الجزيرة:
2025-02-22@02:53:15 GMT

ما أُدخِلَ في العقيدة وليس منها

تاريخ النشر: 21st, January 2024 GMT

ما أُدخِلَ في العقيدة وليس منها

كثير من علومنا ومعارفنا تحتاج إلى غربلة كُتبها، فالتجديد فيها قد يكون بالتطوير، وإضافة ما تحتاجه من إضافة وتطوير، من حيث التناول، أو من حيث النقد والغربلة، فإن بعض كتبنا التراثية، دخلت فيها موضوعات عند البحث والتمحيص لا نجدها من هذا الفن أو العلم، ودخولها هذا العلم قد يؤدّي إلى أخطاء ومزالق خطيرة، ومن هذه العلوم: كتب العقيدة، فإن هناك موضوعات أُدخلت فيها وعند تمحيصها لا نجدها منها، بل هي أُدخلت من علم آخرَ، وردّها إلى هذا العلم، يؤدي إلى صيانة العقل المسلم العام من الوقوع في هاوية التكفير، أو التفسيق، أو الاختلال المنهجي في التفكير، وربما أدّى إلى التشدد في قضايا لا تحتاج لهذه الدرجة من التشدد.

ولنضرب لذلك بنماذج لموضوعات وضعت في كتب العقيدة، ومكانها الصحيح، ربما كان في كتب الفقه، فالأصل أن كتب العقيدة تتعلق بأصول الإيمان، وما يدخل به الإنسان دائرة الإيمان أو يخرج منها، وما الأفعال أو الأقوال التي تخرجه منها؟ لكن بعض الموضوعات انتقلت من أبواب كالسياسة الشرعية، أو الفقه الفروعي، إلى كتب العقيدة، ويعد انتقالها إليها خطأ يحتاج لاستدراك، وردّ الموضوع لأصله.

المسح على الخفين

من القضايا التي نجدها في بعض كتب العقيدة، قضية المسح على الخفَّين، وقد وضعها الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة والمعروفة بـ "العقيدة الطحاوية"، وقام عدد كبير علماء الأمة السابقين والمعاصرين بشرحها، فنجد من ضمن هذه العقيدة الحديث عن المسح على الخفين، فقال الطحاوي: (ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر، كما جاء في الأثر)، ويبرر شرّاح العقيدة الطحاوية وضع الكلام عن المسح على الخفين في العقيدة، بأن المقصود من ذلك مخالفة الشيعة الذين يرفضون المسح على الخفين.

وقال البابرتي أحد شراحها: (إنما ذكر هذا ردًا لقول أهل الرفض، فإنهم أنكروا جواز المسح على الخفين، وهذا وإن كان من أحكام الفقه لكنه لما اشتهرت فيه الآثار ألحقه بالعقائد، دفعًا لإنكار المنكرين).

والحقيقة أن موضوع المسح على الخفين -وغيره من المسائل الفقهية- ينبغي أن يظل في موضعه في كتب الفقه، لأنه بذلك لا يخرج عن دائرة الحديث عن مسألة فقهية، فانتقالها إلى كتب العقيدة، ليس صوابًا، وإن برّر من وضعها بأنها مقصودة للتمييز بين المذهبَين: السني والشيعي، وأن المذهب الشيعي لا يقول بالمسح على الخفين، وأنه حكم متواتر عن النبي، صلى الله عليه وسلم.

من القضايا التي انتقلت من الفقه إلى العقيدة، لكن هذه المرّة من المذهب الشيعي، فقد جعلوا قضية الحكم والخلافة من قضايا العقيدة وأصولها، وهو ما لا يصحّ، فالمسألة فقهية بحتة

إن المتأمل لوجهة نظر الفقه الشيعي سيجده يستند إلى دلالة نص قرآني، بناء على قراءة متواترة في الآية الكريمة، في قوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) المائدة: ، فكلمة (وأرجلكم)، فيها قراءتان بكسر اللام، وفتحها، فعلى الكسر تكون معطوفة على المسح، وعلى الفتح تكون معطوفة على الغسل، فمن رأى غسل الرجلَين -وهم جميع فقهاء أهل السنة- رأى أن المسح على الخفين يجزئ عنها، لفعل النبي- صلى الله عليه وسلم- والذي رواه عنه جم غفير من الصحابة بلغ حد التواتر، ورأى أتباع الفقه الشيعي أن أرجلكم معطوفة على المسح، فتَمْسَح الرِّجلين ولا تَغْسل، ولا يجزئ عنها غير المسح، وتفاصيل أخرى موجودة في كتب المذاهب الفقهية.

