هذه رواية كتبت تحت جنح الليل، والخوف يعتلى صاحبتها أن تسقط شهيدة القهر والألم قبل أن تكملها، فلا نوم يأتى رحيمًا بها، ولا جفونها المثقلة أبت أن تطاوعها لكى تغفل عن شاشة التلفاز الضخمة الموضوعة على حائط منزلها فى القاهرة، تبث كل لحظة على الهواء مباشرة تفاصيل أحدث محرقة جماعية فى عصرنا الحديث بالصوت والصورة، وذلك عبر مئات التقارير الإخبارية عن سقوط آلاف المدنيين الفلسطينيين العزل بين جرحى وقتلى، وهم يدافعون عن بيوتهم ومدارسهم ومستشفياتهم، التى سقطت فوق رؤوسهم بلا رحمة ولا هوادة، فى انتفاضة اندلعت فى قطاع غزة منذ الـ7 من شهر أكتوبر 2023، للرد على الهجوم الأعنف والأشرس من جانب المحتل الصهيونى الخسيس.
أما الرواية فعنوانها «حائط بلا مبكى» لزميلتى فى المهنة والأعلى فى المقام الكاتبة «فكرية أحمد»، التى استطاعت فى مائة يوم فقط زمن اندلاع الانتفاضة حتى الآن، أن تسدل ستائر نوافذها المفتوحة للعالم، وأن تعتكف لتبحث وتنقب فى مئات الوثائق التاريخية، فتكتب وتسجل فى هذه الرواية كل شيء عن التاريخ الفلسطينى المجيد، حتى لا تنسى الذاكرة الجماعية العربية خريطة فلسطين القديمة بمدنها وحدودها ونخلها وبساتينها، حتى عشرات السجون الإسرائيلية البغيضة والمظلمة كسجن نفحة وهاشرون تذكرها الروائية «فكرية أحمد» مرتبطة بقصص نزلائها الحزينة كقصة «فريحة» التى أخذوها وهى فى طريقها من منزلها بمدينة الرميلة التى تبعد مسافة 38 كيلو مترا شمال غرب مدينة القدس، وهى حامل، فى طريقها لشراء ما تحتاجه للبيت، بتهمة اختراق الحاجز الأمنى، ومحاولة دهس الجنود لقتلهم!
كما أنهت الكاتبة «فكرية أحمد» الرواية بإرفاق فصل كامل فى اعتقادى أنه الأول من نوعه، باستثناء رواية الكاتب «صنع الله إبراهيم» «بيروت بيروت» للصور لمعظم الأحداث وأعمال الإبادة التى ينفذها الاحتلال، مبررة الأمر أنه إذا كانت آلة الإعلام الصهيونية ستحذف الصور والأحداث من ماكينات البحث الإلكترونى، فستجدها الأجيال فى هذه الرواية وفى مثيلاتها من الروايات الوثائقية، خاصة أن سلطات الاحتلال عمدت إلى حذف معلومات هائلة حول تاريخ فلسطين وتاريخ الاحتلال اليهودى الصهيونى والمقاومة الفلسطينية، وذلك من المناهج الدراسية للطلاب فى المناطق الواقعة تحت الاحتلال، وهو تعمد لتشويه الهوية، وحتى تنشأ أجيال لا تعرف شيئًا عن حقيقة الاحتلال وحقيقة أن فلسطين عربية وأرض خالصة لأصحابها.
وهو ماجعل الإعلامى والسيناريست محمد الغيطى فى الندوة التى أقيمت بنقابة الصحفيين لمناقشة الرواية، يجد أن رواية حائط بلا مبكى للكاتبة فكرية أحمد عمل وثائقى خطير، وأكد بإنصاف أن فكرية أحمد آخر عنقود السلسال الذهبى فى التوثيق الأدبى، معتبرًا أنه إذا كان يوجد إنصاف أدبى على الساحة لتم وضع هذه الرواية ضمن مناهج التعليم للطلاب فى المدارس لأهميتها.
