تعرض المقال الأول للأهمية القصوى لإيقاف الحرب ومعالجة أسبابها، التي لن تتم بدون وحدة القوى المدنية، للدفاع عن التصور الديمقراطي لحل هذه الأزمة الكارثية. وكان المقال الثاني بعنوان " من يحمي الديار من حماة الديار؟" ومقولته الأساسية ان الخطر على استقرار الشعوب يأتي، وعبر التاريخ، من الجيوش، عندما تنتزع السلطة وتحكم.

أما المقال الثالث فقد واصل، نفس الطرح، بتأكيد ان أكبر وأعظم المخاطر على الجيوش نفسها، تأتي من الانقلابات التي تتحدث، زورا، باسم الجيوش. المقال الثالث عرض مثالا حديثا ومعروفا على نطاق بلادنا، يوضح خطورة الأنظمة العسكرية التي تعطي سلطات مطلقة لقائدها، ليحدد بمفرده مصير شعب كامل. أوضح المقال الرابع وبأمثلة معروفة كيف ان البشير أسس ميلشيا، من مجموعات مجرمة، لكي تقمع المعارضة المدنية، وتحمي سلطته. اندلعت ثورة ديسمبر لتقلب موازين القوى، فقررت حركة الاسلامويين، ان تستولي المليشيا واللجنة الأمنية على السلطة، لتقطع الطريق على تطور الثورة. ثم قام البرهان بمنح المليشيا كل شيء، نعم كل شيء، لتحقق حلمه بان يحكمنا بالقوة، وهو نفس ما فعله عبود ونميري والبشير. ثم ركز المقال الخامس على دور القوي المدنية في رفع صوت الشعب في المفاوضات والتمسك بالحكم الديمقراطي وعزل العسكريين عن السلطة والاقتصاد. اليوم نواصل النقاش حول محاولات تجميل وجه الأنظمة العسكرية.
تركز معظم حجج منظري الأنظمة العسكرية على الدور التنموي للجيوش، وسميت قاطرة التحديث في اقطار افريقيا واسيا. ويبررون ذلك بان الجيوش هي المؤسسات الحديثة الوحيدة في مجتمعات تتسم بالصراعات الاثنية والقبلية. وان الجيوش بقدراتها التنظيمية، وانضباط كوادرها، ومنهج التراتبية، والطاعة، والنظام الحديدي لهذه المؤسسات، تشكل عوامل نجاح في مهمة انجاز التنمية وترقية المجتمعات. وقد كان ذلك مجالا لدراسات عديدة، بحثت لماذا تحدث انقلابات، واشكال الحكم العسكري الخ. بالإضافة لهذه المقولات، هناك ظاهرة في العالم العربي هي استخدام بعض الأحزاب، التي تعرف استحالة وصولها للحكم عبر الانتخابات للتآمر مع العسكر لتنفيذ برنامجهم السياسي.

