ألقى فضيلة الشيخ الدكتور فيصل غزاوي خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله، وقال: ليس كل أحد يحيا في هذه الدنيا حياة ذاتَ قيمة؛ إذ هناك حياة خاصة حقيقٌ بالمرء أن يسعى إليها ليكون حيًا حقًا، وليجعل لحياته التي يعيشها معنى وأثرًا، فتعالوا عباد الله لنتعرف على هذه الحقيقة من خلال ما بيّن لنا ربنا -عز وجل- في محكم التنزيل، والمعاني المستفادة من ذلك النداء القرآني الجليل ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامنوا۟ ٱسۡتَجِیبُوا۟ لِلَّه وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمۡ لِمَا یُحۡیِیكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّه یَحُولُ بَیۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِه وَأَنَّه إِلَیۡه تُحۡشَرُونَ﴾.

أي: أجيبوا الرَّسول إذا دعاكم إلى ما فيه صلاحٌ لكم، وحياة طيبة نافعة لأبدانِكم وأرواحِكم في الدُّنيا والآخرةِ. ويَدْخُلُ فِي ذلك كُلُّ أعمال البِرِّ والطّاعَة كما قال تعالى: ﴿مَن عَمِلَ صالحًا مِن ذَكَرٍ أو أنثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّه حَياة طَيِّبَة ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
وبيّن تعالى أن من النَتائِج الوَخِيمَة للإعْراضِ عَنْ ذِكْرِ الله المَعِيشَة الضَّنْكَ؛ فقال جل في علاه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإنَّ لَه مَعِيشَة ضَنْكًا وَنَحْشُرُه يَومَ الْقيَامَة أَعْمَى﴾. قال ابن القيم -رحمه الله- بعد أن ذكر أقوال العلماء في معنى قوله: ﴿إذا دعاكم لما يحييكم﴾: “والآية تتناول هذا كله؛ فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي القلوب الحياة الطيبة، وكمالُ الحياة في الجنة، والرسولُ داعٍ إلى الإيمان وإلى الجنة، وهو داعٍ إلى الحياة في الدنيا والآخرة. والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة، حياة بدنه التي بها يدرك النافعَ والضار، ويؤثرُ ما ينفعه على ما يضره.. وحياة قلبِه وروحِه التي بها يميز بين الحق والباطل، والغي والرشاد، والهوى والضلال”.
وأضاف: حياة القلوب والأرواح لا تكون إلا بعبودية اللّه تعالى، والاستجابة للوحي، ولزومِ طاعة الله وطاعة رسوله على الدوام‏، فعلينا أن نستشعر دائمًا أن حياتنا الحقيقية إنما تكون في شرع ربنا ومنهجه، وبما يدعونا إليه الله والرسول من العلم والإيمان. وهذه هي الحياة النافعة التي تحصل بالاستجابة لله ولرسوله ظاهرًا وباطنًا، فَيَمْتَثِلُ العبد المَأمور بِه، ويَجْتَنِبُ المَنهِي عَنْهُ، فَيؤُولُ إلى الحَياتَيْنِ الطَّيِّبَتَيْنِ الدُّنْيَوِيَّة والأُخْرَوِيَّةِ. ومن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات.
ولا عجب، فقد بيّن تعالى حال من جعل همَّه طولَ الحياة مع إعراضه عن عبودية ربه فقال سبحانه: ﴿ولَتَجِدَنَّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ﴾، فهم أشد الناس حرصًا على الحياة مهما كانت مهينة ذليلة، وليس شرطًا عندهم أن تكون حياة كريمة عزيزة، بل كيفما كانت، حتى لو عاشوا حياة الدواب والبهائم والأنعام، مقتصرين على شهوة البطن والفرج، فتعسًا لهم! وبئس العيش عيشهم الذي يعيشون! ولسوف يندمون يوم لا ينفع مال ولا بنون؛ فقد أضاعوا أيام حياتهم الحقيقية التي سيجد الواحد منهم غب إضاعتها يوم يقول ﴿يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾.
وبيّن الشيخ غزاوي أن في الاستِجابة لله والرسول حياة القلبِ والعقل، وحياة النفس والمُجتمع، وحياة الأمة كلِّها.
ومما يستفاد من قوله تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامنوا۟ ٱسۡتَجِیبُوا۟ لِلَّه وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمۡ لِمَا یُحۡیِیكُمۡ﴾ ذلك أنَّه يَجِبُ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ إذا بَلَغَه قَوْلُ اللَّه أو قَوْلُ رَسُولِه في حُكْمٍ مِنَ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّة أنْ يُبادِرَ إلى العَمَلِ بِه كائِنًا ما كانَ، ويَدَعَ ما خالَفَه مِنَ الرَّأْي وأقْوالِ الرِّجالِ، كما أن في هذه الآية الشريفة أعظم باعث على العمل بما جاء في الوحيين، وعدم الاعتداد بما يخالف ما في الكتاب والسنة كائناً ما كان.
وأكد أنه إذا استجاب المرء لله ولرسوله واهتدى بالقرآن، وعمل بما فيه، حصلت له الحياة الطيبة، وكان على الهُدى والرشاد. وإذا قام العبد بطاعة ربه وعبوديته مخلصًا له فكل ما يجري عليه مما يكره يكون خيرًا له، وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له.
