معركة الحق والباطل
تاريخ النشر: 20th, January 2024 GMT
حاتم الطائي
◄ النظرة الاستراتيجية الثاقبة لجلالة السلطان تؤكد وقوفنا الصلب مع الحق في مواجهة الباطل
◄ جيش الاحتلال يتجرع كؤوس الهزيمة ساعة تلو الأخرى
◄ النضال من أجل الحق يتجسد في أبطال المقاومة الصامدين وشعب فلسطين الأبي
نعيشُ في هذه الحياة دائمًا بين نقيضين، ثنائيتين، متضادين: الحق والباطل.. الخير والشر.
هذه مُعضلة أخلاقية عُظمى، ربما يعود تاريخها إلى أقدم نقطة زمنية يُدركها الإنسان، وتتجدد دائما وباستمرار في كل عصر ووقت وأذان. وبينما نحن نُشاهد ما يجري حولنا من مآسٍ غير مسبوقة وجرائم إبادة جماعية شنيعة ترتكبها العصابات الصهيونية المعروفة باسم قوات الاحتلال الإسرائيلي، والصمت الدولي المُخزي، والتآمر الغربي الفاضح على أهل فلسطين وقطاع غزة تحديدًا، والضعف العربي والإسلامي العام، فلا يُمكن أن نصف هذه الأحداث سوى أنها معركة الحق والباطل، الحق الفلسطيني في مُواجهة الباطل الإسرائيلي.. الحق في الأرض للشعب الفلسطيني صاحب الجذور المُمتدة في تربة هذه البقعة المباركة من أرض الله، ضد الباطل الصهيوني الذي اغتصب الأرض وانتزعها بالممارسات الإرهابية والقتل والإبادة الجماعية والتهجير القسري وهدم المنازل واستخدام الأسلحة المُحرّمة.. الحق الفلسطيني في إقامة دولة مُستقلة ذات سيادة تنعم بخيرات الأرض وتحيا في سلام، ويعيش إنسانها في اطمئنان وأمان، لا يخشى على نفسه وعائلته الموت في أي لحظة، ولا الطرد والتهجير ولا الاعتقال والأسر في غيابات سجون الاحتلال، وذلك في مُواجهة الباطل الإسرائيلي الذي يزعم كذبًا ونفاقًا وزورًا وبهتانًا أنه صاحب الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهي في الأصل ديمقراطية الدماء والإبادة، ديمقراطية الفصل العُنصري، ديمقراطية انتهاك الحُرمات والاعتداء على النساء والأطفال والعجائز.
لم يكن الحق الفلسطيني أشدَّ جلاءً ووضوحًا مثلما هو حاصل اليوم، لأنَّ الباطل الصهيوني تمادى في غيِّهِ وأمعن في مُمارسة أقسى مراحل الظلم التاريخي. حق الشعب الفلسطيني لم يعد يحتمل الجدال العقيم الذي كان يستهدف ترسيخ فكرة "التطبيع" مع العدو المحتل؛ باعتبار أن "السلام خيار استراتيجي"، لأن السلام لا يُمكن أن يكون خيارًا استراتيجيًا إلّا مع طرف آخر يؤمن به، بينما دولة الاحتلال المُجرمة لا تؤمن سوى بالإبادة، وتُعلنها على الملأ دون خشية من عقاب دولي أو حُمرة خجل من إنسانية داست عليها بأقدامها الغليظة القبيحة. دولة الاحتلال تُؤمن بأن الحل الوحيد للسلام- بالنسبة لها- يتمثل في إبادة شعب فلسطين، وطرد وتهجير الباقين قسرًا إلى أي بلد، وأن تظل مصدر تهديد لدول المنطقة، لأنها في الأساس كيان ناتج عن سفاحٍ بين مجرمي الاستعمار القديم وأباطرة المال والسلاح في الغرب، لتكون شوكة في حلوق الدول العربية، تُنغِّص عليهم معيشتهم، وتُعيق مسيرة تقدمهم أو تطورهم، وأن تظل بؤرة توتر عسكري، تشتبك هنا وهناك، تغتال هذا أو ذاك، تُفجِّر مطارًا أو مبنى سكنيًا أو معسكرًا أو حتى مفاعلًا نوويًا إذا أُتيحت لها الفرصة.