وبغض النظر عن أي الرأيَين أقوى وأرجح، فإن المسح على الخفين وردَ بالسنة النبوية، والتي بلغت حد التواتر كما يقول كثير من الفقهاء والمحدثين، ولكن دلالة الآية لا تمنع من الرأي الذي قال به الشيعة، وإن لم نرجّحه، ولذا يظل رأيًا فقهيًا في دائرة الخلاف الفقهي المبني على نص يحتمل الوجهَين، مهما بلغت قوة وجه، وضعف الوجه الآخر، فتظلّ في دائرة الفقه لا العقيدة.

الحكم والإمامة

من القضايا التي انتقلت من الفقه إلى العقيدة، لكن هذه المرّة من المذهب الشيعي، فقد جعلوا قضية الحكم والخلافة من قضايا العقيدة وأصولها، وهو ما لا يصحّ، فالمسألة فقهية بحتة، تتعلق بالفقه السياسي، ولا تتعلق بالعقيدة، وقد شاركهم في الأمر عدد من كتب العقيدة عند السنة كذلك، فقد انتقلت مباحث الإمامة والحكم إلى كتب العقيدة، كما رأينا في (العقائد النسفية) والحواشي والشروح التي وضعت عليها، ولكن الفرق أن السنة جعلوا الإمامة والحكم في باب الوجوب الفقهي، لكن الشيعة جعلوها في باب العقيدة والأصول.

وتسرب ذلك لبعض كتابات الفكر الحركي السني، فرأينا هذه العبارة عند الشيخ حسن البنا، حيث يقول: (والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع)، وقد حاول الشيخ القرضاوي أن يوجه كلمته، بأنه ربما قصد فروع العقيدة، لكن الجملة منصوص فيها على كلمة العقائد والأصول.

وربما كان الدافع لقول البنا ذلك، هو ما رآه في زمانه من إنكار لوجود الحكم والسياسة في الإسلام، لكن مواجهة إنكار فرائض، أو واجبات في الإسلام، لا تعني أن ننقلها من موضعها الفقهي للموضع العقدي، حتى كتب الدكتور محمد عمارة عن ذلك، وأنه تسرب من الفكر الشيعي، وأعتقد أن عمارة أيضًا جانبه الصواب، فلم يكن البنا على اطّلاع على الفقه الشيعي آنذاك، فكلامه كان في رسالة المؤتمر الخامس وقد كان سنة 1939م، ولم يكن وقتها هناك تواصل فكري بين المصريين والفكر الشيعي إلا عند القليل جدًا منهم.

وقضية الحكم لا صلة لها بالعقيدة، إلا من حيث المقصود بالحكم، أي: التشريع، من يشرع للناس، كما في آيات: (ومن لم يحكم بما أنزل الله)، و(إن الحكم إلا لله)، فالحكم هنا مقصود به الحكم الشرعي، ومن يملك التشريع للناس في دينها، لكن الحكم بمعنى الإدارة للشعب في الاختيار وغيره، فهو في باب السياسة الشرعية، أي: باب الفقه والفروع، وليس من باب الأصول التي تدخل في باب الإيمان والكفر، أو الاعتقاد.

وخروج المسألة من الفقه للعقيدة، جعل بعض الأفكار تتشدد في قضية الحكم، وطلب الحكم، والسعي إليه، على جميع المستويات، سواء من أيدوا السلطة ورأوا حرمة الخروج عليها، وشددوا فيها، حتى لو كان خروجًا سلميًا، وبين من رأوا السعي للحكم، لأنه في باب الأصول والعقائد، وغياب الحكم معناه غياب ركن مهم، وهو مهم بالفعل لكنه في بابه، وهو باب الفروع، والواجبات الفقهية لا الواجبات العقدية، التي تتعلق بالإيمان والكفر.