وقال: ما أجملَ الحياة في رحاب الإيمان! وما أطيبَ العيشَ في طاعة الرحمن! فالمستجيبون لله ولرسوله هم أهل الفلاح، وهم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياءَ الأبدان؛ ولهذا كان أكملُ الناس حياة أكملَهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ كلَّ ما دَعا إليه فيه الحَياة، فمَن فاتَه جُزءٌ منه فاته جزءٌ من الحياة. وفيه من الحَياة بحسَب ما استجَاب للرسول صلى الله عليه وسلم. وبهذا ينتقل المؤمن بِعِزِّ الإيمانِ والعِلْمِ عَنْ حالِ الكَفَرَة مِنَ الصَّمَمِ والبَكَمِ وعَدَمِ العَقْلِ الَّذِي هو المَوْتُ المَعْنَوِي إلى الحَياة المَعْنَوِيَّةِ. فلا حياة ولا سعادة ولا طمأنينة إلا في الاستجابة لله وللرسول، ولا ضيق ولا كدر ولا ضنك في العيش إلا بالبعد عن شرع الله -جل وعلا-. وهذا ما يفسر لنا تغيرَ حال من كان كافرًا ميت القلب، مغمورًا في ظلمة الجهل؛ فهداه الله للحق، ووفقه للإيمان، وجعل قلبه حيًا بعد موته، مُشرقًا مُستنيرًا بعد ظلمته كما قال -عز وجل-: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاه وَجَعَلْنَا لَه نُورًا يَمْشِي بِه فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُه فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾، فقد ذهب عنه بعد إسلامه ما كان يجده من القَلق والحَيرة الشديدة والضيق القاتل والكآبة والأمراض النفسية، وأصبح بعد استجابته للحق يشعر بقيمة حياته وسكون نفسه وصفاء روحه وسعادة قلبه، ويعرفُ مبدأه ومنتهاه وسِرَّ وجودهِ، وغاية خَلْقهِ، حتى إن منهم من يصف حاله بقوله: ولدت من جديد. وكذا من كان بعيدًا عن الله من عصاة المسلمين عندما تاب وأناب وعاد إلى رشده وجد طعم الإيمان، وأحس بلذة العبادة، وأنس بذكر ربه، وهو يَعُدُّ تلك السنين التي عاشها في غفلة قبل التوبة قد ضاعت من عمره، وذهبت من حياته سدى. وهكذا فكل داع إلى طاعة الله ورسوله هو داع إلى الحياة الطيبة النافعة، وله مثل أجر من دعاه فاهتدى واستضاء بنور الوحي وصار بالإيمان حيًا.
وأوضح إمام وخطيب المسجد الحرام أن الضلال والشقاء متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، والله سبحانه يجمع بين الهدى وانشراح الصدر والحياة الطيّبة، ويجمع بين الضلال وضيق الصدر والمعيشة الضنك.
‏وتناول الشيخ فيصل غزاوي قوله تعالى: ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّه يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ﴾؛ إذ إن فيه بيانًا أن قُدْرة الله وعلْمه وإِحاطته حائلة بين المرء وقلبه، وهو القادِرُ عَلى الحَيْلُولَة بَيْنَه وبَيْنَ ما يَشْتَهِيه قَلْبُه، وأنه سبحانه يحجُزُ بين العَبدِ وقَلبِه إذا شاء، فلا يستطيعُ المَرءُ أن يُدرِكَ ويعِي به شيئًا مِن حقٍّ أو باطلٍ، إلَّا بإذنِ الله تعالى، فقُلوبُ العباد بِيَدِ خالِقِها سُبحانه، يُصَرِّفُها ويُقَلِّبُها كيف يشاءُ.
وحذر مِن تَرْكِ الاستجابة لِرَسولِه إذا دعانا لِما يُحيِينا، أو أن نردَّ أمْرَ الله حين يأتِينا، أو نتثاقلَ ونتباطَأَ عن الاستجابة له، فمن وقع في ذلك فإنه لا يأمن أن يحول الله بينه وبين قلبه؛ فلا يمكّنه بعد ذلك من الاستجابة إذا أرادها، عقوبة له على تركها بعد وضوح الحق واستبانته.
وأما ختام الآية، وهو قوله تعالى: ﴿‏وَأَنَّه إِلَيْه تُحْشَرُونَ‏﴾‏، أي: واعلَمُوا -أيُّها المؤمنونَ- أنَّ إلى الله تعالى مَصيرَكم ومَرجِعَكم يومَ القيامةِ، فتُجمَعون إليه وَحْدَه، فيُوفِّيكم جزاءَ أعمالكم التي عملتموها في الدنيا؛ إنْ خَيرًا فخيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ.
وأوصى الشيخ فيصل غزاوي المسلمين بأن يعتبروا بمن فقد الاستجابة لله ولرسوله فمات قلبه وهلك -عياذًا بالله- وأن يبادروا للطاعات، ويتزودوا ليوم الحَشْر، والمسارعة في فعل الخيرات والاجتهاد في العمل، وعدم الاعتماد على ما يقع في قلوبنا من تأميل البقاء، وطول الأجل.. وما أحوج العبد إلى أن يتدارك بالتوبة ما هو فيه من الإعراض والغفلة، وأن يحقق الاستجابة في فترة المهلة قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه ندم ولا حسرة.
وقال: وها نحن الآن في شهر رجب أحد الأشهر الحرم التي يجب أن نستشعر مكانتها، ونراعي حرمتها، استجابة لأمر الله -عز وجل- إذ يقول: ﴿إِنَّ عِدَّة الشُّهُورِ عِندَ اللّه اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أربعة حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ..﴾. قال قتادة رحمه الله: “إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء”.
