فورين بوليسي: واشنطن تبالغ بشأن حجم الإنفاق العسكري الصيني
تاريخ النشر: 20th, January 2024 GMT
توصل الكونجرس الأمريكي إلى اتفاق مبدئي لتخصيص 886 مليار دولار للإنفاق العسكري لوزارة الدفاع (البنتاجون) والأعمال ذات الصلة بالأسلحة النووية (صيانة الردع النووي وتحديث المجمع النووي) للعام 2024.. وإذا سارت الأمور كما هو مخطط لها، سيتم اعتماد الميزانية الجديدة في أوائل فبراير المقبل.
وقد أرجعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن هذا القدر من الإنفاق، الذي وصل إلى واحد من أعلى المستويات منذ الحرب العالمية الثانية، إلى الصين، التي يشير إليها البنتاجون بشكل روتيني على أنها "التهديد المتسارع" الذي يقود استراتيجية الولايات المتحدة.
وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، أن التهديد العسكري المحتمل من الصين لا يستند إلى تقييمات علمية دقيقة، حيث أن المعلومات المتعلقة بمقدار ما ينفقه الصينيون، وكيف يتم إنفاق هذه الأموال، وما إذا كانت التقنيات التي يستثمرون فيها ستعمل كما هو معلن، وكم من الوقت سيستغرق الانتقال من مرحلة البحث إلى أنظمة قابلة للتنفيذ، واتجاهات الإنفاق على مدى السنوات الـ10 إلى الـ15 سنة المقبلة، أمر يصعب التحقق منه بسبب الافتقار إلى الشفافية والصعوبات الكامنة في التنبؤ بوتيرة التطور التكنولوجي هناك.
وأشارت المجلة إلى وجود أدلة كثيرة بأن صقور البنتاجون والكونجرس يبالغون في تقدير القدرات العسكرية للصين، بينما يقللون في الوقت نفسه من قيمة الحوار والدبلوماسية في معالجة التحديات التي تفرضها بكين على الولايات المتحدة وحلفائها.
ولفتت المجلة إلى أن إحدى النقاط الرئيسية في النقاش المتعلقة بحجم إنفاق البنتاجون الكبير، هي الجدل حول مقدار ما تنفقه الصين فعليا على جيشها، فليس هناك من شك أن الإنفاق الصيني زاد بشكل كبير على مدى العقدين الماضيين مع نمو اقتصادها بشكل كبير. ومع ذلك، يشير أحدث تحليل أجراه معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، المختص في أبحاث الصراعات والتحكم بالأسلحة ونزع الأسلحة، إلى أن الولايات المتحدة لا تزال تتفوق على الصين في الإنفاق بنسبة 3 إلى 1.
لكن مؤسسة التراث الأمريكية البحثية "هيريتدج فاونديشن" وغيرها من النقاد يزعمون أن المعايير التي يتم الاستناد إليها في تقدير حجم الانفاق تقلل من قيمة الاستثمارات العسكرية الصينية الحقيقية بهامش كبير، وذلك لسببين، يتمثل السبب الأول في أن التقارير الصينية الرسمية تغفل الأنشطة الرئيسية المرتبطة بالجيش، بما في ذلك الحساب الكامل للبحث والتطوير في مجال أنظمة الأسلحة الجديدة وتكلفة القدرات الدفاعية في الفضاء، والثاني يتمثل في قيمة العملة الصينية (اليوان) مقارنة بالأمريكية (الدولار).
وإذا ما تم أخذ هذه العوامل في الاعتبار، فإن مسؤولين مثل السيناتور الجمهوري دان سوليفان يرى أن الإنفاق الصيني يمكن مقارنته تقريبا بإنفاق الولايات المتحدة، بل ويرتفع بمعدل أعلى منه.
وترى المجلة أن أنصار الرأي القائل بأن الصين تنفق على جيشها أكثر بكثير، مما هو معلن عادة يبالغون في تقدير هذه المسألة. فعلى سبيل المثال، تضع التحليلات، التي ترفع بشكل كبير من الأرقام الصينية، حجم إنفاق بكين عند ما يزيد قليلا عن نصف إنفاق واشنطن، أي حوالي 59%، وذلك فقا لدراسة أجراها أستاذ الاقتصاد بيتر روبرتسون.
ويستند روبرتسون في دراسته إلى القوة الشرائية لعناصر عسكرية محددة، وهو المفهوم الذي يطلق عليه تعادل القوة الشرائية العسكرية، وهي طريقة تستخدم لقياس توازن سعر الصرف بين عملتين وتحقيق المساواة بينها، لكن روبرتسون يعترف بأن القيام بذلك لا يمكن أن يوفر سوى تقدير تقريبي في أحسن الأحوال.