أثبت التجربة والممارسة التاريخية خطل تلك الرؤية. فالأنظمة العسكرية التي سيطرت على افريقيا لعقود طويلة من الزمن، لم تحقق التنمية الموعودة. بل ان حالة التخلف التي تعيشها اقطار القارة، رغم امكانياتها الكبيرة، لهو دليل مفحم على فشل تلك الأنظمة. لان قضية التنمية لا تتم بالأوامر ولا بالضبط والربط. وهذه هي اشكال ما سمي بالبناء من فوق، والذي يحول الشعب الي متلقي سلبي، وكم مهمل، الامر الذي يحول الشعب الي قطيع من الأغنام تكون تحت السيطرة في كل الأوقات. مما يتناقض مع أسس التنمية الحقيقية، والتي جوهرها الانسان وبالانسان.
الأخطر هو النظرية الأيديولوجية للعسكر التي ترى ان المجتمع ليس ناضجا بعد ليستطيع اختيار المسؤولين في كل المستويات المختلفة، وان الجمعيات السياسية والأحزاب والصحف المستقلة، إذا لم تراقب عن قرب، فإنها ستقوم بزرع الفتنة والفرقة بين المواطنين. ونتيجة للايدلوجية العسكرية التي تنظر للمدنيين باستعلاء، تحتكر القيادة العسكرية كل وظائف الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتجميعها في داخل مؤسسات بيروقراطية، تدير كل شيء. ولا يؤمنون بان المجتمع يتشكل من جماعات لها مصالح متناقضة ومتصارعة ولذلك تبني مؤسسات سياسية لحل هذه التناقضات والاختلافات وتسييرها بطريقة سلمية عن طريق تداول السلطة، عبر الانتخابات. وترفض الديمقراطية بمختلف الحجج والتبريرات.
الديمقراطية ليست مذهبا سياسيا، بل هي مؤسسات وإجراءات وقيم وقواعد تستهدف تقييد سلطة الحكام، ووقف تعسفهم، وصيانة الحريات، والحقوق. وهي بهذا المعني تتصل بأمور تنظيمية تفصيلية مثل: طرق المساواة امام القانون، وقواعد اختيار الحكام ومراقبتهم ومحاسبتهم واقالتهم عند الضرورة. إضافة لإجراءات صنع السياسات العامة، وإيضاح العلاقة بين السلطة والمواطنين، وبين السلطات المختلفة في الدولة، وضمانات لحماية الحقوق والحريات، وسبل المشاركة السياسية، وتمثيل كل التيارات الرئيسية في المؤسسات التشريعية للدولة.
يستخدم دعاة الأنظمة العسكرية حجة ان الديمقراطية منتجا غربيا، لا يتماشى مع ثقافتنا. الصحيح ان الديمقراطية هي منتج انساني، شاركت حضارات كثيرة في إنجازه. لها جذور في الفكر الاغريقي، والفكر الروماني، وفي المسيحية، وفي الحضارة العربية الإسلامية. النظام الديمقراطي هو نتاج حضارات شتى، وتطور صراعات مختلفة، كان كل طرف يستهدف تحقيق مصالحه. للأنظمة الغربية الحالية الفضل في مأسسة النظام الديمقراطي، وابتكار الكثير من المؤسسات والآليات التي ساهمت في وضع جوهر الديمقراطية موضع التطبيق.
تجربتنا السودانية مع الأنظمة العسكرية، التي دمرت تطور شعبنا وخربت مؤسساته لا تحتاج لتفصيل، ولكن يكفي مثال هذه الحرب الاجرامية.

siddigelzailaee@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الأنظمة العسکریة

إقرأ أيضاً:

ليس الحل بالهروب من الديمقراطية بل إليها

في مقاهي تونس يجلس تونسيون يظهرون انشغالا بحال البلد يتيقنون من غياب مخبر المسلسلات المصرية (أبو جريدة)، يغلقون هواتفهم من ريبة ويتحدثون عن المستقبل. الموضوع الغالب على الحديث كيف ستنتهي فترة حكم قيس سعيد، وقليل يطرح السؤال عما بعده. يفرط البعض في اليقين بأن الرجل راحل قريبا، بينما يصر آخرون على أن ليس هناك مؤشرات فالأماني ليست مؤشرات. يفترقون حائرين فلا يبلغون مبلغ تخيل وضع ما بعد قيس سعيد أو يقترحون على أنفسهم تصورات مستقبلية.

هنا عقدة تونس ومأزقها العويص، فما الرئيس إلا مرحلة مهما رسخت قدمه. كتبنا أن هناك يوم تال لقيس سعيد ومرحلته، ولكننا سبقنا إلى يقين بأن مأزق تونس الأساسي لا يُحل باستبدال الرئيس بل بقبول حكم الصندوق الانتخابي، وهذا ليس على جدول النخب التونسية. لنفصل قليلا لعل أن يستقيم الجدل في المستقبل حول فكرة قابلة للبقاء في بلد لا يحكم نفسه إلا أماني.

يقين عام بالأزمة

العارفون بالأرقام الاقتصادية -ولست منهم- يصدرون تقييمات سلبية جدا للوضع في تونس. كل المؤشرات في النازل، مع ارتفاع غير مضبوط للديون الداخلية والخارجية (الميراث ثقيل ومخيف). في الجانب الاجتماعي أطلقت قرية المزونة وحادثة سقوط الجدار صفارة إنذار مرعبة، كل شيء يتهاوى. في الأحاديث الجانبية لا يُسمع إلا من يجأر بالشكوى من الغلاء واتساع الفارق بين دخل العائلة ومصروفها اليومي. يبدو كأن لا أحد يمكنه ضبط ارتفاع الأسعار.

