لجريدة عمان:
2024-06-27@14:00:14 GMT

الفكر الحضاري عند السلطان هيثم

تاريخ النشر: 20th, January 2024 GMT

لا يمكن أن ينسينا الاهتمام بالشأن الاقتصادي والمالي الداخل في دائرة الأحداث اليومية خلال السنوات الأربع الماضية أن المشروع «النهضوية» لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- مشروع دولة متكامل الأركان، تسير فيه كل قطاعات بناء الدولة إلى جوار بعضها البعض، ولا يبرز قطاع على آخر إلا بمقدار حاجة ذلك القطاع إلى مزيد من الجهد والعمل، الأمر الذي يجعله، أحيانا، في واجهة الأخبار أكثر من غيره.

ولذلك فإن مشاريع حفظ التاريخ وتوثيقه والمشاريع الثقافية والاهتمام المتواصل بوسائل الإعلام وما ينشر فيها، على سبيل المثال، تسير جنبا إلى جنب مع المشاريع الاقتصادية ومع المشاريع الاجتماعية ـ التي تهتم بأدق تفاصيل حياة الإنسان اليومية ـ في فكر البناء لدى عاهل البلاد المفدى.. بل إن فكر جلالته يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يناقش المواطنين في لقاءات مفتوحة حول خطر وسائل التواصل الاجتماعي على تربية الأبناء، وتأكيده المستمر على أهمية الحفاظ على «السمت» العماني.. وهذا النوع من فكر القيادة أكبر بكثير من القيادة السياسية، إنها قيادة حضارية تسمو فوق السياسي/ اليومي إلى البناء الحضاري المستدام الذي يحافظ على عظمة تاريخ الدولة والتأسيس لمسارات مستقبلها.

وتأكيدا لهذا البعد الحضاري في بناء الدولة العمانية يتفضل اليوم حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم- أعزه الله- ويضع حجر الأساس لمشروع بناء مجمع عُمان الثقافي.. وهو معلم ثقافي بارز من معالم عُمان سيساهم في تعظيم تاريخها ومكانتها الثقافية والحضارية ويكون أحد أهم معالم محافظة مسقط.

وإذا كانت مسقط مليئة بالمعالم التاريخية والثقافية التي تشكل مجتمعة جانبا مهما من الحضارة العمانية مثل القلاع والحصون والمتاحف ودار الأوبرا السلطانية ودار الفنون.. إلخ فإن مجمع عمان الثقافي سيكون مركز إشعاع حضاري استثنائي في عُمان حيث سيضم المكتبة الوطنية التي طال انتظارها، وكذلك المسرح الوطني، وهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية التي تملك كنوزا ضخمة لا تقدر بثمن والتي تتمثل في الوثائق والمخطوطات التي تكشف عن بعض تفاصيل التاريخ العماني الضارب في القدم، ودور العمانيين في المساهمة في الحضارة الإنسانية.

وقد تشرفت بمتابعة هذا المشروع، صحفيا، منذ توقيع اتفاقية الخدمات الاستشارية لتصميم المشروع في عام 2009 بمكتب جلالته في وزارة «التراث والثقافة» في ذلك الوقت. وأنقل هنا تصريح جلالته بعد تفضله بالتوقيع على الخرائط حينما تكرم ورد على أسئلتي وزملائي الصحفيين: «يعد المشروع الثقافي الأول المتكامل في السلطنة، وسيكون فريدا من نوعه وفي طابعه وسيضم بين جنباته المسرح الوطني والمكتبة الوطنية ومبنى دار الوثائق والمخطوطات». وكان جلالته فخورا بالمشروع وهو يتحدث عنه لما سيضيفه للمشهد الثقافي في سلطنة عُمان من دور في حفظ جوانب مشرقة من تاريخها العريق. لكن الأزمة المالية التي أثرت على العالم أجمع أثرت على المشروع وساهمت في تأجيله كما أجلت الكثير من المشاريع الأخرى. وفي عام 2015 حينما كان جلالة السلطان المعظم يحضر حفل افتتاح المتحف الوطني سألتُ وزميلي الصحفي فيصل العلوي جلالة السلطان عن المشروع، فرد- أعزه الله- بكثير من التأثر أن المشروع تأجل بسبب الظروف المالية الحالية «في ذلك الوقت» التي تمر بها سلطنة عمان ودول العالم بسبب انهيار أسعار النفط إلا أنه أكد أن المشروع سيبقى قائما وضمن أولويات الدولة نظرا لأهميته بالنسبة لسلطنة عمان ولتاريخها ومكانتها الحضارية.