وتؤكد "فورين بوليسي" أن الإنفاق وحده ليس مقياسا جيدا للقدرات العسكرية النسبية أو النوايا أو النتائج المحتملة في سيناريوهات محددة، حيث تتفوق الولايات المتحدة بشكل كبير على الصين في عدد وتطور المنصات العسكرية التقليدية، مثل حاملات الطائرات الكبرى (11 في الأسطول الأمريكي مقارنة بثلاث في الصين)، والأسلحة النووية (بنسبة 10 إلى 1)، وطائرات القتال المتقدمة (حوالي 3 إلى 1). كما أن المخاوف بشأن العدد الكبير للسفن الصينية يقابله واقع أن البحرية الأمريكية تمتلك سفنا بقدرات أكثر من ضعف حمولتها، وهو ما يعكس امتلاك سفن ذات مدى أكبر وقوة نيران أكبر.
إلا أن عدم اليقين بشأن خطط بناء السفن التابعة للبحرية الأمريكية، وضعف حاملات الطائرات الكبيرة أمام الصواريخ الحديثة، والأموال المهدرة على سفن، مثل سفينة ليتورال المقاتلة، يمكن أن تتضافر لتقويض المزايا الأمريكية في القوة النارية البحرية بمرور الوقت. بالإضافة إلى أن التقدم الصيني في أنظمة منع الوصول/ حجب المناطق يمكن أن يؤدي إلى تعقيد قدرة الولايات المتحدة على استخدام الأنظمة الهجومية بشكل فعال في حالة الصراع.
وتشدد المجلة الأمريكية على أن مجال القلق الأكبر هو مدى قدرة أي من الجانبين على تطوير ونشر أنظمة الجيل التالي بسرعة، مثل الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، والمركبات غير المأهولة، وأنظمة الاتصالات والاستهداف المتقدمة التي تتضمن الذكاء الاصطناعي.. لذا، تستثمر كل من الولايات المتحدة والصين في هذه التقنيات، ولكن من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان من المرجح أن يحصل أي من الجانبين على ميزة حاسمة.
كما أن الاختلافات في الحجم النسبي لما تمتلكه الولايات المتحدة والصين من أنظمة الأسلحة الرئيسية، هي مجرد متغير واحد في القدرات العسكرية للجانبين، وأن هذه الاختلافات لا تتناول مسألة القوة العسكرية النسبية في غرب المحيط الهادئ، حيث تتمتع الصين بميزة جغرافية، إلى جانب حقيقة أنها عززت قدراتها بشكل كبير مقارنة بما كانت عليه قبل بضعة عقود.
وحيث أن القدرات العسكرية وحدها ليست هي الحل، فإن تقريرا صادرا عن معهد كوينسي، الذي يتخذ من واشنطن مقرا له، اقترح استراتيجية دفاعية أمريكية جديدة لمنطقة آسيا يشير إلى أن الحل في التعامل مع الصين، لا يكمن ببساطة في السباق لإعادة ترسيخ التفوق العسكري الأمريكي في المنطقة، خاصة وأن "الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لاستعادة الهيمنة العسكرية في المنطقة من خلال الاستراتيجيات الهجومية الساعية إلى السيطرة ستؤدي إلى تفاقم المشكلة، ويمكن أن تأتي بنتائج عكسية من خلال تفاقم خطر الأزمات والصراع والتصعيد السريع في الحرب.. ولكن يجب على الولايات المتحدة أن تعمل على تطوير استراتيجية دبلوماسية قوية في المكان الذي يرجح فيه خطر نشوب صراع بين الولايات المتحدة والصين، أي تايوان، وذلك حتى تحل هذه الاستراتيجية محل التركيز على كيفية كسب الحرب مع الصين".
ونبهت "فورين بوليسي" إلى أن نشوب حرب بين الولايات المتحدة والصين بشأن تايوان سيكون بمثابة كارثة لجميع الأطراف المعنية، فبالرغم من أن الولايات المتحدة قادرة على "الفوز" في حرب للدفاع عن تايوان ضد هجوم برمائي صيني (وفقا لسيناريوهات محتملة أعدها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية)، إلا أن ذلك سيكون نصرا باهظ الثمن، حيث ستكون الولايات المتحدة وحلفاؤها حينها قد خسروا عشرات السفن، ومئات الطائرات، وعشرات الآلاف من أفراد الخدمة العسكرية، وشهدت تايوان اقتصادا مدمرا.
