مراجعة لكتاب الدراويش الطرابى : لمحات من فن الغناء السوداني للكاتب د. مرتضى الغالي
تاريخ النشر: 19th, January 2024 GMT
الناشر : النخبة للطباعة والنشر والتوزيع ( 2023)
عدد صفحات 521 صفحة.
1/2
د. سامية عباس كرجويل
أكاديمي وباحث وناقد
مقدمة
ما يلفت النظر لكتاب:" الدراويش الطرابى -لمحات من فن الغناء السوداني" للكاتب د. مرتضى الغالي هو انه سفر يعكس ابداعات متفردين من : شعراء الاغنية السودانية الخالدة، وبعض من كرواناته المعتقة ، وموسيقيين أيقونات العزف المنفرد ، هذه الإبداعات جمعها الكاتب مكون بها تخت خاص به لعزف منفرد في نوتة هذا السفر الاوحد الذي لا يضاهيه سفر وليس له صنوان .
واختار لكل بروفايل عنوان مرتبط بالمبدع من نسيج ما قدمه من ابداع فاخذ من كل واحد منهم ما ارتبط به من عبارة او شطرة من قصيدة عرف بها اما بأدائها او إنتاجها فعلى سبيل المثال وليس الحصر: " العميد احمد المصطفى:
" طار قلبي" كان العنوان الذي اختاره له المؤلف، والفلاتية:” الليمون سقايتو عليا " ، و وردي: " اوعى يا قلبي تنسى " وعوض جِبْرِيل: " من دلالو ولا مالو!" فكانت اختيارات لماحة وذات دلالات ضمنية ملفتة فمثلا اختار
لإسماعيل خورشيد: "انا قلبي بدق،" التي كانت المنطاد السحري الذي عبر به سيد خليفة الى الدول الآخرى وثقافاتها وعرف به الفن السوداني والسلم الخماسي، وَعَبَد المنعم عبد الحي: "انا ابن الجنوب سكنته قلبي "،
وياله من عنوان معبر وساحر وفية اعتراف صريح بالمحبة لجنوب السودان اما مراجعة الكتاب فقد انبنت علي وقفة مع كل مبدع منهم ووضع منمنمات على بورتريهات هؤلاء المبدعين في فن الغناء السوداني.
الهيكل المعماري لعناوين الكتاب: بورتريهات نورانية مضيئة
تجلى الكاتب في اختيار عنوان لهذا السفر والذي حشد فيه الشيء وضدة وزينة بنقوش بارزة لتظهر جمال المفارقة بين ان يجتمع أهل المغنى في أحشاء الزاهدين فصيغ العنوان مثقل بالمفارقة والجمال وفن النحت وعمق التفكير.
فكأنما قصد الكاتب ان ينوه الى ان لشعراء القصائد الغنائية النزعة الدينية التي لم تمنعهم من ان يبتهجوا للغناء وفي هذا تأسيا بالحديث الشريف: 'اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ولأخرتك كأنك تموت غدا' . وكما ابدع الكاتب في اختيار عناوين لبروفايل كل مبدع فانتزع ما هو بارق من شطرة شعرية في قصيدة غنائية جاذبة لتكون منمنمات جاذبة على جدارية البورتريه للمبدع سواء ان كان شاعر، او فنان ماهر او موسيقار او جميعهم مجتمعين في تلكم الايقونة- اختار من كل روض زهرة يفوح عبقها المعتق لينشر البهجة في كل جانب مطعما لها بعبارات' السخرية والتندر' وهو في اعتقادي اُسلوب حديث قد ادخل في السرد الادبي ، فمن الشعراء تناول إسهامات عمالقة الحقيبة من أمثال: عبد الرحمن الريح، وسيد عبد العزيز ، ود الرضي و التنقاري. تناول الثنائيات ايضا فأورد عائشة الفلاتيه والتنقاري وأشار الى محمد عِوَض الكريم القرشي والخير عثمان. كما ازال الغبار عن بعض المبدعين الذين لم يلمعهم أحد للأجيال الجديدة والتي علق بمؤلفاتهم او غناءهم الغبار من أمثال: الخير عثمان الذي تغنى بقصائد قلما توصف بأنها جميلة وخالدة والتي يفوح شذاها كلما تغنى بها مغني فتطربك حتى النخاع لجمال الصور البيانية والتشبيهات البلاغية واللحن الذي يحرك كل ساكنة في الشخص: الندامة، وحنبوب الجميلة، والحب الحلال التي امد الله في عمرها بتبني عِوَض الكريم عبد الله لها، وبالليالي الحبيب شاغلني / وباله خالي. كما كان لكلا من على المساح وفلاح الكبير نصيب من نفض ذلك الغبار فجال الكاتب في تضاريس كل مبدع نساه التاريخ او لم يعطيه حقة وتعريف الأجيال الجديدة به وتعمق في خريطة إبداعاته الفنية فكانت أنشودة الإبداعات اول سفر جمع بورتريهات للمبدعين من شعراء وفنانين وموسيقيين من العيار الثقيل على وزن محمد عبد الوهاب والسنباطي وزرياب فوقع الاختيار على كلا من الموسيقار بشير عباس وإسماعيل عبد المعين.