ورغم أن مياها كثيرة جرت تحت الجسر منذ ذلك التاريخ وجلبت معها جوائح صحية وأزمات مالية وتحولات بنيوية في العالم على كل المستويات أكبر بكثير من الأزمة التي كانت قائمة في عام 2015 إلا أن فكر جلالة السلطان الذي يُعلي من مكانة الثقافة في بناء الدولة تمسك بالمشروع ورأى فيه عُمان بكل تاريخها وحضارتها وعراقتها وعظمة إنسانها.. ولذلك فإن جلالته يضع بنفسه حجر أساس المشروع وفي هذا تأكيد لا يخفى عن أحد على أهمية المشروع، ورعايته الكاملة من لدن عاهل البلاد المفدى.

ولا شك في أن مشروع مجمع عُمان الثقافي أكبر بكثير من مبنى يضم مجرد مرافق ثقافية، إنه مشروع ستستقر فيه الكثير من كنوز تاريخ عُمان وحضارتها وهي كنوز لا تقدر بثمن، أو أن ثمنها يعادل أكثر من عشرة آلاف سنة من مساهمة العمانيين في الحضارة الإنسانية: فكرا وإبداعا. وهذه الكنوز هي التي تشكل اليوم الجانب المهم في ثراء الثقافة العمانية وفي بناء وعيهم وفكرهم وتمسكهم بقيمهم ومبادئهم العريقة. والمشروع بهذا المعنى هو أحد معالم القوة الناعمة التي تتمتع بها سلطنة عمان اليوم والتي نحتاج إلى تفعيلها في بناء الصورة الذهنية الحديثة عن بلادنا ومنجزها عبر التاريخ.

لكن هذا المشروع لن يكون الأخير في سلسلة بناء المعالم الثقافية والحضارية العمانية فهناك مشاريع كثيرة قادمة في الطريق مثل متحف عُمان البحري الذي سيخرج من العاصمة مسقط إلى مدينة صور كما خرج متحف عمان عبر الزمان، ومتاحف أخرى ستعلن عنها الجهات المعنية في حينها.

وفي أحلامنا التي تجد طريقا لها في هذا النور الذي يضيء عُمان هناك الكثير من المشاريع التي ننتظرها وفي مقدمتها المراكز البحثية التي تُعنى بالدراسات العمانية والتاريخية والسياسية والاقتصادية والاستراتيجية. ومركز عُمان للترجمة الذي يمكن أن يقوم بدور تنويري ليس في عُمان وحدها ولكن في العالم العربي سواء عبر نقل المعارف والعلوم من لغات العالم إلى اللغة العربية أو عبر ترجمة المنجز الثقافي العماني والعربي إلى مختلف اللغات العالمية عبر بناء شراكات مع دور نشر في مختلف دول العالم.

وفي طابور الأحلام الكثير من المشاريع الكفيلة بجعل عُمان في صدارة المشهد الحضاري العالمي، وفي تاريخ هذا البلد العظيم ما يساهم في تذليل كل العقبات التي يمكن أن تظهر في مسيرته نحو المستقبل. كما أن في حاضر هذا البلد ما يجعلنا أكثر تفاؤلا أن هذه الأحلام سترى النور قريبا، أعني بذلك فكر جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- الذي يُعنى بالثقافة وبالتاريخ وبالعلم عناية كبيرة وفائقة تجعلنا نُعوّل كثيرا على مشاريع السنوات القادمة في بناء مشهد مختلف تماما لعُمان المستقبل.

عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة «عمان»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: جلالة السلطان الکثیر من بکثیر من فی بناء

إقرأ أيضاً:

أدب البساطي على ميزان الذهب

محمد بدوي: أكمل تقاليد السرد الريفي التي بدأها طه حسين

حسين حمودة: أشرك القارئ في إنتاج معاني قصصه ورواياته

خيري دومة: امتلك حساسية خاصة في التقاط العالم وتصويره

محمد الشحات: كان أستاذاً في التكثيف وابتعد عن التعقيد

سمير الفيل: قدَّم أشخاصاً يعرفهم وقابلهم في بلدته الريفية

رغم وفاته منذ سنوات إلا أن اسم محمد البساطي لا يزال يتصدَّر المشهد الأدبي سواء في مصر أو العالم العربي، بأعماله القصصية والروائية المتنوعة والمختلفة. امتاز أدب البساطي بنوعٍ من التكثيف الشديد، وقد تجلَّت الكثافة في لغة حواراته، حيث كان يزن الكلمة بميزان الذهب، ويختار المفردة التي تصلح للنطق بالعامية وكذلك الفصحى، وهو ما يُعرف بـ"اللغة الثالثة". في هذا التحقيق يضيء نقاد مصريون أدب البساطي، ويوضحون مدى أهميته، وينصحون الكتَّاب الشباب العرب بقراءته حتى يستفيدوا من تقنياته المتعددة والمهمة.

الناقد محمد بدوي يؤكد أن إنجاز البساطى، عليه رحمة الله، كامن فى منطقة بعينها، فقد أكمل على نحوٍ مبدعٍ تقاليد السرد الريفي، التي بدأتْ مع نصوصٍ سابقة، لطه حسين وتوفيق الحكيم، ويحيى حقي ثم يوسف إدريس. إنه جزء مما يُسمَّى مجموعة أدباء الستينيات، التي تنطلقُ من مبدأ أساسي، وهو أن الكاتب يجب أن يكتب عما يعرفه. هذا معناه أن الخبرة الذاتية، وأن ما رآه الكاتب وما حلم به، ما عاشه وما واجهه في حياته، هو الأساس في عملية الإبداع.

في هذا الإطار يمكن أن نقول إن لغة البساطي حاولت الابتعاد عن البلاغة التقليدية، بمعنى أنها ركَّزت على الوصف المادي، أو الألفاظ التي تشير إلى مدلولات مادية صلبة في الحياة، بعيداً عن الاستعارات والمجازات والصيغ اللغوية التقليدية التي تعرفها البلاغة العربية.

بدوي يرى أن البساطي أحد أهم الكتَّاب الذين تناولوا الريف، مع يحيى الطاهر عبد الله وعبد الحكيم قاسم، فقد مثَّل كل فرد من الثلاثة حالة تخصه تجاه اللغة والعالم الذي يقدمه. تلك الحالة تظهر لدى البساطي في اللغة المقتصِدة التي تبتعد عن الزوائد، وتصل إلى هدفها مباشرة، دون ثرثرة أو شرح أو تقصٍّ أو مقدمات. حينما بدأ الكتابة في مجموعته القصصية الأولى "الكبار والصغار" بدت قصصُه تقليدية في بنائها ولغتها وإحساسها بالعالم. بعد ذلك وضع البساطي يده على أثمن ما في موهبته فتطوَّرت كتابته، وامتلك عيناً تصف ما تراه ولا تسمح لنفسها بأن تُزيِّف العالم أبداً. هذه العين ترصد التفاصيل في هدوء، وتختار الممكنات السردية، التي تستطيع أن تطورها في كتابة لا تعتمد على الحدث والحبكة الدرامية الواضحة، وإنما تعتمد على حركة الشخصيات في المكان، وبوجهٍ عام يمكن القول إن هناك خطَّين متوازين في كتابة البساطي، الكتابة التي تحاول رصد تفاصل العالم من خلال عين محايدة هادئة تهتم بما هو "واقعي" والكتابة التي تُدخِل العجائبي في هذا الواقع، لكن بشكل عفوي وتلقائي وطبيعي. يعلق: "نجد مثلاً في روايته "المقهى الزجاجي" شخصيات واقعية يعرفها الريفيون ويتسامرون حولها، وفي رواية أخرى مثل "التاجر والنقاش" يتداخل الواقعي باللاوقعي بشكل يدفع العجائبية للظهور على السطح، وفي اعتقادي أنه لم يستطع دمج هذين العنصرين في بنية واحدة إلا في "صخب البحيرة"، لأنها تعتمد على تقديم الكائنات الريفية الصغيرة من خلال حدسها بالعالم، ومن خلال اصطدامها بالتقاليد، وما تعانيه من ركود وبؤس مادي". ويضيف: "تتكون "صخب البحيرة" من ثلاث قصص يمكن أن تُقرأ كل واحدة منها باعتبارها نصاً قائماً بذاته، ويمكن أن تُقرأ جميعاً باعتبارها رواية. الخيط الروائي الرابط بينها هو وحدة الفضاء أو المكان وطبيعته، ونمط الحياة التي تعيشها الشخصيات".