وعلاوة على ذلك، فإن خسائر كبيرة ستضر بمكانة الولايات المتحدة العالمية لسنوات عديدة، وقد تكلف الحرب على تايوان الاقتصاد العالمي نحو 10 تريليونات دولار.
وفي حين أن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية لم يقيم التأثيرات المحتملة للمواجهة النووية بين الصين والولايات المتحدة، إلا أن مثل هذا الاحتمال على أي مستوى سيكون له عواقب كارثية.
أما بالنسبة لمسألة التوازن في التكنولوجيات الناشئة، فمن الضروري أن يتم اختبار هذه الأنظمة بعناية، وأن يتم تقييم فائدتها بشكل واقعي، خاصة وأن الاندفاع نحو نشر أسلحة تعتمد على الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يزيد من خطر حدوث أعطال قد تؤدي إلى حوادث غير مقصودة، أو حتى إشعال شرارة حرب نووية عرضية.
وقد حدد خبير الأمن العالمي مايكل كلير هذه المخاطر في تقرير حول الآثار المترتبة على تقنيات الدفاع الناشئة، والذي أصدرته جمعية الحد من الأسلحة العام الماضي.
ومهما كان حجم استثمارات الولايات المتحدة في تكنولوجيا الجيل التالي، فإنها لن تكون علاجا سحريا، حيث أن فكرة الثقة في التكنولوجيا كعامل حاسم في الحرب، هي عبارة شائعة لدى دولة الأمن القومي الأمريكية، كما يتضح من الحماس لـ"ساحة المعركة الإلكترونية" أو ما يسمى بالثورة في الشؤون العسكرية التي بلغت ذروتها خلال فترة ولاية دونالد رامسفيلد الثانية كوزير للدفاع خلال الحربين في أفغانستان والعراق.
ولكن حينما تم تشغيل الأنظمة التي تتيح القتال الشبكي والذخائر الأكثر دقة، في عدد من الصراعات الرئيسية، فإنها لم تكن قادرة على مساعدة واشنطن على تحقيق أهدافها المعلنة لأنها لم تكن مناسبة لطبيعة الحروب الجاري خوضها.. وكان هذا صحيحا في فيتنام، وكذلك في الحروب التي دامت عقودا في العراق وأفغانستان، لا سيما وأن الدافع والمعرفة المحلية ورد الفعل الوطني ضد الوجود العسكري الأجنبي، واستخدام أسلحة مضادة رخيصة، مثل الأجهزة المتفجرة، قوضت قيمة التكنولوجيا الأمريكية المتطورة.
وعلى الرغم من الدروس المستفادة من حروب هذا القرن فيما يتعلق بحدود التكنولوجيا المتقدمة، يبدو أن البنتاجون مايزال أسيرا لموجة جديدة من الحماس التكنولوجي، ومقتنعا بقدرته على التوصل إلى أسلحة إعجازية من شأنها أن تساعد في كسب الحرب مع الصين أو حتى ردع أي عدوان صيني محتمل.
وقد ظهر هذا الحماس بشكل أكثر وضوحا في خطاب ألقته نائبة وزير الدفاع الأمريكي كاثلين هيكس في أغسطس 2023 أمام أعضاء أكبر مجموعة تجارية في صناعة الأسلحة، وهي الرابطة الوطنية للصناعات الدفاعية، حيث استغلت هذه المناسبة للإعلان عن إطلاق مبادرة تنطوي على برنامج مكثف لإنتاج عناصر، مثل "أسراب الطائرات بدون طيار" التي يمكنها ضرب ما يصل إلى 1000 هدف خلال 24 ساعة.
وأوضحت هيكس أن المبادرة الجديدة تستهدف الصين، وأن هذه النوعية من المبادرات سيكون لها تأثير عميق على حسابات القادة الصينيين، حيث يتعين ضمان أن قيادة جمهورية الصين الشعبية تستيقظ كل يوم، وتأخذ في الاعتبار مخاطر العدوان.
وحذرت المجلة الأمريكية من أن النتيجة الأكثر ترجيحا لاندفاع الولايات المتحدة لنشر أسلحة تعتمد على الذكاء الاصطناعي هي سباق تسلح متسارع عالي التقنية مع بكين، مصحوبا بزيادة خطر التصعيد النووي بسبب عدم وضوح الخطوط الفاصلة بين الأسلحة النووية والتقليدية.
