مأساة غزة تستنهض العدالة الدولية
تاريخ النشر: 21st, January 2024 GMT
د. قاسم بن محمد الصالحي
لن أبدأ الكتابة لأحكي عن صمت العالم، ولا عن أمواج ظلمه العاتية، ولا عن مشاهدة تنامي جبابرته وهم يركبون على متن أمواج دماء شعوب مُستضعفة حين تتكسر على شواطئ الأجساد، ولا عن الأزمات التي تصطنعها قواه العظمى، ولا ما فعلته حروبها في أفغانستان والعراق وسوريا؛ بل انصب تفكيري حول معركة العدالة، التي تدور على منصة القضاء الدولي، هدفها لجم الكيان الصهيوني وإرغامه على المثول أمام القانون، تبنى أحرار العالم إزالة ضمادات عيني العدل في العالم ليرى فظاعة جريمة الكيان الصهيوني، ومن تجمع حوله ولف لفيفه من قوى الظلم العالمي، يشاهد جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها في حق شعب أعزل يقع تحت نير الاحتلال، في مناخ تحولي "تكتوني" يحدث في ديمقراطيات الغرب، فكرت أيضًا في انهيار القيم الإنسانية، وضعف استجابة العالم اتجاهها.
أردت أن أفهم إلى أين قد يؤدي كل هذا الظلم، بدأت أتساءل كيف ستبدو حقوق الشعب الأعزل مع ظلم جاثم عليه. وتساءلت أيضًا كيف سيكون العيش في ديمقراطية تنجرف نحو الاستبداد، سألت نفسي، ما نوع القوة التي يمكن أن يتمتع بها الشعب الواقع عليه الظلم، عندما يجد نفسه محاطًا بمثل هذه القوى الهائلة من الظلمة؟ لقد تشكل عنوان المقال كرؤية لما يدور من نقاش في عريضة المظلوم أمام عريضة دفاع الظالم، وتساءلت هل ستلفت محكمة العدل الدولية الانتباه إلى مبادئ الإنسانية الضائعة، في مقابل ما يختلقه المجرم من مصائب، وهل مصائب هذا الظالم ستقرب الشعوب الحرة في هذه اللحظة الحرجة؟، وهل العريضة المطروحة أمامها ستبدد النقاط السوداء التي تحملها عريضة دفاع القوى المتغطرسة، التي تعاني من ظلمها الشعوب في مسار حياتها، تتحكم في سلوكيات مجتمعاتها وممارستها وتواصلها مع الآخرين.
بدأ الشعور في أجواء المرافعة القانونية التاريخية الجنوب أفريقية، تقرب من نهاية وجوب التطهر من ترسبات ماضي ما صنعته العصبة الفاسدة ولعنة حاضرها، التي تحاصر الشعوب بقيود وتصورات مسبقة، تقودها في دروب عداوات مجانية، تكونت انطباعات، بعد طوفان الأقصى، فوقر في ضمير العالم الحر مظلومية الشعب الفلسطيني، استبين وضوح الحق وسطوع عدالة القضية، وشاهد جرائم الإبادة الجماعية المرتكبة في غزة، وهو يلوم نفسه على انطباعه السالف الذي كان مناقضاً لما اكتشفه في وحشية جرائم الآلة الصهيونية وغطرستها، وجزء مما يحدث تحت أنقاض الحجر وأشلاء البشر، إذ تعرفت شعوب العالم الحر على الشعب الفلسطيني وصموده أمام المحتل الغاصب في ظروف قاسية، شاهدت أطفال غزة وهم يغرقون في الدماء، والخوف مما يتربص بهم من مخاطر كثيرة في وطنهم المسلوب.
تعرَّف العالم الحر على ما يعانيه الفلسطينيون في كل أرض فلسطين، ورأى أشلاء ودماء الغزاويين كيف تفعل بها آلة الحقد والغطرسة الصهيونية في مكان ضيق من الأرض، اقتنع بضرورة البوح بالجرائم وجدوى الاعتراف بها، تشجعت شعوبه لإعلاء صوت العدل، وقرر إزالة الضمادات عن عينيه، ولجم غطرسة الكيان الصهيوني وتعرية جريمة الإبادة التي يمارسها، في معايير عالم يزن بأوزان الظلم.
