بعد تعرض غزة للتجويع.. هل يكون الحل بإنزال الطعام من الجو؟
تاريخ النشر: 21st, January 2024 GMT
سلط تقرير لمجلة تايم كتبته الصحفية ياسمين سرحان، الضوء على سياسة التجويع التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي، والحلول العاجلة لمنع تفاقم الكارثة الإنسانية الوشيكة.
وقال التقرير أن التدفق المعتاد للطعام والمياه وغير ذلك من الأساسيات إلى القطاع توقف تماماً، منذ الحرب الإسرائيلية، وما يدخل الآن من مواد قليلة بات نادراً وباهظ التكاليف، ما تسبب في تفشي سوء التغذية بين الناس، وخاصة بين الأطفال منهم، مما جعل رئيس وكالة الغوث التابعة للأمم المتحدة يحذر من أن المجاعة باتت قاب قوسين أو أدنى.
وفي خضم هذه الظروف البائسة، يتم اللجوء إلى إجراءات غير اعتيادية، كما فعلت مؤخراً فرنسا والأردن، حيث لجأتا في الأسبوع الماضي إلى إنزال سبعة أطنان من مواد المساعدات الطبية العاجلة بالمظلات جواً لتزويد المستشفى الميداني الأردني في غزة، باستخدام طائرات نقل من طراز سي 130.
وعلى الرغم من أن مكتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم يصرح ما إذا كانت تلك العملية بالغة التعقيد من المحتمل أن تتكرر، إلا أنه أشار إلى أن المهمة "سمحت لنا بأن نثبت أن مثل تلك العمليات ممكنة"، ما حذا ببعض المراقبين إلى الحث على استخدام هذا الأسلوب لإنزال الطعام ومنع مجاعة محققة.
تاليا نص التقرير:
تخضع غزة الآن للتجويع. منذ أن بدأت إسرائيل حربها على غزة بهدف استئصال حركة حماس من القطاع ذي الكثافة السكانية العالية قبل ثلاثة شهور، توقف التدفق المعتاد للطعام والمياه وغير ذلك من الأساسيات إلى القطاع تماماً. ما يدخل الآن من مواد قليلة بات نادراً وباهظ التكاليف. تفشى سوء التغذية بين الناس، وخاصة بين الأطفال منهم، مما جعل رئيس وكالة الغوث التابعة للأمم المتحدة يحذر من أن المجاعة باتت قاب قوسين أو أدنى.
في خضم هذه الظروف البائسة، يتم اللجوء إلى إجراءات غير اعتيادية – على سبيل المثال كما فعلت مؤخراً فرنسا والأردن، حيث لجأتا في الأسبوع الماضي إلى إنزال سبعة أطنان من مواد المساعدات الطبية العاجلة بالمظلات جواً لتزويد المستشفى الميداني الأردني في غزة، باستخدام طائرات نقل من طراز سي 130. على الرغم من أن مكتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم يصرح ما إذا كانت تلك العملية بالغة التعقيد من المحتمل أن تتكرر، إلا أنه أشار إلى أن المهمة "سمحت لنا بأن نثبت أن مثل تلك العمليات ممكنة".
أما وقد نجحت العملية الآن، فقد طالب بعض المراقبين باستخدام نفس الأسلوب لإنزال المواد الغذائية جواً. يقول أحمد فؤاد الخطيب، المحلل المختص بشؤون الشرق الأوسط، الذي يطالب باللجوء إلى الإنزال الجوي وسيلة لحل أزمة الجوع في موطنه الأصلي غزة حيث مازالت جل عائلته تقيم هناك، والذي يتخذ من الولايات المتحدة مقراً له: "سوف يتوجب على كثير من البلدان التي قد تلجأ كبديل إلى إرسال الإغاثة عبر تلك العمليات الطويلة والعسيرة من أجل إيصال المساعدات الغذائية أن تتساءل من الذي سوف يتلقى هذه المساعدات في غزة، ومن الذي سيقوم بمهمة توزيعها".
يعتقد الخطيب أنه من خلال ترتيب عمليات الإنزال الجوي للأغذية بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي، تماماً كما فعل الأردن في مناسبات سابقة، كما يقال، فإن المجتمع الدولي بإمكانه المساعدة في منع المجاعة التي تتربص بغزة، وذلك من خلال تجاوز جميع التحديات اللوجستية التي تعيق عبور قوافل الإغاثة.
