تيار يدعو الي الكفاح ضد الاستعمار البريطاني والتعجيل بخروجه، وفي اتحاد مع مصر تحت شعار وحدة وادي النيل تحت التاج المصري.
ج – كانت هناك قوى جديدة بدأت تظهر على ساحة الحياة السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، وكامتداد لبعض التيارات الثورية لجماعة الفجر التي وصلت من خلال تجربتها الخاصة الي عقم شعار وحدة وادي النيل تحت التاج المصري، وفي الوقت نفسه دعت الي رفض شعار السودان للسودانيين تحت التاج البريطاني، كلا الشعارين لايعبران عن أمانى الحركة الوطنية بمجموعها.
3
وفي 16 أغسطس عام 1946 تأسست الحركة السودانية للتحرر الوطني ( الحزب الشيوعي فيما بعد)، ونظرت في الشعارين المطروحين على ساحة الحياة السياسية، وتوصلت الي قصور الشعارين وطرحت البديل: الجلاء التام وحق تقرير المصير للشعب السوداني.
ظهرت الاتحادات الطلابية ونقابات العمال واتحادات المزارعين والشباب والنساء، وغيرها من التنظيمات الجماهيرية التي قوت من عود الحركة الشعبية والجماهيرية، وجعلتها أكثر صلابة في مواجهة الاستعمارالبريطاني.
كانت الحركة السودانية للتحرر الوطني والنقابات تصارع ضد التيار الداعى للتفاوض مع الإدارة البريطانية، وتكشف جوهره وأهدافه، وفي الوقت نفسه كانت تصارع مع تيار الاتحاديين ضد الاستعمار البريطاني، لكنها تحاول دفعه الي مستويات أعلا من النضال والصراع ضد الإدارة البريطانية دون أن تعمل تحت مظلة الأحزاب الاتحادية.
كما ظهرت أحزابب أخرى في هذه الفترة مثل: الحزب الجمهوري ، والحزب الجمهوري الاشتاركي ، جماعة الإخوان المسلمين، والأحزاب الجنوبية، كما تطورت وتوسعت الصحافة الوطنية التي لعبت دورا كبيرا في نقد مظالم الاستعمار، وظهرت الاذاعة عام 1940. وغير ذلك مما أسهم في تطور الوعي السياسي والوطني للسودانيين في تلك الفترة.
4
وفي ضوء هذه التحولات والتطورات في الحركة السياسية والجماهيرية، وبعد فشل تجربة المجلس الاستشاري لشمال السودان، حاولت الإدارة البريطانية مرة أخرى قطع الطريق على نمو الحركة الوطنية ودعت الي تكوين الجمعية التشريعية التي عارضتها الحركة الوطنية ( الحزب الشيوعي، الأحزاب الاتحادية، والنقابات والاتحادات) وكانت معارضتها للآسباب الآتية :
- أنها جمعية شكلية.
- أن المجلس التنفيذي الذي ينبثق منها ليس له صلاحيات مجلس الوزراء ومسؤولياته ليست تضامنية.
- كما أن بعض الوزراء لا يتم انتخابهم من داخل الجمعية التشريعية.
- ليس للجمعية صلاحيات لمناقشة المسائل المالية والتطورات الدستورية المقبلة وغير ذلك.
هذا اضافة الي أن الجمعية التشريعية تمت بمعزل عن رضا وموافقة المصريين مثل: الإدارة الأهلية والمجلس الاستشارى لشمال السودان، وكمحاولة من الإدارة البريطانية لحسم الصراع الدائر بين الحكومة المصرية والبريطانية حول مستقبل السودان، وكامتداد ايضا للصراع الذي كان دائرا منذ بداية العشرينيات من القرن الماضي ، وهو محاولات الإدارة البريطانية للانفراد بحكم السودان، واتجاه المصريين لترسيخ أقدامهم داخل السودان باسم الحق التاريخي لمصر في السودان.