ملحمة طوفان الأقصى تحوَّلت إلى وسيلة للخلاص مما يُعانيه الشعب الفلسطيني من ظلم وضيم، فقام بملحمته عندما لم يجد عالمًا عادلا يعيد حقاً سلب منه، منذ أكثر من قرن، ولم يكن ذلك من باب التحايل على ذاته بقدر ما هو سبيل من سبل الاعتراف بوجوده تحت احتلال متغطرس، مارس عليه جريمة الإبادة الجماعية، وقف العالم الحر مع غزة لإزالة الضمادات عن عيني العدل، وتحقيق الأمان والراحة والاطمئنان، شكل طوفان الأقصى دربا لصد المعتدي، تصالحت الشعوب الحرة مع ذاتها، انصلاقاً من العبر المتحصلة التي راكمتها تجاربه في التعامل مع الإجرام والمجرمين، ومع حاضرها الأقسى الذي يدور في فلك عالم يزداد شراهة في الظلم، فتسامت مع شعب غزة وتأقلمت مع وضعه في انتظار إحقاق حقه المسلوب.
أحكي أنه بعد أن تمادي المحتل في جرائمه البشعة ليس في حق أهل غزة وحسب؛ بل في حق الإنسانية جمعاء، اهتدى فكر الأحرار من مناهضي الظلم إلى تقديم المجرم لمحاكمته أمام العدالة، وتبديد فكرته الاستعمارية، بأن يبدأ هذا الكيان المصطنع بتهجير أهل الأرض طواعية، فكرة تروم تبديد حق المظلوم، ليتكيف مع عتمة الموت المحدق به، يتوهم أن الوقت قد يساهم في إزالة أي أثر لفلسطين من على الأرض المغتصبة، تنامى رهابه من خلال تسويق أكاذيب بأن مقاومة "كتائب القسام" تؤثر على المطالبة بالحقوق، وهو ما عكس حقارة كِذبته على أهل غزة، ارتكب أبشع جريمة إبادة في تاريخ البشرية، مراده مسح أهل غزة من على الوجود.
يُشدد العالم الحر الآن، أمام محكمة العدل الدولية على أهمية التغيير في حياة الشعب الفلسطيني وتأثير بيئة الاحتلال عليه، لرسم ملامح العدل، ولجم ذاك الذي يرتكب جريمة الإبادة الجماعية في صلف وبجاحة في مرأى ومسمع من المجتمع الدولي، في عريضة تحوي مقارنة، تعري قوى الظلم، وطبيقاتها للقانون الدولي في مناطق أخرى، والاقتراب من محاسبة المجرم الغاشم، في مرافعة تناوب فيها قوى كبرى على تبني سردية كيانهم الذي صنعوه، تعيد من خلالها بلورة تصوراتها ومواقفها.
يحضر أمام المحكمة التركيز على دور الكيان الصهيوني في إزهاق الأرواح، وتهجير أهالي غزة من ديارهم، ومنع أبسط أساسيات الحياة عنهم، وممارسة أبشع أنواع التعذيب الجسدي والروحي معًا في حقهم، وسيلة المجرم في ذلك الموت أو تأجيله بطريقة سادية متجددة، يمارس جرائمه، والعدل الدولي معصوب العينين. فهل محكمة العدل الدولية المنظور أمامها جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة، ستُزيل الغشاوة التاريخية عن عيني العدالة الدولية؟!
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
محكمة العدل الإلهية
ماجد المرهون
majidomarmajid@outlook.com
لم تعُد الحقيقة مُحتجبة وراء غمام الاحتمالات أو غيوم الشكوك ولم تكُن أكثر إشراقًا مما هي عليه اليوم، حين تجلى سطوعها على ما خلفه الخرق السافر لمفهوم الإنسانية الذي يمتطي صهوته مجرمون في هيئة فُرسان نُزعت من قلوبهم الأخلاقيات وإن رطبوا بها ألسنتهم وكل معاني الرحمة والرأفةِ وهم يتغنون بها وساستهم آلة التضليل والتدجين، بقيادة زعماء شاخوا في تلك الميادين وابيضت رؤوسهم في تيه مهيعهم، بل وتفشى إمعانهم في غيهم مع تفشي شيبهم، والتوت أكاذيبهم بحسب التواء مواقفهم وتلونت حربائيتهم بمقدار حاجتهم وهم منها لا يستحون، ثم ينحون باللائمة كلما ازدادت ظهورهم انحناءً على المظلومين المكشوفةِ أستارهم والمهتوكة أعراضهم، بينما الواقع صارخ البيان كصرخة الترهل في جلود أعناقهم وجلي للعيان كجلاء الانتفاخات في جفون أعينهم.