قبل السابع من أكتوبر، كان يدخل إلى قطاع غزة ما يقرب من 500 شاحنة مساعدات في كل يوم، وذلك لتوفير احتياجات سكان القطاع، الذين يبلغ تعدادهم 2.2 مليون نسمة، لم تزل الأغلبية العظمى منهم تعتمد على المساعدات الإنسانية الواردة من الخارج.
ولكن منذ بداية الحرب، تقلص عدد الشاحنات إلى نزر يسير. وبينما تبذل الجهود لزيادة مستوى المساعدات الواردة إلى غزة (مثلما حدث في الشهر الماضي عندما تم فتح معبر كرم أبو سالم الحدودي، والذي يختلف عن معبر رفح المخصص لعبور المشاة، حيث صمم أصلاً لعبور البضائع التجارية)، لا يدخل القطاع اليوم سوى ما يقرب من 120 شاحنة في اليوم الواحد، حسب تقديرات الأمم المتحدة – مما أوجد ما يشبه عنق زجاجة، بسبب الطوابير الطويلة وإجراءات الرقابة التعسفية التي تفرضها إسرائيل. ثم، هذا الذي يدخل غزة من مساعدات قليلة، لابد أن يتجاوز العقبات التي تواجهها مهمة التوزيع، ومنها انقطاع وسائل الاتصال، والأضرار التي لحقت بالطرق، والقصف الإسرائيلي الذي لا يكاد يتوقف.
في الشهر الماضي، أومأت إسرائيل إلى أنها قد تسمح بإيصال المساعدات الإنسانية الواردة من العديد من البلدان الأوروبية، بحيث يتم نقلها إلى غزة بالسفن عبر قبرص، التي من المقرر أن تخضع مواد الإغاثة فيها إلى تفتيش أمني للبضائع. يقول الخطيب إن عمليات مشابهة يمكن أن يتم اللجوء إليها من أجل تسهيل الإنزال الجوي للأطعمة.
ويقول مشيراً إلى حالات سابقة تم فيها إنزال الأطعمة جواً في أماكن مثل جنوب السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية: "بإمكانك بسهولة، كما فعلت الأمم المتحدة من قبل، وضع الأطعمة مثل الطحين والحبوب وغير ذلك من السلع في أكياس متينة، يمكن أن توضع على منصات نقل، ثم يتم إنزالها بدون استخدام مظلات من طائرات شحن".
ويقول إن مثل هذا الإنزال الجوي يمكن أن يوجه ليس فقط نحو مراكز تجمع المدنيين في جنوب غزة، والذي لجأت إليه الغالبية العظمى من السكان، بل وكذلك نحو أولئك الذي مازالوا يعيشون في الشمال، والذي غدا الوصول إليه إلى حد بعيد متعذراً.
يحذر بعض الخبراء من أن الإنزال الجوي ليس بالبساطة التي يبدو عليها. فإلى جانب التكاليف الباهظة لمثل هذه العمليات (ما يقرب من سبعة أضعاف تكاليف النقل البري، بحسب ما يقوله برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة)، يعتبر الإنزال الجوي أقل كفاءة وأكثر خطورة من الوسائل الأخرى المستخدمة في إيصال مواد الإغاثة الإنسانية.
في تصريح لمجلة تايم أرسله عبر الإيميل، قال مايكل شافنر، رئيس وحدة العمليات الجوية في اللجنة الدولية للصليب الأحمر: "لا ريب أن هذه العمليات ليست بدون مخاطر." ولاحظ أنه بينما يعتبر نقل الطعام أسهل من نقل المواد غير الغذائية، والتي تكون أكثر عرضة للكسر عند الارتطام بالأرض، ثمة تحديات لوجستية كبيرة.
ويضيف: "فأنت بحاجة إلى تأمين نقاط التوصيل بعد الإنزال. وهذه تحتاج لأن تكون مساحات كبيرة، خالية من العقبات ومن البشر. ثم بمجرد أن تصبح الطرود على الأرض، فإن ثمة حاجة لوجود ترتيبات معدة مسبقاً، من حيث من الذين سوف يستلم المواد، وأين سوف يتم تخزينها، وكيف سوف يتم توزيعها. لا يمكننا أن ننفذ أي عمليات إنزال جوي ما لم نتأكد من توفر هذه الأمور".