بعد فشل المفاوضات والمعاهدات المختلفة : معاهدة صدقي – بيفن ، وفد الأحزاب السودانية الي القاهرة لمناقشة المسألة السودانية، الفشل في طرح المسألة الوطنية في مجلس الأمن، حسمت الإدارة البريطانية موضوع المؤسسات الدستورية بمعزل عن مصر، فكانت الجمعية التشريعية، وكان من الطبيعي أن يدخلها الجناح الداعى للتعاون مع الإدارة البريطانية، كما تعاون معها في المجلس الاستشاري لشمال السودان ( حزب الأمة)، وقاطعتها الأحزاب الاتحادية والحزب الشيوعي ( الحركة السودانية للتحرر الوطني – حستو)، ونقابات العمال واتحادات الطلاب والمزارعين، وقادت المظاهرات ضدها ، وقدمت الشهداء ( شهداء الجمعية التشريعية في عطبرة عام 1948).
استمرت المقاومة حتى تمت هزيمة الجمعية التشريعية، والواقع أنها وُلدت ميتة، ولم تتم برغبة ورضا السودانيين والمصريين، ولم يكن لها دور حاسم في التحولات الجماهيرية والسياسية.
5
بعد ذلك اشتد عود الحركة الجماهيرية وانتظمت صفوفها، مما كان له الأثر في قادة الاتجاهين الرئيسيين في الحركة الوطنية ( الاتحاديين والاستقلاليين)، بعد أن طرحت الحركة الجماهيرية خطا مستقلا، وتوحدت حول الجلاء التام وتقرير المصير، وهذا ترك تأثيره وظلاله على الإدارة البريطانية، والحكومة المصرية، وخاصة بعد تكوين الجبهة المتحدة لتحرير السودان التي طرحت شعار الجلاء التام وحق تقرير المصير.
كانت اتفاقية 1953 نتاجا لنضال الحركة الجماهيرية ومكسبا كبيرا لها، ولم تكن منحة من بريطانيا أو مصر. وعلى اساس انفاقية الحكم الذاتي ، تم تكوين أول برلمان سوداني، وزارات سودانية، وفاز الحز الوطني الاتحادي في الانتخابات، وكان تيار الحركة الوطنية المعادية الانجليز جارفا ، وكانت موجة النضال ضد الاستعمار البريطاني في قمتها.
بعد هزيمة حزب الأمة في الانتخابات ، كانت هناك أحداث مارس 1954 التي كانت مؤشرا سيئا لبداية العنف في الحياة السياسية، التي عبر فيها حزب الأمة عن رفضه لفوز الأحزاب الاتحادية والارتباط بمصر ، وكان من اسباب هزيمة حزب الأمة تعاونه مع مؤسسات الانجليز الدستورية ( المجلس الاستشاري لشمال السودان، الجمعية التشريعية، تلك المؤسسات الشكلية التي رفضها الشعب).
كما جاءت أحداث التمرد عام 1955 التي كان وراءها الانجليز، وكانت تعبيرا عن رفض من السياسيين الجنوبيين لنقض العهود والمواثيق، بعد وعد الأحزاب الحاكمة للجنوبيين بالفدرالية في أول برلمان سوداني، ولم يتم وفاء بذلك العهد والوعد، على سبيل المثال جماعة بولين الير (1954- 1955) التي وثقت بشكل مطلق في الحزب الوطني الاتحادي الذي لم ينجز وعودها ومطالبها التي تتلخص في :
- التنمية الاقتصادية، الاجر المتساوى للعمل المتساوى، مناصب معقولة في السودنة، الغاء ضريبة الدقنية. الخ، وكان ذلك من أسباب تمرد 1955 الذي أدي لانفصال الجنوب بعد استمرار نقض العهود والمواثيق.
( للمزيد من التفاصيل، راجع تاج السر عثمان الحاج: الجذور التاريخية للتهميش في السودان،مكتبة الشريف الأكاديمية 2005)
أخيرا نتيجة لهذه العوامل وأهمها الاتجاه الداعى لتقرير المصير، اقتنع المصريون والأحزاب الاتحادية ( رغم فوزها) باستحالة قيام اتحاد بين مصر والسودان، كما أن هزيمة حزب الأمة نفسها كانت تعبيرا عن رفض الحركة الوطنية للارتباط ببريطانيا في أي شكل من اشكال الاتحاد.
