???? استراتيجية الجيش في الخرطوم لا تصلح للتطبيق على مستوى الدولة بكاملها
تاريخ النشر: 20th, January 2024 GMT
مليشيا الدعم السريع فشلت في تحقيق هدفها الأساسي وهو هزيمة الجيش والاستيلاء على السلطة ولكنها نجحت ضمن مساعيها التدميرية في تحقيق هدف آخر لا يقل خطورة عن هزيمة الجيش وهو إخراج قطاعات كبيرة من الشعب السوداني من دائرة التأثير السياسي، وبذلك أضعفت الإرادة الشعبية. إن شعباً فقيراً مشرداً سيكون بلا أي تأثير سياسي، وستكون بلده عرضة للاستعمار بكل سهولة، بواسطة حكومات من العملاء.
هنا تكمن خطورة انتقال الحرب إلى المناطق الآمنة المستقرة. فتوسع رقعة الخراب والتدمير في الجزيرة والقضارف وسنار وغيرها سيحول كتلة كبيرة من الشعب إلى فقراء معدمين مسحوقين وبالتالي بلا أي إرادة أو قدرة سياسية وستصبح البلد كلها لقمة سائغة للأعداء والطامعين. لا معنى لهزيمة أوباش الدعم السريع أو حتى إبادتهم بعد تخريب ما تبقى من اقتصاد ونهبه وتدميره. المقاومة الشعبية نفسها ستصاب في مقتل؛ وسيتحول الشعب إلى شعب من الجوعى والمتسولين ينتظرون الإعانات والإغاثات من المنظمات الأجنبية.
بمعنى، فقدان السيادة الحقيقي يكون بتجريد الشعب السوداني من كل ما يملك وتحويله إلى شعب مشرد متسول، وليس من الضروري بالاحتلال المباشر بالطائرات والدبابات من البداية. هذه ليست حرباً عسكرية وحسب؛ هي حرب عسكرية واقتصادية واجتماعية.
على سبيل المثال، أنظر كيف اختفى التأثير السياسي لطبقة سياسية كاملة في الخرطوم طبقة ثورة ديسمبر اللعينة. الشوراع التي كان يُعول عليها لتغيير الدولة تم تدميرها وتجريفها اقتصادياً وسياسياً؛ اختفى ما كان يُسمى بالمجتمع المدني والقوى المدنية وأصبح تأثيره السياسي معدوماً، وذلك كنتيجة مباشرة ليس للحرب بحد ذاتها، ولكن بسبب التدمير والتهجير الذي تولد عنها.
الحرب في الخرطوم أدت إلى تجريف القوى الحديثة على ضعفها وهشاشتها، لأنها هجرت وأفقرت الطبقات الاجتماعية الحاملة لهذه القوى. إنتقال الحرب إلى الولايات يهدد بتدمير الطبقة التقليدية بنفس الطريقة؛ إذا أُفقرت وتشردت هذه الطبقة (بغض النظر عن المعاناة الحالية) فسيصبح السودان مفتوحاً بحق أمام الاستعمار.
حتى لو توقفت الحرب وعاد الناس إلى بيوتهم، (هذا إن عادوا أصلاً) سيكونون في حالة من الضعف وفقدان الإرادة السياسية.
لذلك، معركة الولايات المستقرة والتي لم تتأثر بعد بالحرب وحالات النهب والتدمير الواسعة ليست مجرد معركة عسكرية، ولكنها معركة استراتيجية لا يجدي معها التفكير العسكري التقليدي الذي يركز على كسب المعركة العسكرية بأقل الخسائر العسكرية.
بعبارة أوضح استراتيجية الأرض مقابل القوة؛ أي أن يحتفظ الجيش بالقوة ويترك الأرض للمليشيا ليعمل على تدميرها والتي اتبعها الجيش في الخرطوم هي استراتيجية لا تصلح للتطبيق على مستوى الدولة بكاملها، لو تم تدمير ما تبقى من الولايات نكون قد خسرنا الحرب على المدى البعيد وذلك حتى لو انتصرنا عسكرياً. لذلك لا يمكن أن نسمح بتمدد الحرب إلى مناطق جديدة خصوصاً مناطق الإنتاج مثل المناقل والقضارف وغيرها مهما كلف الأمر.
حليم عباس
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: فی الخرطوم
إقرأ أيضاً:
من الثورة إلى الدولة.. سورية نموذجا
تُخبرنا تجارب التاريخ من الفلبين وتايلاند وبنغلادش وميانمار، مرورا ببلدان الربيع العربي، وانتهاء بالأرجنتين ونيكاراغوا وتشيلي ونيكارغوا وغيرها من دول أميركا اللاتينية والوسطى، أن الثورات لا تنتهي بالضرورة إلى إقامة نظام ديمقراطي، فإما أن تنتهي إلى حكم سلطوي أو إلى حكم ديمقراطي هش بصبغة سلطوية، وقليل هي التجارب التي انتهت إلى نظام ديمقراطي كما هو الحال في إسبانيا والبرتغال وأوكرانيا.
تمر سورية اليوم بتجربة انتقال سياسية، ليس معروفا ما إذا كانت ستنتهي إلى أي من النماذج الثلاثة سابقة الذكر، وإن كانت السلوكيات السياسية للفاعلين السياسيين منذ سقوط النظام قبل نحو أربعة أشهر، تشي بأن سورية تترنح بين النموذجين الأول والثاني، أي نظام سلطوي أو نظام ديمقراطي بصبغة سلطوية، في حين لا تشي المعطيات القائمة حتى الآن أن البلاد تسير نحو النموذج الثالث، ألا وهو نظام الحكم الديمقراطي ـ الليبرالي.