بينما رفضت اللجنة الدولية للصليب الأحمر التعليق على مدى جدوى الإنزال الجوي لمواد الإغاثة في حالة مثل غزة، فإن أحد أهم التحديات التي تواجه مثل هذه الجهود تتمثل في مدى الدمار الذي تعرض له القطاع ذو الكثافة السكانية العالية. ونظراً لأن المنطقة مازالت ساحة معركة نشطة، فلا مفر من وجود عقبات أخرى.
لاحظ شافنر أنه في مناطق النزاع مثل جنوب السودان، حيث ظلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر تنفذ عمليات إنزال جوي حتى عام 2018، "تحتاج إلى ضمان موافقة جميع الأطراف لضمان استمرار العملية بأمان، بل وفي بعض الأوقات ثمة ضرورة لخفض وتيرة العمليات العسكرية."
ولذلك يقول شافنر إنه لكل هذه الأسباب مجتمعة، يتم التعامل مع الإنزال الجوي باعتباره "ملاذاً أخيراً." ويضيف: "لا تلجأ إليه اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلا حينما تخفق جميع الخيارات الأخرى".
بينما يقر الخطيب بأن مقترحه لا يخلو من التحديات، إلا أنه يرى بأنها ليست جميعاً عقبات لا يمكن تذليلها. ويقول إن الغذاء يمكن أن يتم إنزاله من الجو قريباً من التجمعات السكانية، تماماً كما فعل الأردن في عمليات الإنزال الجوي السابقة لتزويد مستشفاه الميداني داخل القطاع باحتياجاته من المواد الطبية. أما فيما يتعلق بمن سيقوم بجمع المواد، فيقول إنه بدلاً من الاعتماد على المنظمات التي تعاني من الإنهاك على الأرض مثل وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ينبغي تمكين أهل غزة من جمع الطعام بأنفسهم.
وعن ذلك يقول: "حتى لو حصل البعض منهم على كميات أكبر من البعض الآخر، سوف يتقاسم الناس الطعام، ولسوف تتاح أمام الناس فرص أكبر للحصول على الطعام مقارنة بالوقوف في طوابير ممتدة أمام مراكز التوزيع، حيث ينتظرون لساعات طويلة، ويتعاركون مع عشرات الآلاف من الناس فقط من أجل الحصول على أي فرصة للعودة بكيس صغير من الطحين لاستخدامه في إعداد الخبز".
وأما فيما يتعلق بضمان تنفيذ العملية بشكل آمن، فيقول الخطيب إن عمليات الإنزال الجوي السابقة التي نفذتها كل من فرنسا والأردن تثبت إن التوصل إلى مثل هذه الترتيبات مع الجيش الإسرائيل أمر ممكن. وبالفعل، كانت صحيفة ذي تايمز أوف إسرائيل قد ذكرت في تقرير لها الشهر الماضي أن الجيش الإسرائيلي أسس "آلية لخفض حدة القتال" استجابة طلب تقدمت به الولايات المتحدة من أجل ضمان سلامة العاملين في قطاع الإغاثة وسلامة المدنيين وتوفير الحماية لهم أثناء الغارات الجوية الإسرائيلية.
لئن كان ضمان التعاون الإسرائيلي عقبة رئيسية واحدة فقط، يحتاج هذا المقترح لأن يتغلب عليها، فإن هناك عقبة أخرى تتمثل في إقناع اللاعبين الأساسيين – أي الولايات المتحدة، وكذلك الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، والبلدان العربية الرئيسية مثل الأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والمغرب – بالالتزام بالتصدر لهذا الجيد والتعهد بتمويله.
لا يستنكف الخطيب عن الإقرار بأن هذا الإجراء لا يمثل حلاً على المدى البعيد. وإنما يكمن الحل في إنهاء الحرب والعودة إلى السماح بالانسياب الطبيعي للطعام والمياه وغير ذلك من الضروريات إلى داخل قطاع غزة، وكلا الأمرين في يد إسرائيل. ولكنه يرى بأن بالبلدان التي يفزعها ما يحل بغزة من كوارث إنسانية ليست بلا حيلة. وبينما تتفاقم الأزمة الإنسانية، ينبغي عدم التردد في وضع كل خيارات الملاذ الأخير على الطاولة.