كل هذه العوامل والموازنات أدت بهذا القدر أو ذاك الي استقلال السودان في أول يناير 1956 والذي كان استقلالا نظيفا، وبعيدا عن أي أحلاف عسكرية، وبعيدا عن سيطرة مصر.
هكذا كانت ثورة 1924 نقطة الانطلاق للحركة الوطنية حتى نيل الاستقلال في أول يناير 1956، وبعد الاستقلال استمر نضال الشعب السوداني ضد الأنظمة الديكتاتورية والظلم ومن اجل الديمقراطية والتنمية والسيادة الوطنية، كما في تفجير ثورة أكتوبر 1964، وانتفاضة مارس – أبريل 1985 ، وثورة ديسمبر 2018 التي مازالت جذوتها متقدة رغم الحرب اللعينة الجارية بهدف تصفية الثورة ، ونهب ثروات البلاد والتفريط في سيادتها الوطنية ووحدتها، مما يتطلب مواصلة قيام اوسع تحالف لوقف الحرب واسترداد الثورة، ومواصلتها حتى تحقيق اهدافها في الحرية السلام والعدالة والسيادة الوطنية، وانجاز مهام الفترة الانتقالية
alsirbabo@yahoo.co.uk
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الأحزاب الاتحادیة الحرکة الوطنیة حزب الأمة
إقرأ أيضاً:
التفاوض مع حماس.. لماذا أقدم ترامب عليه ولماذا قبلت الحركة؟
وقعت الأنباء عن محادثات مباشرة بين إدارة ترامب وقيادة حماس، وقعًا سيئًا على رؤوس كثيرين في المنطقة، بالأخص في تل أبيب ورام الله، ولكل منهما أسبابه الخاصة، تتفق حينًا وتفترق أحيانًا.
تل أبيب كانت تنتظر فتح أبواب الجحيم على الحركة وحاضنتها في غزة، لكن أبواب الجحيم لم تُفتح، وفُتحت بدلًا عنها أبواب المحادثات المباشرة بين موفد ترامب آدم بوهلر وقياديين من حماس. واشنطن في عهد ترامب، بخلاف حقبة بايدن، لا تستأذن أحدًا فيما تفعل أو تنوي فعله، حتى وإن كان هذا "الأحد"، إسرائيل، الربيبة المدللة.
الأهم من هول المفاجأة التي ستتكشف فصولها فيما بعد، ما تستبطنه من معانٍ ورسائل:
أولها؛ أن حكومة نتنياهو وائتلافه المثير لاستياء ترامب وفريقه، لم تعد مؤتمنة على إدارة ملف التفاوض، الذي توليه الإدارة أهمية كبرى، لا سيما في شقه المتعلق بـ"الرهائن". ثانيها؛ أن أي تقدم على المسار التفاوضي المباشر، بين الإدارة والحركة، لن يكون بوسع إسرائيل إشهار الفيتو في وجهه، ولا حتى عرقلته، فهي كغيرها من دول العالم، تتحاشى استفزاز "الفيل الهائج في دكان الخزف"، حتى وهي تتمتع بمكانة الدولة الأولى بالرعاية. وثالثها؛ ما قد تأتي به قادمات الأيام، من تحولات في مواقف الرئيس الأميركي وإدارته، لا أحدَ، حتى المنجمين "الكاذبين وإن صدقوا"، بمقدوره أن يتنبأ بما يخفيه تحت قبعتها من مفاجآت صادمة. إعلانرام الله، التي أعطت أذنًا من طين، وأخرى من عجين، لكل نداءات المصالحة والوحدة والتوافق والتفاهم، مستمسكة بخاتم "الممثل الشرعي الوحيد".