ولفتت "فورين بوليسي" إلى أنه لحسن الحظ، هناك دلائل على أن إدارة بايدن قد تكون منفتحة على إعادة التوازن إلى العلاقة بين الولايات المتحدة والصين لزيادة التركيز على التعاون والحوار كوسيلة لإنشاء حواجز ضد اندلاع الحرب، حيث تم مؤخرا إحياء الاتصالات العسكرية بين الولايات المتحدة والصين.
وبعد اجتماع القمة بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الصيني شي جين بينج العام الماضي، تم التعهد ببدء مناقشات حول الأسلحة النووية والاستخدامات العسكرية للذكاء الاصطناعي، وهو الأمر الذي يجب متابعته بشكل موضوعي من كلا الجانبين.
وشددت المجلة الأمريكية على أنه سواء كان السؤال هو حماية تايوان دون اللجوء إلى الحرب أو تجنب احتمال تفوق الصين على الولايات المتحدة في القوة العسكرية على المدى الطويل، فإن الاعتماد بشدة على السيناريوهات العسكرية وتكديس الأسلحة على حساب الاتصالات والدبلوماسية المكثفة من شأنه تقويض أمن الولايات المتحدة بدلا من تعزيزه.
ودعت المجلة إلى وضع المناقشات حول مستويات الإنفاق والقدرات العسكرية في منظورها الصحيح، والانخراط في تقييم شامل لأفضل طريقة لبناء علاقة مع الصين أقل احتمالا لإثارة صراع وأكثر احتمالا لكبح غرائزها الأكثر عدوانية.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الولايات المتحدة تايوان الأسلحة النووية الكونجرس بین الولایات المتحدة والصین القدرات العسکریة الأسلحة النوویة فورین بولیسی بشکل کبیر مع الصین یمکن أن إلى أن على أن
إقرأ أيضاً:
السياسة الأمريكية تجاه السودان: من صراعات الماضي إلى حسابات الجمهوريين الباردة
شهدت العلاقة بين الولايات المتحدة والسودان محطات متباينة عبر التاريخ، حيث تأرجحت بين الانخراط الدبلوماسي والعقوبات الاقتصادية، وكان السودان دائمًا في موقع حساس داخل الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا والشرق الأوسط. منذ استقلال السودان، تعاملت واشنطن معه وفق اعتبارات الحرب الباردة، فكانت تدعمه حين يكون في المعسكر الغربي، وتضغط عليه حين يميل نحو المعسكر الشرقي أو يتبنى سياسات معادية لمصالحها. خلال السبعينيات، دعمت إدارة نيكسون والرؤساء الجمهوريون الذين جاؤوا بعده نظام جعفر نميري، خاصة بعد أن طرد الأخير الخبراء السوفييت وتحول إلى التحالف مع الغرب، لكن هذا الدعم لم يكن بلا مقابل، فقد جاء مشروطًا بفتح السودان أمام المصالح الأمريكية، سواء في ملفات الاقتصاد أو الأمن الإقليمي.
مع وصول الإسلاميين إلى السلطة عام 1989 بقيادة عمر البشير، دخل السودان في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، خاصة بعد استضافته لأسامة بن لادن وجماعات إسلامية أخرى، وهو ما أدى إلى تصنيفه دولة راعية للإرهاب في 1993. العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن عزلت السودان دوليًا، لكنها في ذات الوقت لم تمنع النظام من بناء تحالفات بديلة مع الصين وروسيا وإيران، ما جعل السودان يتحول إلى ساحة مواجهة غير مباشرة بين القوى الكبرى. ومع اشتداد الحرب في جنوب السودان، لعبت الولايات المتحدة دورًا غير مباشر في دعم المتمردين، وهو ما قاد إلى اتفاق السلام في 2005 الذي مهّد لانفصال الجنوب عام 2011. غير أن واشنطن، ورغم دورها الحاسم في تقسيم السودان، لم تفِ بوعودها تجاه الخرطوم، إذ استمر الحصار الاقتصادي لسنوات طويلة بعد الانفصال، ما زاد من تعقيد المشهد الداخلي وأدى إلى أزمات اقتصادية وسياسية عميقة.
