محمد غالب يكتب: المبدع لا يعرف سنا للتقاعد
تاريخ النشر: 19th, January 2024 GMT
شاهدت فيلم «نابليون» بطولة الممثل الحاصل على جائزة أوسكار خواكين فينيكس، أكثر من ساعتين ونصف من الإبهار البصرى والاهتمام بأدق التفاصيل الخاصة بمشاهد الحروب الصعبة والمتقنة. وبصرف النظر عن إيقاع الفيلم الذى رأيته بطيئاً، مع بعض الخلل الواضح فى السيناريو، الذى أضعف أحداثه وقلل من درجة تقييمه.. وأعتقد أن السبب يعود لاقتطاع الكثير من مشاهده داخل غرفة المونتاج بسبب طول مدة الفيلم.
وعلى الرغم من كل الملاحظات، الإيجابية منها والسلبية، إلا أنه من اللافت للانتباه سن مخرجه ريدلى سكوت الذى تجاوز ٨٥ عاماً. فكرت فى حيرة، وتساءلت كيف لرجل فى هذا العمر الكبير أن يقوم بإخراج فيلم بهذا الحجم والتعقيد؟ عمل يحتاج إلى مخرج لديه طاقة وقوة لإخراج ذلك الفيلم التاريخى والتحكم فى آلاف الممثلين فى مشاهد المعارك الصعبة التى تُعتبر فى غاية التعقيد.
وفيلم «نابليون» ليس نهاية مشاريع «سكوت»، فالرجل الثمانينى أعلن عن نيته لإخراج الجزء الثانى من الفيلم الأيقونى الشهير «المصارع»، بالإضافة لأفلام أخرى يقوم خلالها بدور المنتج أو المخرج. بالإضافة لإخراجه مشاريع سينمائية مهمة الفترة الماضية، منها «house of Gucci»، بطولة آل باتشينو، آدم درايفر، سلمى حايك، جيريمى آيرونز.
أعتقد أن ريدلى سكوت الذى ترشح لجائزة أوسكار ٤ مرات لكنه لم يحصدها ما زال يأمل فى الفوز بها، مهما كثرت تجاربه ومهما بلغ به العمر.. وكأنه فى بداياته، يعمل، يجرب ويجتهد ويُبدع داخل لوكيشن التصوير.
فكرت حينها فى جدية مقولة أن العمر مجرد رقم، ليثبتها هو بأعمال يقدمها بروح شابة وبجدية شديدة وتحدٍّ واضح لينافس المخرجين الشباب بأفلام معقدة وتستغرق الكثير من الوقت والمجهود. ويؤكد بعمله أن المبدع لا تنتهى أحلامه أبداً.. مهما حقق الكثير من النجاحات ومهما كبر السن وضعفت الحركة.
قبل أسابيع من فيلم نابليون، طُرح بدور العرض السينمائية، فيلم Killers of the Flower Moon، من إخراج مارتن سكورسيزى ٨٢ عاماً، ومن بطولة روبرت دى نيرو، ٨٠ عاماً، مع ليوناردو دى كابريو، وتقييمه على موقع الأفلام الشهير IMDb يساوى «٨ من ١٠». ليؤكد دى نيرو وسكورسيزى أيضاً أن العمر ما هو إلا رقم، يستطيع أى إنسان مهما كبر سنه أن يُنتج وينافس ويبدع، بصرف النظر عن سنوات عمره الطويلة التى مرت، وبصرف النظر عما هو قادم.
وشارك دى نيرو العام الحالى أيضاً فى بطولة فيلم «عن أبى» كما شارك العام الماضى فى فيلم savage salvation وفيلم أمستردام، وما زال يعمل بروحه الشابة بحماس فأعلن عن تحضيره للمشاركة فى بطولة عدد من الأفلام.
أما الممثل الأيقونى الحاصل على جائزة أوسكار عن دوره فى فيلم عطر امرأة، آل باتشينو والذى يبلغ من العمر ٨٣ عاماً، فما زال يقف أمام الكاميرات وكأنه فى عمر الشباب يمثل لأول مرة، بروح متحمسة، وطاقة هائلة قادته للترشح لجائزة الأوسكار عام ٢٠٢٠ كأفضل ممثل مساعد عن دوره فى «الرجل الأيرلندى» حينها كان عمره ٨٠ عاماً، وهو الفيلم الذى شارك فى بطولته روبرت دى نيرو وجوى بيشى. وهنا أتذكر مقولة آل باتشينو عندما قال: بعض الناس يعتبروننى أسطورة، أنا سعيد للغاية لسماع ذلك، لكن لا أرى فى نفسى أى شىء سوى ممثل يكافح من أجل العثور على دور جيد.