ثمة ثلاث عوامل رئيسية تمارس دورا في تحديد سلوك الفاعلين السياسيين أو النخب الحاكمة في سورية، إثنان منهما بنيويان والثالث أيديولوجي.
نادرا ما يحدث في التاريخ سقوط نظام بالكامل دفعة واحدة، ودون أية بقايا سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، أو عسكرية كما جرى في سورية ـ ربما نستثني حالة كوبا بعد الثورة الشيوعية التي قادها فيدل كاسترو عام 1959 ـ.
يعني هذا العامل البنيوي الأول أن النخب الحاكمة تسلمت السلطة في سورية دون ضغوط من بقايا نظام سابق، من شأنه أن يُحدث نوعا من التوازن، ويدفع الطرفين إلى مساومات ومفاوضات تدريجية قد تأخذ سنوات للوصول على صيغة سياسية ترضي الطرفين، كما جرى في بولندا بعد ثورة تضامن عام 1989 على سبيل المثال لا الحصر.
إن هذا العامل، مدفوعا بفورة في الوعي السياسي ناجمة عن الانتصار العسكري، لا يسمح للسلطة الجديدة بإدراك ومأسسة التنوع الاجتماعي والسياسي في قالب مؤسساتي، إذ لا ضغوط سياسية وعسكرية عليها.
وذلك ما شهدناه إلى الآن، سواء فيما يتعلق بالإعلان الدستوري أو بالحكومة الأخيرة، يشير إلى أننا أمام فئة تحتكر السلطة احتكارا قسريا، وهي عملية لا مبرر لها، إذ لا وجود لتهديدات عسكرية داخلية خطيرة من شأنها أن تهدد بنية الدولة، كما كان الأمر مع حافظ الأسد عام 1970، حين كان مدفوعا بهاجس الانقلابات العسكرية المستدامة في سورية.
لكن هاجس الأسد، سرعان ما انتهى مبكرا بسلطوية سياسية تحولت بعد عقد من حكمه إلى دكتاتورية قوية، ثم إلى دكتاتورية رثة لا مشروع سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي لها.
جب أن ننظر إلى إدارة الشرع، فهو يعتبر أن الإسلام هو الحل لنهوض الأمة، وما الأشكال المؤسساتية الحديثة إلا أدوات لهذا الغرض، فما معنى أن يكون ثلاثة وزراء غير سُنة من أصل 23 وزيرا هم أعضاء الحكومة، وماذا يعني أن يتمتع الشرع بسلطات مطلقة، سواء على مستوى السلطة التنفيذية أو على مستوى السلطة القضائية، أو حتى على مستوى السلطة التشريعية المُقرر أن يختار هو أعضاء لجنتها لاحقا.أما العامل البنيوي الثاني، فيتعلق بدمار المنظومة الاقتصادية، الأمر الذي جعل السلطة الجديدة تولي كل اهتمامها لإرضاء الخارج فقط، عبر تصريحات عامة حول حقوق الإنسان وحماية المكونات الاجتماعية وضمان حقوقها الفردية والجمعية.
ومن أجل إيصال رسائل مطمئنة للغرب، وخصوصا للولايات المتحدة، تعمل السلطة على تقديم ضمانات بأن سورية لن تكون منصة تهدد دول الجوار ـ المقصود إسرائيل ـ، وأن سورية لن تدخر جهدا في مكافحة الإرهاب، في وقت اختزلت إشكالات الداخل السوري بمجرد تطمينات عامة، كشف الإعلان الدستوري والحكومة أنها انعكاسا لنخب ساذجة سياسيا، أو تعبر عن مكر سياسي، بإضفاء مسحة من المواطنة الخطابية على بنية سلطوية تحتكر القرار.
أما فيما يتعلق بالعامل الأيديولوجي، فمن طبيعة الأشياء أن تحمل حركات التحرر الوطني والحركات الثورية مستوى عال من الأيديولوجيا ومستوى منخفض من السياسة، خصوصا في المراحل التي تسبق التحرر ونجاح الثورة في إسقاط النظام الحاكم.
لكن، مجرد أن تحقق هذه الحركات أهدافها وتعتلي السلطة، تحدث عملية قلب أيديولوجي للسلوك، فينخفض مستوى الأيديولوجيا لصالح ارتفاع مستوى البراغماتية السياسية.
غير أن هذا التحول يبقى رهينة المتغيرات السياسية، بمعنى أنه متغير تكتيكي، لا ينبع من انعطافة فكرية ـ أيديولوجية قامت بها الحركة أو الجماعة.
هكذا يجب أن ننظر إلى إدارة الشرع، فهو يعتبر أن الإسلام هو الحل لنهوض الأمة، وما الأشكال المؤسساتية الحديثة إلا أدوات لهذا الغرض، فما معنى أن يكون ثلاثة وزراء غير سُنة من أصل 23 وزيرا هم أعضاء الحكومة، وماذا يعني أن يتمتع الشرع بسلطات مطلقة، سواء على مستوى السلطة التنفيذية أو على مستوى السلطة القضائية، أو حتى على مستوى السلطة التشريعية المُقرر أن يختار هو أعضاء لجنتها لاحقا.
نحن هنا أمام إعادة تجربة حكم الأسد بطريقة معكوسة، أي الانتقال من حكم الطائفي الأقلوي إلى حكم الأكثرية السُنية، لا الانتقال إلى حكم الأكثرية السياسية، غير أن ما لم يُدركه الحكام الجدد في سورية أن الولايات المتحدة تُفضل حكم الأقليات الطائفية في بلدان المشرق العربي، لكنها لا تُفضل حكم الأكثرية السُنية، خصوصا في سورية، ولهذا السبب ما تزال واشنطن حذرة بشدة حيال السلطة الجديدة، وترفض تقديم خطوات جادة على المستويين السياسي والاقتصادي.