أين رعاية الأغنياء للفقراء؟ فى عصر الباشوات كان الباشوات يقيمون المدارس والمستشفيات والأسبلة للجميع، وكانت قصورهم ولا تزال بين بيوت الناس دون أسوار وحواجز «وكمباوندات»، بل إن كُتبا كثيرة طُبعت على نفقة هؤلاء، وهناك مبعوثون سافروا لأوروبا لنيل الماجستير والدكتوراه على نفقة هؤلاء، فأين أغنياء اليوم الذين انعزلوا عن الناس داخل أسوار مُدنهم التى لا يدخلها أحدٌ من عامة الناس سوى مَن يحتاجون إليه من أرباب الصناعات والحِرف ليعود أدراجه بعد انقضاء مهمته، ولهم أن يتحصّنوا كيف شاءوا ولكن عليهم أن يقدّموا لبلدهم وأبناء شعبهم زكاة أموالهم برعايتهم الفقراء، من خلال مِنح دراسيه للمتفوقين والاسهام فى إنشاء المدارس والجامعات التى لا تسعى للربح، فهذا بلدهم وهؤلاء أهلهم مهما ابتعدوا عنهم وهذا سيذيب الهوّة الاقتصادية بين الطبقات من خلال إزالة الهوة النفسية بينهم، وهذا حِصن لهم فلن تعيش فى برجك بمعزل عن الآخرين ولا راحة لغنى بين فقراء وعلى رأى المتبني:
الناسُ للناس من بدوٍ وحاضرةٍ
بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ
المجتمع فى حاجة إلى ترميم العلاقة بين الأغنياء والفقراء، وهذا لن يأتى دون عطاء الأغنياء ورضا الفقراء، مجتمعنا أحوج ما يكون إلى اللُحمة الاجتماعية والحفاظ على أبناء الطبقة الوسطى التى ترتكز عليها الدول، وتوشك أن تختفى، وعلى مُشرّعى القوانين أن يُسقِطوا ما تبرع به المتبرعون مما عليهم من ضرائب تشجيعا لهم وحتى يعرف العامة ما يمنحه هؤلاء فى مصارف الخير المعلَنة والمراقَبة أيضا من خلال أجهزة الدولة الرقابية، حتى لا تنحرف هذه العطايا عن مقاصدها كما أنى أهيب بالشركات والمصانع أن تُخرج من أرباحها السنوية نسبةً تخدم بها المجتمع المجاور لها الذى تُسبب له تلوث البيئة والضوضاء وازدحام الطرق؛ أليس من حق هذا المجتمع أن يرى التكافل الاجتماعى بدلا من أن يرى ما يستفزه فى إعلانات الفِلل المليونية والمليارية؟
مختتم الكلام
قال الشاعر:
أمرتهمُ أمرى بمنعرجِ اللوى
فلم يستبينوا النُّصحَ إلا ضُحى الغدِ
[email protected]
.المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: المدارس والمستشفيات نفقة هؤلاء لنيل الماجستير والدكتوراه
إقرأ أيضاً:
هالة المثالية وهم الرموز
عبر قرون من الزمن عرف الناس رموزا بينهم يحملون لهم هيبة وتقديرا عظيما ولا يقبلون بهم عيبا أو يرضون فيهم انتقاصا، فلا عجب حينها من تشكل هالة من النزاهة والتقديس اختصوهم بها بعيدا عن مواضع النقص أو مزالق الهفوة، ولتأسيس تلك الرموز مبررات عديدة تُعرف من مكانة الرمز أو منتجه الفكري، فمنها على سبيل المثال: الوالدان، المعلمون، العلماء، المثقفون والفلاسفة، كما أن منهم الرؤساء والقادة، ومع وقوع هؤلاء الرموز في دائرة الضوء ضمن دوائر التلقي المتتابعة تنشأ تلك العلاقة المبنية على إعجاب المتلقي عاطفيا (مهما كانت صفته؛ ابنا أو طالبا أو قارئا، مرؤوسا أو حتى مواطنا) ولو أن ذلك الإعجاب بقي في محل منتجهم الفكري تربية أو معرفة أو رعاية لأحوالهم لكان خيرا، لكنه انسحب على كل ما قد يصدر عنهم من قول أو فعل حدّ نزع الصفة الآدمية عنهم بتحويلهم إلى ملائكة منزهين.