التوسل بالصالحين

من أشد القضايا خلطًا في هذا الباب، ما يقوم به البعض بإدخال موضوع التوسل إلى الله بالصالحين من الأموات، كأن يدعو شخص الله- تعالى- متوسلًا إليه بجاه النبي- صلى الله عليه وسلم- أو ببركة الولي الصالح فلان، فهذه مسألة فقهية بحتة، يقال فيها: جائز أو غير جائز، حلال أو حرام، لكنها ليست من قضايا العقيدة التي يقال فيها: كفر أو إيمان، والخلط الذي يجري فيها، هو تحويل مثل هذه المسألة الفرعية إلى العقيدة، فيقال عنها: شرك، وهي قضية خلافية بين الفقهاء، تتكافأ فيها أدلة الجواز مع التحريم، لكنها لا تدخل في باب الاعتقاد. وذلك لأن المسألة ليست متعلقة بدعاء غير الله، بل بدعاء الله- تعالى- لكن الداعي توسل إلى الله بأحد الصالحين من خلقه.

الحلف بغير الله

قريب من هذه المسألة أيضًا، مسألة الحلف بغير الله، كأن يحلف الإنسان بالكعبة، أو بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أو برحمة أبيه أو أمه، فهي قضية فقهية، يقال فيها: جائز أو غير جائز، لكنها لا تدخل في باب الشرك بالله- تعالى- أو في باب الاعتقاد، لأن من يحلف هنا لا يجعل من حلف به في مقام الله – تعالى – بل أراد أن يحلف بشيء له قيمة عنده كي يصدقه الناس، ولو كان هذا الحلف في باب العقيدة والإيمان والكفر، ما جعل الفقهاء الحلف بالطلاق يقع أو لا يقع حسب نية الحالف، هل قصد الطلاق أم لا؟ لأنه لو كان الحلف وقتها كفرًا، لأفتوا بأن الزوج الحالف مرتد أو كافر، وبالتالي تذهب القضية هنا للتفريق بين الزوجين، وليس لوقوع الطلاق أم لا. والنماذج في هذا الباب كثيرة جدًا.

نزول المسيح، والدجال، والمهدي

ومن المسائل التي رفض الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله- أن يدخلها في كتابه عن العقيدة الإسلامية: نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان، والدجال، فقال: (تركنا ما لم يثبت إلا بأخبار الآحاد، كنزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، وكأخبار المسيخ الدجال، فإننا – وإن كنا نقبلها، ولا نردها كما قررنا في صدر كلامنا – لا نضيفها إلى أصل العقيدة الذي يعتبر منكره كافرًا).

هدفنا من المقال، ليس حصر القضايا التي دخلت العقيدة وكتبها، وليست منها، بل الهدف ضرب نماذج لبيان كيف يمكن أن يتم الإضرار بالبحث العلمي حين يدخل فرع علمي في آخر، وبخاصة إذا تمَّ البناء على هذا الخطأ، وأدى إلى مزالق خطيرة في الأمة، تؤدي إلى التكفير أو التفسيق أو التبديع، بينما هي مسألة تحتمل أن يختلف فيها الباحثون.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم المسح على الخفین القضایا التی قضیة الحکم من الفقه فی باب فی کتب

إقرأ أيضاً:

سامح قاسم يكتب: «روضة المحبين».. الحب بين الفقه والأدب.. ابن القيم يجمع قصص وأخبار العشاق وأشعارهم وحكمهم مع الحب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

اجتماعيًا، عانت المجتمعات الإسلامية من الانقسامات الطبقية وتفشى بعض المظاهر السلبية مثل الغلو فى التصوف والانحرافات الأخلاقية. هذه القضايا كانت من أبرز ما تصدى له ابن القيم فى مؤلفاته. فقد حاول عبر كتاباته أن يعيد الربط بين الجوانب الروحية والأخلاقية من جهة، وبين النصوص الشرعية والعقلية من جهة أخرى.