* وفي المدينة المنورة تحدث فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالباري بن عواض الثبيتي عن قصة مريم ابنة عمران حين صمتت في موقفها العصيب، لتُعلمنا أن الإنسان يبلغ به الحال أحياناً مرحلة العجز حتى عن الدفاع عن نفسه، فإن علم أن الله وليّه وهو كافيه كفاه شرّ كل ذي شرّ، ودفع عنه بأس كل ذي بأس.
وأورد فضيلته قصة مريم حين أراد الله أن تنجب عيسى ابن مريم -عليهما السلام-. وفي قصص القرآن عظة وعبرة، ودروس لا تنضب، يغرسها القرآن، وتتألق راسخة بفصاحته وقوة بيانه.. مبيناً أن من عاش في رحاب القرآن علا قدره، واستبان له أمره، إذ احتفى القرآن بسيرة سيدة ماجدة، وامرأة فاضلة، وفتاة عابدة قانتة، خلّد القرآن ذكرها في سورة سمّيت باسمها، فاستشهد بقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ}، فقد زكّيت قبل ميلادها، وبزغ فجرها في بيتٍ صلاحه متسلسل، واصطفاؤه مستحق، أثنى الإله عليه بقوله: {إنَّ اللَّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}. فعمران والد مريم ابنة عمران أم عيسى ابن مريم عليه السلام، ولهذا قال سبحانه {ذُرِّيَّة بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وأوضح فضيلته أن البيت الذي يظلّله الدين، ويضاء بالطاعة، ويحيا بالذكر، ويدور مع الشرع حيث دار، بيتٌ كريمٌ، يخرج نباته طيباً، ويثمر بإذن ربّه ولو بعد حين. مبيناً أن امرأة عمران قبل الميلاد رسمت مستقبل ما في بطنها، وحدّدت له هدفاً سامياً في الحياة، فوصف القرآن نيّتها الصادقة؛ إذ قال تعالى حاكيًا دعاءها: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. مبيناً أن ذلك يعني أن الذي في بطني محرر لعبادتك، وحبسته على طاعتك، وخدمة قدسك، لا أشغله بشيء من الدنيا.
وبيّن فضيلته أن الدعاء للذرية أساس التربية، ومفتاح الصلاح والإصلاح، فلا يفتر لسان الوالدين عن اللهج به، ولا يغفل قلبهما عن استحضاره في كل وقت وحين.
ومن الخطورة بمكان أن تخرج الأم عن طورها حال الغضب والانفعال فتدعو على الذرية بالهلاك وعدم التوفيق، فيوافق ذلك ساعة إجابة.
وأضاف: إن امرأة عمران عليها السلام أحاطت النية الصادقة بدعاء خالص أن يتقبّل الله منها، فتقبّل الله دعاءها في مولودتها. قال الله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا..}. ورسم لها ولفتاتها بل ولكل فتاة مسلمة معالم الطريق في الحياة: السعي لرضا الله، والنبات الحسن بكمال الأدب والعفّة والحشمة، والصحبة الصالحة التي تعين على الطاعة والعبادة.
وبيّن الشيخ الدكتور عبدالباري الثبيتي أن القنوت والسجود والركوع من شكر المنعم الذي وهب لك الجمال، وجعلك مسلمة، ومتّعك بالصحة والعافية، وهو حصانة من منافذ إبليس وخطوات الشيطان، وهو موطن التكريم لمن رامت الكرامة، ومحراب العزة لمن ابتغت إلى ربّها سبيلاً. وقال فضيلته: إن الابتلاء سنّة الحياة، فقد ابتليت الصدّيقة مريم، فقد تنحّت واعتزلت عن قومها لتتفرغ للعبادة، فأرسل الله إليها جبريل فتمثّل لها في صورة رجل تام الخِلقة، بحسن فائق، وجمال رائق، فظهر منها الورع والعفاف، قالت: إني أستجير بالرحمن منك أن تنالني بسوء إن كنتَ تقياً، فقال لها: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً من غير أبٍ، علامة للناس تدل على قدرة الله تعالى، فأثنى الله عليها بقوله سبحانه: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيه مِن رُّوحِنَا}.
وتابع الشيخ عبدالباري الثبيتي قائلاً: إنه في أوج المواقف العصيبة والمحن يأتي الفرج ويمتد اللطف، مستشهداً بقول الله سبحانه: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}. فنتصوّر حالها وقد وقع الأمر عليها أن تصبح حاملاً بلا زوج، ولا مساس من رجل، حتى اضطرتها شدة الحال إلى تمني الموت {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}.
وحذّر فضيلته في الخطبة من اتهام الناس في أعراضهم وتصدير سوء الظن، وإصدار الأحكام قبل التثبّت، مبيناً أن ذلك إفكٌ وإيذاء بالغٌ، وبهتان محرّم، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وبيّن أن قصة مريم في موقفها العصيب تعلمنا درساً تاريخياً أن الصمت في بعض الأحيان أبلغ من الكلام، وأن السكوت أولى من النطق، وتعلمنا كراهة مجادلة السفهاء، فالسكوت عن السفيه واجب. ومن أذلّ الناس سفيه لم يجد مسافهاً.
وأضاف قائلاً: “من كان مع الله لا يحزن، ومن حفظه الله لا يقلق، ومن أقبل على الله قرّت عينه، ومن عاش في رحاب الدين حماه الله، وضمن له السلامة وهناء العيش، فلا ترهق نفسك بالتفكير، فالله عنده حسن التدبير، ولا تحمل همّ المستقبل، فالأمر كله بيد الله”.