صنع زعماء الغرب حقيقةً ضبابية بشرط أن تكون وظيفية ذات إطناب وقادرة على استيعاب الشكوك ومتكيفةٍ مع كل الاحتمالات ويمكن تخيل كل شيء في صفاء صورتها كما يمكن توقع أي شي وراء مجهولها، نعم أرادوها كذلك حتى تنعكس للرائي صورة شبحية مرتابة تحتمل الكثير من فلسفات التأويل والتحليل، ويواصلون تغبيشها فيما بينهم بالتناوب ومن وراء صناعتهم هندسة خفية عميقة تقوم بالتمويل والدعم بالمال والوعود بالسُلطةِ والنفوذ، وكُلٌ يدلي بدلو الإفتآت في بئر العامة ثم يبصق فيه دون أن يَندى له جبين أو يرمش له جفن أو يرق له قلبٌ أو تدمع له عين، فماذا ترك الكبير فيهم وهو فاقدٌ لبوصلته الأخلاقية ونخوة التمييز بين الحق والباطل للصغير؟ بالطبع لم يترك شيئًا بل أصبح معلمًا كبيرًا للكذب يُقتدى به، هذا إن استطاع بحباله القصيرة مواصلة لُعبته الخطيرة وبلا شك لن يتمكن من فعل ذلك طويلًا ولن يبقى الكبير إلى الأبد كبيرًا ولا الصغير صغيرًا.
إنه لمن مصلحة العالم الغربي تأصيل أكاذيب كُبرائهم من خلال تزييف الحقائق وتشكيل صورة نقية تمثل سوء العالم الإسلامي ويعكسونها كما أرادوها إلى شعوبهم ذات الجهل الشديد بما يحدث خارج بلدانهم باستثناء زمرةٍ قليلةٍ من صناع القرار، وليست إسرائيل منهم ببراء كونها صُهارةٍ غربية بامتياز؛ إذ نلاحظ في معظم خطابات قادتهم والتي يتناوبونها مع أمريكا وبريطانيا وألمانيا أنها تحمل العبارات الدلالية ذاتها لتنتحل بمرور الوقت محل الأصالة، ولعل أهمها وأكثرها شيوعًا هي "الدفاع عن النفس مع ربطهِ بمحاربة الإرهاب والسلام وتذييله بكلمة إسرائيل"، وبما أن دولة الاحتلال الصهيوني أرادت دمج نفسها بدول العالم عند انضمامها للأمم المتحدة معتبرةً نفسها دولة أصيلة ذات سيادة ومرجعية تاريخية فإنها بالضرورة ستُظهر امتثالًا تامًا للأعراف التي يُقر بها أهل الأصول والمرجعية، لكن ذلك لا يحدث وهي تجرح في أصلها من حيث لا تشعر وتطعن في حسبها ونسبها بانتهاكها الفج لكل القوانين التي يحترمها من يحترم نفسه، وإن تظاهرت بالالتزام وفسرت خروقاتها بتفاسير لا يقبلها سوي الفطرة ويغلب عليها في نهاية كل مطافٍ أصلها والأصل غلاب.
سوف تستمر ذِراع التدمير الإسرائيلية الصهيونية اليُسرى في مواصلة عملها، وتمد لكذبة السلام ذراعها المغلولة الأخرى كما عودت العالم عليه وتعود عليها، ونعلم أنها لن تُقيم وزنًا للقانون الدولي مع كل القرارات والأحكام بمساندة العرَّاب الأمريكي المُتَرَهِّل، وسيواصلان اختلاق الأعذار والأكاذيب فهما معدنٍ واحدٍ من حيث الأصل والمضمون نتج عن خليط تاريخٍ موغل في القتل والتدمير والتهجير وطفح خَبَثه فوق سطح العدل والأثيل وناء به إناء القياس والكيل وطغى دخانه وأزكم الصحيح والعليل، وقد استساغوا هذه المِهنة ولم يجدوا في طريقهم من لا يسوغها أو ينافسهما عليها ومن تجرأ يُستباح ماله ودمه.
اقتلوا ما شئتم أن تقتلوا، الخلق والمخلوقات، الحرية والعدالة، الكلمة والصحافة "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين"، أو لم تقتلوا 50 ألفًا في عدةِ شهور أو يزيدون وقتلتم مثلهم قبلهم أضعافًا ولازلتم تفعلون؟! ولكن مشيئة الله لا تستقيم مع الظلم وإن طال زمانه، ولا تقف مع الظالم وإن مد له في غيه وطغيانه، ونعلم ما حدث في تلك الديار منذ خروج يعقوب وأبنائه وسنبقى معكم مختلفون لا نتفق، فلن تقتلوا الحقيقة التي بات يبحث عنها كل سكان العالم باستثناء عُشّاق العبودية أو الواهم بخدعة السلام المطاطية، وها أنتهم أولاءِ اليوم تجنون ثمار الحقد والكراهية التي زرعتم شجرتها في سبعة عقود ماضية ونيَّف وأنتم أول من سيُسمِّمه حصادها وسيبقى نسل خلافنا معكم عقيمًا.
رابط مختصر