انعكس هذا السياق المضطرب على إنتاج ابن القيم الأدبى والفكري. فمن خلال كتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، يتضح حرصه على تقديم معالجة فكرية وأدبية لقضية الحب، متناولًا إياها من جوانب متعددة: شرعية، نفسية، واجتماعية. ويبدو أن الدافع وراء هذا الكتاب كان رغبته فى وضع تصور إسلامى أصيل لمفهوم الحب، فى مواجهة التصورات المتأثرة بالفكر الفلسفى أو تلك التى تُشوه الحب بتقديمه كشهوة محضة.

كتاب "روضة المحبين" هو أحد الأعمال البارزة فى مسيرة ابن القيم، وينتمى إلى جانب من كتاباته التى تجمع بين الأدب والفقه، مثل "الداء والدواء". يتميز الكتاب بأسلوب أدبى رفيع، جمع فيه المؤلف بين الاقتباسات الشعرية والنصوص الشرعية والحكم الأخلاقية. وقد ركز فيه على مفهوم الحب الإنسانى والإلهي، ما يجعل الكتاب ليس فقط دليلًا فقهيًا بل تحفة أدبية وفكرية.

يقول ابن القيم فى مقدمة الكتاب: "هذا كتاب جمع فيه مصنفه أخبار العشاق، وأشعارهم، وحكمهم، مع بيان الحب وأقسامه، وأسبابه ودواعيه، وعلله وآفاته". يظهر من هذا أن المؤلف كان يهدف إلى تقديم موسوعة شاملة للحب تجمع بين الجانبين النظرى والعملي.

لا يمكن فهم كتاب "روضة المحبين" إلا بوضعه فى سياقه الزمنى والفكري. فقد كان ابن القيم يعالج قضايا عصره، محاولًا تقديم حلول عملية ونظرية للمشكلات التى تواجه المسلمين. ومن خلال هذا الكتاب، نجح فى المزاوجة بين الفقه والأدب، مقدمًا رؤية متكاملة لمفهوم الحب، تأخذ بعين الاعتبار البعدين الإنسانى والروحى لهذه الظاهرة العالمية.

كتاب "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" ليس مجرد نص أدبى حول الحب، بل هو دراسة شاملة تهدف إلى تقويم مفهوم الحب وإعادته إلى مساره الصحيح ضمن إطار الشريعة الإسلامية. فى زمن كثرت فيه التأويلات الفلسفية للحب والانحرافات الأخلاقية المرتبطة به، رأى ابن القيم أن الحب بحاجة إلى معالجة جذرية تجمع بين الحكمة الشرعية والوعيين النفسى والاجتماعي.

أراد ابن القيم تصحيح المفاهيم المغلوطة حول الحب، سواء تلك التى روج لها الفلاسفة والمتصوفة، أو تلك التى اختزلت الحب فى بعده الشهواني. فهو يعرض الحب كقوة روحانية ترفع من قيمة الإنسان عندما تُضبط بضوابط الشريعة.

الكتاب يتجاوز كونه مجرد وصف للحب، ليصبح دليلًا شاملًا يتناول أسبابه، علاماته، أنواعه، ومآلاته. كما يناقش ابن القيم الحب من زوايا متعددة: دينية، نفسية، اجتماعية، وأدبية.

يحتوى الكتاب على العديد من القصص والحكايات التى تهدف إلى تعليم القارئ دروسًا عملية. فهو لا يكتفى بوصف الحب بل يبين عواقب الإفراط فيه أو انحرافه عن مساره الصحيح.

يهدف الكتاب توجيه القارئ نحو الحب الإلهي. فابن القيم يرى أن الحب الحقيقى هو الذى يقرب الإنسان إلى الله ويجعله أكثر طاعة وخشوعًا.

يقول ابن القيم: "أصل المحبة هو انجذاب القلب إلى المحبوب بسبب كمال يدركه فيه. وأعظم المحبوبات هو الله، لكماله المطلق الذى لا نقص فيه بوجه من الوجوه".

استخدم ابن القيم مزيجًا من الأساليب منها: الاقتباس من القرآن والسنة: لتقديم الحجج الشرعية. الاستشهاد بالشعر العربي: لإبراز جمال الحب كما صوره الأدب العربي. القصص والحكايات: لإضفاء الطابع التعليمى والتوجيهي. التحليل النفسى والاجتماعي: لفهم تأثير الحب على الفرد والمجتمع.