كل شيء يتهاوى. في الأحاديث الجانبية لا يُسمع إلا من يجأر بالشكوى من الغلاء واتساع الفارق بين دخل العائلة ومصروفها اليومي. يبدو كأن لا أحد يمكنه ضبط ارتفاع الأسعار. وسياسيا، لا أحد يملك توليد أمل في تغيير ديمقراطي من داخل منظومة قيس سعيد، فالرجل لا يسمع لأحد بمن في ذلك نصحاء (يقال) إنهم بجواره
وسياسيا، لا أحد يملك توليد أمل في تغيير ديمقراطي من داخل منظومة قيس سعيد، فالرجل لا يسمع لأحد بمن في ذلك نصحاء (يقال) إنهم بجواره. صدور الأحكام القضائية بطريقة غير متوافقة مع أبجديات القضاء الشكلية نشر حالة من الإحباط العامة والخوف العميق بين فئات كثيرة، فتوقف الكثيرون عن الحديث العلني، لقد عاد الهمس في الزوايا، ففي كل زاوية همس كما في زمن بن علي، ولكن لا صوت يسمع فيقود إلى بديل. هذا الاتفاق على تشخيص الأزمة وتفكيكها على الورق لا يؤدي إلى اتفاق على حل، وهنا يظهر المأزق العويص.

عند الحل يطل الصندوق الانتخابي برأسه

نعم هنا المأزق التونسي (ونعمم عربيا بلا حرج). من السيناريوهات التي يتداولها كثيرون دون حجة (ونحسبها في التعازي/ الأماني الكاذبات) أن الأمر يحل بشهادة طبية يبنى عليها تغيير سلمي في رأس السلطة، دون امتهان على طريقة بن علي مع بورقيبة. وهذا تغيير كاف يمكن أن يحفظ هيكل الدولة (يؤلف لغو دستوري كثير هنا)، ثم يتوقف المتحدثون عند هذه المرحلة لا يزيدون. المفرطون في التفاؤل يضيفون عملية عفو عن المساجين لخلق حالة انفراج نفسي تبنى عليها حالة تهدئة طويلة حتى حين. ونطرح على المتفائلين وماذا بعد؟ فتظهر السيناريوهات المخيفة. يوما ما سينادي منادي الصندوق الانتخابي، فكيف سيعمل الرأس الجديد للسلطة؟ هنا وبلا فلسفة ينكشف المشكل الحقيقي.

قبل مرحلة قيس سعيد وأثناءها وبعدها لا يتفق التونسيون على دور الصندوق الانتخابي ولا يتحملون نتائجه. إن خلافاتهم جذرية حول الديمقراطية ووسائلها، وخلافاتهم ليست على برامج أو خطط حكم بل على المغنم من السلطة. لقد كشفت لنا عشرية الثورة أنهم في أسلوب الحكم وبرامجه واحد بأسماء متعددة، ماكثون في وهْم دولة اجتماعية تعيد توزيع الضرائب على منافع محدودة، ينسخون في مؤتمراتهم الحزبية والنقابية بيانا موحدا يقدس موروثا غير محدّث منذ الستينات، فلا هم اشتراكيون ولا هم ليبراليون، لكن ينظرون إلى مكاسب الوظيف العمومي الكسول ويختصمون عليه ولا يستنبطون بديلا.

المحاولة الديمقراطية بعد الثورة كشفت عن قوة جديدة قادمة من الهامش الاجتماعي والجغرافي (وهو هامش مركب) هي الإسلاميون. هذه القوة قادرة بالصندوق على المنافسة على المنافع المحدودة في نظام اقتصادي جامد، أي أنها بحكم الصندوق ستقسم الإرث القليل وتحرم طبقة المستفيدين الساكنين في مفاصل الإدارة. فللعدد شروطه، مغنم قليل وطامعون كثر. هنا أطل الاستئصال برأسه من جديد واتجه إلى قطع الطريق على كل صندوق انتخابي يسمح بالقسمة بشروطه، واستُحضرت كل الموبقات لوصم القادمين الجدد، وتمت الاستعانة عليهم بكل قوة ممكنة من الخارج بالخصوص فإذا النتيجة قيس سعيد.

الانقلاب لم يغير المشهد الاقتصادي

مرحلة قيس سعيد لم تحدث تغييرا في مشهد الصراع على المغنم، لم تحدث تنمية توسع المستفيدين وتصرفهم عن التنافس على الإرث القليل. وهذا التجميد الاقتصادي والاجتماعي لم يزد في دائرة المستفيدين بقدر ما وسع دائرة المحرومين بإغلاق الانتدابات في الوظيف العمومي. والشركات الأهلية مشروع الرئيس يُنظر إليها كنكتة لا تضحك أحدا.