المصدر: صحيفة الجزيرة

كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية الاستجابة ل الله تعالى ه سبحانه إلى الح ه تعالى من کان ما کان ل الله

إقرأ أيضاً:

دور الخطاب في تبليغ الرسالات السماوية وأثره في التأثير والإقناع

ما دامت العبادة هي علة وجود البشر وخاصية النطق والبيان، عن مكنون الأذهان، وهي سمة جوهرية فارقة ومميزة للإنسان عن الحيوان كخاصية الاعتقاد والإيمان بالغيب والقدرة على تجريد المعاني الكلية من المحسوسات والتعبير عنها بالكلمات التي يعجز عن القيام بها كل ما دونه من المخلوقات.. فإن أول رسالة للبشرية بيان بالخطاب، بدليل أن أول إنسان علم البيان ولقن الأسماء ووهب اللسان كما يتجلى ذلك في قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (إبراهيم / (4) .

وفي ذلك أقوى الأدلة على أهمية الخطاب في تبليغ الرسالات ومنهج السماء لدى جميع الأنبياء والمرسلين، ودور اللسان الذي يمثل الأداة الأولى في الخطاب، والمقصود باللسان في القرآن هو اللغة وحاسة الذوق في الوقت ذاته، كما تعبر عنه الآية: {ولسانا وشفتين} (البلد) علما أن لفظ اللغة" لم يرد ذكره في القرآن أبدا، فدائما اتنت اللغة متضمنة في لفظة "اللسان" كما هو واضح في الآيتين المذكورتين {ولسانا وشفتين} و{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}.

إن أول رسالة للبشرية بيان بالخطاب، بدليل أن أول إنسان علم البيان ولقن الأسماء ووهب اللسان كما يتجلى ذلك في قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}..وهذه الآية الأخيرة تدل على أن الله سبحانه وتعالى يهدف من وراء إرسال الرسل بألسنة أقوامهم إلى التأكيد على أهمية الخطاب، ودور اللسان في الجدل بالحجة العقلية والبرهان والإقناع بالمنطق، والإفهام والشرح من باب "خاطب الناس بما يفهمون" وهو ما يعني من جهة أخرى أن اللسان بالنسبة للنبي والرسول هو مثل السمة أو الصفة البشرية له. حتى يسقط بها الله ذرائع الكفار في التحجج بعدم معرفة ما يبلغون به عن طريق الرسول الذي يبعث من بينهم وبلسانهم.. حتى لا يقولوا لم نسمع الكلام، أو لم نفهم لغة الخطاب، ولذلك جعل الله الرسل من البشر وجعل العنصر الإنساني والعنصر اللساني أو الخطابي، هما جوهر الرسالة الربانية في ضبط وتبليغ التكليف للبشرية ..

