لجريدة عمان:
2024-07-06@09:46:52 GMT

مرفأ قراءة... دورنمات كاتب الصدفة والسخرية!

تاريخ النشر: 20th, January 2024 GMT

مرفأ قراءة... دورنمات كاتب الصدفة والسخرية!

- 1 -

بالأمس القريب، كتب المترجم البارز سمير جريس على صفحته الشخصية على "فيسبوك" محتفلًا ومحتفيًا بذكرى ميلاد الكاتب السويسري الأشهر (وأحد أهم من كتبوا إبداعاتهم في القرن العشرين باللغة الألمانية)، فردريش دورنمات (05 يناير 1921- 14 ديسمبر 1990)، الذي مثَّل مع قرينه ونظيره ماكس فريش ظاهرة كتابية متميزة في تاريخ الأدب السويسري، بل وفي الآداب الناطقة بالألمانية عمومًا.

ودورنمات، بالأخص، من أهم كتاب الدراما السويسرية في العصر الحديث، وقد كتب الكوميديا والتراجيديا، و"التراجيكوميدي"، وكتب الروايات البوليسية، والتمثيليات الإذاعية، وقد برع في كل ما كتب.

وصديقي المترجم سمير جريس، مثلي، من المغرمين المفتونين بكتابة "دورنمات" وأدبه وعبقريته، ووجه جهده في السنوات العشر الأخيرة إلى ترجمة أعماله النثرية العظيمة (القصص القصيرة والروايات) التي لم تنل اهتمامًا كبيرًا مثلما نالت أعماله المسرحية المدهشة، وقد تُرجمت أغلب مسرحياته إلى العربية في ستينيات القرن الماضي، وما تلاها.

وعلى مدار السنوات العشر الأخيرة، أخرج لنا جريس أربعة أعمال من روائع دورنمات النثرية؛ جاءت على النحو التالي: رواية «الوعد» (عن دار الكرمة بالقاهرة، 2018)، «السقوط وقصص أخرى» (الكتب خان بالقاهرة، 2018)، «العطل» (الكتب خان بالقاهرة، 2019)، وأحدثها صدورًا «القاضي وجلاده» (الكتب خان بالقاهرة، 2022).

لا أذكر على وجه الدقة المرة الأولى التي استمعت فيها إلى اسم دورنمات! على الأرجح في واحدٍ من برامج الإذاعة المصرية، وقد كنت من مدمني الاستماع إلى الإذاعة وخاصة في ساعات الليل الهادئة، أذكر أنني استمعت إلى "مسرحية" من مسرحياته التي قدمت إذاعيا عبر البرنامج الثاني (البرنامج الثقافي)، شدتني وجذبتني لمتابعتها، وأثارت فضولي، ولا أذكر الآن اسمها ولا مخرجها!

في ليلةٍ أخرى استمعت إلى تسجيل إذاعي مع الكاتب الراحل والصحفي الشهير أنيس منصور، وقد كان ممن كتبوا بكثافة عن "دورنمات" بل إنه ترجم له عددًا من المسرحيات، ولعب دورا مهمًا في التعريف به وبمسرحياته وتقديمه للقارئ المصري والعربي على السواء، وله مقالات عديدة عن دورنمات نشرها في الدوريات والصحف والمجلات المصرية منذ ستينيات القرن الماضي وحتى تسعينياته.

- 2 -

أما بداية التعرف المنظم الممتع على نصوص دورنمات النثرية؛ القصصية والروائية (وسأتناول لاحقًا دورنمات كاتبًا مسرحيًّا بالتفصيل) فكانت من خلال ترجمات سمير جريس وقد ترجم له نصوصًا مهمة منها روايته «الوعد» التي افتتنت بها وأعجبت بها أيما إعجاب، وقرأتها مرارًا وأعدت قراءتها، ولا أنزعج من ذلك أبدًا!

نص مذهل لا تتركه إلا وعقلك يكاد ينشطر من صعوبة الأسئلة التي يطرحها، وتسلسل الطريقة التي يطرحها بها!

يحيرك دورنمات ويذهب بك ويجيء إلى أبعد مدى على طريقة كتاب "الرواية البوليسية"، وإثارة أجاثا كريستي، لكنه لا يكتفي بهذه الإثارة وهذا التشويق! إنه يطوف بك في رحاب الأسئلة الصعبة؛ الأسئلة التي ليس لها "نموذج إجابة"، فكل منا يمكن أن يجيب بطريقةٍ مختلفة تمامًا عن غيره!