رام الله التي قطعت أشواطًا على طريق التكيف مع مخرجات الحل الأميركي – الإسرائيلي، وبذلت أقصى ما بوسعها للبرهنة على "اعتدالها" و"أهليتها" للمضي قدمًا مع تل أبيب وواشنطن، تجد فجأة أنها أصبحت في وضع لا تحسد عليه، وأن أعين واشنطن تنصرف صوب غريمتها ومنافستها.
هذا أمرٌ جلل، وربما لم يحدث من قبل لكل من نازع "القيادة المتنفذة" على التمثيل والأحقية، زمن الانشقاقات والانقسامات الفلسطينية المتعاقبة، ففي أحسن الأحوال، كان خصوم فتح يحظون بدعم من دمشق أو بغداد وطرابلس الغرب، مع قنوات اتصال محدودة مع موسكو وبكين. هذه المرّة، نحن نتحدث عن واشنطن، وتلكم حكاية أخرى.
عواصم أخرى في المنطقة، وقعت عليها أنباء كهذه، وقع الصاعقة، وهي التي لم تكد تستيقظ من هول الصدمة بسقوط نظام الأسد، ومجيء فصائل إسلامية مناوئة له، لتحل مكانه في "قصر الشعب" المُطل على دمشق. سنوات الشيطنة والتحريض والمطاردة والاستئصال، ضاعت سدى، وحماس وأخواتها الشقيقات وغير الشقيقات، تطل برأسها على موائد التفاوض والعلاقات الدولية، من بوابات أخرى.
لماذا فعل ترامب ما فعل؟سؤال أرّق المراقبين، الذين أخذتهم الأنباء على حين غرة، وكاتب هذه السطور واحد منهم. ولكن من باب "ادعاء الحكمة بأثر رجعي" نقول: إن ترامب "مهجوس" بملف "الرهائن" والمحتجزين، وإن هذا الملف بات مرتبطًا بسمعته وهيبته، وهو الذي قطع الوعد تلو التعهد، بـ"تحريرهم" وإعادتهم إلى ذويهم. هو يعرف أن نتنياهو لا يقيم وزنًا مماثلًا لهذا الملف، فقرر أخذ زمام أمره بيد مفاوضيه، وعدم ترك المسألة لنتنياهو وسموتريتش وحساباتهم السياسية والحزبية والشخصية الضيقة للغاية، تلكم مسألة لا يرغب بها ترامب ولا يتسامح معها.
إعلانوثمة بعد آخر، يكمن في خلفية القرار الأميركي: الرجل الذي قيل في وصفه إنه يحب التعامل مع "الأقوياء" وإبرام الصفقات معهم دون سواهم، نظر إلى الوضع الفلسطيني، فرأى سلطة في رام الله، في حالة "موت سريري"، ضربتها الشيخوخة والفساد والترهل في مقتل. لا حول لها ولا طول، في كل ما يتصل بغزة والحرب عليها، فقرر أن يتعامل مع القوة التي ما زالت برغم حرب الأشهر الخمسة عشر، ممسكة بزمام الأرض وما فوقها وما تحتها، وتقوم على احتجاز "الرهائن"، وبيدها قرار الإفراج عنهم أو الإبقاء عليهم في مخابئهم.
الرجل "العملي"، "البراغماتي" كما يوصف، لم يقف مطولًا أمام قرارات من سبقوه بعدم التحدث مع منظمات مصنفة "إرهابية"، وأرسل موفده إلى الدوحة. في ظني وليس كل الظن إثم، إن الرجل سَخِرَ مما قيل إنها "مبادئ ناظمة" لعمل الإدارات الأميركية السابقة، بمنع الاتصال بـ"الإرهاب والإرهابيين"، سيما وأنه يعرف تمام المعرفة، وصرّح بذلك علنًا مرات ومرات، بأن الإدارات التي سبقته، لم تتفاوض مع "الإرهاب" فحسب، بل ودعمته وعملت على إطلاق "مارده من قمقمه"، بدلالة اتهاماته لباراك أوباما وهيلاري كلنتون بدعم داعش، بل والعمل على تخليقها.