تحكى الروائية «فكرية أحمد» لكى لا تنسى الذهنية العربية فى روايتها «حائط بلا مبكى» من خلال الشيخ الضرير «أبوصهيب» إمام المسجد الأثرى «القرمى» الكائن فى الحى الإسلامى بمدينة «القدس» العتيقة عن الصبى «محمد عبدالغنى أبوطبيخ سباعنة» أول طفل فلسطينى فدائى، استشهد عام 1929، ولم يتجاوز عمره الخامسة عشرة عامًا.
تروى «فكرية أحمد» على لسان الشيخ «أبوصهيب» أن الطفل الفلسطينى «محمد عبدالغنى» جاء من بلدة قباطية بالجنوب الغربى لمدينة «جنين»، وحينما رأى رئيس النيابات العامة البريطانى اليهودى «نورمان بنتويش» يغادر مكتبه فى القدس، وهو الذى أطلق قوانين تعسفية ضد الفلسطينيين خلال ثورة البراق أطلق عليه ثلاث رصاصات، فى محاولة لاغتياله، إلا أن الرصاصات أصابت فخذه فقط، لتكون أول محاولة اغتيال سياسية موثقة لدى إسرائيل.
لا تتوقف الروائية «فكرية أحمد» عن الحكى، تلهث طوال صفحات الرواية لتقول للقارئ كل شيء عن فلسطينيين حقيقيين يتنفسون كل صباح هواء مشبعًا بالبارود ورائحة الدم، فى محاولة للتأكيد بكلمات تشبه الصراخ أن حيواتهم اليومية عبارة عن ملحمة من النضال والتضحية.
فى رواية «فكرية أحمد» ستبكى مع «فريحة» فى سجن نفحة الإسرائيلى، وستستعيد الذكريات مع «ديما» وزوجها البطل «إبراهيم الزينى»، وستتخذ موقفًا إنسانيًا يبرر الخوف والرغبة فى الخلاص من تأنيب الضمير مع «أحمد العسيلى» أخو «ديما» معلم اللغة العربية، وصاحب ديوان شعرى وحيد فى حب فلسطين، الذى هاجر إلى فرنسا فرارًا بأولاده من مصير الموت الذى ينتظرهم فى أرض الوطن.
ختامًا أدعو الجميع لقراءة هذا العمل البديع للروائية «فكرية أحمد» الذى يذكرنى بـ«ثلاثية غرناطة» و«الطنطورية» للجميلة الراحلة «رضوى عاشور»، «دخل الخيل الأزهر» لجلال كشك، «عزازيل» «النبطى» للدكتور يوسف زيدان، «البشمورية» للروائية سلوى بكر، وغيرها من الأعمال التى كتبت من لحم ودم لتبقى للأجيال القادمة.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: غزة سقوط آلاف المدنيين الفلسطينيين العزل فکریة أحمد
إقرأ أيضاً:
سجال ودي مع نقاد رواية “إعدام جوزيف” 2-4
الدكتور ضيو مطوك ديينق وول
إنَّ الذي حَدَثَ في معظم المدن السودانية وخاصة مدينة ود مدني في الآونة الآخيرة من استهدافِ أبناءِ جنوب السودان الذين كانوا يعملون في المشاريعَ الزراعيةِ بالجزيرةِ بعد تحريرها، و ردودِ الأفعالِ الغاضبةِ من قبل الجنوبيين ضدَّ إخوانِهم الشماليين الأبرياء الذين لجؤوا إلي جنوبِ السودانِ فاريين من الحربِ في بلادهم، خطأً كبيرًا يتحملُ مسؤليتَه بصورةٍ كاملةٍ السياسيون والمثقفون في البلدين، لأنَّ هذه الأحداث ظلت تطاردُ أهلنا بصورةٍ متكررةٍ طيلةٍ هذه الفترة ونتيجةً لسكوتِنا عن تناولها أو مناصرتها أو أحيانا انتقاء ما نريده، يفاقمُ الأوضاعَ فتخرجُ عن السيطرةِ. يجبُ أنْ نطَّلع بدورنا في مناهضة هذه الأعمال غير الإنسانية بالتجرد.
