مثلت الكتابة حضورا ماديا لا فتا ولا تزل؛ كأحد المحطات المهمة لتجذير التاريخ، ولتأصيل جميع الحقائق المتعلقة بالإنسان، ولبيان مراحل النمو والتطور عنده، وإخراج مجموع المكنونات التي تتموضع بين جنباته من المواهب، والإبداعات، ومن القدرات الفردية الخاصة. ولذلك نعرف اليوم، كما عرف من كان قبلنا، الكثير الكثير مما وقع وكان، من أصغر الأحداث في علاقة فردين، إلى أكبر الأحداث في علاقة الشعوب والأقوام، والأجناس، ومن خلالها استطعنا أن نفرق بين خطأ وصحيح، وبين ظلم وعدالة، وبين حياة وموت، استطاعت الأصبع الخمس طوال هذا الزمن الممتد أن تصوغ أجمل العبارات، وأقواها، وأن تفند أهم الحقائق وأصدقها، وازنت عبر تبادل أدوارها أن ما تكتبه هو من التاريخ، أكان حقيقة مطلقة، أو حقيقة نسبية، أو باطل من أساسه.
هذه الصورة بدأت اليوم في إعادة تموضعها بشكل لافت، ربما يبقى للزمن سطوته لأنه «وجودي بامتياز» لكن الكتابة لم تعد كما كانت «وجودية بامتياز» حيث بدأت رياح التغيير في قض مضجعها، وذلك من أثر حلول الكتابة الإلكترونية، وهي وإن كانت تعكس ما نقوم بكتابته، ولكن ذلك لن يكون شيئا ماديا متداولا - عبر كتاب - كما كان في السابق، والكتابة لا تزال تدافع عن مصيرها، ولكن أنى لهذا المصير أن يصمد في ظل تنامي الشاشة الإلكترونية؛ والتي بضغطة زر بسيطة تفرز لك مجلدات من الكتب، وتعفي حتى الأصابع الخمس من الكتابة، حيث تسجل الصوت وتحوله إلى كتابة مرئية؛ طبعا يمكن طباعة ما تم التفوه به؛ وأصبح كتابة، هذا الواقع أدى بلا شك إلى تلاشي المكانة الاجتماعية للأفراد أنفسهم، فلن يشار بعد اليوم إلى الخطاط فلان، أو الرسام فلان، فكل هذا؛ بل وأدق منه؛ متاح عبر برامج إلكترونية.
وفي ظل هذه الثورة الإلكترونية لم يعد للورقة التي كانت أساس الكتابة أية أهمية، فالجوازات إلكترونية، والنقود إلكترونية، والثبوتات إلكترونية، والحجوزات إلكترونية، والتنقلات إلكترونية، وأثبات الجنسيات، والنوع، والانتماء الجغرافي والعرقي والديني، كلها إلكترونية، وحالات الاستنساخ إلكترونية. صحيح أن المسافة الزمنية بتراتبيتها واقع، ولكن فعلها إلكتروني، هذه الصورة في مجملها أصبحت مقلقة إلى درجة كبيرة، وإن كان ظاهرها نعمة سهلت على الناس مشاريع حيواتهم المختلفة، إلا أنها في المقابل، غيبت الهوية الحقيقة للكتابة، فلن يكون بعد اليوم - على سبيل المثال - خطاطون، أو رسامون، أو مصممون، أو كل ما من شأنه أن يسند إلى فعل الكتاب، وحل «الذكاء الاصطناعي» ليتجاوز كل حقوق الطبع الخاصة بالكتابة، وينشئ منهجا «متسلطا» لا يمكن الوقوف أمامه، أو مجاراته؛ انعكاسا للإنتاج الكمي الذي يوفره في لحظة زمنية قياسية.