بورتريه مصطفى سيد احمد: المتمرد عاشق الحقيقة المرة
كما كان حصيفا في اختيار ايقونات بألوان الطيف من أهل المغنى فمنهم من له نكهة الوطنية السياسية والذي سكنه الوطن وشغلته همومه فتغنى له ومن على البعد فتردد صداءه في داخل الوطن وفي دواخل اهلة الغلابة فتغنى للفقراء والكادحين وقد مس تياره الكهربائي شريحة كبيرة من المجتمع السوداني لما تناوله من قصائد تعزف على وتر العدالة وضد الظلم والطغيان. كان مصطفى سيد احمد يمسك بتلابيب روحك فتفزع ولكن سرعان ما تدرك انه فزع من اكتشف السر. وقد ملا مصطفى سيد احمد دنه من قصائد تعبر عن عصير الحياة السودانية المستعصية على كاميرات من يتعاملون مع الوطن بمنطق الرحالة، ومع الكتابة بمنطق السياحة كما تغنوا وغنوا معه ونسجوا من أغانيه شعارات رددوها في اقوالهم:" والله نحنا مع الطيور ألما بتعرف ليها خرطة ولا في ايدها جواز سفر/ نمشي في كل المدائن .........."و في بقول غنوات: "شليل وينه / شليل ما راح شليل ما فات/ ........
رسم الكاتب بورتريه لمصطفى سيد احمد بريشة فنان حريف فظلل كنتور شخصيته بخطوط عريضة لا براز معانيها ومضامينها فصارت لوحة ثلاثية الأبعاد وشهد له الكاتب بانه حقا 'حالة استثنائية ' وله لونية غنائية خاصة وتراكيب جمل لحنية مختلفة ايضا تحمل في أحشائها رسائل وطنية وثورية ، وعاطفية عميقة مرتبطة بقضايا الناس وأحلامهم مؤكدا معنى الحرية والعدالة الاجتماعية وكل ما تغنى به كان من كبد الفنان الى قلب الوطن.
بورتريه الشاعر عبد المنعم عبد الحي: أسطورة السندباد الجميل
عند استعراضه للمبدعين من شعراء والذين رفدوا الساحة الغنائية بأشعار تجلت بالبلاغة وسحر البيان وفسيفساء على جدارية كلا، ومنهم الشاعر المعتق عبد المنعم عبد الحي الذي اثرى الساحة الغنائية بعدد لا يحصى من القصائد مقدمة في طبق من ذهب الى فطاحله المغنيين. ومنهم: عثمان حسين، ابوداؤود وحسن عطية والجابري والشفيع وسيد خليفة وحمد الريح والتاج مصطفى. كان الكاتب لماحا عند اختيار عناوين الفصول لرسم بورتريه المبدع فأحسن الاختيار لبورترية الشاعر عبد المنعم عبد الحي فكان اخاذا يحكي عمق مشاعر الارتباطات الوجدانية بجنوب السودان فجاء العنوان عاطفيا وحنينا :" انا ابن الجنوب سكنته قلبي" وكانت الحميمية في هذا العنوان عكسها شعور كل من الشاعر والكاتب ، وحيث وان العبارة حملت في احشاءها قضية الجنوب كاملة مجسده شريط بتفاصيل تلك المأساة التي أدت الى انفصال الجنوب من الشمال وذهب مع الريح ذلك الجزء من الجسم الذي بتر فتألم له باقي الجسد واصيب بحمى الضنك.
بورتريه الفنان الذري ابراهيم عِوَض: محترف الدهشة
أحدث ابراهيم عِوَض انقلابا في اداء الاغنية السودانية وقد نقلها علي إيقاعات خفيفة راقصة تحكي السامبا وتأثر به الشباب وامتد ذلك عبر اجيال متعاقبة. كان ابراهيم عِوَض منصة للتناغم العاطفي محدثا نقلة نوعية في الالحان وادخال الآلات الوترية فقدم مدرسة غنائية جديدة وبمقياس عصرنا هذا كانت نقلة على المركبة الفضائية المسمار الى كوكب المريخ فاستحق ان يتوج ملك الاغنية العاطفية والإيقاع والموسيقى الراقصة. كان مثيرا للدهشة بما قدمه من جديد بجانب الفن المتميز كذلك تقديم الجديد في عالم الأزياء والموضة. كان فنان مختلف في كل النواحي: الساعة في اليد اليمين وشقة الشعر وسن الذهب والبدلة الحمراء فحقا كان أيقونة متفردة ومدهش حقيقة وقد أحدث هزة قوية في الأوساط الاجتماعية بلغت اقصاها بمقياس رختر.