إن في خطاب الله لجميع الأنبياء والمرسلين بدءا بآدم إلى محمد ﷺ مرورا بموسى عليه السلام الذي خصه الله بالخطاب المباشر {وكلم الله موسى تكليما} (النساء / (164) {إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} (النازعات / (16) {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} ( طه / 44.43) ما يفيد من التوجيه الإلهي إلى الرسل أن يكون خطابهم لينا وجيدا ومؤثرا. وليس منفرا للسامع المدعو إلى المنهج القويم، وفي معنى الآية {وكلم الله موسى تكليما} ما يفيد التشديد الإلهي على أهمية الخطاب في تبليغ الرسالات من الله إلى الرسل، ومن الرسل إلى البشر، بمن فيهم الطغاة مثل النمرود مع إبراهيم وفرعون مع موسى وهارون .

كما يؤكده أيضا قول موسى لربه عند تلقي رسالة تكليفه {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون} (القصص / (34) ويدل في الوقت ذاته على أن محتوى الخطاب الرسالي كله كلام مفيد، يتطلب مرسلا أو مبلغا ومتلقيا، وأن حاجة الإنسان إلى الكلام والخطاب ضرورية في حياته كما قلنا)، كدعاء موسى {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا} (طه / 25، 34)، وتسبيح يونس ومناجاته ربه في بطن الحوت: {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} (الصافات / (144) و{أمّن يجيب المضطر إذا دعاه} (النمل (62) و {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما} (يونس / 12) أو مخاطبة الإنسان بني جنسه، والتواصل معهم في كل ظروف الحياة وأوضح ما تتمثل فيه قيمة التواصل والتخاطب في حياة البشر واستئناس الإنسان بالكلام من ومع أخيه الإنسان هو وضع المذنبين في السجن الانفرادي كأقسى أنواع العقوبات المعنوية، حيث يحرم فيه السجين من الاتصال والتخاطب إرسالا أو استقبالا مع بني جنسه.

إن كل ما أنزل فى القرآن وما أرسل من رسل مبني على الكلام بدليل أنه لم يبعث رسولا فاقدا لحاسة السمع والنطق لكون رسالة الرسول الأساسية هي البلاغ، بنص قوله تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ} (العنكبوب / (18) و{إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر } (الغاشية / (22) وقوله {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم / 4.3) .

وهل يوجد بلاغ للشعوب والأمم بغير الوسيلة الأولى للتبليغ، وهو الخطاب الشفاهي أولا ثم المقروء بعد تقدم البشرية واختراع الحروف، مثلما هو معمول به في القرآن الكريم، ثانيا .

إن القرآن كله خطاب رباني منطقي مقنع (محكمه ومتشابهه) يدعو إلى التعقل والتدبر والاستنباط والاقتناع والإقناع بالحجة العقلية والبرهان والدليل على ذلك نلمسه في ثلاث آيات بينات معبرة عن دور الخطاب القرآني وأهميته في التأثير على النفوس والأذهان لدى الإنسان.

1 ـ قوله تعالى في وصفه لموقف المشركين من القرآن الكريم بأنهم كانوا: {وهم ينهون عنه وينأون عنه} (الأنعام (26) ينهون عنه الناس مخافة أن يتأثروا بخطابه الآسر وحجته القوية المفحمة التي لا يقدرون على دحضها ... وينأون عنه وهم أرباب الفصاحة والبيان، خوفا على أنفسهم من عدم القدرة على مقاومة التأثر به... كمن يبتعد عن النظر إلى أشعة الشمس الساطعة في وضح النهار، مخافة فقدانه حاسة الإبصار !!

2 ـ قولهم: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} (فصلت (26) وهم بذلك يقرون بأن الغلبة التي يطمعون فيها ليست بنفس الحجة والوسيلة التي برعوا فيها وتحداهم الله بها. وهي الفصاحة والبيان، كما يظهر ذلك في قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} (الإسراء / (88) ، فقد تحداهم أولا بأن يأتوا بعشر سور مثله إن كانوا يرون أنه مفترى بقوله: {أم يقولون افتراه، قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون} (هود / 14.13) ، فلما انقطعوا وقامت الحجة عليهم تحداهم بأن ياتوا بسورة من مثله، وأخبر أنهم لن يفعلوا، حيث قال: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} (البقرة/ 23 24).

