مليشيا الدعم السريع فشلت في تحقيق هدفها الأساسي وهو هزيمة الجيش والاستيلاء على السلطة ولكنها نجحت ضمن مساعيها التدميرية في تحقيق هدف آخر لا يقل خطورة عن هزيمة الجيش وهو إخراج قطاعات كبيرة من الشعب السوداني من دائرة التأثير السياسي، وبذلك أضعفت الإرادة الشعبية. إن شعباً فقيراً مشرداً سيكون بلا أي تأثير سياسي، وستكون بلده عرضة للاستعمار بكل سهولة، بواسطة حكومات من العملاء.

هنا تكمن خطورة انتقال الحرب إلى المناطق الآمنة المستقرة. فتوسع رقعة الخراب والتدمير في الجزيرة والقضارف وسنار وغيرها سيحول كتلة كبيرة من الشعب إلى فقراء معدمين مسحوقين وبالتالي بلا أي إرادة أو قدرة سياسية وستصبح البلد كلها لقمة سائغة للأعداء والطامعين. لا معنى لهزيمة أوباش الدعم السريع أو حتى إبادتهم بعد تخريب ما تبقى من اقتصاد ونهبه وتدميره. المقاومة الشعبية نفسها ستصاب في مقتل؛ وسيتحول الشعب إلى شعب من الجوعى والمتسولين ينتظرون الإعانات والإغاثات من المنظمات الأجنبية.

بمعنى، فقدان السيادة الحقيقي يكون بتجريد الشعب السوداني من كل ما يملك وتحويله إلى شعب مشرد متسول، وليس من الضروري بالاحتلال المباشر بالطائرات والدبابات من البداية. هذه ليست حرباً عسكرية وحسب؛ هي حرب عسكرية واقتصادية واجتماعية.

على سبيل المثال، أنظر كيف اختفى التأثير السياسي لطبقة سياسية كاملة في الخرطوم طبقة ثورة ديسمبر اللعينة. الشوراع التي كان يُعول عليها لتغيير الدولة تم تدميرها وتجريفها اقتصادياً وسياسياً؛ اختفى ما كان يُسمى بالمجتمع المدني والقوى المدنية وأصبح تأثيره السياسي معدوماً، وذلك كنتيجة مباشرة ليس للحرب بحد ذاتها، ولكن بسبب التدمير والتهجير الذي تولد عنها.

الحرب في الخرطوم أدت إلى تجريف القوى الحديثة على ضعفها وهشاشتها، لأنها هجرت وأفقرت الطبقات الاجتماعية الحاملة لهذه القوى. إنتقال الحرب إلى الولايات يهدد بتدمير الطبقة التقليدية بنفس الطريقة؛ إذا أُفقرت وتشردت هذه الطبقة (بغض النظر عن المعاناة الحالية) فسيصبح السودان مفتوحاً بحق أمام الاستعمار.

حتى لو توقفت الحرب وعاد الناس إلى بيوتهم، (هذا إن عادوا أصلاً) سيكونون في حالة من الضعف وفقدان الإرادة السياسية.

لذلك، معركة الولايات المستقرة والتي لم تتأثر بعد بالحرب وحالات النهب والتدمير الواسعة ليست مجرد معركة عسكرية، ولكنها معركة استراتيجية لا يجدي معها التفكير العسكري التقليدي الذي يركز على كسب المعركة العسكرية بأقل الخسائر العسكرية.

بعبارة أوضح استراتيجية الأرض مقابل القوة؛ أي أن يحتفظ الجيش بالقوة ويترك الأرض للمليشيا ليعمل على تدميرها والتي اتبعها الجيش في الخرطوم هي استراتيجية لا تصلح للتطبيق على مستوى الدولة بكاملها، لو تم تدمير ما تبقى من الولايات نكون قد خسرنا الحرب على المدى البعيد وذلك حتى لو انتصرنا عسكرياً. لذلك لا يمكن أن نسمح بتمدد الحرب إلى مناطق جديدة خصوصاً مناطق الإنتاج مثل المناقل والقضارف وغيرها مهما كلف الأمر.

حليم عباس

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: فی الخرطوم

إقرأ أيضاً:

تجارب صحفيين سودانيين في تغطية حرب الخرطوم 

 

الحرب قللت من ثقة الجمهور في الصحفي   

• هكذا غيرت أهوال الحرب رؤية “وسيم” للصحافة

• الخوف ومدينة الاشباح الى متى 

التغيير – فتح الرحمن حمودة

في صبيحة الخامس عشر من أبريل 2023 استيقظت الخرطوم على أصوات الأسلحة الثقيلة والقصف المدوي الذي قطع أوصال الحياة المدنية ليعلن بداية صراع دموي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، و بينما عم الصمت شوارع العاصمة وتوقفت الحركة كانت أقلام الصحفيين السودانيين تسطر روايات اللحظة ناقلة أصوات المدافع بحياد تام مسلطة الضوء على قصص إنسانية كتبت تحت أزيز الرصاص.