يمكن مقارنة هذا الكتاب بكتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي. لكن بينما ركز ابن حزم على الجانبين الأدبى والفلسفى للحب، جمع ابن القيم بين الأدب والفقه، مما يجعل كتابه أقرب إلى معالجة شاملة تجمع بين الروح والعقل.

كتاب "روضة المحبين" هو محاولة جادة لإعادة صياغة مفهوم الحب فى الإسلام. فهو ليس مجرد كتاب عن المشاعر، بل هو نص تربوى يهدف إلى تهذيب النفس وتقويم السلوك. وقد نجح ابن القيم فى تقديم رؤية متوازنة للحب تجمع بين الجمال الروحى والالتزام الشرعي.

تعد قضية تعريف الحب وأقسامه من أبرز القضايا التى تناولها ابن القيم فى كتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين". ومن خلال هذا الفصل، يسعى المؤلف إلى توضيح مفهوم الحب من زوايا متعددة، تجمع بين اللغة والشرع والنفس الإنسانية.

يبدأ ابن القيم بطرح التعريف اللغوى والاصطلاحى للحب. فيذكر أن الحب فى اللغة يتفرع إلى عدة معانٍ، منها الصفاء والعلو والشدة. أما من الناحية الاصطلاحية، فيعرف الحب بأنه انجذاب القلب وانعطافه تجاه المحبوب.

يقول ابن القيم: "الحب هو ميل الطبع إلى شيء يوافقه، سواء كان ذلك الشيء حسيًا أو معنويًا، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها".

قسم ابن القيم الحب إلى عدة أقسام رئيسية: الحب الإلهي: وهو أرقى أنواع الحب وأعلاها، حيث يتعلق القلب بالله عز وجل. يصف ابن القيم هذا الحب بأنه حب كمال وجلال وجمال. ويؤكد أن هذا النوع من الحب هو أساس العبودية الحقة.

الحب الطبيعي: وهو الحب الذى ينشأ بين الناس بفعل القرابة أو الصداقة أو غيرها من الروابط الاجتماعية.

الحب الشهواني: وهو الحب المرتبط بالشهوة والرغبة الجسدية، وقد ذمه ابن القيم إذا تجاوز حدوده الشرعية.

الحب المرضي: وهو الحب الذى يؤدى إلى الفساد والهلاك، كالتعلق المفرط الذى يبعد الإنسان عن طاعة الله.

يشرح ابن القيم العلاقة بين هذه الأنواع، موضحًا أن الحب الإلهى يجب أن يكون فى قمة الأولويات، وأن الحب الطبيعى أو الشهوانى إذا خرج عن حدوده يصبح مفسدًا للنفس.

من خلال تعريف الحب وأقسامه، يقدم ابن القيم رؤية متوازنة تجعل من الحب قوة إيجابية تبنى الروح والمجتمع. ويظهر الكتاب كيف يمكن توجيه هذه القوة لتكون عامل بناء لا هدم.

يقول ابن القيم: "من أحب الله بصدق، كان حبه لكل شيء تابعًا لحبه لله، فصار حبه نورًا وهداية".

فى الفصل الرابع من كتاب "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، يتناول ابن القيم الأسباب التى تؤدى إلى نشوء الحب والدوافع التى تقود الإنسان إلى التعلق بمحبوبه. يقدم المؤلف تحليلًا عميقًا لهذه الأسباب، مستندًا إلى ملاحظاته الدقيقة للطبيعة البشرية والشرع الإسلامي.

يشرح ابن القيم أن أسباب الحب متعددة، ويمكن تصنيفها كما يلي:

الإحسان والمعروف:

يرى ابن القيم أن القلب البشرى مجبول على حب من يحسن إليه. فالإحسان يخلق شعورًا بالامتنان، وهذا الامتنان يتحول تدريجيًا إلى حب.

اقتباس: "القلوب فطرت على حب من أحسن إليها، فكيف بمن إحسانه لا ينقطع أبدًا؟".

الجمال والكمال:

يُعد الجمال أحد أبرز أسباب الحب. والجمال هنا لا يقتصر على الشكل الخارجى فقط، بل يشمل الجمال الأخلاقى والروحي. ويؤكد ابن القيم أن الكمال هو سبب رئيسى لانجذاب القلوب.