وهو بالفعل ما زال يكافح ويحضّر حالياً للمشاركة فى أكثر من عمل، منها فيلم «مودى» الذى سيقوم بإخراجه الممثل والمخرج جونى ديب، بالإضافة لفيلم Knox goes away، وفيلم easys waltz وغيرها، كما أنه يشارك فى فيلم «sniff» بجانب مورجان فريمان، ٨٠ عاماً وهيلين ميرين ٧٨ عاماً. قبل أيام شاهدت بعض الصور للمخرج والممثل والمنتج كلينت ستود داخل لوكيشن أثناء إخراجه أحدث أفلامه، وهو الذى تخطى عمره الـ٩٣ عاماً، يقف داخل اللوكيشن وكأنه فى أول أفلامه، يتمم على الكادرات، يوجه الممثلين. يبتسم ويركز ويعمل.
كلينت ستود الذى تخطى الـ٩٠ عاماً، قام بإخراج فيلم cry macho قبل عام، وكأنه يعمل ليعيش، يتنفس سينما، ويستمد الطاقة من خلال وقوفه داخل لوكيشن التصوير. الفنان مورجان فريمان أيضاً لا يتوقف عن العمل رغم عمره الكبير، حيث شارك العام الماضى فى بطولة فيلمى A good person وthe ritual killer. بالإضافة لتحضيره ٤ أفلام أخرى. وأنتونى هوبكنز، 83 عاماً، يثبت صحة المقولة وهو الذى حصد جائزة أوسكار عن دوره فى فيلم Father سنة ٢٠٢١.. ويقوم حالياً بالتحضير لـ٤ مشاريع فنية جديدة.
مشاهدات عدة لنجوم كبار فى السن والقيمة، قادتنى للتساؤل فى حيرة، لماذا توقف المخرج وكاتب السيناريو المصرى داود عبدالسيد، ٧٧ عاماً، عن الكتابة والإخراج منذ ٨ سنوات، حيث آخر أفلامه «قدرات غير عادية»؟!. وتمنيت عودة صاحب الأفلام الأيقونية مثل «الكيت كات» و«أرض الخوف» لساحة السينما مرة أخرى ليقدم لجمهوره مزيداً من الإبداع ويزين دور العرض السينمائية بأفيشات أفلام تحمل اسمه.
أيضاً المخرج الكبير على بدرخان، ٧٧ عاماً، يغيب عن السينما منذ عام ٢٠٠٢، حيث آخر أفلامه «الرغبة»، وهو صاحب أفلام مهمة ومؤثرة مثل «شفيقة ومتولى» و«الكرنك» وغيرهما.
وأتساءل: أين أفلام السيناريست الكبير بشير الديك، وهو كاتب الأفلام الأيقونية «سواق الأوتوبيس» و«جبر الخواطر» و«الحريف»، والذى عمل مع كبار المخرجين مثل محمد خان وعاطف الطيب. لماذا غاب؟ ولماذا اختفت أعمال السيناريست عاطف بشاى؟ وأين المخرج خيرى بشارة؟ أحلم بأفيشات أفلام جديدة تحمل أسماء الكبار.. مخرجين، مؤلفين، وممثلين، بجانب الشباب وجيل المنتصف، فى منافسة بديعة تعود بالنجاح للسينما المصرية، وتجذب الجمهور لقاعاتها.. حتى تتنوع الأفكار وطرق طرحها. أتمنى عودة الكبار، وأنا على يقين تام بقدرتهم على إبهارنا بإبداعاتهم وسحر أعمالهم.
الإبداع لا يتقيد بسن، والفنان لا يخرج على المعاش، ولا يعرف سناً للتقاعد، والأفكار لا بد أن تخرج من عقول الكبار فى شكل أفلام بديعة تحمل توقيعهم.. وعلى شركات الإنتاج السينمائى أن تنتبه.. السينما دائماً ساحرة تفتح أبوابها لكل الأجيال.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الإبداع الكتابة الحروب الصعبة فى فیلم
إقرأ أيضاً:
د. محمد بشاري يكتب: أسطورة الخيال.. بوابة التغيير والإبداع
الخيال هو أداة الإنسان الأبرز لتجاوز حدود الممكن ورسم مسارات المستقبل. إنه القوة الخفية التي تحرك الفكر والإبداع، وتقودنا نحو احتمالات لم تكن يوماً في متناول اليد. عبر التاريخ، لطالما مثّل الخيال مصدر دهشة وإلهام للبشرية، بدءاً من أساطير الحضارات القديمة وصولاً إلى الابتكارات العلمية الحديثة. إنه المساحة التي تتداخل فيها الأحلام مع الواقع، وتحول المستحيل إلى ممكن، وتمنح الإنسان القدرة على صياغة عالم جديد.
في الماضي، كانت أفلام الخيال العلمي والروايات المستقبلية تُنظر إليها على أنها ضرب من الجنون أو الهروب من الواقع. لكن هذه الأفكار، التي بدت يوماً غير واقعية، أصبحت اليوم نبوءات محققة. الرحلات الفضائية، والذكاء الاصطناعي، والسيارات ذاتية القيادة، كلها ولدت من رحم الخيال، لكنها تحولت بمرور الوقت إلى حقائق ملموسة. هذه الظاهرة تثير سؤالاً محورياً: كيف يمكن للبشرية أن تستثمر في الخيال ليس فقط كأداة إبداعية، بل كقوة دافعة للتغيير والتقدم؟
الخيال ليس مجرد أداة للترفيه أو الهروب من الواقع، بل هو مصدر حقيقي للحلول والابتكارات. عندما تواجه المجتمعات تحديات كبرى مثل تغيّر المناخ، والأزمات الصحية، والتوترات السياسية، فإن الخيال يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في تقديم رؤى جديدة واستراتيجيات غير تقليدية. في كل مرة يتحدى فيها الإنسان حدود فكره، يفتح أبواباً جديدة للحلول التي لم تكن مطروحة من قبل. هذه القدرة على تجاوز المألوف تجعل الخيال قوة أساسية في تشكيل العالم.