ويؤكد أن محمد البساطي كان لا يقرأ سوى الروايات والقصص القصيرة. يعلق: "لم يكن يحب الشعر ولا النقد ولا التاريخ، وفي اعتقادي أن هذه التجربة جعلت العالم الذي يقدمه عالماً ضيِّقاً لأنه يعادي أي فكرة جديدة. كان يكتفي فقط بتقديم الحدث كما أحسَّه ورآه، ولذلك بعد قليل فإن الخبرة الذاتية بالريف تتناقص وتصبح محدودة، لأنه لم يرفدها بقراءات أخرى، وهذا جعله يملك أشياء ثمينة لكنها ليست واسعة، لا تتسم بالعرامة، ولا تحاول أن تغامر بكتابة الأشياء التي تتجاوز الخبرة أو المعرفة الذاتية". ثم يخاطب بدوي الكتَّاب الشباب قائلاً: "على أي كاتب منكم أن يبتعد عن هذه العقيدة الأدبية، التي تحصر القراءة في القصة والرواية فقط، لأن أفكار الكاتب إذا لم تُرفَد كل يومٍ بجديد تصاب، في هذه الحالة، بنوع من التوقف والثبات والمحدودية".

صياغات جمالية

من جهته يرى الناقد حسين حمودة أن كتابة محمد البساطي، التي بدأت مع مطلع ستينيات القرن الماضي، وامتدت حتى رحيله عام 2012، تُمثِّل إضافة مشهودة للكتابات القصصية والروائية العربية، سواء على مستوى التناولات التي تنهض عليها هذه الكتابة، أو على مستوى الصياغات الجمالية التي تأسَّست عليها.. فكلها ارتبطت بالتقاط عالم خاص، وشخصيات أغلبها مُهمَّش، في القرى والمدن، بعضها يبدو شبحياً، ومع ذلك هي جميعاً ممتلئة بأسباب الحياة، وكلها تنهض على صوت سردي مميز، متنوع من عمل لآخر، مشبع بصرياً، وبعيد عن التفاصيل والثرثرة، ومع ذلك يقول كل شيء، كما أن أعماله كلها تحيل إلى واقع مرجعي ما، ماثل خارج النص، ومع ذلك تتجاوز هذا الواقع، ولذلك كانت كتابة البساطي، بهذا المعنى، جزءاً مهماً، من التجربة التي سمَّاها بعض النقاد "ما وراء الواقعية"، وهي تجربة احتفت بأبعاد كثيرة في العالم، تجاوز الاهتمامات التي ارتبطت بها الكتابات الواقعية بوجه عام..