تتحدر القيمة المكانية للإنسان منذ البدايات الأولى لعمر النشأة، حيث يبدأ في وعي أنه في منزل، وأن هناك أسرة تحيط به، وأن هناك تفاصيل كثيرة في هذه الأسرة «والدين، أخوة، أخوات، عمومة، خؤولة، أبناؤهم الكثر، جماعة، مجتمع» ومع بدء النمو والتطور تزداد هذه القيمة، حيث المجتمع الكبير «مسجد، مدرسة، جامعة، مجلس، حارة، قرية، مدينة، دولة» كل ذلك يشعر هذا الإنسان مع ترقي نموه، بأهميته، وأنه لم يأت من عدم، وأن هناك مجموعة من العناصر تحرسه، وتحدد هويته، وانتماءاته، وأنه بلا شك، يفاخر بذلك كله، عندما يكون خارج نطاقه الجغرافي المحدد، بل يكبر هذه الشعور عندما يستشعر مع نفسه بأنه من هذا العالم الكبير، وأن له قيمة يتحرك من خلالها، وتضعه في المكان المناسب «جواز سفر، مبالغ مادية، تذاكر سفر، حجز في فنادق مختلفة، وفي مواصلات مختلفة، لغة يتحدث بها ويتعاطى بها مع الآخرين من حوله» وفوق ذلك كله أنه إنسان، وأن من يتأمل معهم أناس من جنس طبيعته البشرية، وإن اختلفت الألوان، ومقاسات الطول والقصر، مما يبعده كل البعد عن مماثلات التعايش من الحيوانات التي يتقاسم معها الحياة في مواضع كثيرة، صور هذه الهويات التي كانت تنتصر للإنسان الفرد أو المجموع، لن يكون لها ذلك المكان في ظل تنامي الثورة الإلكترونية، التي تكتسح كل شيء يمكن أن ينسب إلى الـ «مادية».
يبدو أن الصورة واضحة في انخفاض القيمة المكانية للإنسان، فأصبح نسيجا هلاميا وحضوره لا يشكل أهمية كبيرة، يحث ذلك في ظل توغل الهالة الإلكترونية التي تكتسح كل مجالات الحياة، وبقي هذا الإنسان منساقا بصورة لا إرادية نحوى الإندماج في هذه الهالة، أراد ذلك أو لم يرد، فلا خيار آخر، يمكن الالتجاء إليه، أو الانحياز له، هذا الواقع، وبهذا الاحتواء المادي، وإن كان الفاعل إلكترونيا، أوجد نوعا من القلق لدى هذا الإنسان، وإن كان ما يقدمه «الفعل الإلكتروني» شيئا مذهلا، ويحقق طموحات الإنسان نحو إنجاز المزيد من الاستحقاقات في هذه الحياة، إلا أن ذلك لم يخفِ هذا التوجس؛ فالقيمة ليست المكانية فقط، أو الاجتماعية فقط، هذه ما تتحلل أو تتلاشى شيئا فشيئا، بل الكينونة البشرية بحمولتها المادية والتاريخية، هي المعرضة لخطر التلاشي. وبهذه الصورة الماثلة، يمكن أن لا يكون هناك تاريخ تكتبه الشعوب في زمن الحاضر، يمكن العودة إليه في يوم ما، فمجموع الشواهد التاريخية والتراثية التي نلمسها بأيدينا اليوم، تظل شاهد عصر لأناس مروا من هذه البقعة الجغرافية أو تلك، وتمثل لنا اطمئنان الجذر التاريخي للأمم، وأننا لسنا وليدوا اللحظة الحاضرة، بل منشأنا يتسلسل منذ ذلك العهد القديم، وأننا الزمن الذي مر كل هذه المدة، أتاح لنا فرصة الترقي المادي، والفكري، والدليل كل شيء يمن أن نلمسه بأيدينا، ومؤرخ في كتب السابقين منا، وأن كل الأمم تفخر بحاضنتها التاريخية، بل وتدافع عنها، وقد تموت حفاظا على بقائها، وبالتالي فمجموعة محصلة التاريخ في بعديه المادي وغير المادي هو تحت هذا السياق، وفي المرحلة القادمة لن تكن الصورة بهذا الوضوح، فالتغريب قادم بلا محالة؛ تغريب في الهوية والانتماء سيطال البشرية ذاتها.