إن التمركز خلف الأيدلوجيات السياسية التي لا تحترم التنوع الفكري والعرقي والثقافي والديني سيضر بالمصالح الكبري سواء كان في السودان أو جنوب السودان.
المواطنُ البسيطُ في البلدين حتي الآن لم يستوعبْ الانشطار الذي حدثَ في السودانِ وأصبح بلدين، ولذلك نجد جنوب السودان يحوي ملايين السودانيين الذين يعملون في الأعمالِ الحرةِ وحتي في دواوين الدولة قبل الحربِ، وهو نفسُ الأمرِ في السودان حيث إنه عندما اندلعت الحربُ في أبريل 2023 كان هناك أكثرُ من مليونين من أبناءِ جنوبِ السودانِ. كلُّ هذا يجعلُنا نتصدي لدعاةِ الفتنة والعنصريةِ التي لا تتماشي مع موروثاتِنا والمواثيقِ الدوليِة.
الكثيرُ يعتقدون بأنَّ مهرَ الانفصالِ هو استقرارُ الدولتيين، يتعايشان جنبًا إلى جنبِ، ويتصديا سويا للمشاكل الإقليمية والدولية، لكنَّ استمرارَ معاناةِ الشعبيين في البلدين يكذبُ هذا الاعتقاد و يدعو للقلق.
إنَّ أكثرَ البلدان تماسكًا هي تلك التي يوجدُ فيها تنوعٌ في الجنسِ واللونِ والديانةِ والعرقِ وحتي الطبيعة. نتكاثرُ لأننا جنسين مختلفين، نحبُ قوسَ قزح، لأنَّه متعددَ الألوانِ . ليس هناك جريمةٌ في الاختلاف إطلاقًا، فالاختلافُ قوةٌ إذا أُحسنَ استخدامُه، ونجدُ ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية ، وكثيرًا من البلدان التي نجحت في إدارةِ التنوعِ. فماليزيا مثلًا تشبه السودانَ من حيثُ التنوعِ الدينيِ والعرقيِ، لكنْ استطاعت أنَّ تديرَ هذا التنوع لمصلحةِ شعبِها وأصبحتْ من أقوي البلدان في العالم. هذا لم يكنْ ممكنًا لولا السياساتُ التي انتهجها مؤسسُ الدولةَ الحديثةَ في ماليزيا مهاتير محمد. فلماذا فشلنا في إدارةِ التنوعِ في بلداننا رغم نتائجه الكارثية؟ إننا سنظل في هذا المستوي المتدني إذا لم نجد إجابة شافية لهذا السوال المحوري.
أحد التعليقات اللافتة لا تمت بصلة للنقد الأدبي هي تلك التي قدمها المهندس بدر الدين العتاق وهو يعلق علي مقالات الأستاذ الصادق علي حسن، حيث كتب:
" تحياتي لك أستاذي الفاضل
سؤال مهم للغاية سعادتك بخصوص الكتاب:
كيف صنفت الكتاب في خانتي الأدب العربي والسياسي؟
متين أصنف الكاتب بأنه أديب، بالتحديد ضيو مطوك؟" انتهى الاقتباس.
الملاحظة السريعة لهذه النصوص تجزم علي إن المهندس بدر الدين ليس له معرفة بالشخص الذي يتحدث عنه، مما يضعه في خطاء فادح لأن مثل هذه الكتابات نوجهها لأشخاص نعرفهم حتي نتفادي المساجلة ذات الطابع الشخصي. المهندس بدر الدين لم يصادفني في ساحات العمل العام أثناء تواجدي ضمن الطاقم الرئاسي في القصر الجمهوري بالسودان، كما يبدو أيضا بانه لم يقرا عني قط وكان بالأحري أن يتعرف علي شخصيتي ولو عن طريق محرك غوغل حتي يستثنيه من التساؤل، كيف صنف ضيو مطوك كسياسي. نريد أن نذكر المهندس بدرالدين بأن عملًا فكريًّا واحدًا أو رواية يمكن أن يتوج كاتبه ليكون مفكرًا أو أديبًا ولدينا أمثلة كثيرة، "موسم الهجرة الي الشمال" كانت علامة فارقة لأديبنا الطيب صالح وكذلك "طائر الشؤم" للدكتور فرانسيس دينق وكثير منهم. فالعلة ليس في الإنتاج الغزير لكن نوعية العمل الأدبي الذي قدم للمجتمع.