ما يبدو لنا اللحظة ألَّا موعد لتونس مع الديمقراطية في مدى منظور رغم وجود يوم تال لقيس سعيد. الوضع الحالي على هشاشته قابل للاستمرار بدعم خارجي وبضعف داخلي. والداخل والخارج هنا متفقان على معاداة الديمقراطية
فقال قائل القوم: لو عدنا إلى الصندوق فسنعود إلى قسمة القليل، ولذلك نقول لم يصبح الصندوق أفقا ولا نراه يعود قريبا. ويستوي في ذلك بقاء الرئيس وذهابه، فهو عرَض لجوهر جامد. ونذهب إلى حد القول إن الماسكين بمواقعهم غير منزعجين من الوضع الراهن، وما تذمرهم منه إلا رفع عتب يتظاهر بالقلق على حال البلد (الضرر مس بعض أحبابهم ولم يقف عند الإسلاميين). والرئيس ومحيطه يعلمون ولا ينزعجون كثيرا من هذا اللغو فيسمحون لبعضه بالحركة في الشارع، فحركتهم تعطي انطباعا بوجود حريات عامة تحسن صورة النظام.

إلى متى يستمر الوضع؟

أثر الفراشة أقوى تأثيرا من احتمال التقاء التونسيين حول الحرية والديمقراطية وبناء المستقبل المشترك في ظلهما. فتصنيف جبهة البوليساريو (هناك في أقصى الأرض) كحركة إرهابية قد يكون له تأثير أقوى على الوضع في تونس من تفاهمات التونسيين بلا ضغوط. البوليساريو "إرهابية" يعني توريط النظام العسكري الجزائري (المساند الحصري للجبهة) في وضع لا يمكنه مواجهته لكنه مضطر للمناورة معه، وهذا الأمر المستجد قد يخفف قبضته على تونس التي وافقت الجزائر في بناء علاقة مع الجبهة "الإرهابية".

هذه من الورطات التي تضعف أنظمة لا تملك هوامش مناورة. ربما يتذكر الخائفون من ترامب وتصنيفاته حينها أن لهم شعبا يمكن الاحتماء به، ساعتها قد يعود حديث الانفراج وتنفيس الاحتقان، وتُستحضر الجمل والمفردات الودودة من السلطة ومن حزامها الهارب تجاه شعبها وتجاه الصندوق الانتخابي.

في ما يبدو لنا اللحظة ألَّا موعد لتونس مع الديمقراطية في مدى منظور رغم وجود يوم تال لقيس سعيد. الوضع الحالي على هشاشته قابل للاستمرار بدعم خارجي وبضعف داخلي. والداخل والخارج هنا متفقان على معاداة الديمقراطية.

لنختم باصطناع تفاؤل بقوانين الطبيعة، الأمطار الغزيرة والمخصبة تأتي تونس من المحيط الأطلسي وتعبر صحراء الجزائر لا يعترضها العسكر، فمن يدري قد تهب سحائب غيث سياسي من هناك.

مقالات مشابهة

  • صحف عالمية: إسرائيل تعمل منذ استئناف الحرب على تغيير وجه غزة
  • ليس الحل بالهروب من الديمقراطية بل إليها
  • ترامب يعيّن مستشار الأمن القومي المقال سفيرا لدى الأمم المتحدة
  • الوزير الشيباني: إن أي دعوة للتدخل الخارجي، تحت أي ذريعة أو شعار، لا تؤدي إلا إلى مزيد من التدهور والانقسام، وتجارب المنطقة والعالم شاهدة على الكلفة الباهظة التي دفعتها الشعوب جراء التدخلات الخارجية، والتي غالباً ما تُبنى على حساب المصالح الوطنية، وتخدم أ
  • مسؤولان أميركيان سابقان يحثان ترامب على وقف دعم حصار غزة
  • تحت الضوء
  • وزارة الداخلية السعودية تتوعد بعقوبات مالية تصل إلى 100 ألف ريال سعودي لمخالفي الأنظمة .. عاجل
  • زيادة الأجور/الحماية الإجتماعية/مراجعة الأنظمة الأساسية/التقاعد/ الحكومة تعلن حسم ملفات اجتماعية عالقة منذ سنوات عشية فاتح ماي
  • وزارة العدل: 2303 شهداء وجرحى جراء العدوان الأمريكي البريطاني على بلادنا
  • "الموارد البشرية" تسحب تراخيص 5 مكاتب استقدام وتوقف 10 أخرى لمخالفتها الأنظمة