لجريدة عمان:
2025-01-30@17:19:40 GMT

فلسطينُ المُتخَيَّلة

تاريخ النشر: 20th, January 2024 GMT

من هم هؤلاء الذين ظلوا لعقود يموِّلون مخيلتنا بالمجاز الجميل بينما يستشهدون في المُرادف الواقعي من اللغة، يصقلون لنا الكلمات المستعملة فتصير من بعدهم أكثر جِدةً وحِدَّةً، جاهزةً للدخول في الشعر؟! من هم هؤلاء الفلسطينيون حقًا، وعن أي فلسطين متخيلةٍ نتحدث وبأي فلسطين نحلم؟!

لقد كان جان جينيه، الأديب الفرنسي «المنبوذ»، أكثر فضولًا من غيره في محاولة اكتشاف فلسطين من خلال الفلسطينيين، عندما قرر أن يلتحق بمخيماتهم في الأردن عام 1970 إثر دعوةٍ تلقاها من منظمة التحرير الفلسطينية، التي أدركت قيادتها، منذ البداية، أهمية أن تتمتع الثورة الفلسطينية بـ«شرعية أدبية» عالمية تمنحها صبغتها الفريدة كملحمة أممية، وذلك في مرحلة تاريخية حاسمة كانت تغلي بصعود حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار، وبروز بؤر ثورية جديدة في أماكن متفرقة من «العالم الثالث» مطلع النصف الثاني من القرن العشرين.

ولم تكن تلك الشرعية الأدبية المنشودة لتتحقق إلا من خلال ارتباط الثورة بأسماء بارزة على خريطة الأدب العالمي في ذلك الوقت. فكان جان جينيه واحدًا من أهم اكتشافات الثورة الفلسطينية آنذاك، وعكسُ العبارة لا بدَّ أن يَصدق بقوة أيضًا؛ فقد كانت تلك الثورة، في المقابل، أهم اكتشافات الفرنسي المتشرد الذي جاء لتقضية أسبوع واحد في عجلون، حتى استفاق من حلمه وقد مرت سنتان من حياته بين الفدائيين: «الفترة الأكثر إبهاجًا في حياتي» كما كتب.

جاء جينيه إلى الأردن مسكونًا بالبحث عن فلسطين المتخيلة، جاء ليتخيَّلها مع فدائييها الملثمين، حيث اشتهر بينهم بلقب «الملازم علي»: «... في صحبة الفلسطينيين، حاملًا وظيفتي كحالم داخل الحلم». هكذا كتب في مذكراته «أسيرٌ عاشق» بعد أربعة عشر عامًا من تلك التجربة. لم يكن هذا الغريب، قبل عام 1970، يعرف عن فلسطين أو الصراع العربي الإسرائيلي سوى ما تقوله صحافة بلاده في فرنسا. وهو الآن واحدٌ بين أبناء البلاد السليبة، اليتامى الذين لا يتعرفون على ملامح أمهم وأطباعها إلا عن طريق آلية واحدة: إدمان التَّخيل، حتى وهم يقفون على هذا القدر من القرب الجغرافي، حتى وهم يتسللون عبر الحدود مع الأرض المحتلة ويعودون منها سالمين. لقد أدمنوا خيالاتهم إلى حد التلاشي أحيانًا، فقد باتوا هم أيضًا متخَيَّلين بالنسبة للعالم الخارجي، أو كما يقول جينيه في عبارته البليغة عنهم بأنهم «ظلوا لزمن طويل جدًا محلوما بهم أكثر منهم مفكرًا فيهم».

ظلت تلك الروح الوطنية القائمة على الخيال ضربًا من «خيال المنفى» الذي درسه غلين باومن كأسلوب من أساليب الوعي المنفيّ في بناء المكان من خارجه. وفي الوقت الذي انطلقت فيه الثورة الفلسطينية، أي بعد نحو عشرين عامًا من النكبة، كان في المخيمات من الرجال والنساء عدد كبير ممن يتذكر البلاد، وكانت مقاومة الذاكرة الفلسطينية في المنفى تقضي على من يتذكر شيئًا أن يورثه على طريقته لمن لا يتذكر إلا أنه بوسعه أن يتخيل. وهكذا بدأت المخيمات تشهد تبادلًا بين جيلين من اللاجئين؛ فجيل عرف البلاد، قبل النكبة أو قبل نكسة، فعاش في المنفى يتذكر ويحكي، وجيل تفتَّح وعيه تحت شمس المنفى فعاش يتخيل الذكريات الموروثة: يتذكر الكبار ويتخيل الصغار.

هل كان التخيُّل حيلةً من حيل العبقرية البدائية للقفز على أنقاض الحاضر المهزوم؟ كان الفدائي بحاجة إلى أن يتذكر أو يتخيل، أو أن يمارس الفعلين معًا حتى يستمر في القتال. كان التخيُّل فعلًا تحريضيًّا، وكانت للفلسطينيين آنذاك بنادق ناطقة تُحرر خيالهم، أي أنهم لم يكونوا مكبوتين تمامًا كما صاروا في مراحل لاحقة. أما في اليوم الذي صمتت فيه بنادقهم فقد بدا أن كل شيء سيتغير إلى الأبد. انصهروا مع بلادهم المتخيلة في ذلك اليوم الذي ركبوا فيه البحر وغادروا بيروت عام 1982، في مشهد تراجيدي يوثقه الشاعر الراحل أمجد ناصر كمن يقف على أطلال معلقة جاهلية:

«عالم اندثر دون أن يترك أطلالًا، وكنَّا نحن أطلاله».

