البوابة نيوز:
2025-12-13@15:52:31 GMT

الحوار هو الحل (5)

تاريخ النشر: 20th, January 2024 GMT

استكمالًا لما بدأناه من حديث عن حوار الأديان؛ بحثًا عما يمكن أن يكون مدخلًا لسيادة لغة الحوار في المجتمع المصري، تلك اللغة التي هي- في الأساس- لغة بناء المجتمعات وتماسكها، وهو ما لمسناه في حياة التعايش الاجتماعي بين المصريين المسيحيين والمصريين المسلمين على مر التاريخ المصري، يمكننا أن نجد الحالة نفسها من التعايش الاجتماعي بين المصريين المسلمين والمصريين اليهود.

ولقد انعكست  هذه الحالة التعايشية في معظم أشكال موروثنا الشعبي. ولعل خير مثال تعكسه ثقافتنا الشعبية على هذا التعايش الاجتماعي السمح بين المسلمين واليهود على أرض مصر، يتمثل في النموذج الإنساني للسيرة الهلالية المدونة. ففي القسم الأخير منها، المعروف بديوان الأيتام، بعد أن يقضي دياب بن غانم على السلطان حسن، وقيام دياب بقتل أبو زيد الهلالي في إحدى رواياتها، أو بعد أن أفقده بصره في رواية أخرى، فإن أبو زيد الهلالي وهو في حالة إعيائه ينصح البطلة الهلالية الأميرة الجازية أن تهرب بنساء بني هلال الحوامل إلى مملكة شمعون اليهودي، واللجوء إليه، خشية أن يفتك بهن دياب بن غانم، حتى لا يخرج من صلبهن من يطلب الثأر منه. وبالفعل اصطحبت الجازية النسوة إلى مملكة شمعون اليهودي، فاستقبلها واستقبل من معها خير استقبال. والملفت للنظر أن وزير الميمنة للملك شمعون كان مسلما واسمه أبو الجود. أنجبت النساء الحوامل، وتربى الأطفال في كنف الملك شمعون اليهودي، حتى كبروا وطلبوا العودة إلى ديارهم بأرض نجد، طلبا للثأر من دياب، فحاول أن يثنيهم عن قرارهم، ولكنه أمام إصرارهم، سمح لهم، بعد أن أغدق عليهم من الهدايا. مثل هذه السيرة لم يجد الراوي المصري المسلم- حتى وقت قريب- غضاضة في روايتها على الجمهور المصري بشتى طوائفه، متغنيا بأخلاق اليهود، الذين يجيرون من يلجأ إليهم. هذا عندما كانت اليهودية مجرد ديانة سماوية، قبل أن تلوثها السياسة المتمثلة في الحركة الصهيونية.