ليس المرة الأولى التي نسمع عن توقف شبكة إلكترونية ما من الشبكات التي أحدثتها الثورة الإلكترونية: «محطات وقود؛ محطات غاز، محطات كهربائية، محطات بنكية، طيران، مؤسسات على درجة كبيرة من الحساسية الأمنية أو الفنية» حيث تقف القدرة العضلية موقف المتفرج، لا تستطيع أن تفعل أي شيء، ولن يحل هذه «اللوغاريتمات» إلا الوعي الإلكتروني الذي يدركه المتخصصون في هذه المجال «الأمن السيبراني»وهو عبارة عن كثير من الأرقام والحروف المتداخلة بعضها ببعض، حتى يصعب حصرها أو الوصول إلى نهايات منطقية لها، ومجمل ما تبديه الشبكات عبر الشاشات التي نقف أمامها هو فضاء إلكتروني لا حدود له، سوى هذه المجموعة من الحروف والأرقام التي تتداخل وتتشابك لتعطي في النهاية معنى ما، وهذا المعنى لن يدركه أي أحد سوى المتخصص المتميز، والفعل هنا يتجاوز الفعل العضلي الذي قامت عليه الكتابة الورقية بأحبارها الزاهية من الألوان.
وفي خضم هذه الشبكات يفقد الإنسان اجتماعيته التي كانت الكتابة هو الوسيلة للوصول إلى الآخر، فالآخر هنا من هو؟ ما هويته؟ أين موقعه؟ في أي زمن هو الآن؟ ما هي الوسيلة التي يستخدمها؟ هل هو شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص؟ هل هو سلوك فرد أو مؤسسة، أو جماعة؟ هل هؤلاء كلهم فرادى أو مجتمعين داخل المحدد الجغرافي الذي نكون فيه، أم متسلل عبر قارات العالم؟ كل هذه الأسئلة الواردة يمكن أن تكون إجابات محتملة، ولأنها محتملة، فهي ظنية أي تحتمل الخطأ والصواب، والسؤال المهم: هل نتعامل مع أشباح؟
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
صابري: 17 في المائة من الإضرابات متعلقة بعدم التصريح في CNSS... وسنطلق منصة إلكترونية للتبليغ
أكد كاتب الدولة المكلف بالشغل، هشام صابري أن الوزارة بصدد وضع منصة إلكترونية للتبليغ عن المخالفات في مجال الشغل، لاسيما عدم التصريح بالأجراء في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
وشدد صابري، خلال مشاركته في جلسة الأسئلة الشفوية بمجلس النواب، على أن تحقيق ورش الحماية الاجتماعية هي مسؤولية جماعية. بالنسبة للسلطة الحكومية عبر الحرص على تنفيذ المقتضيات الخاصة بالحماية الاجتماعية وقانون الشغل، ومسؤولية للمشغلين عبر احترام قانون الشغل، ومسؤولية للنقابات عبر الدفاع عن المكتسبات والتبليغ عن المخالفات.
كما سجل صابري أن نسبة الإضرابات المتعلقة بعدم التصريح بالأجراء في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تصل إلى 17 في المائة سنويا، مضيفا أن الخروج من هذا المأزق يقتضي إعداد منصة إلكترونية سيتم عبرها التبليغ عن جميع الشكايات بخصوص المخالفات في مجال الشغل، ومن بينها عدم التصريح بالأجراء.
وأكد المتحدث أن أي أجير غير مصرح به في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يمكنه تقديم شكوى عبر المنصة الإلكترونية، وسوف يتولى مفتشو الشغل تتبعها.