في قلب هذا الجحيم استمعت “التغيير” لرواية اثنين من الصحفيين هما: وسيم “اسم مستعار”،لشاب في العشرينات من عمره، وعوض “اسم مستعار” لصحفي مخضرم في الخمسينيات لم يغادر كلاهما الخرطوم رغم شدة المعارك وتصاعد المخاطر، و في رحلة محفوفة بالخطر ظلا يجوبان العاصمة المشتعلة يغامران بحياتهما بين خطوط القتال بحثا عن الحقيقة، وكان هدفهما ليس مجرد نقل وقائع العمليات العسكرية بل إيصال أصوات المدنيين الذين مزقت الحرب حياتهم.

تحدث الصحفيان لـ “التغيير” عن تجربتهما في قلب منطقة الصراع الرئيسية وهما يواجهان خطر الموت بين القصف العشوائي والمضايقات المستمرة من جميع الأطراف ومع ذلك لم تثنهما التهديدات عن الاستمرار في توثيق الكارثة الإنسانية التي تتعمق يوما بعد يوم حيث كانوا متسلحين بالكلمة والصورة ليحكوا للعالم قصة شعب ظل محاصرا بين ركام الحرب وأمل النجاة.

معاناة انسانية

بدأ عوض في سرد تجربته أثناء تغطيته للقصص الإنسانية في منطقة أم درمان التي كانت تعصف بها المعارك، مشيرا إلى تأثير هذه التجربة على نظرته للصحافة، و قال إنه وفقا لخبرته تتجه التغطية الصحفية للحروب بعد مرحلتها الأولى نحو التركيز على الأبعاد الإنسانية وأضاف لـ “التغيير” إن عمله في مدينة أم درمان كان يتمحور حول هذا البعد الإنساني حيث أعد العديد من القصص الصحفية التي وثقت معاناة السكان من نزوح وفقر ومرض بالإضافة إلى قضايا مثل إعادة دفن الجثث والمساعدات الإنسانية والمبادرات الخيرية ولا سيما التكايا والمخابز المجانية في المنطقة.

وأشار عوض إلى أنه لم يركز على المواجهات العسكرية التي كانت تحتدم بين أطراف النزاع باستثناء الهجمات التي استهدفت المدنيين، وقال إنه ظل مقيما في المدينة ولم يغادرها إلا بعد خمسة أشهر من اندلاع النزاع مضيفا أن القصص الإنسانية التي أعدها كانت مشابهة لتلك التي أعدها زملاؤه الصحفيون الآخرون في المنطقة حيث أظهرت الدور المحوري للصحافة في نقل الواقع كما هو وتسليط الضوء على آثار الحرب على المدنيين مؤكدا أن هذا هو واجب الصحفيين الأساسي.

صعوبة في التعرف على الشوارع

أما وسيم فقد كانت زيارته الأولى إلى مدينة أم درمان منذ اندلاع الحرب تجربة غريبة ومشحونة بالتوتر بعد غياب دام ثمانية أشهر عن مدينته التي شهدت مولده، جاء في مهمة صحفية تعيده إلى تلك المدينة التي أصبحت ميدانا للمعارك، يتحدث الشاب عن مشاعره المختلطة عند وصوله حيث غلب عليه مزيج من الخوف والحذر لكن الشوق كان الشعور الطاغي عليه. يروي كيف كانت مهمته الصحفية الأولى تتمثل في زيارة حي “ود نوباوي” الذي يحمل له مكانة خاصة ليس فقط لأنه شهد إقامة أقدم العائلات في المنطقة بل لأنه أيضا موطن أسرته الكبرى في أزمان ماضية.

وقال وسيم إنه عندما توقفت السيارة نزل بحذر شديد متفحصا ما حل بالمكان، إذ تغيرت معالم الحي بفعل الحرب وأصبحت المباني التي كانت مألوفة ذات يوم تملؤها الثقوب بفعل القذائف، فيما تنتشر فوارغ الرصاص على الأرض! نظر غربا محاولا استرجاع ذاكرته حتى تعرف على أطلال تقاطع شارع كرري مع حي العمدة ليدرك أنه يقف في شارع الدومة.

مدينة أشباح!

كانت المشاهد التي رآها وسيم وغيره من الصحفيين الذين كانوا في تلك المناطق صادمة، فقد تحولت المناطق التي كانت تضج بالحركة والحيوية إلى مدن أشباح كئيبة كل ما يمكن رؤيته هو الخراب! وكل ما يسمع هو أصوات القذائف المتقطعة التي تتداخل مع أصوات الأبواب المهترئة التي يحركها الريح وكأنها موسيقى تصويرية لفيلم رعب طويل لا نهاية له.

ويروي عوض كيف نجح في بناء علاقات قوية مع المدنيين الذين جمع قصصهم وسط فوضى الحرب، مشيرا إلى أن تواصله المستمر مع السكان في دور الإيواء وإجراء مقابلات معهم في أماكن متعددة مثل الشوارع العامة، المستشفيات والتكايا كان المفتاح لتلك العلاقات، وأضاف أنه واجه تحديات كبيرة في البداية لكسب ثقة المدنيين بشكل كامل مما تطلب منه صبرا ومثابرة في التعامل معهم.