وعن ذلك يقول: "أعتقد جازماً أن الولايات المتحدة بإمكانها أن ترى في ذلك فرصة لإعادة توجيه موقفها وكيف ينظر إليها الناقدون للدور الذي تمارسه الولايات المتحدة في الصراع الحالي. وهذا هو الذي سوف يحدث الفرق".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية غزة الجوع الفلسطينيين فلسطين غزة الجوع صحافة صحافة صحافة سياسة من هنا وهناك صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة اللجنة الدولیة للصلیب الأحمر الولایات المتحدة الإنزال الجوی الأمم المتحدة یمکن أن من مواد من أجل
إقرأ أيضاً:
الإسلاميون في مواجهة الحل الليبرالي
لسنا بصدد إعادة تعريف الليبرالية، فقد استقر المفهوم في الأذهان وفي التداول اليومي بمعانيه السياسية والاقتصادية، لكن في سياق وضع تصورات ممكنة/ احتمالات/ اجتهادات لانتقال أحزاب وجماعات الإسلام السياسي العربي من خطابها الإسلامي إلى الليبرالية؛ نلتقط اختصارات معادية لليبرالية تركز بالخصوص على المسائل الأخلاقية الوافدة من المجتمعات الليبرالية الغربية في العقود الأخيرة، وتركز على قضايا التعامل البنكي والربا الذي بنيت عليه التجارب الليبرالية الغربية. لذلك نستعيد أسئلة جوهرية في محاولة فهم وإعادة بناء التصور الليبرالي الممكن في تجارب عربية مستقبلية، منطلقين من التشوهات الحادثة على التصور الليبرالي عامة، وتشوهات التجارب السياسية العربية التي لا يمكن بحال تصنيفها ضمن سياقات الليبرالية ولا سياقات الدولة الاجتماعية/الكينزية. وقد يظهر هذا الكلام كفتح أبواب مفتوحة، ولكن حق الاجتهاد والتفكير مكفولان فيما نظن.
هل الليبرالية بيئة غير أخلاقية؟
لم تنتج الليبرالية في التجارب الغربية لحظة ميلادها سلوكيات التحرر الجنسي ولا حرضت على الإباحية، بل تحملت توصيفات المحافظة التي سلطت عليها من تيارات اليسار الأوروبي الذي لم تكن قضايا التحرر الجنسي على أجنداته، بل كان مشغولا بقضايا العدالة في العالم. لقد كان التقسيم الكلاسيكي إلى يمين ويسار يحمل كل ليبرالي نعت المحافظ أو الرجعي، فصار اليمين عنوان المحافظة.
عرفت تيارات اليسار وأحزابه بما في ذلك الحزب الديمقراطي الأمريكي بداية من النصف الثاني من القرن العشرين تحولات عميقة، فتخلت عن قضايا العمال وتخلت عن مطالب العدالة الاجتماعية، وطرحت قضايا الحريات الفردية وقضايا الجندر، ودفعت إلى أقصى أشكال التحرر الفردي وفي المقدمة تحرير الجسد من كل قيد أخلاقي محافظ.
ولدت حركات الإسلام السياسي وترعرعت في ظل هذه التشوهات فلم تر في الليبرالية إلا جانبها الأخلاقي الفاسد وجانبها السياسي القمعي، فاتخذت منها مواقف معادية ولم تعمل على إعادة بناء مفاهيم الليبرالية بمفردات محلية كما لم تستوعب نماذج الدول الاجتماعية الكافلة فحملت في فكرها تشوهات مزدوجة
لذلك ومن داخل بؤر اليسار الجديد وليس من الأحزاب الليبرالية، ظهرت قضايا المثلية وتحولت إلى مطالب انتخابية وبرامج حكم في كل بلد وصل فيه اليسار إلى السلطة. والمثير للاهتمام أن هذه القضايا صارت ملتصقة فكريا بالليبرالية، حيث يقع خلط متعمد بين ما هو ليبرالي وما هو تحلل أخلاقي. وقد كان اليسار الأوروبي يرى الشركة الليبرالية تنتج البرنوغرافيا بكل ما تحمله من امتهان للجسد، فيوفر لها الغطاء الأيديولوجي باسم حرية الجسد. ووصلت هذه الصورة المشوهة إلى البيئة الفكرية والسياسية العربية والإسلامية منها بالخصوص، فحصل نفور كامل من كل توصيف ليبرالي.