ظلت هذه الحالة من التعايش الاجتماعي سائدة في مصر، لدرجة لفتت إليها انتباه المستشرقين، الذين أشادوا بها في كتاباتهم عن مصر، لأنهم وجدوا فيها ما لم يجدوه في بلدانهم من تسامح وتعايش وسلام. هذا ما أشار إليه علماء الحملة الفرنسية في موسوعة وصف مصر، والإنجليزي إدوارد وليم لين في كتابه "المصريون المحدثون: عاداتهم وشمائلهم"، وغير ذلك من كتابات القرن التاسع عشر على سبيل المثال لا الحصر. في حين عندما سطرت الصهيونية مبادئها العدوانية، لم يقف الوجدان الشعبي المصري، بل العربي، بمعزل عن هذا التحول، فبدأت تتكون صورة جديدة لليهودي، خاصة بعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948. وفي الحقيقة لم يكن اليهودي هو المقصود في الصورة السلبية الجديدة له، وإنما كان الإسرائيلي هو ما تعنيه موروثاتنا الشعبية. لم يعد اليهودي في صورته الجديدة متعايشا ومسالما ومتسامحا، وإنما أصبح الوجدان الشعبي المصري يربطه بالاغتصاب. فالسيرة الهلالية التي تغنت قديما- في رواياتها المدونة- بأخلاق اليهود، هي السيرة نفسها التي غيرت صورتهم في رواياتها الشفاهية. فبدلا من شمعون اليهودي الذي تحلى بأخلاق الفرسان النبلاء إنسانيًا، حلت بدلًا منه شخصية مسلمة هي الملك محمود البياضي، ليجير نساء بني هلال المسلمات بدلًا من أن يجيرهن شخص يهودي؛ إذ لم يعد للعقلية العربية الجديدة، في ظروفها ومعطياتها الاجتماعية الجديدة، أن تتقبل هذا. وإلى جانب ذلك، استحدث الرواة الشعبيون حكايات هلالية جديدة، يقاوم فيها أبو زيد الهلالية والقبائل العربية هجوم اليهود على مكة، ومحاولة نبش قبر الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو ما يمكن أن نلمسه من حكايات هلالية جديدة، مثل "أبو زيد الهلالي واليهودي"، وحكاية "دياب والغزالة"، وحكاية "خطف اليهود للجازية ولبنات هلال". وفي الأمثال الشعبية المصرية والعربية، نجد صورا جديدة لليهودي، غير تلك المسالمة والمتعايشة. منها أمثال شعبية تشبهه بالثعبان والحية، من ذلك المثل الشعبي المصري "حطوا اليهودي والحية في كيس.. طلعت الحية تستغيث". هذه هي الصورة الجديدة التي رسمها الوجدان الشعبي المصري لليهود، بعد أن تم خلط السياسة اليهودية بالديانة اليهودية، من خلال الحركة الصهيونية، فأساءت هذه السياسة للدين اليهودي، الذي يحظى بكل احترام وتقدير عند المصريين. ونؤكد مرة أخرى أن الوجدان الشعبي المصري عندما يستخدم وصفًا سيئًا لليهود، فليس المقصود به الدين اليهودي، وإنما المقصود السياسة اليهودية، التي تُعتبر إسرائيل أكبر صورة تتجلى فيها، وتعبر عنها.

إن الأديان السماوية الثلاثة تتسم بالنقاء والصفاء والتسامح والتعايش في أزهي صوره، وإنما تكمن الأزمة عندما يتم توظيف السياسة في الدين، أو يتم استغلال الدين سياسبا. هذا هو الخطر الحقيقي الذي يمكن أن يهدد هذه الروح المسالمة والمتعايشة، بل يهدد البشرية كلها. وللحديث بقية؛ استكمالًا للبحث عن سبل الحوار المجتمعي.  

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: المجتمع المصري أبو زید بعد أن

إقرأ أيضاً:

بين السياسة والدهاء.. أسرار علي ماهر باشا في إدارة مصر

علي ماهر باشا، ذلك الاسم الذي يرن صداه في صفحات التاريخ المصري، ليس مجرد سياسي عابر أو موظف حكومي، بل رجل عصامي وفذ، جمع بين الحنكة السياسية والدهاء الاستثنائي، حتى صار يعرف بين معاصريه بلقب "رجل الأزمات" و"رجل الساعة".

علي ماهر، ابن أسرة الشراكسة، ووريث إرث أبيه محمد ماهر باشا، الذي كان مثالا للشخصية القوية والمثابرة، تعلم من نشأته الأولى معنى الانضباط والمسؤولية، وكيفية الاعتماد على الذات منذ الصغر. 

فقد كان والده، رغم انشغاله الواسع بالمناصب الحكومية والعسكرية، يحرص على تربية أبنائه تربية واعية، يغرس فيهم الأخلاق الفاضلة، ويشجعهم على الاجتهاد الفكري والعملي، بل ويمنحهم فرصة إدارة شؤون المنزل كتمرين على القيادة والمسؤولية. 

ومن هذه البيئة المميزة خرج علي ماهر رجلا قادرا على مواجهة التحديات، ورئيسا وزراء مصر لأربع مرات، كان أولها في عام 1936 وآخرها في أعقاب ثورة يوليو 1952، حين كلف بتشكيل أول وزارة مصرية بعد الثورة.

نشأ علي باشا في القاهرة، متلقى تعليمه في المدارس الابتدائية فالتجهيزية، ثم الحربية التي كانت تعتمد النظام الفرنسي، ما أكسبه أساسا متينا من الانضباط والمنهجية. 

وكان والده دائما يختبر ذكاءه ودقة ملاحظاته، حتى وصل الأمر إلى برقية بسيطة عن حالة ابنته المريضة، فأجاب علي بكلمات مختصرة لكنها دقيقة، ما أثار إعجاب والده وأكسبه مكافأة رمزية، لكنه أثبت بلا شك أنه فتى ذو وعي ورؤية ناضجة، كل هذه التفاصيل الصغيرة في نشأته شكلت شخصية سياسية محنكة، قادرة على إدارة الأزمات بحكمة وبصيرة ثاقبة.