إن القرآن كله خطاب رباني منطقي مقنع (محكمه ومتشابهه) يدعو إلى التعقل والتدبر والاستنباط والاقتناع والإقناع بالحجة العقلية والبرهان.ويشمل هذا التحدي قصار السور كما يشمل طوالها، فهو تحداهم بسورة الكوثر والإخلاص والمعوذتين والنصر ... أو أية سورة يختارونها، ومن المعلوم أن العرب لم يحاولوا أن يفعلوا ذلك فقد كانوا يعلمون عجزهم عنه، ورأوا أن سبيل الحرب والدماء وتجميع الأحزاب أيسر عليهم من مقابلة تحدي القرآن. وبعد هذا العجز الكلي عن التحدي، كما هو ثابت، عمدوا إلى التشويش على كلام الله، واللغو فيه كما سبق، والتعتيم عليه، وهو في ذاته اعتراف ضمني منهم، ودليل على قوة الخطاب القرآني في التأثير على العقل الإنساني الفطري السليم الذي لم يحط به الران، فقفل عليه منفذ النور المبين، ولعل في طريقة إسلام عُمر رضي الله عنه  دليلا على ذلك، إذ مكنه الله من سماعه في بيت أخته في الوقت المناسب، قبل أن يختم على قلبه مثلما وقع للمكابرين كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهم..

وإننا نعتقد جازمين أنه لو وجد الكفار في الخطاب القرآني شيئا مما ينفر الناس منه ولا يجذبهم، ويبعدهم عنه ولا يقربهم.. لحثوا هم أنفسهم الناس على سماعه ليتخذوا منه حجة عليه، ولكن نهيهم الغير عن سماعه والنأي عنه، ثم الأمر باللغو فيه، للحؤول دون سماعه الجيد من الغير، لإدراك معناه ومغزاه الذي أدركوه، لدليل قاطع على إدراكهم لخطورة تأثيره على عقول أتباعهم، وهو تأكيد لمصداقية قوله تعالى: {إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} (يونس / (67) و (الروم / (23) ولتؤكد لنا هذه الآية أيضا على أن الأصل في العلم هو السمع، والسمع هنا أتى بمعنى العلم والعقل ... مثل كلمة (انظر) التي تأتي بمعني اعقل واعلم وتدبر.

قولهم: {ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} (الزخرف/ 30 ـ 11) دليل أيضا على أن أئمة الشرك والكفر البلغاء والفصحاء والشعراء يدركون في قرارة أنفسهم قوة الخطاب القرآنى مبنى ومعنى، وعجزهم على تحديه بالإتيان بمثله، كما أسلفنا ، أو بالافتراء عليه بقولهم على المنزل عليه الذين هم متأكدون من أميته وعدم القدرة على أن يأتي بمثله من عنده ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر" (النحل/ (103) وسماعهم الرد من السماء على ذلك الافتراء بما أبهتهم بقوله المباشر: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} (النحل (103) أي هو لسانكم وكل حروفه ومخارج كلماته ومادة تركيبه وبنائه وبيانه من مخارج حروفكم، ومادة كلامكم وبيانكم ومعلقاتكم !!

إن اصطدامهم بهذه الحقائق كلها دفعهم إلى التخلي عن مجابهة القرآن في ذاته والتصادم معه بسلاحه واللجوء إلى صب جام غضبهم وحقدهم على متلقيه، حسدا له عليه واستخسارا له فيه، وهو اليتيم الضعيف الذي اتبعه الأرذلون والفقراء والضعفاء (كما قالوا)، وإن ترشيحهم لعظيم من عظمائهم لتلقي هذا التنزيل الحكيم في قرارة أنفسهم لدليل على أن رفضهم وغضبهم وسخطهم كان على المنزل عليه وليس على المخاطبين به في ذاته، بعد أن عجزوا عجزا مطلقا على رفع تحديهم له باللسان والبرهان والبيان، وفشلوا في محاربته بمادة خطابه من الألفاظ والحروف والكلمات، فعمدوا إلى محاربته بالسنان والحراب والدسائس والمؤامرات والتحالفات مع اليهود ونقض العهود..

وإنهم لم يطعنوا في القرآن ذاته لقوة حجته كما هو ثابت، ولكنهم ظلوا يطعنون في المنزل عليه بقولهم: إنه ساحر وشاعر ومجنون.. علما أنهم لم يصفوه بالأمية، لأنهم يدركون أنها صفة تشرفه، وليست مذمة تحط من قيمته، ومع ذلك فقد حاجهم القرآن، وأبطل كل ادعاءاتهم وقوضها من أساسها، كما فضحهم وكشف عن خفايا نفوسهم بقوله تعالى عنهم، وعن تأثير آياته فيهم {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين }(النمل ( 14) .

إن العبادة هي طاعة أمر المعبود بــ (افعل ولا تفعل)، كما قلنا. الأمر لا بد له من خطاب لتبليغ شروط التكليف إلى العباد، وأن الدليل على علاقة الخطاب بالعقل وعلاقة العقل بالتكليف، هو رفع القلم عن الصبي والمجنون، وعدم التوجه إليهما بالخطاب، وهذا ما يتبين في معنى الآيات مثل: "تعقلون"، "تسمعون"، يتدبرون"، "يتفكرون.. وذلك تأكيد على تمشي الخطاب القرآني مع مستوى نضج العقل الإنساني حيث أتى كله خطابا معجزا في ذاته، دون حاجة إلى معجزة مادية تدعمه في حينه، مثلما حصل مع خطابات غيره من الأنبياء السابقين.