لماذا استجابت حماس لدعوة واشنطن؟أحسب، أن الحركة لم تقل يومًا إنها لن تفاوض واشنطن مباشرة، وإن الخط الأحمر الوحيد الذي رسمته الحركة في جميع أدبيّاتها، اقتصر على إسرائيل وحدها دون سواها. والحركة انخرطت في اتصالات مع شبه رسميين أميركيين، وأوروبيين بمستويات وصفات مختلفة، لا جديد مفاجئ في موقف الحركة.
وأضيف إلى ذلك، أن الحركة وجدت في الطلب الأميركي، فرصة للتخفف من حسابات نتنياهو وفريقه، والتي حالت وتحول دون الوصول إلى اتفاقات نهائية، وعدم الالتزام بتنفيذ الاتفاقات المبرمة، ودائمًا لحسابات تنتمي لعوالم السياسة الداخلية والحزبية في إسرائيل. قناة تفاوض جديدة، مباشرة هذه المرة، مع واشنطن، ستمكن الأخيرة من الاستماع لحماس وليس عنها، وعلى ألسنة قادتها، وليس على ألسنة آخرين، قناة جديدة، يمكن أن تضع بين يدي الأميركي، رواية أخرى، غير تلك التي تفرّدت إسرائيل باستخدامها لبث الأكاذيب والدعاية السوداء، عن الحركة وشعبها وقضيتها.
إعلانوحماس أيضًا، يهمها أن تكون "عنوانًا ثانيًا" للشعب الفلسطيني، بعد أن سُدّت سبل اندماجها في العنوان الأول، المنظمة والسلطة، بسبب اشتراطات عباس للحوار والمصالحة، والتي هي إعادة انتاج للشروط الإسرائيلية بكليّتها، والتي لم يعد أحدٌ في العالم يطالب حماس بها. تستحق حماس، أن يُعترف بها "واقعيًا"، حتى وإن لم يرقَ الأمر إلى مستوى الاعتراف الرسمي، وممن؟ من الدولة الأعظم. هذا إنجاز سياسي، يسجل في رصيد حماس، وسيفتح أبوابًا أخرى، صوب عواصم أخرى في الإقليم العربي وعلى الساحة الدولية كذلك.
أية مخاوف وأية محاذير؟سنعتبر أن ما نُسب إلى آدم بهلر، كأنه لم يكن، ولم يقله، سيما ذاك الشق المتصل باستعداد الحركة للتخلي عن سلاحها واعتزال السياسة. تلكم "هرطقة"، لا يمكن أن تصدر عن عاقل، وحتى إن قالها الرجل، فإن علينا أن نفكر بدوافعه لقولها لا بدوافع حماس للإدلاء بها، سيما وأنه موفد إدارة تقول ما تشاء كيفما تشاء، من دون رقيب أو حسيب.
أن تبدي الحركة استعدادها لإلقاء سلاحها، أمرٌ يمكن تصديقه، شريطة أن يكون متبوعًا بشرط قيام الدولة الفلسطينية والحل السياسي الشامل، سبق لموسى أبو مرزوق أن قال أمرًا مماثلًا، والسلاح في مطلق الأحوال، ليس هدفًا بذاته، بل وسيلة لتحقيق الهدف، والسلاح لا يُلقى على الأرض، ولا يُسلم للأعداء إلا في حالة الاستسلام الكامل، وهذه ليست حالة حماس، بشهادة مختلف المصادر الإسرائيلية والغربية، السلاح والمسلحون، يمكن أن يكون ويكونوا نواة جيش الدولة العتيدة المنتظرة.
أما أن يقال إن حماس أبدت استعدادها لاعتزال السياسة، فتلكم مسألة لا أظن أن الأميركيين، ولا حتى الإسرائيليين، يمكن أن يفكروا أو يطالبوا بها، بل على العكس تمامًا، كل المطالبات لحماس، تنصب على تحويلها إلى حزب سياسي، ينخرط في النظام الفلسطيني، وتتخلى عن "الكفاح المسلح"، وليس شيئًا آخر، غير ذلك، أو أكثر من ذلك.