ويؤكد حسين حمودة أن معالم كتابة البساطي لاحت واضحة، منذ أعماله القصصية المبكرة، أول الستينيات، والتي جمعها في مجموعته الأولى "الكبار والصغار"، ثم في قصص مجموعتيه التاليتين "حديث من الطابق الثالث" و"أحلام رجال قصار العمر"، ثم منذ رواياته التي بدأت مع "التاجر والنقاش" وضمت أعمالاً مهمة مثل "صخب البحيرة" و"بيوت وراء الأشجار" و"أصوات الليل" وغيرها، وقد ميَّزته تلك المعالم بين كتابات مجايليه، ومن أهمها حضور صوت سرت سردي خاص، يهتم مع تنوعه من عمل لآخر، بالابتعاد عن الاستطراد والثرثرة، ويراوح بين الإحالة للعالم المرجعي، خارج النص، والتحليق بعيداً عن هذا العالم، ويتأسَّس على احتشاد بتفاصيل بصرية قابلة للتأمل وللتأويل من وجهات متباينة، بما يجعل القارئ مشاركاً أساسياً في إنتاج معنى النصوص، ويمتلئ أحياناً بروح المفارقة، والسخرية الخفيفة غير الزاعقة، ومن هذه المعالم أيضاً ما يتصل بصيغة زمنية حاضرة في رصد الوقائع، تجعلها تمضي في زمن مستمر، وتقريباً أبدي، رغم أنه يقف كثيراً عند وقائع صغيرة تبدو عابرة.

بهذا المعني، حسب حمودة، تُبلور كتابات البساطي تجربة خاصة، مميزة، في الكتابة القصصية والروائية المصرية والعربية، تلوح حتى الآن، وربما لأزمنة طويلة قادمةـ تجربة غنية، غير قابلة للتقادم.

إيقاع الأدب

الناقد الدكتور خيري دومة تعرَّف على البساطي في البداية كاتباً للقصة القصيرة، منذ قرأ "أحلام رجال قصار العمر" و"حديث من الطابق الثالث"، وظل هذا هو انطباعه عنه، أي أنه كاتب للقصة، حتى بعد أن كتب رواياته القصيرة في سبعينيات القرن العشرين، كـ"المقهى الزجاجي" و"الأيام الصعبة" و"التاجر والنقاش"، ثم الأطول نسبيًّا فيما بعد، كـ"بيوت وراء الأشجار" و"صخب البحيرة" وما تلاها. ظل عالمه الروائي وأسلوبه في الكتابة أقرب إلى جماليات القصة القصيرة.

ومن هذه الزاوية أيضاً، ظل خيري دومة، طوال الوقت، ينظر إلى البساطي ومعه إبراهيم أصلان كأنهما تنويعتان مختلفتان على لحنٍ واحد، فبرغم ما بينهما من اختلاف في العالم القصصي، ظلت روح الرسَّام هي الحاكمة لديهما.

ويؤكد أن أهم ما يميز روايات البساطي وقصصه، ليس الحكايات نفسها، ولا الشخصيات فقط، وإنما هو هذا الإيقاع الذي يُبقِي العالم غامضاً كأنما يأتي من الأحلام. كل جملة مكتوبة بعناية خاصة ولها إيقاعها الذي لا تخطئه الأذن. يعلق: "أظن أن هذا هو ما سيبقى من أعماله القصصية والروائية على السواء، وما يحتفظ لها بقيمتها، وهي قيمة جمالية في الأساس أكثر منها قيمة اجتماعية أو سياسية".

وبحسب خيري دومة يمكن لقراء البساطي أن يميِّزوا هذا الإيقاع القائم على الرسم الدقيق الأنيق لعالم خاص، يحتفظ بخصائص اللوحة وجمالياتها، ويمكنهم طبعاً أن يميِّزوا بين هذا العالم وعالم روائيي الستينيات الآخرين، مثل جمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم ويحيى الطاهر عبد الله وعبد الحكيم قاسم وغيرهم.

وينهي حديثه قائلاً: "إذا كان لي أن أنصح الشباب بقراءة البساطي، فسيكون في ذهني شيء أساسي ليتعلموه. الكتابة وجمالياتها، والحساسية الخاصة في التقاط العالم وتصويره، وهذه التركيبة الغريبة من البساطة والحذر في اختيار الكلمة وتركيب الجملة، وهذا الإيقاع الغامض الساحر الذي يحوِّل الواقع إلى ما يشبه الحلم. لقد عاش البساطي في القاهرة منذ انتقل إليها للدراسة أواخر خمسينيات القرن العشرين، لكنه ظل طوال عمره الإبداعي يستعيد عالم الطفولة التي عاشها بالقرب من بحيرة المنزلة في شمال مصر. وظلت هذه بصمة واضحة في أعماله القصصية والروائية. إنها مملكته التي ظل يصوِّرها لنا من زوايا خاصة وبإضاءات مختلفة".