لكن في المُقابل، نرى الحق مُضيئًا بنور شمس الإيمان بالنصر المُبين، فأبطال المقاومة الصامدون وشعب فلسطين الأبي الصابر على كل جرائم الاحتلال، يضربون أروع الأمثلة في النضال لاستعادة الحق وتأكيده، يجاهدون بالنفس والمال والولد، يُؤازرون بعضهم بعضًا في وقت عزّت فيه روح المؤازرة والدعم. المقاومة نجحت في تحقيق العديد من الأهداف، وعلى رأسها زلزلة الأرض من تحت أقدام العدو؛ إذ لا تزال صواريخ المقاومة تصل إلى مدن الاحتلال وبلداته رغم الاجتياح البري الذي ينفذه جيش الاحتلال، ويوميًا نشاهد بالصوت والصورة تدمير الآليات العسكرية الإسرائيلية بكل بسالة على أيدي مقاتلي المقاومة. في حين أنَّ العدو لم يحقق أي هدف يُذكر، سوى أنه أطلق عشرات الآلاف من أطنان المتفجرات التي تسببت في الدمار الهائل بقطاع غزة، وتشريد كل سكان القطاع تقريبًا.
وبينما تتواصل معركة الحق والباطل، نجد أنَّ الكيان الصهيوني في طريقه للزوال، وحتميّة الانهيار، هذا الانهيار الذي بدأ في السابع من أكتوبر المجيد، بانكسار شوكة الجيش الذي لم يمل يومًا من تكرار أكذوبة "الجيش الذي لا يُقهر"، فتحوّل إلى الجيش المهزوم الذي يتجرع كؤوس الهزيمة ساعة تلو الأخرى. وبعد الانهيار العسكري، وقع الانهيار الاجتماعي في ظل الانقسام المجتمعي العنيف الحاصل الآن، والآن نشهد الانهيار السياسي مع تفكك حكومة الحرب بقيادة المُجرم نتنياهو.
وفي خضم معركة الحق والباطل، يجب أن نفخر ونُشيد ونُثمِّن السياسات الحكيمة لوطننا عُمان، فمنذ اليوم الأول من العدوان، وانطلاق هذه المعركة الفاصلة، أعلنت عُمان موقفها الحاسم والواضح والمُتمثل في رفضها لجرائم الاحتلال؛ بل والمطالبة بمحاكمة الاحتلال أمام العدالة الدولية، لتكون عُمان أول دولة في العالم تطالب بهذا الحق الأصيل، وتقود معركة دبلوماسية نزيهة، بأشد العبارات وأقوى التصريحات.
وهنا نُؤكد أنَّ الرؤية السديدة والحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- بشأن فلسطين، نابعة من التفكير الاستراتيجي البعيد المدى لجلالته؛ إذ إنَّ جلالة السلطان وبفضل بصيرته النافذة واستشرافه للمُستقبل، تعاطى مع تداعيات العدوان الإسرائيلي على غزة بنظرة استراتيجية ثاقبة، أدركت منذ اللحظة الأولى أن لا خيارَ سوى الوقوفِ بجانب الحق، في معركته ضد الباطل، مصداقًا لقوله تعالى "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا". وتجلّت عبقرية دبلوماسيتنا في التزامها الشديد بالبُعد الأخلاقي والجانب الرسالي في أداء مهمتها، إيمانًا بعدالة القضية الفلسطينية، وتمسكًا بنهج الحياد الإيجابي، الذي يقف مع القضايا العادلة دومًا، دون تردد، لأنه نهج يمنحنا القدرة على رؤية ما هو أبعد من الوضع الحاصل في اللحظة الراهنة، ليصل بنا إلى استشراف مستقبل ومآلات الوضع، وهو أمر يؤكد لنا دون أدنى شك أننا نصطف مع الحق، لأنه "أحق أن يُتَّبَع".
ويبقى القول.. إنَّ معركة الحق والباطل ستظل مُستعرة إلى قيام الساعة، غير أنَّ المطلوب من كل إنسان يُؤمن بأحقية أخيه الإنسان في حياة كريمة حُرة، أن يُناصر الحق دائمًا، وأن يُدافع عن المظلوم صاحب القضية العادلة، مهما كلفه ذلك من أثمان، ربما يراها البعض كبيرة، لكنها مؤكد لا تساوي ذرة في ميزان العدالة الإلهي. ونقول لأهلنا في غزة العزة والكرامة، وشعبنا الشقيق في فلسطين المُحتلة، صبرًا يا أهل الحق؛ فالنصر قريبٌ، لا محالة.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
كيف ألهم حزب الله وحماس فكر المقاومة العالمية
لقد نجح الكيان الصهيوني، بدعم قوي من القوى الأميركية والأوروبية، في تحقيق أجندته وأهدافه من خلال القمع والعنف. وقد أدى هذا المسار التدميري، المقنّع بغطاء الأمن والشرعية، إلى إزهاق أرواح لا حصر لها، إذ تحمّل الأبرياء وطأة السعي الوحشي للاستعمار والاستكبار. وبينما كان العالم يراقب في صمت، عانت غزة من حصار لا هوادة فيه، وواجه لبنان هدم القرى، وظلت الأصوات الفلسطينية مقموعة في الساحة الدولية. والآن، تتغير الأمور. فقد أشعلت عملية “طوفان الأقصى” زخماً لا رجعة فيه، وحوّلت خطاب المقاومة إلى صرخة حشد عالمية قوية. واليوم، لم يعد التضامن مع القضية الفلسطينية مجرد تعاطف عابر؛ بل أصبح حركة تتجاوز الحدود والأديان والأجيال.