لتحقيق هذا الإمكان، يحتاج البشر إلى تطوير ما يمكن تسميته بـ”التخيّل المنهجي”، وهو القدرة على استخدام الخيال بطريقة منهجية وموجهة نحو تحقيق أهداف محددة. يتطلب ذلك تعزيز التفكير النقدي والإبداعي لدى الأفراد، خاصة منذ مراحل الطفولة. إن الأطفال، بقدرتهم الفطرية على الحلم، يمثلون التربة الخصبة لزرع بذور الخيال. لكن هذه البذور تحتاج إلى رعاية مستمرة من خلال أنشطة تعليمية وثقافية تُعزز من قدرتهم على استكشاف العالم بطرق جديدة.
الخيال لا يقتصر على الأفراد فقط، بل يمكن أن يصبح مورداً جماعياً للمجتمعات والدول. إنه يشكل الأساس لابتكارات كبرى تحولت إلى ثورات صناعية وتقنية، مثل الإنترنت والطاقة المتجددة والأجهزة الذكية. الشركات الكبرى اليوم، مثل تلك التي تقود قطاع التكنولوجيا، تعتمد بشكل كبير على الأفكار التي تبدأ كخيالات طموحة، لكنها تتحول عبر الابتكار والعمل إلى واقع يغير العالم. لذلك، فإن الاستثمار في الخيال ليس ترفاً، بل ضرورة لتحقيق التنمية المستدامة.
يتجلى دور الخيال أيضاً في المجالات الثقافية والفنية. الفنون بجميع أشكالها ليست مجرد وسائل للتسلية، بل هي مختبرات للأفكار. الأفلام والروايات والمسرحيات تلعب دوراً محورياً في استكشاف القيم الإنسانية وإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية. كما أن الخيال الأدبي والسينمائي يمكن أن يكون حافزاً للعلماء والمبتكرين للبحث عن طرق جديدة لتحويل هذه التصورات إلى حقائق. وهكذا يصبح الخيال ميداناً للتفاعل بين المشاعر والأفكار، ومساحة للتجريب الحر الذي يفتح أبواب المستقبل.
لكن الخيال ليس فقط وسيلة للإبداع، بل يمكن أن يكون أيضاً علاجاً نفسياً ووسيلة لتحسين الصحة العقلية. في عالم مليء بالضغوطات والتحديات، يمكن للخيال أن يمنح الإنسان متنفساً للتأمل والتجديد. الانغماس في عوالم خيالية، سواء من خلال القراءة أو الألعاب الافتراضية، يمكن أن يساعد على تهدئة النفس وتعزيز التفكير الإيجابي. في هذا السياق، يصبح الخيال أداة ليس فقط لبناء المستقبل، بل أيضاً لتحسين الحاضر.
إلى جانب ذلك، يمثل الخيال دعوة للتأمل الفلسفي في طبيعة الوجود الإنساني. إنه يعكس قدرة الإنسان على تجاوز حدود الإدراك المادي، واستكشاف احتمالات جديدة للحياة. الفلاسفة الكبار، من أفلاطون إلى كانط، تحدثوا عن أهمية الخيال كوسيلة لفهم الذات والعالم. إنه المساحة التي يتلاقى فيها العقل مع الروح، حيث تتشكل الأفكار التي يمكن أن تغيّر مجرى التاريخ.
لكن الخيال ليس مسؤولية فردية فقط، بل هو مسؤولية جماعية تتطلب التعاون بين الأفراد والمؤسسات والدول. من خلال تعزيز ثقافة الخيال والإبداع، يمكن للمجتمعات أن تبني عالماً أكثر عدلاً واستدامة. الاستثمار في التعليم، وتشجيع البحث العلمي، ودعم الفنون والإبداع، كلها خطوات أساسية لتحقيق هذا الهدف.
في النهاية، يمثل الخيال البوابة السرية التي تقودنا نحو التغيير والإبداع. إنه القوة التي تدفع الإنسان لمواجهة التحديات، وتحقيق المستحيل، وخلق عالم يعكس أحلامه وطموحاته. في زمن يحتاج فيه العالم إلى حلول جذرية وإبداعات غير مسبوقة، يصبح الخيال ليس خياراً، بل ضرورة لبناء المستقبل. لذا، علينا أن نعيد اكتشاف هذه القوة الكامنة، ونمنحها المكانة التي تستحقها في حياتنا ومجتمعاتنا. فقط عبر الخيال، يمكننا أن نصوغ عالماً جديداً يتسع للجميع.