مسيرته المهنية بدأت من القضاء، حين شغل منصب قاض بمحكمة مصر الأهليه، ثم تدرج في مناصب النيابة العامة، فكانت له تجربة واسعة في مجال العدالة والقانون، قبل أن يتحول إلى الحياة السياسية بشكل كامل، مشاركا في ثورة 1919، ثم شاغلا منصب وكيلا لوزارة المعارف، وأخيرا رئيسا لمجلس الوزراء. 

لم تكن طريقه سهلة، فقد واجه محنا وتحديات جسام، منها توقيفه خلال الحرب العالمية الثانية بتهمة موالاته لقوى المحور، لكنه برهن دائما على صلابته وصلابة قناعاته، متمسكا بمبادئه الوطنية.

علي ماهر لم يكن مجرد سياسي متسلق للمناصب، بل كان رجل دولة بمعنى الكلمة، شغل منصب رئيس الديوان الملكي في عهد الملك فؤاد، وحصل على نيشان فؤاد الأول، وكان حاضرا في كل اللحظات الحرجة التي مرت بها مصر، يدير ملفات دقيقة بحكمة وذكاء.

عرف عنه قدرة غير عادية على معالجة المشكلات الصعبة، فتراه دائما في قلب الأحداث، مهيئا لحلول عملية وسريعة، ومراعيا لتوازن القوى ومصالح الوطن، لقد كان مثالا للقائد الذي يزن الأمور بعين سياسية، ويوازن بين الشجاعة والحكمة، بين الوطنية والدهاء، بين المبدأ والمرونة.

وعندما نتحدث عن علي ماهر باشا، يجب أن نتذكر أنه كان الأخ الشقيق لرئيس الوزراء أحمد ماهر باشا، وأن الأسرة كلها كانت مثالا للتفاني في خدمة الوطن. 

فقد عاش علي باشا حياة مليئة بالتحديات، وترك بصمة لا تمحى في تاريخ مصر الحديث، فقد تولى قيادة الحكومة في فترات حرجة، وشهد على الأحداث الكبرى التي شكلت مسار الأمة، من ثورة 1919 إلى ثورة 1952، مرورا بمختلف المحطات السياسية والاجتماعية التي صاغت هوية مصر الحديثة. 

وقد رحل عن عالمنا في 25 أغسطس 1960 في جنيف، لكنه ترك إرثا خالدا في القلوب قبل السجلات الرسمية، إرثا من الحكمة، الوطنية، والالتزام العميق بمصلحة مصر.

إن الحديث عن علي ماهر باشا هو الحديث عن روح مصرية صادقة، عن رجل تجسد فيه معنى الخدمة العامة والوفاء للوطن، عن شخصية توازن بين العاطفة والمنطق، بين العقل والوجدان، وتجعل من التاريخ شاهدا حيا على دورها العظيم في صياغة مصر الحديثة.

فكم نحن بحاجة اليوم، ونحن نعيد قراءة التاريخ، إلى مثل هذه الشخصيات التي لا تهاب الصعاب، وتضع الوطن فوق كل اعتبار، التي تعلمنا أن القيادة الحقيقية ليست مجرد منصب أو سلطة، بل رؤية، وضمير، وإصرار على العطاء المستمر، مهما عصفت بنا التحديات.

مقالات مشابهة

  • أسعار ومواصفات «كيا EV3» الكهربائية الجديدة بالسوق المصري
  • حجرُ الأحزاب في بركة السياسة
  • تزايد معدلات العنف.. ما الحل؟
  • ضرورة الحل الشامل للأزمة في السودان
  • د.حماد عبدالله يكتب: الاستثمار هو الحل !!!
  • ماذا ينتظر الأقصى خلال عيد الأنوار اليهودي الوشيك؟
  • مبعوث ترمب يحذر من انزلاق العراق نحو التفكك وعزلة دولية: الحل بأيديكم
  • بين السياسة والدهاء.. أسرار علي ماهر باشا في إدارة مصر
  • العفو الدولية تناشد لوقف تهجير الاحتلال فلسطينيا وعائلته من القدس
  • سوريا تمنح ترخيصا لمنظمة تهتم بالحفاظ على التراث اليهودي