لقد كان النضال الفلسطيني لسنوات طويلة لا يُعترف به إلا في لحظات عابرة، مع إدانات سطحية تركت الأجندة الصهيونية من دون أي تحد. وظلت غزة، رمز الصمود، محاصرة ومعزولة وخاضعة للعنف العشوائي من قبل الكيان الصهيوني. وظلت القوى العالمية غير مبالية، وكأنها مشلولة بقبضة المصالح المؤيدة للاحتلال، ما سمح للحصار بالاستمرار من دون اتخاذ أي إجراء ذي معنى. لكن عملية “طوفان الأقصى” حطمت هذا الرضا عن الذات، وأشعلت الوعي حتى بين أولئك الذين ربما لم يروا فلسطين على الخريطة الجغرافية قط. كما سلطت الضوء بشكل واضح على الحق في مقاومة الاحتلال، وهو مبدأ عالمي يتردد صداه بين الناس في جميع أنحاء العالم. وما كان يُنظر إليه ذات يوم على أنه صراع محلي أصبح الآن رمزاً لنضال أكبر بكثير من أجل العدالة والسيادة والكرامة الإنسانية.
إن التأثير المتتالي لعملية “طوفان الأقصى” لا لبس فيه. ففي شوارع أوروبا وأميركا، ترتفع الأصوات احتجاجاً، حاملة الأعلام الفلسطينية، وتهتف تضامناً، وتتحدى دعم حكوماتها الثابت للكيان الصهيوني. لقد تحوّلت شرعية المقاومة ضد الاحتلال من خطاب إقليمي إلى خطاب عالمي يرمز إلى المقاومة ضد الظلم. ويشير هذا السرد المتطور إلى تحوّل ينتج بالفعل عواقب بعيدة المدى. واليوم، تتردد شعارات المقاومة الفلسطينية في قلوب الناس عبر القارات، وتغرس صدى دائماً لا يمكن لدعاية الكيان الصهيوني إسكاته.
هذه المقاومة ليست مقتصرة على القضية الفلسطينية وحدها؛ إذ تسلط تجربة لبنان الضوء على قصة مماثلة. لقد سعى الكيان الصهيوني لعقود من الزمان، وبالأخص خلال الأشهر الماضية، إلى تقويض حزب الله، مستخدماً استراتيجيات لا ترحم من الاغتيالات الواسعة النطاق إلى التدمير الكامل للقرى في جميع أنحاء جنوب لبنان وبيروت. ولكن، بدلاً من كسر رابطة حزب الله مع شعبه، فإن هذه الحملات العنيفة لم تفعل سوى تعزيزها. واليوم، ينظر الشعب اللبناني، المتحد عبر جميع الطوائف، إلى حزب الله كمدافع عن أرضه وسيادته ضد المعتدي الذي لا يميز بين الطوائف أو المجتمعات. كل قنبلة سقطت، وكل حياة فقدت لم تفعل سوى تعزيز دور حزب الله كمدافع ثابت عن سلامة لبنان وحامي شعبه.
إن حزب الله ليس مجرد منظمة عسكرية؛ بل هو حركة متجذرة بعمق في الإيديولوجية والدعم الشعبي. إنه ليس فصيلاً معزولاً بل هو انعكاس لإرادة لبنانية جماعية للدفاع عن النفس والكرامة. لقد أتت استراتيجية الكيان الصهيوني المتمثلة في إضعاف حزب الله من خلال الاغتيالات بنتائج عكسية، حيث عززت قدرته على الصمود وألهمت حركات مماثلة في أماكن أخرى. فمع كل محاولة اغتيال، خرج حزب الله أقوى، باستراتيجية أكثر تقدماً وقدرات عسكرية محسنة. لقد تجاوزت فكرة حزب الله الآن لبنان، وألهمت حركات تشترك في الالتزام بمقاومة الاحتلال والظلم، ما يثبت أن القوة العسكرية وحدها لا تستطيع سحق فكرة ولدت من المقاومة الجماعية.