نزول النهر

الدكتور محمد الشحات أستاذ النقد ونظرية الأدب، جامعة الشرقية، سلطنة عمان رد على سؤالي "ما القيمة التي أضافها البساطي بأعماله الروائية للرواية العربية؟" بسؤال: "هل تعتقد أنه لا يزال ثمة كلام يمكن قوله حول كُتَّاب جيل الستينيات بصفة عامة، ومحمد البساطي بصفة خاصة بعد كل هذه السنوات؟".

وقال: "هنا، سوف أستدعي العبارة الشهيرة لهيراقليطس "لا يمكن نزول النهر الواحد مرتين؛ لأنَّ مياهاً جديدة تجري فيه باستمرار". بالطبع، يمكن فعل ذلك مرة ومرات متعددة. عندما تذكر جيل الستينيات فما عليك إلا أن تستدعي على الأقل جمال الغيطاني وخيري شلبي وإبراهيم أصلان ويوسف القعيد وصنع الله إبراهيم ومجيد طوبيا وبهاء طاهر. ربما تكمن الميزة الأولى لهذا الجيل في خارطة السرد العربي في التقائهم - بوصفهم تيَّاراً فنيَّاً عربيَّاً - حول مجموعة من الأفكار والرؤى والاستبصارات ذات الصلة المباشرة بنظرية الفن في مرجعيِّاتها الغربية (الروسية والإسبانية والأمريكية، وغيرها) وقدرتهم في الوقت ذاته على إعادة صياغة علاقة الكتابة السردية العربية بالمجتمع لا على طريقة الأدب الواقعي المباشر، بل عن طريق سعي كل منهم إلى أن يشقَّ لنفسه مسارًّا سرديًّا خاصًّا به يعكس رؤيته للعالم ورؤية جيله للواقع العربي المهزوم والمأزوم. لقد أفاق كُتَّاب هذا الجيل على نكسة حزيران (يونيو) 1967، التي دفعتهم إلى محاولة البحث عن قيم مغايرة للكتابة في زمن سقطت فيه السرديِّات الكبرى، التي صنعتها الأنظمة السياسية عن التحرير والتنوير والعدالة الاجتماعية".

اللافت للنظر، كما يرى الشحات، أن كُتَّاب هذ الجيل - ربما دون استثناء - كتبوا القصة القصيرة والرواية معاً بالقدر نفسه من الإجادة والإخلاص والتميُّز والإضافة النوعية إلى فنون السرد العربي الحديث. يعلق: "ربما في رأيي لم يُفلح جيل آخر في مسار السردية المصرية الحديثة في الجمع بين "المشترك الجمعي للجيل الثقافي" و"الإبداع الفردي" من ناحية، والقدرة على التجريب المستمر في شكلي القصة القصيرة والرواية، إلا جيل التسعينيات على سبيل المثال. أما محمد البساطي (1937- 2012) فهو واحد من أصحاب الموهبة الفطرية في عقد الستينيات الفريد. ربما كان أكثرهم شبهًا به هو إبراهيم أصلان. أقصد تلك المشابهة الجمالية التي تعكس طريقتهما في بناء العالم سرديًا بحرفية الصائغ الخبير بصنعة الكتابة وحرفتها". لم يكن البساطي، بحسب الشحات، كاتباً معنياً - مثل بعض مجايليه - بفلسفة الرواية أو أرخنتها أو اجتماعيتها، حيث كان بعضهم يحتفي بضخِّ المقولات الفلسفية والاجتماعية في الكثير من قصصه ورواياته في إطار البحث عن كتابة قصصية واقعية أو رمزية أو حتى تسجيلية جديدة. لكنَّ البساطي كان أقرب إلى طريقة أصلان الهادئة الماكرة التي تنهض على العناية بتكثيف المشهد السردي. كان البساطي، أكثر كُتّاب جيله براعة في كتابة رواية محبوكة أو قصة قصيرة متقنة تبدأ من الحدث الصفري. لذا، لم يكن البساطي منشغلاً بجدل النظريات الفلسفية والاجتماعية والسياسية أو مناوشة السرديات الكبرى، بل كانت سرديته منشغلة بطبيعة الإنسان المصري والعربي في جوهره البسيط المتخم بالتناقضات والأخطاء البشرية؛ بمعنى انشغاله بإنسان الظل، سواء في شبابه أو شيخوخته، فوضويته ومثاليته، ذكورته وأنوثته، حياته وموته، سجنه وحريته، قرويته ومدنيته. لقد كان البساطي يمتلك راوياً من العيار الثقيل، راوياً كليَّ القدرة عل الحكي المتدفق المتوالد كانثيال ذاكرة شهرزاد في "ألف ليلة وليلة".