كتبت كتابين مهمين في فض النزاعات وبناء السلام، لكن لم يثيرا الضجيج مثلما اثارته رواية إعدام جوزيف. هذا يدل علي أن الأدب أقرب لوجدان الشعوب ويستطع المجتمع أن يتجاوب ويتفاعل معه.
ما زلت أذكر مقترح الدكتور مدحت حماد سكرتير عام المنتدي الثقافي المصري أثناء مناقشة الكتاب، حيث قال "يجب أن يخرج هذا الجمع بمقترح يقدم للسيد رئيس جمهورية جنوب السودان بتكليف الدكتور ضيو مطوك بحقيبة الثقافة بدلا عن الاستثمار لما قدمه من عمل أدبي". هذا رأي سكرتير عام المنتدي الثقافي المصري ووجد قبولًا واسعًا من الحضور، وعندما طلب مني الرد علي ذلك اتفقت معه فيما ذهب اليه، لكن أيضا يممكنني تسيير العمل الثقافي والأدبي والفني من خلال حقيبة الاستثمار لأن الاستثمار محفز لكل أنشطة المجتمع. لمعلومية المهندس بدر الدين والقارئ الكريم، هذا التصنيف الأدبي لم ياتِ من الأستاذ الصادق بل كان رأي كثير من النقاد الذين شاركوا في مناقشة الرواية. الدكتور حسام عقل أستاذ النقد الأدبي بجامعة عين الشمس ورئيس ملتقي السرد العربي وآخرون ذكروا أن الأسلوب الذي كتبت به رواية" إعدام جوزيف"فريد بحيث يتناول القضية السياسية ويضعها في قالب أدبي وهو نهج مميز في كتابة الروايات التي تنتقد الأنظمة السياسية في العالم المعاصر.
النقطة الاخري محل الاهتمام في رسالة المهندس بدر الدين هي محاولته لشخصنة النقد الأدبي بقوله ( بالتحديد ضيو مطوك). هذه الرسالة اعتبرها تجاوزاً خطيراً لخطوط النقد الأدبي العلمي والأكاديمي. وورود هذه العبارة من شخص يدعي أنه ناقد، شيء يدعو للقلق ويتطلب وقفة. لماذا هذا السؤال وسط زخيرة من الأفكار طرحها الأستاذ الصادق علي حسن؟ هل هذا ليس دليلًا علي ان المهندس بدر الدين يتناول الرواية من منظور عرق كاتبها؟ ماذا يقصد بهذه الكلمة؛ " كيف صنفت الكتاب في خانتي الأدب العربي والسياسي"؟ هذا التساؤل العنصري يوحي بجاهل عن تطور اللغة العربية في مراحلها المختلفة. فمعظم فطالحة اللغة العربية الذين ساهموا في وضع علومها وتلقينها وبناء وتوضيح علاقتها بالعلوم الحديثة ليسوا عربًا علي سبيل المثال؛ سيبويه، الجرجاني، الفراهيدي، الجبائي، ابو حيان التوحيدي، ابن منظور، السيوطي، ابن جني، الفيروزابادي الجزولي وغيرهم. هؤلاء هم أئمة النحو والبلاغة والمعاجم والعروض والأدب، أيضا دور العلماء المصريين في توطيد أركان اللغة العربية رغم الجدل الكثيف حول هويتهم العربية. فلماذ يريد بدرالدين ان يكون ضيو مطوك عربيا حتي يتلقن اللغة العربية؟
aromjok@gmail.com