يقول ابن القيم: "المحبوب يُحب لجماله الذى يبهر العيون، أو كماله الذى يأسر العقول".

التوافق والتشابه:

يشير ابن القيم إلى أن التوافق فى الصفات والطباع والأهداف من أهم ما يجعل الحب يدوم. فالأرواح تتآلف مع من يشابهها.

يقول ابن القيم: "النفوس تجتمع مع ما يشابهها فى الخُلُق والخَلق، وكلُّ شيء يحنُّ إلى جنسه".

المعرفة والتقدير:

يرى ابن القيم أن معرفة صفات المحبوب والتقدير العميق لها يؤديان إلى الحب. فكلما ازدادت المعرفة زاد الحب.

يقول ابن القيم: "المعرفة باب المحبة، فمن جهل شيئًا لم يحبه".

دوافع الحب

الاحتياج النفسي:

الإنسان بطبيعته يحتاج إلى شريك يُكمل نقصه ويشاركه مشاعره. هذا الاحتياج يولد دافعًا قويًا للبحث عن الحب.

الرغبة فى الأنس:

الوحدة والغربة تدفع الإنسان للبحث عن الأنس فى محبة شخص آخر، يكون له عونًا وسندًا.

الطبيعة البشرية:

الحب مغروس فى فطرة الإنسان. فالقلب يبحث دائمًا عما يملأه بالفرح والسعادة. يمزج ابن القيم فى حديثه عن أسباب الحب بين التحليل النفسى العميق والرؤية الشرعية المتزنة. فهو لا يكتفى بتفسير الحب من منظور عاطفي، بل يربط هذه الأسباب بمعانٍ أعمق ترتبط بفطرة الإنسان وغاية وجوده.

يقول ابن القيم: "الحب قوة تسرى فى الكائنات، تحملها إلى البحث عن الكمال والأنس".

علامات الحب ودلائله

فى هذا الفصل، يستعرض ابن القيم العلامات التى تظهر على المحب وتدل على وجود الحب فى قلبه. يقدم المؤلف تحليلًا عميقًا للسلوكيات والتصرفات التى تصاحب حالة الحب، مستندًا إلى الملاحظات النفسية والنصوص الشرعية.

العلامات النفسية والسلوكية للحب

التعلق الدائم بالمحبوب:

يشير ابن القيم إلى أن من أبرز علامات الحب هو تعلق القلب بالمحبوب. حيث يصبح التفكير فيه ملازمًا للمحب فى كل وقت.

يقول ابن القيم: "القلب إذا أحب شيئًا، تعلق به واشتاق إليه فى غيابه، واستأنس به فى حضوره".

الخجل والارتباك:

يعد الخجل عند رؤية المحبوب علامة واضحة على الحب، حيث يعكس ذلك تأثر القلب بوجوده.

يقول ابن القيم: "الخجل نور الحب الذى يفضحه عند اللقاء، وهو الدليل على صدقه".

السعى لإرضاء المحبوب:

المحب يسعى دائمًا لإرضاء محبوبه، حتى لو كان ذلك على حساب نفسه.

يقول ابن القيم: "المحب يجعل رضا محبوبه غايته، ويتحمل فى سبيل ذلك المشاق والمتاعب".

الشوق والحنين:

إذا ابتعد المحبوب، يشعر المحب بشوق شديد وحنين يدفعه للبحث عنه أو التمنى للقائه.

يقول ابن القيم: "الشوق هو الدليل الأكبر على أن القلب قد سُلب".

العلامات الروحية للحب

ذكر المحبوب فى كل وقت:

يرى ابن القيم أن المحب لا يستطيع التوقف عن ذكر محبوبه، سواء فى كلامه أو أفكاره.

الغيرة:

الغيرة على المحبوب وحمايته من أى شيء قد يزعجه أو يؤذيه تعد من دلائل الحب الصادق.

يقول ابن القيم: "الغيرة سياج المحبة الذى يحفظها من الفساد".

التضحية:

المحب يضحى بكل ما يملك من أجل سعادة محبوبه.