الشحات ينصح الشباب بالبدء من قصصه القصيرة أولاً. ويذكر منها مجموعاته الأولى "أحلام رجال قصار العمر"، و"هذا ما كان"، و"حديث من الطابق الثالث" و"منحنى النهر" و"ضوء ضعيف لا يكشف شيئاً" و"ساعة مغرب"، حتى يصلوا إلى مجموعة قصصية متأخرة كثيراً في مدوَّنته اسمها "محابيس". وهنا عليهم، كما يقول، أن يطرحوا على أنفسهم سؤالاً مباشراً: ما الذي تغيَّر لدى البساطي في قصصه القصيرة الأولى عن قصصه المتأخرة؟ هل هي الحبكة؟ أم اللغة؟ أم صوت الرواي وموقعه الأيديولوجي؟ لماذا أخذ يميل إلى "الرمزية" و"الغرائبية" أحيانا في الوقت الذي أخذ يبتعد عن الواقعية النقدية في بداياته؟ لماذا أصبحت قصصه ورواياته اللاحقة مرتبطة بعالم البحيرة والفضاءات البرية (أو الإيكولوجية) التي وجدتْ تمثيلها الصارخ في روايته الأثيرة التي فجَّرت موهبته أمام العالم العربي "صخب البحيرة" (1994)؟ ما سِرُّ هذا التحول والتراكم الذي أحدثه البساطي بعد نشر "صخب البحيرة" (فأصدر "أصوات الليل"، "ويأتي القطار"، "ليال أخرى"، أوراق العائلة"، "الخالدية"، "دق الطبول"، "فردوس"، "جوع"، "أسوار"؟).

يتابع: "أنصح الشباب أيضًا بمقارنة بعض قصصه القصيرة برواياته، ومحاولة البحث عن الأساليب والتقنيات السردية التي كان يستعملها بمهارة عندما يعالج التيمة نفسها؟ كيف كان يصنع ذلك الإيهام بالمغايرة والاختلاف؟ أنصحهم أيضاً بتأمُّل قدرته الفائقة على صناعة روايات مشحونة بالدراما وتحولات المصائر البشرية، رغم كونها أقرب إلى "النوفيلَّا" التي لا تتجاوز المائة صفحة بالكاد. ورغم ذلك، فهي نوفيلا مشحونة بدراما الحياة الاجتماعية وتراجيديا الإنسان المقهور. كان البساطي أستاذاً في استعمال استراتيجيات التكثيف الدلالي القائم على الجمل الحادة المبتورة دون رطانة أسلوبية أو تعقيد.

كاتب صارم

أما الكاتب المصري سمير الفيل فيؤكد أن انطباعه الأول عن محمد البساطي هو أنه كاتب شديد الصرامة فيما يخصُّ تجربته السردية الرائعة.

ويقول: "لو تأملت أغلب أعمال الكتَّاب الذين عاشوا بالقرب من المياه فستجد عذوبة في لغتهم وجموح المخيلة في الوصف والرصد، كما ستجدها تتسم بالغنائية حيث تتسع مساحات الزرقة أمام أعينهم، وتنشط الطيور المهاجرة القادمة من الشمال، هكذا كانت كتابات البساطي في أعماله المختلفة، وعبدالفتاح الجمل في سرده الرائع عن قريته "محب" ومحسن يونس في أعماله عن "السيَّالة"، وسيد حجاب عن التساهيل وأرزاق الناس في صياد وجنية".