في ذات الوقت، تحولت الأنظمة العربية التي نشأت بعد معارك التحرير من مشاريع دول اجتماعية كافلة تهتم بشعوب مريضة وجاهلة وفقيرة؛ إلى أنظمة لا يمكن تصنيفها في الليبرالية الاقتصادية ولا يمكن حشرها ضمن مشاريع الدول الكافلة. فهي أنظمة هجينة ومشوهة، لكنها أفلحت في المزج بين دكتاتورية التجارب السياسية السوفييتية وبين التحريض على سلوكيات فردية ليبرالية دون أن تتحمل المسؤولية الأخلاقية عن ذلك، إذ أنها تواصل التخفي وراء خطاب محافظ لا يتورع عن استعمال الدين في تغطية فشلها في كل مجال.
ولدت حركات الإسلام السياسي وترعرعت في ظل هذه التشوهات فلم تر في الليبرالية إلا جانبها الأخلاقي الفاسد وجانبها السياسي القمعي، فاتخذت منها مواقف معادية ولم تعمل على إعادة بناء مفاهيم الليبرالية بمفردات محلية كما لم تستوعب نماذج الدول الاجتماعية الكافلة فحملت في فكرها تشوهات مزدوجة. غني عن القول أن جماعات اليسار العربي وأحزابه تعيش هذه التشوهات بدرجة أعمق فلا هي اشتراكية ولا هي ليبرالية، ومن نافلة القول إن جماعات اليسار على ضآلة حجمها جرت وراءها جماعات الإسلام السياسي فعمقت تشوهاتها. وقد تجلت هذه التشوهات في صراعات الربيع العربي، حيث لم تتقدم أية تجربة في أي اتجاه ففشلت هذه الجماعات في إنقاذ الثورة من براثن منظومات الحكم السابقة.
عقدة الاقتصاد الربوي
تحتكم الأحزاب الإسلامية إلى نص صريح وقطعي في تحريم الربا، وقد ابتدعت مشاريع الاقتصاد اللاربوي منذ السبعينيات وأسست البنوك الإسلامية على أساس المرابحة، ولكن التجربة كشفت أن المرابحة أعلى كلفة من الربا فلم تُحدث تحولا في أية تجربة اقتصادية عربية. وإلى ذلك لم تنشأ كتل سياسية عربية على غرار السوق الأوروبية المشتركة قادرة على بناء أسواق وأنظمة تبادل بينية تحرر اقتصاد العرب من الإلحاق بنظام المصارف الربوية الغربية، فظلت تابعة الحكومات تتعامل مع المقرضين الدوليين بالربا، وظلت الأحزاب الإسلامية تحرمه على الأفراد.
وقد شكل هذا عقدة في منشار الأحزاب الإسلامية التي رأت التحريم ولم تر سبل الخروج من اقتصاد عالمي ربوي بالأساس، وقد واجهت المعضلة بمجرد وصولها إلى السلطة على قصر التجربة في تونس والمغرب ومصر. وحتى حماس البعض لمشروع بريكس الساعي إلى التشكل يغفل أنه مشروع اقتصاد ربوي آخر، وليس تجربة مختلفة وإن زعم التبادل بالمقايضة. إنه حماس عاطفي للتحرر من الهيمنة الأمريكية والأوروبية لكنه يقع في نفس المطب الربوي.
في ذات الوقت، فإن الأحزاب الإسلامية واقعة في مشكل آخر هو خيار الدولة الاجتماعية الذي يقدم الاجتماعي على النجاعة الاقتصادية، وهذا النموذج مهما حظي بالدعاية اليسارية هو نموذج ليبرالي مخفف يقوم على قواعد ربوية منذ نشأته.
هل يمكن للإسلامي تجاوز التحريم والقبول بالاندماج في اقتصاد ربوي؟ هذا سؤال جوهري لا تمكن معالجته بالشطح على النصوص القطعية أو بفتاوى (نص كم)، فإما قبول واندماج إلى حين أو الخروج من العمل السياسي بلا تردد، رغم أن كل خروج سيجعل الفرد الإسلامي مجبرا على التعامل الربوي أو البقاء خارج كل دورة اقتصادية محلية، ولا يمكنه بحال إنشاء منظومة غير ربوية صغرى داخل منظومة ربوية شاملة.