يقول ابن القيم: "المحب يعطى ولا ينتظر المقابل، فالعطاء فى الحب غاية فى حد ذاته".

علامات الحب كما يصفها ابن القيم تتجاوز الجوانب الظاهرية إلى العمق الروحى والنفسي. فهو يقدم رؤية شاملة لهذه العلامات، موضحًا أن الحب الحقيقى ينعكس فى أفعال المحب وأقواله وحتى فى طريقة تفكيره.

يقول ابن القيم: "الحب الصادق تظهر علاماته فى كل صغيرة وكبيرة، فهو شعور يفيض على الجوارح والروح".

الحب فى الشعر والأدب 

يُعد الأدب والشعر جزءًا أساسيًا من البناء السردى فى كتاب "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، حيث استخدم ابن القيم النصوص الشعرية لشرح مفاهيم الحب وإثراء النقاش حولها. فى هذا الفصل، نستعرض كيف وظّف المؤلف الشعر والأدب لتوضيح معانى الحب، وكيف كان لهذه النصوص دورٌ مهم فى جذب القارئ وتوضيح الفكرة.

الشعر كأداة توضيحية

اعتمد ابن القيم على الشعر العربى القديم والمعاصر له كوسيلة للتعبير عن أعمق المشاعر التى تكتنف الحب. لم يكن الهدف من إدراج الأشعار مجرد التزيين البلاغي، بل كانت جزءًا من التحليل النفسى والاجتماعى لمفهوم الحب.

يقول ابن القيم: "الشعر ديوان العرب، ومنه تُستلهم الحكمة، وفيه تُقرأ القلوب التى نطقت بها الأفواه".

موضوعات الحب فى الشعر

الشوق والحنين:

الشعراء عبروا عن مشاعر الشوق بطرق مؤثرة للغاية، حيث صوّروا كيف يكون الفراق وقعه على المحب.

مثال: "إذا غبت عنى صار كل شيء ظلامًا، وكأن الشمس لا تشرق إلا بوجهك".

الغيرة والمعاناة:

كانت الغيرة والمعاناة من أبرز الموضوعات التى تناولتها الأشعار المتعلقة بالحب، حيث يصور الشعراء كيف تكون الغيرة دليلًا على الحب الصادق.

مثال: "أحسد النسيم الذى يداعب خديك، وأغار من عينٍ تراها قبلي".

اللقاء والفراق:

الفراق كان مصدر إلهام للعديد من الشعراء، الذين وجدوا فيه مادة خصبة للتعبير عن الألم واللوعة.

مثال: "الفراق نارٌ تأكل القلب، واللقاء جنّة لا يدركها إلا المحب الصادق".

الأدب كمرآة للحب

إلى جانب الشعر، استخدم ابن القيم الحكايات كوسيلة لنقل العبر والدروس. فقد أورد قصصًا وحكايات عن العشاق، كانت تحمل فى طياتها الحكمة والأدب الرفيع.

مقالات مشابهة

  • وما ذنب المساجد تحرقونها وتمنعوا الناس الصلاة فيها ؟!!
  • ليلة الجمعة بدأت منذ ساعات.. الإفتاء: اغتنموا ما تبقى منها بهذا الذكر
  • كيف تنظم وقتك فى شهر رمضان؟
  • أصلي جميع الفروض بالفاتحة وسورة الإخلاص.. الإفتاء توضح الحكم الشرعي
  • بدء المرحلة الثانية من المسح التجريبي للأمراض غير المعدية
  • 165 فريقًا ميدانيًّا مع بدء المرحلة الثانية من "مسح الأمراض غير المعدية"
  • رفقي: الأزهر مرجعية أساسية لمؤسسة محمد السادس في تعزيز العقيدة الأشعرية بأفريقيا
  • سامح قاسم يكتب: «روضة المحبين».. الحب بين الفقه والأدب.. ابن القيم يجمع قصص وأخبار العشاق وأشعارهم وحكمهم مع الحب
  • مؤتمر مسقط يدعو إلى دمج التشريعات الإسلامية لحقوق الإنسان في القانون الدولي الإنساني
  • ترويكا الحكم تجتمع استثنائيا: هذا احتلال ومن حق لبنان اعتماد كل الوسائل لانسحاب العدو