ويرى أن نصوص محمد البساطي تقدِّم رؤية كاملة للمجال الحيوي الذي يعيشه أبطاله، الباحثون عن كسرة الخبز والرزق الوفير، حيث الانطلاق في الفجر، والاتكال على الله، وقد كانت تلك المفردات الأكثر ظهوراً في فضاء نصوصه. ويقول: "قدَّم البساطي أناساً يعرفهم في قصصه، وقابلهم في بلدته الريفية بظهيرها الساحلي، وكتب عن البسطاء والمهمَّشين كتابة صادقة وأمينة، فالعالم يتغيَّر حولهم غير أنهم ما زالوا يعيشون جو البساطة والنقاء، والبُعد عن كل سُلطةٍ قاهرة. هذا ما نقرأه في أعماله التي تشاغب المخيلة: مثل "الكبار والصغار»، و«حديث من الطابق الثالث»، و«أحلام رجال قصار العمر»، و«هذا ما كان»، و«منحنى النهر»، و«ضوء ضعيف لا يكشف شيئاً»، و«ساعة مغرب». هذا في مجال القصة القصيرة فقط، فله عطاء عظيم في الرواية أيضاً. وتتميز كتاباته عموماً بالمشهدية، واللحظة الحياتية المشحونة بالتفصيلات الدقيقة".

يضيف: "اقتربتُ من البساطي خلال توليه منصب رئيس تحرير سلسلة "أصوات أدبية" عام 2000. اتصل بي تليفونياً، وطلب مني القدوم للقاهرة لمراجعة بروفة ديواني "نتهجَّى الوطن في النور"، فسافرتُ وقابلته، وكان كريماً وودوداً معي، وصدر الديوان واحتفى به الناس، ثم بادر البساطي بالاتصال بي مرة ثانية ليخبرني بضرورة المجيء إلى القاهرة مجدداً لتوقيع العقد، وكان توقيع العقود يتم بعد صدور الكتب لا قبلها، وحصلت على حصتي من النسخ. وما زلت أعتقد أن البساطي الإداري لا يقل قيمة وموضوعية عن البساطي الأديب المتحقق، الذي يتعامل مع الكتَّاب الجدد بأريحية وحسن استبصار، وبقدر كبير من الدعم النفسي".

وتابع: "بعد هذا الديوان اتخذت قراراً بهجر الشعر والتوجُّه للسرد كلياً، وقد بدأت مشواري معه بثلاث مجموعات قصصية صدرت كلها في عام 2001، وهي "خوذة ونورس وحيد"، "أرجوحة"، "كيف يحارب الجندي بلا خوذة؟".. ثم أهديته نسخاً منها، فأبدى اندهاشه الشديد من انخراطي في دولاب السرد. أتذكر أنه ضحك وقال لي بمزيج من الود والسخرية: نورس يحلق أينما شاء"!

مقالات مشابهة

  • الصدأ يطال عتاد مرصد الزلازل بالحسيمة و الغموض يلف مصير المشروع
  • تعاون بين أبوظبي والفجيرة لتعزيز زيارات المتاحف والتبادل المعرفي
  • فزغلياد: معارك المسيّرات تحفز الفكر العسكري الروسي الحديث
  • صور.. انعقاد برنامج البناء الثقافي لأئمة وواعظات الفيوم
  • المشروع الصهيوني ومشاريع تفكيك العالم الإسلامي
  • حكاية زينب ايرا.. حتى على الموت لا أخلو من الحسد!
  • أدب البساطي على ميزان الذهب
  • بالصور.. السيد ذي يزن يرعى تدشين "منتجع ترامب الدولي" في سلطنة عُمان
  • رئيس الطائفة الإنجيلية: السلام المجتمعي يُبنى على أسس الديمقراطية والعيش المشترك وقبول الآخر
  • فرنسيان يحطمان الرقم القياسي بأطول دراجة قابلة للركوب في العالم