وقال عوض عندما أتحدث عن تجربتي في منطقة أم درمان كان التهديد الأكبر يتمثل في عمليات القصف العشوائي التي استهدفت منازل المدنيين أثناء تجدد المواجهات العسكرية، وأضاف:” الخوف كان يرافقني دائما إذ كنت معرضا للاستهداف في أي لحظة من لحظات القصف لكنني تعلمت من المواطنين كيفية التعامل مع هذا الواقع خاصة بعد سقوط أول قذيفة حيث كنا نرتب أمورنا للبقاء بأمان قدر الإمكان.

ومع تجدد المواجهات العسكرية في السودان يلجأ طرفا النزاع إلى استخدام القصف العشوائي كوسيلة للضغط الميداني ما يتسبب في دمار واسع وخسائر بشرية بين المدنيين وغالبا ما تستهدف هذه العمليات مناطق سكنية مما يدفع السكان للبحث عن وسائل لحماية أنفسهم مثل الهروب إلى مناطق أكثر أمانا أو الاحتماء تحت المباني الصلبة.

أما بالنسبة لوسيم فقد كانت هذه التجربة الأولى له في تغطية النزاعات، و يقول قد أدركت أن التحدي الأكبر هو الحفاظ على سلامتي الشخصية قبل البدء في عملي الصحفي، حيث قمت بالتحضير بشكل جيد وفهمت أهمية اتخاذ احتياطات مثل ارتداء الدرع الواقي من الرصاص الذي يحمل شعار الصحافة، وأضاف ظللت أتجنب التوجه إلى مناطق القتال في أوقات الاشتباكات وكان الحفاظ على توازني النفسي أمرا ضروريا في بيئة مليئة بالضغوط رغم الأهوال التي كنت أسمعها من ضحايا الحرب.

فجوة في التغطية!

وواصل حديثه قائلا كنت أحرص على إظهار تعاطفي مع الحفاظ على مهنيتي في التعامل مع هذه المواقف، ولم أتعرض لأي مضايقات أثناء عملي بل كانت الأمور تسير بشكل أفضل مما توقعت.

عن تأثير تغطيته للقصص الإنسانية على رؤيته للصحافة قال وسيم لقد غيرت تغطيتي للحرب في السودان بشكل كبير من رؤيتي للصحافة، حيث أصبح تركيزي أكثر على تأثيرات الحرب على الإنسان رغم الجهود الصحفية المبذولة، أرى أن هناك فجوة كبيرة في التغطية الإعلامية للنزاع السوداني في الإعلام العالمي الذي انصرف إلى نزاعات أخرى رغم أن النزاع السوداني لا يقل خطورة!

ولهذا يجب على الصحفي السوداني أن يتحمل مسؤولياته الأخلاقية في إيصال أصوات ضحايا الحرب رغم قلة الإمكانيات.

أما عوض فقال إنه خلال تغطيته للحرب تعرف على عدد من زملائه الصحفيين الشباب الذين شاركوه تجاربهم وأفادوه بنصائح قيمة، وأضاف هذا الجيل من الصحفيين يمتلك مهارات ومعرفة لم تكن متاحة لهم في الماضي، كما أن الحرب قد أفرزت أبطالًا في مجالات إنسانية وطبية وخيرية فقد أنتجت أيضا صحفيين شبابا سواء كانوا محترفين أو هواة سيتركون بصمتهم في المستقبل.

وختم قائلا لا أقدم نصيحة محددة للشباب لكنني أود أن أذكرهم بأهمية اتباع إجراءات الأمن والسلامة أثناء العمل ومراجعتها بشكل مستمر! إذ لا توجد قصة صحفية تستحق التضحية بالحياة. من النقاط المهمة أيضا أن الحرب من منظورها العسكري وأهدافها السياسية أصبحت أداة للدعاية الإعلامية يجب التفريق بين الصحافة الحقيقية والبروباغندا والتركيز على ما يعانيه الإنسان جراء هذه الحرب.

الوسومالحرب تجارب سودانيين صحفيين

مقالات مشابهة

  • تجارب صحفيين سودانيين في تغطية حرب الخرطوم 
  • خبير عسكري: الاحتلال الإسرائيلي يسعى للاحتفاظ بمواقع استراتيجية في لبنان
  • كيف تؤثر سيطرة الجيش على مقره الرئيس في خارطة الحرب السودانية؟
  • الخطاب السياسي للحرب
  • الجيش اللبناني: وحدات عسكرية تنتشر ببلدات عدة جنوب الليطاني بعد انسحاب جيش الاحتلال
  • الجيش اللبناني: وحدات عسكرية تنتشر ببلدات عدة جنوب الليطانى بعد انسحاب جيش الاحتلال منها
  • الجيش اللبناني يتسلم مراكز عسكرية لتنظيمات فلسطينية داخل لبنان
  • بالصور.. الجيش تسلّم مراكز عسكرية كانت تشغلها تنظيمات فلسطينية
  • الجيش السوداني يعلن كسر حصار الدعم السريع لمركز قيادته وسط الخرطوم
  • "أسوشيتد برس": ضغوط داخلية وخارجية تهدد مستقبل نتنياهو السياسي