فإذا كانت قضية العدالة "العمياء" وسيادة القانون وتطبيقه، والبحث عن الحقيقة "أية حقيقة نعني؟!" هي شغله الشاغل، ومدار بحثه وكتابته، فإنه أيضًا يطرح أسئلة حول دور "الصدفة" في حياة الإنسان، والعبث والعدم والمصير! الصدفة هل هي محض "صدفة" أم أنها تمثل قانونًا بذاتها؟

وفي كل ذلك يسخر دورنمات سخرية مرة من كل يبدو مألوفًا أو منطقيا أو معتادًا أو منظمًا! يسخر من كل ما يجعله الإنسان إطارا منضبطا أو ضابطا إذا جاز التعبير لمسارات التعبير والتفكير أيا ما كانت!

لا يعرض دورنمات كل هذه الأسئلة الملغزة، وما تحمله وراءها من حيرة وقلق وتوتر، وشعور عارم بالتمزق بين الواقع والمثال، وبين الفكرة وتجسداتها، أقول لا يعرضها بخشونة وفظاظة مثلما يحب البعض أو بغموض وألغاز متعمد مثلما يولع بعض آخر، لكنه يراوح بين بساطة السرد وجمال العبارة وذكاء الحوار، وبين الحبكة الدقيقة المتقنة "وأحيانا المعقدة" دون فذلكة ولا تكلف.

- 3 -

كان دورنمات موهوبًا، وكاتبًا كبيرا لا أشك في ذلك، وأنا أعتبر أن قراءة دورنمات بترجمة سمير جريس شيء، وقراءته في غير ذلك شيء آخر مع كل التقدير والتوقير والاحترام لكل جهد سعى إلى نقله وترجمته إلى العربية، لكن جهد سمير جريس تجاوز نقل العبارة بأمانة ويسر إلى نقل روح الكتابة وأطياف الأسئلة الوجودية والمعرفية التي لم تفارق كتابة دورنمات من أكبر نصوصه إلى أصغرها.

وحين صدور الترجمة العربية بتوقيع سمير جريس (عن ترجمات الكرمة قبل حوالي خمس أو ست سنوات)؛ التهمت الرواية بكاملها في ليلة واحدة (تقع في 240 صفحة من القطع المتوسط). كانت المرة الأولى التي أقرأ فيها نصا روائيا لدورنمات؛ "دورنمات" الذي أعرفه هو المسرحي العملاق صاحب الشهرة الوافرة في الثقافة المصرية المعاصرة؛ خاصة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؛ وواحد ممن حازوا نصيب الأسد في الترجمة والتمثيل على خشبة المسرح المصري؛ تأثيره أيضًا من الضخامة والعمق ما لا يختلف على ذلك اثنان.

لكن هذه الرواية أدب مختلف، وكتابة ليس هناك أسهل من قراءتها بهذا الفضول والشغف، ولكن ما أصعب "حياكتها" إذا جاز التعبير بهذه الدقة والاقتدار والحرفية والتمكن! إنها تنتمي إلى تلك الفئة من الأعمال التي بفضل براعة كتّابها ورهافة ما تطرحه من أسئلة إنسانية وأخلاقية تبدو كالكائن الحي؛ كتلة من الأعصاب العارية المرهفة والحساسة، تنطق وتصرخ وتؤلم وتؤثر في قارئها لدرجة الرعب!

في هذه الرواية الصغيرة دروس مهمة؛ فالإنسان عليه أن يتوقع ما لا يمكن توقعه؛ وحين نفرز خياراتنا ونعول على أمر ما لا يشترط أن تكون خياراتنا صحيحة، وقد تجند العالم كله لأجل "فكرتك" لكنها تظل فكرة قد لا تكون قابلة للتصديق أو للتحقق..

- 4 -

لا أنكر أنني ظللتُ مشدودًا طيلة أكثر من ثلاث ساعات متصلة لصفحات الرواية أتتبع حوادثها وأترقب ما سيأتي، أتابع حواراتها الذكية المزعجة؛ أحاول التغلب على هذه الجرعات المضاعفة من الألم المتولد إزاء جريمة قتل بشعة تروح ضحيتها طفلة في الرابعة عشرة، بعد ما يظن للوهلة الأولى أنه تم الاعتداء عليها!