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

ما الذي دفع بالإسرائيلي إلى تمديد بقائه في الجنوب؟

كتب ابراهيم بيرم في" النهار": بدا أمراً بديهياً أن يستغلّ "حزب الله" امتناع الإسرائيلي عن إنجاز انسحابه كاملاً من كلّ بلدات الحافة الأمامية الجنوبية، فيقدم على ما أقدم عليه في الأيام الثلاثة الأخيرة. ولكن ما بدا غير طبيعي هو الإصرار الإسرائيلي على تمديد بقائه عسكرياً في جزء من المنطقة الحدودية اللبنانية، مما أوجد وضعاً متفجراً، مكّن الحزب من الاستفادة منه، فضلاً عن أنه خلّف انقساماً بين راعيي الاتفاق، فدعت فرنسا إسرائيل إلى التزام مندرجات الاتفاق، فيما ذهبت واشنطن إلى تغطية طلب إسرائيل تمديد مهلة انسحابها.
واقع الحال هذا أثار أيضاً تباينات في الداخل اللبناني، ولا سيما بعدما رفضت الشيعية السياسية بطرفيها "اتفاق" تمديد بقاء إسرائيل إلى الثامن عشر من الشهر المقبل، واعتبرت أنه تمّ من دون علمها.
حيال ذلك كان مبرراً أن يُطرح السؤال عن العوائد العسكرية والمكاسب السياسية التي يمكن تل أبيب أن تجنيها من وراء هذا التأخير المحدود لإتمام انسحابها، خصوصاً أنه كان أمامها فرصة الـ60 يوماً لتفعل فيها ما تشاء في إطار "إذلال بيئة المقاومة". لا يرى الخبير الاستراتيجي العميد المتقاعد إلياس فرحات في حديث إلى "النهار" أي "مكاسب عسكرية يمكن الكيان أن يحصدها من بقائه حيث تمدّد في الجنوب، إذ إن حرب الـ66 يوماً التي خاضها في هجومه الأخير كانت كافية لتحقيق ما يريده ميدانيا".
وعليه، يميل فرحات إلى "الاستنتاج أن تمديد إسرائيل بقاءها في الجنوب يعود إلى أمرين:
الأول رغبتها في أن تثبت لجمهورها، خصوصاً مستوطني الشمال النازحين، والذين يبدون غير متحمّسين للعودة إلى مستوطناتهم، أنها ما تزال قابضة على زمام المبادرة ميدانياً، وتملك حرية الحركة.
الثاني أن مشهد غزة بعد اتفاق وقف النار الأخير وعودة الأهالي وظهور حركة "حماس" في وضع القوي، الذي لم تحطمه ضربات الـ15 شهراً، قد أرسى وضعاً أثّر سلباً على إسرائيل حكومة ورأياً عاماً. وعليه، وجدت تل أبيب ضالتها المنشودة للتعويض وتحسين الصورة في الجنوب اللبناني، فتُمدّد بقاءها، وتتصدّى بالرصاص للأهالي العائدين إلى قراهم". ورداً على سؤال، يقول فرحات: "الواضح أن إسرائيل انسحبت تماماً من القطاعين الغربي والأوسط، في ما خلا بعض المواقع، واحتفظت بمواقعها في القطاع الشرقي. وهنا نريد أن نتثبت من أنها عازمة فعلاً على الانسحاب بعد 18 الشهر المقبل، أم أنها ستظلّ تحتفظ بنقاط حاكمة وفق ما سرّبت سابقاً. وأنا أميل إلى الاعتقاد أنه بعد ما سجّل أخيراً من تطورات ميدانية، فإن إسرائيل لا يمكنها أن تبقى في أيّ موقع من الجنوب لأسباب شتّى، عسكرية وسياسية، إذ لا يمكن مثلاً أن تمضي واشنطن قدماً في تغطية التوجّهات الإسرائيلية إلى النهاية".
ويخلص فرحات: "أما إذا تعنّتت إسرائيل وظلت مصمّمة على البقاء في أي نقطة تمددت إليها، فإن ذلك سيكون بمثابة شرارة لتفجير مشاكل وألغام وأحداث أمنية، خصوصاً أن انتفاضة الأهالي التائقين للعودة إلى أرضهم أثبتت أن ثمة إمكاناً لإلحاق الأذى بالإسرائيلي من خلال أمرين: المقاومة المدنية على شاكلة تجربة الأيام الأخيرة، وعمليات عسكرية موضعية ومحدودة تحاكي على نحو ما تجربة ما قبل الانسحاب الإسرائيلي عام 2000".

مقالات مشابهة

  • عمر كمال يتذكر الراحل أحمد رفعت بهذه الكلمات| ماذا قال؟
  • دولفين يرد الجميل للبحار الذي أنقذه.. فيديو
  • موقع إيطالي: لماذا يتذكر العالم الهولوكوست وينسى جرائم إسرائيل؟
  • حركة إم 23.. جناح إثنية التوتسي المسلح الذي أحكم قبضته على الكونغو
  • بالفيديو| حاكم الشارقة يزور الصف الذي درس فيه بالمرحلة الابتدائية
  • قاليباف: القضية الفلسطينية أصبحت قضية عالمية بفضل دماء الشهداء وإخلاص الأمة
  • من طفولته في الإسكندرية إلى المنفى بباريس.. بيرم التونسي شاعر لم يعرف الحب أبدا
  • ما الذي دفع بالإسرائيلي إلى تمديد بقائه في الجنوب؟
  • الخارجية الفلسطينية جرائم الهدم في الضفة نسخة متدحرجة من صورة الدمار الذي ارتكبه العدو في قطاع غزة
  • عودة الفلسطينيين إلى شمال غزة محاكاة ليوم تحرير فلسطين العظيم الذي نراه قريبًا