بورتريه الطيب عبد الله: زهرة البنفسج ينشر البهجة
اما ألفنان الطيب عبدالله فلم ينسى له الكاتب أنه كزهرة البنفسج ينشر البهجة وهو حزين لماضية المثقل بما يحزن والذي تشبعت به روحة ، كما لم ينسي له وسامته الناتجة عن كونه هجين من دم سوداني- يمني.
تغنى بالكثير من القصائد الخالدة ومنها:' يامن فاح طيب رياه ‘، ’ وأول نظرة، أضيع انا وقلبي يزيد عناه',
'ويا فتاتي' والتي حظيت بانتشار واسع، 'ولقيته واقف منتظر' هذه الاغنيات صادفت رواجا كبير بين الناس
وصارت تستخدم بعض من أجزاءها في حديث الناس العادي: " نفس الملامح والشبه"، مما يدلل على ان للإنسان السوداني إذن صاغية لكل ما هو جميل وانه شعب لماح وذكي قادر على تطبيق ما يسمعه على المواقف الاجتماعية المختلفة.
ختاما وفي مجمل القول: ابدع د. مرتضى الغالي في انتاج هذا السفر وليس بوسعنا ان نقول اكثر من:
" يموت الزمار ويده بتلعب".
وللمراجعة بقية في الجزء الثاني: نفض الغبار الناعم عن بعض الملفات لشعراء وفنانين في ارشيف الفن السوداني من خلال ما عرضه كاتب كتاب:' الدراويش الطرابى: لمحات من فن الغناء السوداني' والتي عبرت عنها ريشة الفنان التشكيلي بنافذة الخشب القديمة وإطلالة ايقونات الفن السوداني من خلالها.
kargwell65@yahoo.co.uk
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: مصطفى سید احمد هذا السفر
إقرأ أيضاً:
من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. منتهى الطموح
#منتهى_الطموح
من أرشيف الكاتب #أحمد_حسن_الزعبي
نشر بتاريخ .. 28 / 5 / 2014
أنا أحتاج إلى غسيل دماغ حقيقي، يا حبّذا لو كان بالبخار أولاً ثم بالديزل المغشوش، لأتخلّص من عوادم الأخبار التي تلتصق بقاع التفكير، وزيوت الإحباط التي تملأ محيط العقل، أترك بعدها هذا الرأس مفتوح الجانبين ليتشمّس قليلاً ويتطّهر من خبث الأحداث والمعادلات الصعبة.. بالخلاصة أتمنّى لو أني «تنك مصفاة» أخضع لصيانة دورية وإجبارية من مأمور الصيانة.
منذ فترة يراودني تفكير مهمّ أن أعتزل كل شيء: الكتابة، الأخبار، والأخبار العاجلة، الأصدقاء الجدد، واجبات العزاء والمباركة، ضرورات النقوط، والمسلسلات السورية.. أشتهي أن أكون كما كنت، ألفّ شماغاً قديماً حول عنقي، مرتدياً ملابس رياضية ثقيلة.. بأحد جيوبها زجاجة «أبو فأس» مقاوم الرشح، أمشي بعيد المغرب محدودب الظهر إلى أقرب فرّان تفوح منه رائحة الطحين وصوت رقّ العجين، أحضر خبزاً شهياً وساخناً مثل كل الدراويش، أسلّم على أحد الجيران بحاجبيّ لصعوبة إخراج يميني من جيبي، أغلق باب بيتنا الكبير بهدوء، أضع خشبة ونصف بلوكّة على باب خمّ الدجاجات، ثم أنهي بطريقي شجار قطط غريبة تحت النافذة الشرقية .
مقالات ذات صلة إعلام: العثور على صاروخ مجهز للإطلاق على بعد 10 كيلومترات من مطار بن غوريون (فيديو) 2024/11/05منتهى الطموح أن أراقب الأطفال يتابعون باهتمام «توم وجيري» وقت الأخبار، بيدي رواية لنجيب محفوظ وإبريق شاي بليد تنتهي السهرة قبل أن يغلي، في المقابل إبريق وضوء بلاستيكي في درجة الغرفة يحمل شيئاً من الماء الساخن يكون سبباً في تحذير الصغار من الاقتراب منه. منتهى الطموح أن يرن هاتف البيت فأترك فروتي وأنهض مسرعاً لأرد على المتّصل بجواب مقتضب «لا خيّوه النمرة غلط»، فتسألني أمي عن هويّته فأجيبها «واحد بدّه جرّة غاز»..
منتهى الطموح أن أتغطّى بلحافي القديم، زمن التوجيهي، وأنا أرتجف فراغاً ونقاءً.. منتهى الطموح أن أنام.. فلا أسمع خبراً عاجلاً ولا انشقاقاً جديداً.. ولا موتاً مدبّراً يشعل الضوء الأحمر على مخدّتي.
احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com
#127يوما
#أحمد_حسن_الزعبي
#كفى_سجنا_لكاتب_الأردن
#متضامن_مع_أحمد_حسن_الزعبي
#الحرية_لأحمد_حسن_الزعبي