وحماس أيضاً تجسد قوة المقاومة الشعبية. من المستغرب أن يقوم المجتمع الدولي المنافق بتصنيف حماس “منظمة إرهابية”، فمن غير الممكن إنكار أن حماس تستمد قوتها من جذورها داخل المجتمع الفلسطيني. ويحاول هذا الوصف نزع الشرعية عن حركة هي في الأساس استجابة للاحتلال غير الشرعي من الكيان الصهيوني. منذ عام 1948، كانت حماس تمثل جهداً مشروعاً للدفاع عن النفس، يرتكز على النضال من أجل استعادة الحقوق ومقاومة التهجير المنهجي. فكيف يمكن لنظام قائم على الأكاذيب والعنف واحتلال أراضي الآخرين أن يبرر حقه في “الدفاع عن نفسه”، في حين يحرم الفلسطينيين الأصليين من حق المقاومة واستعادة تراثهم وأرضهم؟ إن المعايير المزدوجة صارخة، وهي تفشل بشكل متزايد في إقناع العالم الذي يستيقظ على حقائق الاحتلال والقمع من كيان دموي.
إن الوضع الحالي يتطلب تدخلاً دولياً حاسماً، وخصوصاً من القوى الناشئة التي وقفت تاريخياً من أجل العدالة. ويتعين على روسيا والصين أن تتحمّلا مسؤوليتهما وتعارضا بنشاط قمع الكيان الصهيوني. لقد تغيرت التوقعات العالمية؛ فلم يعد كافياً أن تعبّر الدول المستقلة عن الدعم اللفظي فحسب. بل إن الأمر يتطلب موقفاً استباقياً، لا يدافع عن التغيير فحسب، بل ويواجه بشكل مباشر طغيان الاحتلال والمعاناة التي يلحقها بالشعب الفلسطيني. وهذه الدعوة هي مطلب لإعادة ترتيب التحالفات الدولية لدعم أولئك الذين تم تهميشهم وقمعهم بعنف من قبل الكيان المحتل والولايات المتحدة والأوروبيين الفاقدين للاستقلال. لقد حان الوقت لكي تصطف روسيا والصين بقوة إلى جانب العدالة وتقفا إلى جانب المضطهدين، في معارضة الاحتلال الصهيوني.
ولا يمكن تجاهل دور إيران المحوري في هذه المعادلة. ففي حين واجهت العديد من التحديات والتهديدات، عززت إيران باستمرار قدراتها الاستراتيجية والعسكرية، وبرزت كقوة هائلة ضد عدوان الكيان الصهيوني. لقد نجحت إيران، من خلال ما ارتكبه الكيان الصهيوني وأنصاره بناء على حسابات خاطئة، في تطوير دفاع قوي يتجلى بوضوح في نفوذها المتنامي وشراكاتها في مختلف أنحاء المنطقة.
ومن الجدير بالذكر أنه في حين تعهدت إيران بعدم تطوير الأسلحة النووية، فإن حلفاءها الاستراتيجيين لا يلتزمون بأي التزام من هذا القبيل. ويشكل هذا التوازن في القوة رادعاً قوياً ضد الطموحات التوسعية للكيان الصهيوني، ما يضمن مواجهة أي عدوان بمقاومة هائلة.
الرسالة واضحة للجميع وهي أن عصر الهيمنة الصهيونية غير المقيدة قد انتهى. لقد عادت روح المقاومة إلى الظهور، الأمر الذي ألهم ليس الفلسطينيين فحسب، بل وأيضاً الحلفاء في مختلف أنحاء المنطقة وخارجها. وتدعو هذه الحركة العالمية إلى عالم يقدر العدالة والكرامة وحق جميع الناس في العيش أحراراً من القمع. إنها دعوة تتجاوز الحدود والثقافات، وتستمد الدعم من أولئك الذين يرون من خلال النفاق ويطالبون بإنهاء العنف.
إن النضال من أجل فلسطين أكثر من مجرد نزاع إقليمي؛ إنه نضال محدد لعصرنا، وهو نضال يختبر نزاهة القوى العالمية وعزيمة الدول الملتزمة بالعدالة.
وبينما يراقب العالم ما يجري، تستمر المقاومة بلا هوادة في الصمود. وبفضل دعم الأصوات الواعية في مختلف أنحاء العالم، سيستمر النضال الفلسطيني، وسيكشف في نهاية المطاف عن خواء الاحتلال الذي كان مبنياً دائماً على الخداع ومدعوماً بقوى الاستكبار والاحتلال. وفي هذا النضال، سيظل انتصار المظلوم على الظالم شهادة على قوة الكرامة الإنسانية الدائمة وروح المقاومة التي لا تنكسر.
مدير ورئيس تحرير مركز الرؤية الجديدة للدراسات الاستراتيجية.