التاريخ الذي نقل شخصياتهم محاطة بهالات التقديس نقل كذلك تناقضاتهم لنجد أن جان جاك روسو، صاحب التيارات الثورية الرومانسية في مقولته الشهيرة «ولد الإنسان حرًا، وهو في كل مكان مكبل بالأغلال» روسو الذي يرى أن الإنسان فاضل بطبيعته لكن البيئة الخاطئة من حوله تدفعه لارتكاب الخطأ، روسو الثوري المحب للطبيعة رفض المساواة بشكل صريح وعاش على حساب الأغنياء وأصحاب النفوذ، ومع تنظيره المستفيض عن أهمية المحيط الاجتماعي في التنشئة السوية للأفراد في مؤلفاته، فقد تخلى عن أبنائه الخمسة واضعًا إياهم في دور الأيتام، متسببًا في موتهم المبكر.
أما الفيلسوف الأكثر شهرة في القرن العشرين ميشيل فوكو - الملقب في فرنسا بالملك الفيلسوف - فقد نشرت صحيفة «صنداي تايمز» بتاريخ 28 مارس 2021، تقريرًا صادمًا يكشف اعتداءات فوكو على أطفال عرب أثناء إقامته أواخر الستينات في المغرب، وفقًا لأقوال صديق له، الصادم أن صاحب «أركيولوجيا المعرفة» و«المراقبة والمعقابة» و«تأويل الذات» و«تاريخ الجنسانية» كان بيدوفيليا ذا سلوك منحرف من الناحية الأخلاقية، حتى أنه كان يتجسس على جيرانه من السطح مستخدمًا منظارًا خاصًا.
لودفيغ فتغنشتاين، أبرز فلاسفة اللغة والمنطق والعقل، المعروف بالغطرسة وتقلب المزاج، كان معلما في إحدى المناطق النائية بالنمسا؛ فعاقب فتاة بسحبها من شعرها إلى درجة اقتلاع خصلات رأسها لعدم فهمها قاعدة رياضية، كما ضرب أخرى بقوة إلى درجة أن أذنيها نزفتا دما!
الحقيقة؛ ليس العجب في تناقضهم بشرًا حتى مع ثقافتهم، بل في اعتقاد الناس -حتى من المثقفين أنفسهم- قدسيتهم وتنزههم عن الخطأ والعيب والنقصان والقصور، وما ذلك إلا لسيطرة العاطفة بالكامل على المتلقي حدّ تجاهل المنطق في اعتقاد ملائكية هؤلاء الرموز سواء من المثقفين أو من غيرهم، ولعل هذه السذاجة في التعاطي مع نقصهم أو مكامن الضعف لديهم هي ما جعلت الفيلسوف الفرنسي لوك فيري يقول موضحا «الثقافة لا تمنع أحدًا من أن يكون سافلاً» ونزيد على تعبيره الغاضب أن قد يتفوق المثقف على غيره في قدرته على تبرير السوء والخطأ دون حتى الاعتراف باقترافه للخطأ.
لعل ما يحدث اليوم مع مشاهير التواصل الاجتماعي هو ذاته ما حدث قديما مع تناقض بعض الفلاسفة والأدباء، مع تبدل دوائر الضوء عن الإنتاج المعرفي إلى إنتاج السلع وتدوير اليوميات (مهما كانت خاوية دون محتوى حقيقي أو متضمنة محتوى مبتذلا)، حيث صارت قاعدة الجماهير حاجزًا من الشهرة والألفة معا يحولان دون تصديق ما قد يصدر عن هؤلاء المشاهير من إسفاف أو اعتداء أو حتى إجرام لتنبري جموع الجماهير الغفيرة من المتابعين والمعجبين مدافعة عن مشهورها الملاك، وبطلها المعصوم، وفي ذلك ما فيه من خطورة، حتى وإن تجاوزنا مسألة الإسفاف القيمي الضبابي غير المجرّم (للأسف) فإننا لا نملك تجاوز الظاهر من مخالفات يقينية تمس أمان الفرد والمجتمع.
ختاما، ما زالت الكلمة حاملة طاقات التأثير فرديًا ومجتمعيًا، ناقلة رسائل إيجابية وأخرى سلبية عبر أي من قنوات تمريرها المختلفة؛ كتابية أو سمعية بصرية، مما يستدعي ضرورة العناية بتجويد المحتوى، وتشريع وسائل حوكمة واضحة لكل قنواتها ومؤثريها من صانعي المحتوى سعيا لتعزيز القيم؛ تقديرًا لقيمة القانون وضوابطه بعيدا عن الإسفاف والتسطيح.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية