لجريدة عمان:
2025-03-16@20:04:24 GMT

نوافذ: المعنى يُضيء من جراحهم

تاريخ النشر: 21st, January 2024 GMT

طاروا بواسطة «كابلات» كهربائية، حلّقوا لثوانٍ ضاحكين في الهواء رافعين حزنهم وأجسادهم الجائعة والباردة لوقت ضئيل من عمر الكارثة المُحدقة بهم من كل صوب، قطفوا بهجة صغيرة من سماء مفتوحة على النيران والأنين.

شاهدتُ ذلك الفيديو لأطفال فلسطينيين سُعداء في ظل ظروف قاسية حدّ الموت، فاعتمل في قلبي السؤال حول لغز الطبيعة البشرية المُعقدة! فما الذي يدفعُ الإنسان في مكان معدوم الصلاحية أن يعثر على بهجة ما؟ هل وجد الفلسطينيون معنىً لصلابتهم المتينة، معنىً للأرض التي لم ييأسوا من استعادتها يوما بإيمان قلّ نظيره؟

لطالما انشغلنا بتحسين أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية، كأنّ ذلك سيعني لا محالة أنّ كل شيء على ما يرام.

لكن في حقيقة الأمر، عندما انحسر صراع الإنسان مع الطبيعة من أجل البقاء، ظهر سؤال جديد: البقاء من أجل ماذا؟ إذ تتوفر اليوم وسائل الرفاهية في حدودها القصوى قياسا بتجربة البشرية على وجه البسيطة، لكن ما المعنى الذي نعيشُ من أجله! هذا ما يتناوله كتاب: «صرخة من أجل المعنى» للكاتب فيكتور إميل فرانكل، ت: عبدالمقصود عبدالكريم.

يجد فرانكل أنّ انهيار التقاليد عامل رئيسي في تفسير الفراغ الوجودي الذي يُكابده إنسان اليوم المنزوع من روابطه الأشد عمقا ومتانة، فما بالك بانهيار قيم الأخلاق التي تُوقعنا في هوة سحيقة من الابتذال؟

يُدهشني الفلسطينيون كل يوم وهم يتخطون حدود الفانتازيا، ويعبرون آلامهم وأنهار دموعهم في وداع أحبتهم وذكرياتهم، بل يبتكرون أساليب تعينهم على العيش وعلى التشبث بالحياة، الأمر الذي يؤكد أنّ الرفاهية ليست وحدها ما يحدد «معنى» وجودنا وجدواه، الأمر الذي يُذكرنا بما قاله ألبير كامو بأنّ مشاكل الإنسان تعود إلى حكمنا على الحياة إن كانت تستحق أن تُعاش أم لا!

يقول جيري ماندل: «لقد حرمتنا التكنولوجيا من الحاجة إلى استخدام مهاراتنا التي تتعلق بالبقاء على قيد الحياة»، لكننا وفي ظل انعدام الرفاه شاهدنا الفلسطينيين يُعيدون ابتكار وسائل العيش من الصفر الكبير، المأوى والملبس والطعام. «يُضيئون من جراحهم» كما قرأتُ مرّة لابن عربي، ويتآزرون فيما بينهم، توحدهم الكارثة والموت والخسارة اللامحدودة.

يُخرجُ الإنسان الذي يمتلكُ معنىً للعيش أفضل ما لديه، وإلا فسوف ينجرف ويتدهور كما يقول فرانكل. لكن علينا ألا نخلط بين الدوافع العابرة كالرغبات السطحية التي ما إن تُلبى تخفت، وبين المعاني الأشد رسوخا وعمقا. «فالغايات» الكبرى، كمشروع تحرير وطن مُغتصب لعقود طويلة، نضال توارثه الأبناء عن الأجداد الذين تركوا مفاتيح بيوتهم في عهدة جيل جديد، رغم محاولات العالم لمحو هذا «المعنى» وتشويهه في الصميم. ولعلي أسأل ها هنا بحدّة وحرقة عن الآخر الهمجي الدموي والمغتصب إن كان يمتلكُ «معنى» ما لوجوده على أرض ليست له؟ أظنه سيكون «المعنى» الأكثر زيفا وتلفيقا لتبرير التوحش الآثم. نحن معتادون على اكتشاف المعنى في ابتكار عمل جديد أو تجربة مغايرة، ولكن يجب ألا ننسى -بحسب فرانكل- أننا يمكن أن نجد المعنى ونحن نواجه موقفا ميؤوسا منه أو حين يواجه الضحية مصيرا لا يمكن تغييره.. هكذا تتحول المأساة الشخصية إلى إنجاز إنساني. ألم تقل إليزابيث كبلر روس: «الموت هو المرحلة الأخيرة من النمو الإنساني»؟ مما يعني أننا في رحلة نمو مستمرة نحو الفهم والإدراك. هكذا تستثمرُ قيمة «المعنى» حتى في المعاناة والموت.