يمكنه أن يدعو وينظم فعليا حياة اجتماعية محافظة معتمدا على توجيهات دينية تعلى من شأن الأسرة، حيث تحفظ الأخلاق والجسد لكن الجانب السلوكي الشخصي لا يكفي لتنظيم حياة اجتماعية شاملة.
فإذا أصر على التفكير والعمل خارج منظومة الربا الكونية فإنه ملزم بالبدء من نقطة أخرى؛ هي وضع مشروع التحرر السياسي والاقتصادي الشامل، أي أن يعود إلى وضع حركة تحرر أصلية وبوسائل التحرر السياسي بما في ذلك الكفاح المسلح (أو نموذج حماس)، وهو أمر لم يعد متاحا في دول قائمة ولها أنصار لا يتفقون مع هذه الرؤية التحريرية، بل يطيب لهم الاندماج بشكله الجاري الآن. فضلا عن ذلك، فإن وضع التشتت القُطري الحالي لا ينتج حلا شاملا، فتحرير قُطر وحيد لا ينتج سوقا فوق قُطرية غير ربوية، بما يعسر مهمة كل الأحزاب الإسلامية في كل قُطر.
مشروع تربوي فقط
لم يبق للأحزاب الإسلامية الا مشروع تربوي يخفف من غلواء الليبرالية الزاحفة والتي وصلت إلى العرب مشوهة بيسارية مزيفة، فإما البقاء في هذا المستوى من العمل التربوي الفردي أو التحلل من كل التزام سياسي لا يتجاوز نص التحريم ويسقط في مشروع اقتصادي ليبرالي
من هذه الزاوية لم يبق للأحزاب الإسلامية الا مشروع تربوي يخفف من غلواء الليبرالية الزاحفة والتي وصلت إلى العرب مشوهة بيسارية مزيفة، فإما البقاء في هذا المستوى من العمل التربوي الفردي أو التحلل من كل التزام سياسي لا يتجاوز نص التحريم ويسقط في مشروع اقتصادي ليبرالي أي ربوي بالقوة.
نظن يقينا أن الأحزاب الإسلامية لو قدر لها أن تحكم (وهي مطاردة دوما) ستجد نفسها في نفس الوضع التي وجدت فيه الأنظمة العربية نفسها لحظة الاستقلال. لقد طاوعت تلك الدول الناشئة التيار السائد، مقدمة النجاعة الاقتصادية على سلامة الأسس النظرية أو الفقهية لبناء اقتصادياتها. لم تكن تلك الأنظمة ليبرالية بمحض اختيارها، فقد نشأت أضعف من أن تواجه الاقتصاد العالمي فاندست فيه بما تيسر لها.
ونختم بصورة ذات دلالة على المأزق الذي وجدت في الأحزاب الإسلامية نفسها عندما استلمت جزءا من السلطة، لقد تم جر نائبة متحجبة من حزب النهضة في تونس إلى زيارة معصرة خمور، وكان أقصى ما استطاعت فعله لتجنب الحرج أن بقيت خارج المعصرة تنتظر بقية الفريق التفقدي. لم يمكن لإسلامي حكم أن يذكر بتحريم الخمر إنتاجا وترويجا، وقد كان هذا على أجندته النظرية.
مفردات الواقع المبنية قبله جعلت مهمته السياسية القائمة على نصوص قطيعة الورود قطيعة الدلالة عائقا في طريق نجاحه السياسي. لم يكن الحرج ظاهرا وهو يعارض الأنظمة، لكنه لما واجه المعضلات الواقعية وواجه النص المؤسس أيضا وهو في وضع ملتبس؛ فإما الحكم بشروط الواقع القائم أو البقاء في سلامة نصه خارج كل مشاركة. إذا فتح فشل الربيع العربي على مشاريع تفكير من هذا القبيل فإنه يكون قد مهد لمرحلة فكرية متطورة تؤدي إلى مستقبل مختلف تقوده أحزاب ليبرالية. ليت النقاشات تتركز هنا.