ومما جعله يتسم بتلك الأوصاف، ويتميز بتلك الخصائص المعجزة كلها، هو ربطه بين القول المجازى عليه، مثل الفعل، وبين الإيمان المرتبط بالعمل والمجازى عليه مثله، والذي يتضمن في معناه القول والفعل معا، والذي يشمله ويجمله الله تعالى في قوله: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (الزلزلة / 8,7) ويلخصه صاحب الأرجوزة الفقهية ( ابن عشير) في بيته الشهير بقوله :

فصل وطاعة الجوارح الجميع

قولا وفعلا هو الإسلام الرفيع


ولهذا جعل الإيمان المجرد وحده غير ذي جدوى، بدون تزكيته بعمل الصالحات، وهو ما نلاحظه على امتداد الخطاب القرآني كله حيث لا نجد فيه كلمة الإيمان إلا مقرونة بالعمل الصالح، ولا نجد القول إلا مقرونا بالفعل : {يا أيها الذين آمنوا لٍمَ تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف / (32) .

إن القرآن هو الفارق والفاصل بين الحق والباطل الذي لا فرقان بعده، لأنه هو آخر خطاب الرسالات التي تميزت بتكامل القول فيها بعمل الجوارح، بحيث ورد فيها أن عمل اللسان وحده قد يساوي عند الله وفي الحياة أكثر من عمل الجوارح في كثير من الأحيان.

إن العبادة هي طاعة أمر المعبود بـ (افعل ولا تفعل)... والدليل على علاقة الخطاب بالعقل وعلاقة العقل بالتكليف هو رفع القلم عن الصبي والمجنون، وعدم التوجه إليهما بالخطاب.إن الخطاب أتى مرتبطا بالسمع أساسا في كل الرسالات {وقال ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني} (الأعراف / (143) . إن مجال السمع لدى الإنسان أوسع بأضعاف من مجال البصر ومجال الرؤية.. فنحن نسمع عن فعل الرسول ولا نراه ونسمع عن معجزات الرسول وكل الأنبياء الذين بعثوا من قبله، بالخطاب القرآني فقط، ولا نراها أبدا. فكلها نعرفها من خلال سماع القرآن والمتمثلة في قوله تعالى في آيات كثيرة عن الأقوام الأولين مثل قوله : {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين} (القصص / 44) {وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين، وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما آتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون} (القصص / 46_45)، و{نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (يوسف (3) ولهذا السبب كانت معجزات الأنبياء كلها مشاهدة لأقوامهم بالحس واللمس، ونحن لا نعلم عنها إلا ما نبأنا به القرآن عنها. إلا معجزة الرسول الخاتم الأعظم، فهي معقولة ومسموعة ودائمة وقائمة بالبرهان العقلي الصامد المتحدي للإنسان في كل زمان ومكان. وإن هذا الطابع المحلي والمرحلي الخاص بالأنبياء السابقين، هو الذي بينه الله في القرآن بإعطائه صفة الشمولية في الخطاب الخاص الموجه لكل البشرية بقوله : {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} (سبا / 28) و{قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} (الأعراف / (158) و{ يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم} .... (يونس / 104) بدليل أن كل الأنبياء والمرسلين السابقين ناداهم الله بأسمائهم الشخصية ( يا آدم)، (يا نوح)، (يا صالح) (يا هود). (يا إبراهيم) (يا لوط) (يا شعيب يا موسى) (یا هارون) (يا يحيى)، (يا عيسى) ... إلا محمدا فقد خاطبه الله دائما ب {يا أيها النبي حرص المؤمنين على القتال} (الانقال / (65)، و{ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} .... (المائدة / (67) .

ومن الأمثلة الواضحة على أهمية الخطاب فى حياة الكائن الإنساني الذي خلقه الله ليعبد ربه من خلال المنهج الذي يحدده بالدين عن طريق الرسل، هو جعله الرسالات السماوية متدرجة في معجزاتها الرسالية من الملموس والمنقول إلى المجرد والمعقول، وإن جوهر الإيمان في الحقيقة لا يكون إلا غيبا، والغيب لا يكون إلا مجردا ومعقولا، وهذا ما نجده واضحا في قوله تعالى في أولى آياته البيئات: {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب....} ( البقرة / 3.1) ....

وإذا كانت الحواس تخاطب بالمادة المحسوسة والملموسة، كما قلنا، فان العقول لا تخاطب إلا بالمعقول المجرد وحده( أي الإيمان بالغيب) ولا وسيلة لنقل المعقول وتبليغه إلى السامع إلا بالقول والخطاب والكلمة التي تخرج من العقل باللسان إلى الأذن والفؤاد عن طريق الصوت والنطق والتبليغ بالقول المعقول (مسموعا أو مكتوبا أو مقروءا أو منقولا)، {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ...} (المائدة (67). بالكلام والخطاب القرآني والبياني المعجز والمقنع للذين يؤمنون بالغيب عقلا وحده، والتكليف كله مناط المعقول( المقول منه والمنقول !!)