كان مثيرًا جدًا أن ترى رجل شرطة ومحققًا يكاد يذهب إلى الجنون التام بسبب سؤال بسيط طرحه على نفسه؛ كان السؤال: ماذا لو كان القاتل ما زال حرا؟ كم طفلا وطفلة يظل تحت التهديد ومعرضا للخطر ما ظل هذا القاتل حرا طليقا؟

واجبي (يقول رجل الشرطة) أن أحمي هؤلاء الأطفال وألا نتركهم فريسة لقاتل همجي متوحش. هذه هي مهمة الشرطة قبل أي شيء. حماية الناس من الخطر، قبل أي شيء آخر..

لكن في المقابل لا يتركنا "دورنمات" على حالة البراءة الظاهرة إزاء هذه "اليقينيات" المثالية من دون أن يزعزعها بمعاول أسئلته الثقيلة، يهوي بها بعنف على رؤوس كل المثاليات المعلقة فوق الجدران والمحفورة في الأذهان؛ يقول اللواء قائد الشرطة السابق:

"منذ أن فشل السياسيون هذا الفشل الذريع.. والناس يأملون في أن تنجح الشرطة على الأقل في نشر النظام في العالم. غير أن هناك، للأسف، احتيالا من نوع آخر تماما يٌمارس في هذه القصص البوليسية. ولا أعني بهذا أن مجرميكم ينالون دوما عقابهم، فهذه الأسطورة الجميلة ضرورية بالتأكيد من الناحية الأخلاقية. أنها من الأكاذيب التي تقوم عليها دعائم الدولة، مثل القول الورع الشائع: الجريمة لا تفيد.. منذ قديم الأزل وأنتم ـ أيها الكتاب ـ تضحون بالحقيقة من أجل القواعد الدرامية. حان الوقت كي ترسلوا هذه القواعد إلى الجحيم!"

فيما يقول الطبيب النفسي المعالج مخاطبا المفتش (متى): "اختيارك للجنون طريقًا قد يكون شجاعة، أعترف لك بهذا، والمواقف المتطرفة تثير إعجاب الناس في أيامنا هذه، ولكن إذا لم يؤد هذا الطريق إلى الهدف، فلن يتبقى لك -على ما أخشى- سوى الجنون".

- 5 -

لقد أوفى دورنمات بوعده الفني حينما كتب يومًا أنّ على الأديب "أن يكتب روايات بوليسية، وأن يصنع الفن حيثما لا يتوقعه أحد". نعم. لقد أوفى دورِنمات بهذا "الوعد" مرارا، لا سيما في هذه الرواية التي تُعتبر درة فريدة بين أعماله النثرية.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الدفاع المدني: السيطرة على النيران المندلعة في محاذاة مرفأ طرابلس

أعلنت المديرية العامة للدفاع المدني في بيان، أن "عناصر من الدفاع المدني، معززة بالآليات من مراكز عدة، وبمؤازرة وحدات من الجيش المنتشرة عملانياً، الرابعة عصر اليوم، حريقا شب في مساحة شاسعة من الأعشاب وحقل من القصب في محاذاة مرفأ طرابلس".

وأشارت إلى أن "تضافر جهود العناصر ساهم في محاصرة النيران بأقصى سرعة ممكنة والحؤول دون امتدادها إلى مكب النفايات المجاور لرقعة الحريق، مما كاد يتسبب بحدوث كارثة بيئية كبرى".      

مقالات مشابهة

  • قراءة في كتاب: أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حريّة – محمود محمد طه وأمارتيا كومار سن (مقاربة)، (1- 15)
  • بعد ترشيحه لدور «سفاح التجمع».. حسن الرداد في جلسة تصوير بـ«لوك مختلف»
  • كيف صاغ حكام مصر ومفكروها هويتها الوطنية؟ قراءة في كتاب
  • خطبتا الجمعة بالحرمين: العاقل اللبيب مَن جعل على لسانه رقيبًا يكفه عن البهتان والغيبة والكذب والسخرية والاستهزاء
  • كاتب بلا مقال
  • ما قبل الغرب.. صعود وسقوط أنظمة العالم الشرقي.. قراءة في كتاب
  • قراءة في مباريات ربع نهائي يورو 2024 وتوقعات المتأهلين للمربع الذهبي
  • الدفاع المدني: السيطرة على النيران المندلعة في محاذاة مرفأ طرابلس
  • التفاعل المُعقَّد بين الأدب والعلم والنظام الرأسمالي
  • إدارة مرفأ بيروت عقدت اجتماعاً فنياً بشأن نتائج وإجراءات تقريرين يتعلقان بتقييم الأمن والمخاطر الصناعية