خلال فترة حكم دونالد ترامب، تغيرت الاستراتيجية الأمريكية تجاه السودان من المواجهة المباشرة إلى نهج "المقايضة"، حيث تم ربط أي انفتاح أمريكي بمدى استعداد السودان لتقديم تنازلات سياسية وأمنية، وكان أبرز الأمثلة على ذلك اشتراط واشنطن تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في 2020. هذا النهج عكس طبيعة السياسة الخارجية لإدارة ترامب التي قامت على البراغماتية المطلقة، بعيدًا عن أي التزامات أخلاقية أو ديمقراطية. هذه الواقعية الصارمة قد تعود مجددًا في حال وصول الجمهوريين إلى السلطة مرة أخرى، مما يعني أن تعامل الولايات المتحدة مع السودان سيكون محكومًا باعتبارات المصالح الجيوسياسية وليس بدعم التحول الديمقراطي.
من المرجح أن تعتمد الإدارة الجمهورية القادمة، سواء بقيادة ترامب أو أي بديل آخر، على سياسة المقايضة بدلًا من الدبلوماسية التقليدية. السودان قد يجد نفسه أمام معادلة واضحة: ماذا يمكنه أن يقدم مقابل الدعم الأمريكي؟ في ظل هذه البراغماتية، فإن القوى المدنية التي لا تمتلك أدوات ضغط حقيقية قد يتم تجاهلها، فيما يتم التركيز على الفاعلين العسكريين باعتبارهم الأقدر على فرض الاستقرار، حتى لو كان ذلك على حساب التحول الديمقراطي. كذلك فإن الإدارة الجمهورية قد تستخدم العقوبات بشكل انتقائي، فتضغط على قوات الدعم السريع باعتبارها مرتبطة بروسيا وفاغنر، بينما تغض الطرف عن الانتهاكات التي يرتكبها الجيش السوداني إذا كان ذلك يخدم المصالح الأمريكية في الإقليم.
التحالفات الإقليمية ستكون أيضًا محورًا أساسيًا في الاستراتيجية الأمريكية تجاه السودان، إذ من المتوقع أن تتعامل واشنطن مع الملف السوداني عبر قنوات غير مباشرة، مثل مصر والإمارات، بدلًا من التدخل المباشر. هذه المقاربة قد تؤدي إلى صفقات سرية تعيد ترتيب الأوضاع بما يخدم القوى العسكرية المدعومة من هذه الدول، وهو ما سيجعل أي حل سياسي محتمل بعيدًا عن التوافق الوطني الحقيقي. في سياق أوسع، فإن السودان قد يتحول إلى ورقة ضغط في الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث قد تسعى واشنطن إلى منع موسكو من توسيع نفوذها في البحر الأحمر عبر قاعدة بورتسودان، كما قد تستخدم الأزمة السودانية للضغط على الصين التي تمتلك استثمارات ضخمة في البلاد.
المسألة الأكثر حساسية في العلاقة بين السودان والإدارة الجمهورية القادمة ستكون ملف إسرائيل، إذ أن واشنطن قد تربط أي دعم سياسي أو اقتصادي بمزيد من التنازلات السودانية تجاه تل أبيب، سواء من حيث التعاون الأمني أو الاقتصادي. ترامب، في ولايته الأولى، استخدم سياسة فرض التطبيع كشرط مسبق للدعم، ومن المرجح أن يعود إلى نفس الأسلوب إذا فاز بولاية ثانية. هذه السياسة قد تضع السودان في مأزق داخلي، حيث أن التطبيع ما زال ملفًا خلافيًا في الساحة السودانية، ما يعني أن أي ضغط أمريكي في هذا الاتجاه قد يفاقم التوترات الداخلية.
في النهاية، فإن مستقبل العلاقة بين السودان والولايات المتحدة في ظل الجمهوريين سيتحدد وفق معادلة المصالح البحتة، بعيدًا عن أي التزام بدعم الديمقراطية أو الاستقرار طويل الأمد. واشنطن قد تدعم حلًا عسكريًا سريعًا للأزمة السودانية إذا كان ذلك يخدم مصالحها الإقليمية، لكنها لن تلتزم بمساعدة السودان على بناء نظام سياسي مستدام. كما أن السودان قد يجد نفسه في قلب صراع بين القوى الكبرى، حيث تسعى واشنطن إلى احتوائه ضمن استراتيجيتها لمواجهة النفوذ الروسي والصيني، مما قد يعقد الأزمة أكثر بدلًا من حلها. في ظل هذه التعقيدات، فإن السودان سيكون أمام خيارات صعبة، إما الخضوع للضغوط الخارجية وقبول حلول مفروضة، أو مواجهة سيناريو صراع طويل الأمد يعمّق أزماته السياسية والاقتصادية.
zuhair.osman@aol.com