ولقد رأيتُ صورة شديدة الوضوح لهذا في استقبال أمهات الشهداء لخبر استشهاد الأبناء. في البداية ظننتُ أنّ المجتمعات تدفعهن لتمثل هذه الصورة، تدفعهن لادخار أوجاعهن لخلوة شخصية كيلا تُنتزع «صورة الشهادة» من مضامينها ومن مركزيتها الفاتنة، ولكن وكما يبدو لم أكن على صواب تماما في جنوحي لهذا الرأي، فالإيمان العميق بالحياة الأخرى الأكثر رفعة في المكان الأسمى، هو الذي أعطى القيمة لهذا الموت وهذه الخسارة.

على الرغم من أنّه لو قُدر لأحدنا أن يختار لما اختار حياة مُرعبة كهذه، لكنهم أمام الحتمية يُظهرون معدنهم، يُضيئون من جراحهم العميقة، بكل ما في جوهرهم من معنى.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذی ی

إقرأ أيضاً:

???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه

???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
( عميد التَنوير ، نِحرِير النبوءاتِ العَتيقة )

في أعمق لحظاتي مع نفسي صدقاً ، لا أراني أعظَمُ مَيلاً للحديث عن الشخصيات، إن تكرَّمَت وأسعفَتني الذاكرة ، فقد كتبتُ قبل عن فيلسوفِ الغناء مصطفى سيد أحمد ، والموسيقار الكابلي ، والمشير البشير ، وشاعر افريقيا الثائر ؛ الفيتوري .

لا أجدُني مضطراً لمدح الرّجال ، ولكنها إحدى لحظات الإنصاف ، ومن حسن أخلاق الرجال أن ينصفوا أعداءهم، دعك من أبناء جلدتهم ونبلائها ، والرجلُ ليس من قومنا فحسب، بل هو شريف قوم وخادمهم ، خطابه الجَسور يهبط حاملاً “خطاب” ابن يعمر الإيادي لقومه ، وخطبة درويش “الهندي الأحمر” ، و”بائية” أبي تمّام ، وتراجيديا الفيتوري في “التراب المقدّس” ..
عبد الرحمن ، لم يكن حالة مثقفٍ عادي ، “عمسيب” مثالٌ للمثقف العضوي قويّ الشَّكِيمَة ، العاملِ علَى المقاومة والتغيير والتحذير ، المحاربِ في ميادين التفاهة والتغييب والتخدير ، المتمرّد على طبقته ، رائد التنوير في قومه ، ظلّ يؤسس معرفياً وبأفقٍ عَالمٍ لنظرية اجتماعية ، نظرية ربما لم تُطرح في السوح الثقافية والاجتماعية من قبل ، أو لربما نوقشت على استحياء في همهمات أحاديث المدينة أو طُرحَت في ظلام الخرطوم عَهداً ثم غابت . هذا الرجل امتلك من الجسارة والثقافة العميقة بتفاصيل الأشياء وخباياها ، ما جعله يُقدم على تحطيم الأصنام السياسية والثوابت الاجتماعية وينفض الغبارَ عن المسكوت عنه في الثقافة والاجتماع والسياسة.

عمسيب قدم نظريةً للتحليل الاجتماعي والسياسي ، يمكن تسميتها بنظرية ( عوامل الاجتماع السياسي) أو نظرية ( النهر والبحر) في الحالة السودانية ، فحواها أن الاجتماع البشري يقوم على أسس راسخة وليس على أحداث عابرة . فالاجتماع البشري ظلّ منذ القدم حول ( القبيلة Tribe ) ثم ( القوم Nation ) ثم ( الوطن Home) ثم ( الدولة country) . هذا التسلسل ليس اجتماعيٌ فحسب، بل تاريخيٌ أيضاً ، أي أن مراحل التحَولات العظيمة في بِنية المجتمعات لا يصح أن تقفز فوق الحقب الاجتماعية ( حرق المراحل).. فالمجتمعات القَبَلية لا يمكنها انتاج (دولة) ما لم تتحول إلى (قومية) ، ثم تُنتج (وطن) الذي يسع عدد من القوميات ، ثم (دولة) التي تخضع لها هذه القوميات على الوطن ، مع تعاقد هذه القوميات اجتماعيا على مبادئَ مشتركة، وقيمٍ مضافة ، كالأمن والتبادل الاقتصادي وادارة الموارد ، والحريات الثقافية ونظام الحكم .

هذه النظرية تشير إلى أن الاجتماع السياسي في السودان ظل في مساره الطبيعي لمراحل التسلسل التاريخي للمجتمعات والكيانات ، إلى أن جاءت لحظة ( الاستعمار) Colonization . ما فعله الاستعمار حقيقة ، أنه وبدون وعي كامل منه ، حرق هذه المراحل – قسراً – وحوّل مجتمعات ما قبل الدولة ( مجتمعات ما قبل رأسمالية) إلى مجتمعات تخضع للدولة.