ومن دلائل ارتباط الإسلام بالسمع والكلام والخطاب هو اكتفاء الله تعالى في تبليغ الدين الخاتم بالخطاب وحده في وقوله: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} (التوبة / (6) بما يعني أن في الخطاب القرآني وحده ما يكفي لإقناع العقل السليم فطريا بالحق، فيتبعه دون أن يدعم بأية معجزة مادية أخرى.. وأن السماع هنا وحده يكفي لإقناع الإنسان برسالة السماء في القرآن، بما فيها من حجة وقوة إقناع وبرهان، وتأثير في النفوس والعقول السليمة، إلا المريضة منها والمكابرة المتعصبة، استنكافا واستكبارا عن دين الحق دون مبرر مقنع، وهذا ما يكشفه الله في سورة الإسراء (الآيات 90 ـ 93).

وإن ما يدل على مبدأ الإقناع بالتي هي أحسن وأعقل، ومخاطبة العقول بالكلام المعقول في القرآن هو الخطاب الواضح الذي يتمثل في قوله تعالى: (حتى يسمع كلام الله) ولم يقل حتى يرى أو يشاهد آية الله المادية (مثلما طلب المشركون)، في آيات الإسراء المذكورة، فقد قال (يسمع) والكلام هنا هو القول والقول هو ترجمان العقل، وصورته الخاصة التي يتحمل الإنسان الناطق المفكر والعاقل مسؤوليته كاملة فيما يقول وما يفعل بالعضلات، كما قلنا، وهو ما يتمثل في قوله تعالى {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق) (18) وقوله: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية (29) والعمل هنا كما قلنا، هو القول والفعل معا، وقوله أيضا: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} (الكهف/ (5)، وقوله : {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ، لا مبدل لكلماته، وهو السميع العليم }(الأنعام / (115) ، تدل كلها على ثقل الكلمة وأهمية الخطاب ودوره في الدعوة والتبليغ، وتلخصه كله الآية الكريمة {يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا ، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا، إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} (المزمل (51)، والقول الثقيل المقصود هنا هو هذا القرآن الذي تعهد الله بحفظه بنفسه من التحريف، وهي ميزة خاصة بالخطاب الثابت والخالد والصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وهو كلام وقول ثقيل كله خطاب للعقل والقلب وعلة تنزيل القرآن وثقله وإعجازه متضمنة في داخله.

ومعجزته في نصه، الذي يخاطب كل العقول والأذهان في كل زمان ومكان، مع مسايرة التطور والتدرج في الخطاب، تمشيا مع تطور عقل الإنسان في كل ميدان دون تناقض أو زيادة أو نقصان {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (الأنعام (38) مما يثبت اكتمال الرسالة السماوية الخاتمة المستوعبة في القرآن الكريم، التي كانت كلها خطابا معجزا ووعدا منجزا بالحق المبين نابضا بالصدق اليقين، موضحا لمعناه محصنا لمبناه بالحفظ المؤكد في النص ذاته بقوله تعالى: {إنا نحن نزلناذكر وإنا له لحافظون} (الحجر / (9).

ودون الخروج عن الموضوع الذي يهم إظهاره هنا، وهو نوع هذا الخطاب وخصائصه وعوامل تأثيره في نفوس المخاطبين، سنواصل الحديث تفصيلاً فيه بالنسبة للخطاب الإسلامي في القرآن كتاب هذا الدين الدائم والشامل والكامل، الذي قال عنه تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة / 3)  صدق الله  العظيم.

مقالات مشابهة

  • ترامب يطلب من بوتين الحفاظ على حياة آلاف الجنود الأوكرانيين
  • المحافظة على روحانية الشهر الفضيل
  • خطبة الجمعة بحضور الرئيس السيسي.. عبد الباري: كلما احتدم الصراع لا يجد الحر في العالم إلا جيش مصر وقائدها.. فيديو
  • خطيب مسجد المشير: الشهداء أعلى مكانة من غيرهم يوم القيامة.. فيديو
  • خطبتا الجمعة بالحرمين: الزكاة والصدقة تنفيان عن المجتمع وحر الصدور وغلها وتشيعان المودة والرحمة بين الناس
  • دور الخطاب في تبليغ الرسالات السماوية وأثره في التأثير والإقناع
  • جدل حركة الحياة والتاريخ
  • الوقف.. «الصدقة الجارية»
  • بعد 41 عامًا من الغربة والشتات..حيث الانسان من مارب ينهي فصولا مؤلمة من حياة عبدالله مصلح ويصنع له مرحلة بهيجة من الحياة .. مشروع الحلم واقع وحقيقة..
  • رزق تطلبه ورزق يطلبك