لجريدة عمان:
2024-09-20@00:01:18 GMT

نوافذ: المعنى يُضيء من جراحهم

تاريخ النشر: 21st, January 2024 GMT

طاروا بواسطة «كابلات» كهربائية، حلّقوا لثوانٍ ضاحكين في الهواء رافعين حزنهم وأجسادهم الجائعة والباردة لوقت ضئيل من عمر الكارثة المُحدقة بهم من كل صوب، قطفوا بهجة صغيرة من سماء مفتوحة على النيران والأنين.

شاهدتُ ذلك الفيديو لأطفال فلسطينيين سُعداء في ظل ظروف قاسية حدّ الموت، فاعتمل في قلبي السؤال حول لغز الطبيعة البشرية المُعقدة! فما الذي يدفعُ الإنسان في مكان معدوم الصلاحية أن يعثر على بهجة ما؟ هل وجد الفلسطينيون معنىً لصلابتهم المتينة، معنىً للأرض التي لم ييأسوا من استعادتها يوما بإيمان قلّ نظيره؟

لطالما انشغلنا بتحسين أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية، كأنّ ذلك سيعني لا محالة أنّ كل شيء على ما يرام.

لكن في حقيقة الأمر، عندما انحسر صراع الإنسان مع الطبيعة من أجل البقاء، ظهر سؤال جديد: البقاء من أجل ماذا؟ إذ تتوفر اليوم وسائل الرفاهية في حدودها القصوى قياسا بتجربة البشرية على وجه البسيطة، لكن ما المعنى الذي نعيشُ من أجله! هذا ما يتناوله كتاب: «صرخة من أجل المعنى» للكاتب فيكتور إميل فرانكل، ت: عبدالمقصود عبدالكريم.

يجد فرانكل أنّ انهيار التقاليد عامل رئيسي في تفسير الفراغ الوجودي الذي يُكابده إنسان اليوم المنزوع من روابطه الأشد عمقا ومتانة، فما بالك بانهيار قيم الأخلاق التي تُوقعنا في هوة سحيقة من الابتذال؟

يُدهشني الفلسطينيون كل يوم وهم يتخطون حدود الفانتازيا، ويعبرون آلامهم وأنهار دموعهم في وداع أحبتهم وذكرياتهم، بل يبتكرون أساليب تعينهم على العيش وعلى التشبث بالحياة، الأمر الذي يؤكد أنّ الرفاهية ليست وحدها ما يحدد «معنى» وجودنا وجدواه، الأمر الذي يُذكرنا بما قاله ألبير كامو بأنّ مشاكل الإنسان تعود إلى حكمنا على الحياة إن كانت تستحق أن تُعاش أم لا!

يقول جيري ماندل: «لقد حرمتنا التكنولوجيا من الحاجة إلى استخدام مهاراتنا التي تتعلق بالبقاء على قيد الحياة»، لكننا وفي ظل انعدام الرفاه شاهدنا الفلسطينيين يُعيدون ابتكار وسائل العيش من الصفر الكبير، المأوى والملبس والطعام. «يُضيئون من جراحهم» كما قرأتُ مرّة لابن عربي، ويتآزرون فيما بينهم، توحدهم الكارثة والموت والخسارة اللامحدودة.

يُخرجُ الإنسان الذي يمتلكُ معنىً للعيش أفضل ما لديه، وإلا فسوف ينجرف ويتدهور كما يقول فرانكل. لكن علينا ألا نخلط بين الدوافع العابرة كالرغبات السطحية التي ما إن تُلبى تخفت، وبين المعاني الأشد رسوخا وعمقا. «فالغايات» الكبرى، كمشروع تحرير وطن مُغتصب لعقود طويلة، نضال توارثه الأبناء عن الأجداد الذين تركوا مفاتيح بيوتهم في عهدة جيل جديد، رغم محاولات العالم لمحو هذا «المعنى» وتشويهه في الصميم. ولعلي أسأل ها هنا بحدّة وحرقة عن الآخر الهمجي الدموي والمغتصب إن كان يمتلكُ «معنى» ما لوجوده على أرض ليست له؟ أظنه سيكون «المعنى» الأكثر زيفا وتلفيقا لتبرير التوحش الآثم. نحن معتادون على اكتشاف المعنى في ابتكار عمل جديد أو تجربة مغايرة، ولكن يجب ألا ننسى -بحسب فرانكل- أننا يمكن أن نجد المعنى ونحن نواجه موقفا ميؤوسا منه أو حين يواجه الضحية مصيرا لا يمكن تغييره.. هكذا تتحول المأساة الشخصية إلى إنجاز إنساني. ألم تقل إليزابيث كبلر روس: «الموت هو المرحلة الأخيرة من النمو الإنساني»؟ مما يعني أننا في رحلة نمو مستمرة نحو الفهم والإدراك. هكذا تستثمرُ قيمة «المعنى» حتى في المعاناة والموت.

ولقد رأيتُ صورة شديدة الوضوح لهذا في استقبال أمهات الشهداء لخبر استشهاد الأبناء. في البداية ظننتُ أنّ المجتمعات تدفعهن لتمثل هذه الصورة، تدفعهن لادخار أوجاعهن لخلوة شخصية كيلا تُنتزع «صورة الشهادة» من مضامينها ومن مركزيتها الفاتنة، ولكن وكما يبدو لم أكن على صواب تماما في جنوحي لهذا الرأي، فالإيمان العميق بالحياة الأخرى الأكثر رفعة في المكان الأسمى، هو الذي أعطى القيمة لهذا الموت وهذه الخسارة.

على الرغم من أنّه لو قُدر لأحدنا أن يختار لما اختار حياة مُرعبة كهذه، لكنهم أمام الحتمية يُظهرون معدنهم، يُضيئون من جراحهم العميقة، بكل ما في جوهرهم من معنى.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذی ی

إقرأ أيضاً:

طالع هابط : شاهد الخراب الذي تعيشه سكيكدة .. ما عندك ما ترقع

طالع هابط : شاهد الخراب الذي تعيشه سكيكدة .. ما عندك ما ترقع

إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور

مقالات مشابهة