فالمجتمعات التي كانت في مرحلة ( القبيلة) او تلكَ في مرحلة( القومية) قام بتحطيم بنيتها وتمحوراتها الطبيعيه وتحويلها إلى النموذج الرأسمالي الغربي ، خضوع قسري لمؤسسات الدولة الحديثة، مجتمع ما بعد استعماري ، تفتيت لمفاهيم الولاءات القديمة الراسخة ، بل وتغييرها إلى نظم شبه ديموقراطية، وهذا بالطبع لم يفلح، فبعد أن حطّم المستعمر ممالك الشايقية ودولة سنار ومشيخات العرب بكردفان ومملكة الفور ، وضم كل ذلك النسق الاجتماعي ( القبلي / القومي) إلى نسق الوطن/ الدولة.. أنتج ذلك نخب وجماعات سياسية ( ما بعد كولونيالية ) تعيش داخل الدولة ، لكنها تدير الدولة باللاوعي الجمعي المتشبّع بالأنساق التقليدية ( القبيلة / الطائفة / القومية) ، أي مراحل ماقبل الوطن والدولة.

ما نتج عن كل هذه العواصف السياسية والاجتماعية ، والاضطرابات الثقافية، أن هذه المجتمعات والقوميات التي وجدت نفسها فجأة مع بعضها في نسق جديد غير معتاد يسمى ( الدولة) ، وأقصدة بعبارة ( وجدت نفسها فجأة) أي أن هذا الاجتماعي البشري في الاطار السياسي لم يتأتَ عبر التمرحلات الطبيعيه الانسانية المتدرجة للمجتمعات، لذا برزت العوامل النفسية والتباينات الثقافية الحادة ، الشيئ الذي جعل الحرب تبدأ في السودان بتمرد 1955 حتى قبل اعلان استقلاله . ذات الحرب وعواملها الموضوعيه ومآلاتها هي ذات الحرب التي انطلقت في 2002 ثم الحرب الأعظم في تاريخنا 2023 .

أمر آخر شديد الأهمية، أن دكتور عبد الرحمن ألقى حجرا في بركة ساكنة، وطرق أمراً من المسكوت عنه ، وهو ظاهرة الهجرات الواسعة لقوميات وسط وغرب افريقيا عبر السبعين عاما الماضية ( على الأقل) , فظاهرة اللجوء والهجرات الكبيرة لقبائل كاملة من مواطنها لأسباب التصحر وموجات الجفاف التي ضربت السهل الافريقي، ألقت بملايين البشر داخل جغرافيا السودان، مما يعني بالضرورة المزيد من المنافسة العنيفة على الأرض والموارد وبالتالي اشتداد الحروب والصراعات بالغة العنف، وانتقال هذا التهديد الاستراتيجي إلى مناطق ومجتمعات وسط وشمال السودان ( السودان النّهري)

اذن ، سادتي ، فنظرية (الاجتماع السياسي ، جدلية الهوية والتاريخ ) هذه تؤسس لطرائق موضوعيه ( غير منحازة) لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية وجدليات الحرب والسلام ، وتوضّح أسباب ظاهرة تعدد الجيوش والميليشيات القبلية والمناطقية والخطابات المؤسسة ديموغرافياً ، وما ينسجم معها من تراكمات تاريخيه وتصدّعات اجتماعية عميقة في وجدان تلك الجماعات العازية .. التوصيات البديهية لهذا الخطاب ، أن الحلّ الجذري لإشكاليات الصراع في السودان هو بحلّ جذور أزمة الهوية، والهوية نفسها لم تكن ( أزمة) قبل لحظة الاستعمار الأولى ، بالتالي تأسيس كيانات جديدة حقيقية تعبّر عن هويات أصحابها والعقد الاجتماعي المنعقد بين مجتمعاتها وقومياتها .

النظرية التي أطلق تأسيسها دكتور عبد الرحمن، لم تطرح فقط الأسئلة الحرجة ، بل قدمت الإجابات الجسورة وطرقت بجراءة الأبواب المرعبة في سوح الثقافة والاجتماع والسياسة في السودان.

Mujtabā Lāzim

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • مفتي الجمهورية: الأمانة في الإسلام تحمل المعنى الأشمل والأعم
  • ما الذي تفتقده صحافتنا اليوم؟
  • كشف تفاصيل الرتل الأمريكي الذي انتقل من بغداد إلى الانبار
  • ???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
  • بمواصفات خيالية.. هل يكون «OnePlus» الحاسب الذي ننتظره؟
  • أين تنشأ عملات البيتكوين؟ السر الذي لم يُكشف بعد
  • ما جيش تحرير بلوشستان الذي خطف القطار الدامي بباكستان؟
  • المجلس الوطني لحقوق الإنسان يدعو إلى مواجهة التحديات التي تعاني منها فئة ذوي الاحتياجات الخاصة
  • السوداني يعلن قتل الإرهابي عبد الله مكي الذي يشغل منصب والي العراق وسوريا
  • معنى «وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ».. علي جمعة يصحح خطأ شائعا في تفسير الآية