إعلانما الذي ستفعله حماس، إن هي تخلت عن السلاح والسياسة؟ هل تتحول إلى تنظيم إسلامي "دعوي"، هل ستصبح فرعًا لجماعة "التبليغ والدعوة"؟، هل تتحول إلى منظمة خيرية – اجتماعية أو "كاريتاس" إسلامية، ما الدور المُتخيل للحركة بلا سلاح، وبالأخص بلا سياسة؟. ألوف التعليقات التي تناولت هذه المعلومة المنسوبة للمفاوض الأميركي، أظهرت بؤس من أدلى بها، ولم تُظَهّر حقيقة موقف الحركة وتوجهها، أقول ذلك، ومن دون أن أكلف نفسي عناء سؤال حماس عن مدى دقة ما نسب إليها.
الذين تابعوا بالتحليل والتعليق حوار حماس المباشر مع واشنطن، ينقسمون شيعًا ومذاهب شتى. منهم "ثوريون جداّ" لا يريدون لثوب الجهاد أن يتسخ، "طهرانيون" لطالما نظروا لأية صلة بـ"الشيطان الأكبر" بوصفها "رجسٌ من عمل الشيطان" يتعين اجتنابه. هؤلاء نحترمهم ونخطئهم ونغفر لهم.
منهم من يصدر عن حرص وغيرة، ومخاوف مشروعة مستندة إلى تجربة التفاوض المباشر بين الولايات المتحدة ومنظمة التحرير، هؤلاء أيضًا نحترمهم ولا نخطئهم، وإن كنّا نأخذ على بعضهم، تقمّص دور "الأستاذ" و"المعلم"، لكأنه يتعامل مع حركة حديثة العهد بالسياسة والعمل الوطني، ولم يخض قادتها واحدة من أعقد وأصعب تجارب التفاوض غير المباشر مع إسرائيل، وأظهروا صلابة وذكاء بالغين.
أما بعضهم الثالث، فيتمثل في بعض فرسان السلطة والمنظمة، ممن خاضوا واحدة من أبشع فصول التفاوض مع إسرائيل وأقلها كفاءة ومهنية والتزامًا، منذ أوسلو وحتى يومنا هذا. بعضهم، ينصح متذاكيًا قادة حماس، بعدم مقارفة الخطيئة ذاتها، وبعضهم الثاني يعرف أنه اقترف "أمرًا فريًا" من قبل، ويرحب بولوج حماس، عتبات نادي التفريط، على قاعدة "ما حدا أحسن من حدا"، و"نحن السابقون وأنتم اللاحقون".
أما الخلاصة كما نراها فتقول من دون تهوين أو تهويل: ننظر للحوار المباشر بين قيادة حماس وإدارة ترامب، بوصفه نقطة تحول مهمة، ومكسبا يسجل للحركة في رصيدها، وهو تطور قد يكون له ما بعده، قد ينتهي إلى اختراق على مسار التفاوض بشأن الحرب على غزة، وقد لا ينتهي إلى هذه النتيجة. المسار مهم بذاته، بصرف النظر عن نتائجه. نجاحه بشكل كامل، قد يملي على حماس تقديم تنازلات لا قبل لها بها، وفشله التام، سيرتب عليها ارتدادات كبرى، وربما يكون هذا الفصل من التفاوض أصعب مما سبقه من مفاوضات غير مباشرة، وربما يكون التعامل مع واشنطن كوسيط، أسهل من التعامل معها كطرف ومفاوض مباشر، المجازفة حاضرة بقوة على مائدة التفاوض، ومعها تحضر فرص كبيرة وتحديات أكبر، والمأمول أن تنجح الحركة في استجماع كل ما لديها من خبرات وطاقات للخروج من هذا "المولد بكثير من الحمص"، أو أقله، بقليل منه.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline