أظهرت الحرب الإسرائيلية على غزة -التي تجاوزت مئة يوم- الكثيرَ من الوقائع غير المسبوقة؛ لثلاث جهات على الأقل:
الجهة الأولى: الأداء العسكري لإسرائيل؛ فقد أسفر هذا الأداء عن مستوى متجاوز لكل الأعراف القانونية والأخلاقية، بل والحسّ الإنساني السليم. الأمر الذي تسبب في مظاهرات احتجاجية عمت كثيرًا من دول العالم الغربي، وكان من بينها تجمعات يهودية يقول قائلهم: "ليس باسمنا".وقد دفع ذلك -أيضًا- جنوب أفريقيا إلى رفع دعوى قضائية في محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة.
الجهة الثانية: الأداء البطولي والاحترافي للمقاومة الفلسطينية خلال الحرب؛ فقد سطرت مشاهدَ بطولية نادرة وبإمكانات ذاتية ومتواضعة؛ مقارنةً بالترسانة العسكرية الأميركية الحديثة التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي، ومقارنة باستعماله الواسع لتقنيات الذكاء الصناعيّ في هذه الحرب.مفهوم الحرب فيحيل -في الاصطلاح- إلى الصراع المصحوب بأعمال قتالية وتكتيكات عسكرية لتحقيق أهداف سياسية أو إستراتيجية. وقد يُستعمل في معنى الصراع الشامل في مجالات أخرى اقتصادية وسياسية وثقافية
وهنا يمكن أن نرصد ثلاثة جوانب لهذا الأداء:
الاحترافي، تشمل الأداء القتالي. والأداء الإعلامي المواكب للأداء القتالي والذي يوثّق بالصوت والصورة، ثم ينقل ما وثقه إلى العالم. والأداء الأخلاقي في التعامل مع الأسرى المتمثل في الشهادات التي أدلى بها الإسرائيليون الذين أُطلق سراحهم وأحرجوا حكومة بنيامين نتنياهو التي فرضت رقابة على تصريحات المُفرَج عنهم فيما بعد.وهذه الجوانب الثلاثة يعزز بعضها بعضًا في جهاد حركات المقاومة للجيش الإسرائيلي، ويعزز قدرتها على نصرة قضيتها والنيل من خَصمها بأقصى ما يمكن، ليبقى التميز الإسرائيلي محصورًا -فقط- في قدراته العسكرية (أميركية الصنع) التي تسببت -ولا تزال- في إحداث تدمير هائل وقتل عدد ضخم من المدنيين، وخاصة من النساء والأطفال.
الجهة الثالثة: ردود أفعال أهل غزة وتصرفاتهم خلال الحرب؛ فقد سطر أهل غزة صفحات نادرة من التحلي بالفضائل الدينية والخُلقية (كالصبر والرضا والشكر والاحتساب والشجاعة والتضحية …)، ورأينا نماذج تطبيقية حيّة لهذه الفضائل التي كنا نقرأ عنها في تراجم الأجيال المبكرة من المسلمين، وكنا نحسَب أنها نماذج تاريخية لا تتكرر.وقد أثارت الجهات الثلاث الكثير من التحليلات السياسية والعسكرية، وهذان هما ما تنشغل به القنوات الإخبارية عادة، ولكن بقيت التحليلات الفكرية والأخلاقية والقانونية خارج دائرة التركيز، بل تكاد تكون أُغفلت إغفالًا تامًّا، ولذلك ركزتُ على هذه الأبعاد -تحديدًا- في مقالاتي السابقة عن هذه الحرب الدائرة على غزة، وخاصة تحليل المفاهيم المستعملة في الحرب؛ لأنها تختزن تصورات الفاعلين، أي الأطراف الثلاثة المشار إليها في الجهات الثلاث السابقة: (الجيش الإسرائيلي وحركات المقاومة وأهل غزة).
وتحليل المفاهيم يساعدنا على فهم أعمق لما يجري، وتقديم رؤية تفسيرية يمكن أن توضح أجزاءً من المشهد لا تغطيها التحليلات السياسية والعسكرية؛ لأنه لا يمكن عزل الفعلَين: السياسي والعسكري عن الأبعاد الفكرية والقيمية الحاكمة للأطراف الفاعلة في الحرب (فعلًا أو انفعالًا)، وهذا معنى أوسع من فكرة "العقيدة العسكرية" التي ينشغل بها -عادة- المحللون العسكريون.
أحسب أنَّ ثَمّة مفهومَين رئيسَين قادرَين على تقديم تفسير متماسك للجهات الثلاث المذكورة: (الأداء العسكري للإسرائيل، والأداء البطولي للمقاومة، وفضائل أهل غزة)، وهما مفهوما الحرب والجهاد؛ من حيث إنهما يعكسان تصوّرين متباينين للقتال: أهدافه وغاياته، وأدواته، والأخلاقيات الحاكمة له، وكيفية التعامل مع الأسرى فيه، ومصير الضحايا فيه (بين البطولة والشهادة). ويمكن أن نختصر ذلك في: مشروعية الجهاد/الحرب من حيث الابتداء، وشرعية التصرفات أثناء القتال وبعده، والنظرة إلى الضحايا الذين سقطوا خلال هذا القتال.
فالجهاد من بذل الجهد ومعناه المشقة، وبذل الجهد أو المشقة يحمل دلالات إيجابية تأسس عليها معانٍ اصطلاحية للجهاد الذي هو مصطلح ديني، ويمكن أن نميز هنا بين منظورين:
الأول: أن ننظر إلى المجاهَد (بفتح الهاء)، أي الطرف الذي يتم دفعه، والجهاد -وَفق هذا المنظور- يحمل أربعة معانٍ؛ هي: قتال الكفار، ومجاهدة النفس، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة الفُساق. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت. 852هـ): "أما مجاهدة النفس فعلى تَعَلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم على تعليمها. وأما مجاهدة الشيطان فعلى دَفْع ما يأتي به من الشبهات وما يُزَينه من الشهوات. وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب. وأما مجاهدة الفساق فباليد، ثم اللسان، ثم القلب". الثاني: أن ننظر إلى الوسائل التي يقع بها الجهاد، وهنا يمكن أن نميز بين ثلاثة معانٍ؛ هي:الجهاد بالقلب، والجهاد باللسان، والجهاد باليد. وقد أوضح القاضي ابن المناصف (ت. 620هـ) أن جهاد القلب يرجع إلى مغالبة الهوى ومدافعة الشيطان وكراهية ما خالف حدود الشرع، وأن يَعقد القلبَ على إنكار ذلك كله. أما جهاد اللسان فيتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزَجر أهل الباطل والإغلاظ عليهم، "وما أشبه ذلك مما يجب إبراء القول فيه".
وأما الجهاد باليد فهو أنواع متعددة، منها: قتال الكفار والغزو، وإقامة الحدود ونحوها من التعزيرات، ومنه ما يدخل في باب تغيير المنكر، حيث لا يُغني التغيير بالقول. ولكل ذلك أحكام وشروطٌ تجب مراعاتها، وجهاتٌ تختص بكل نوع منها. ولكن لفظ الجهاد إذا أُطلق إنما يُحمَل على الاصطلاح الفقهي خاصةً وهو قتال العدو.
توضح المعاني السابقة لمصطلح الجهاد مضمونه الأخلاقي الثريّ؛ فهي تحيل إلى قيم الخير والعدل والحق. فمجاهدة الكفار علتها حمل الخير للناس ومنع فتنتهم عن دينهم (علة القتال الحِرَابة أو العدوان). ومجاهدة النفس تهذيبها وحملها على فعل الخيرات وترك المنكرات قولًا وعملًا حتى تصير لها عادة وطبعًا. ومجاهدة الشيطان مدافعة الشبهات (في الفكر والاعتقاد)، ومدافعة الشهوات (في العمل). ومجاهدة الفساق إنكار المنكر وتغييره.
وهذه المعاني مشمولة بلفظ "في سبيل الله" الذي يقترن بالأمر بالجهاد. ثم إن الخوض في تفاصيل أحكام الجهاد -وخاصة الجهاد باليد الذي يتضمن أنواعًا أشدها قتال الكفار وتغيير المنكر- من شأنه أن يُظهر أبعاده الأخلاقية؛ لأنه مرهون بغاية لها أثرها في تقويم الوسائل الموصلة إلى تلك الغاية من جهة، والموازنة بين الوسائل ومآلاتها من جهة أخرى.
لنتأمل -مثلًا- كيف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزَجر أهل الباطل واجبٌ على المكلف بشروط، منها: "أن يكون عالمًا بطرق الإنكار ووجه القيام في ذلك من الترفق تارة والغلظة أخرى؛ بحسب المنكر في نفسه والأحوال التي تعترض. فإن لم يكن كذلك لم يجب، بل قد يَحرم عليه القيام؛ لأنه ربما وقع في أشد مما أنكر". ومن تلك الشروط "أن يرجو (المُنكِر) في قيامه كفَّ ذلك المنكر وإزالته. فإن أَيِس من ذلك فقد قيل: لا يجب عليه أيضًا إلا تبرعًا"، كما أوضح ابن المناصف.
أما مفهوم الحرب فيحيل -في الاصطلاح- إلى الصراع المصحوب بأعمال قتالية وتكتيكات عسكرية لتحقيق أهداف سياسية أو إستراتيجية. وقد يُستعمل في معنى الصراع الشامل في مجالات أخرى اقتصادية وسياسية وثقافية. بل إن الأصل اللغوي لكلمة الحرب هو السَّلْب. وقد تطور مفهوم الحرب بالنظر إلى أمرَين: أولهما: الدولة الحديثة ومنطق اشتغالها. وثانيهما: الوسائل والتقنيات العسكرية.
فبالنظر إلى الأمر الأول (منطق الدولة الحديثة)، تُشكل الحرب إحدى وسائل تأكيد سيادة الدولة وقوتها دوليًّا، وعادة ما تُستخدم القوة العسكرية في النزاع الذي لا يمكن حلُّه سلميًا، أو عندما ترى الدولة أن مصالحها الوطنية مهددة. و"المصالح الوطنية" مفهوم واسع يشمل الدفاع عن النفس وتحقيق الاستقرار وحماية الحدود والسكان، كما يشمل تحقيق أهداف سياسية واقتصادية يقدرها النظام الحاكم.
وبالنظر إلى الأمر الثاني (التقنيات العسكرية)، شهدت الحروب ثورتين: تمثلت الأولى في الثورة الصناعية وتطبيقاتها في مجال الحرب بدءًا من منتصف القرن التاسع عشر، ثم شهد النصف الأول من القرن العشرين اندلاع حربين عالميتين، وعلى أساس قاعدة التسلح تحددت موازين القوى في العالم.
وتمثلت الثورة الثانية في اختراع أسلحة الدمار الشامل، وخاصة السلاح النووي الذي شكل عاملًا جديدًا في تحديد موازين القوى. وقد أثر هذا التقدم التكنولوجي في بِنية "الثورات العسكرية" على صعيد تنظيم القوات المسلحة، وعلى طبيعة الحرب، وخاصة منذ نهاية الحرب الباردة التي حكمت العلاقات الدولية لعقود.
ولعلّ أهم آثار ذلك هو الأولوية التي اكتسبتها الحروب الاستباقية (أو الهجومية) على حساب الحروب الدفاعية، وظهور مفهوم "الحرب الشاملة"، وقد أثر ذلك كله في صياغة أمرين رئيسين: الأول: مشروعية الحرب التي تحددها "المصالح الوطنية" وموازين القوى من جهة؛ بالرغم من وجود ما يسمى "النظام الدولي"، والثاني: سير الحرب التي تتم جوًّا وبرًّا وبأسلحة ذات تدمير فتاك، وباستخدام تقنيات الذكاء الصناعي؛ بالرغم من وجود القانون الدولي الإنساني؛ لأن موازين القوى هي التي تحكم مسار الحروب هنا وليس القوانين.
ويمكن أن نلمس الآثار العملية للاختلاف بين مفهومَي الجهاد والحرب في الحرب الدائرة على غزة، وفي الفرق بين أفعال حركات المقاومة من جهة، وأفعال الجيش الإسرائيلي من جهة أخرى. ويمكن أن نوضح ذلك من خلال أربع جهات:
الأولى: مشروعية القتال ابتداء. فمشروعية الحرب الإسرائيلية تمثلت في "حق الدفاع عن النفس"، وقد أوضحت -في مقال سابق- أن المحتلّ لا يثبت له هذا الحق؛ لأنه معتدٍ، في حين أن مشروعية المقاومة ثابتة وراسخة؛ دفاعًا عن الأرض والنفس والعرض. الثانية: التصرف أثناء القتال، وأبرز مثال هنا هو الأسلحة المستخدمة؛ فالأسلحة التقليدية تتناسب مع الأهداف المحددة بدقة والتي تعمل بطريقة تقليدية ولا توجه إلا إلى المقاتلين، في حين أن الأسلحة الحديثة وتقنيات الذكاء الصناعي قد طوّرت من الأداء العسكري التقني للمقاتلين، ولكنها أدت -في المقابل- إلى رفع الكلفة البشرية للضحايا المدنيين من الطرف المقابل الذي تُشن الحرب عليه، فضلًا عن القيام بالحصار والتجويع والتعطيش والعقاب الجماعي واستهداف الجميع بمن فيهم النساء والأطفال والأبنية السكنية والمستشفيات؛ وإن كان هذا مجرَّمًا في القانون الدولي الذي حاول أن يضبط الحرب بضوابط أخلاقية في الحد الأدنى، ولكن تبقى موازين القوى وتقديرات السياسيين والعسكريين للمصالح الوطنية للدولة هي ما يتحكم في مجريات الحرب؛ لأن الهدف هو تحقيق الأهداف التي بها تُقاس معايير النصر والهزيمة. الثالثة: معاملة الأسرى، وقد ظهر جليًّا -عبر الشاشات ومن خلال تصريحات المُفرَج عنهم- الفارقُ الشاسع بين تعامل الإسرائيليين، وتعامل حركات المقاومة. الرابعة: أن الفضائل التي أظهرها أهل غزة في مواجهة أهوال الحرب والموت والفقد راجعة إلى إيمان عميق بمفهوم الشهادة الذي هو أحد المفاهيم المتفرعة عن مفهوم الجهاد. في حين أن الصور المسربة للجنود الإسرائيليين -سواءٌ من قتلوا أم أصيبوا- تظهر رعبًا وسخطًا وأزمات نفسية كُتب عنها تقاريرُ بحسب الإحصائيات التي نشرتها بعض المصادر الإسرائيلية.يمكن القول: إن ممارسة الجهاد مقيدة بإطار أخلاقي – كما سبق – يحدد مشروعية القتال ابتداء، ويضبط سلوك المجاهدين أثناء القتال بما في ذلك التعامل مع الأسرى والمدنيين، وخاصة من الأطفال والنساء.
ولكون الجهاد مفهومًا دينيًّا وأخلاقيًّا -بالمعنى الموضح سابقًا- فقد أثمر تلك الفضائل التي سطر فيها المجاهدون وضحايا الحرب الإسرائيلية من أهل غزة مشاهدَ بطولية؛ فهم قد طلبوا الحياة الأبدية بالشهادة، وكانوا فرحين بذلك. وفي المقابل، بدت ممارسة الحرب مقيدة بمنطق الدولة وسيادتها ومصالحها الوطنية المتجاوزة لقيم الحق والعدل (فإسرائيل قامت أصلًا على الظلم والعدوان).
وقد فرضت الحرب تطوير التقنيات العسكرية لتقليل الخسائر في صفوف الجيش قدر الإمكان، وتضييق نطاق القتال على الأرض، ولكن ذلك جاء على حساب إيقاع أعداد كبيرة من المدنيين في الجهة المقابلة، وإيقاع تدمير هائل في العُمران، ومثل هذه الممارسات تعزز فكرتين: الأولى: أن التطور التقني العسكري يجسد -في الواقع- معنى الحرص على الحياة الدنيا، وهو ما أظهرته مشاهد الذعر لدى الجنود الإسرائيليين. والثانية: دوافع الانتقام والتشفي والحرص على تحقيق الأهداف العسكرية والسياسية بأي ثمن ومن دون أي ضوابط، الأمر الذي أدى إلى تدمير هائل وإيقاع العديد من المجازر الجماعية، والله المستعان.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: موازین القوى ویمکن أن مفهوم ا أهل غزة یمکن أن ی الحرب من جهة
إقرأ أيضاً:
تحدَّثَ عن نصرالله.. ما الذي يخشاه جنبلاط؟
الكلامُ الأخير الذي أطلقه الرئيس السابق للحزب "التقدمي الإشتراكي" وليد جنبلاط بشأن أمين عام "حزب الله" السابق الشهيد السيد حسن نصرالله ليس عادياً، بل يحمل في طياته الكثير من الدلالات. جنبلاط أورد 3 نقاط أساسية عن نصرالله في حديثٍ صحفي أخير، فالنقطة الأولى هي أنه بعد اغتيال نصرالله لم يعد هناك من نحاوره في الحزب، أما الثانية فهي إشارة جنبلاط إلى أنه قبل اغتيال "أمين عام الحزب" كانت هناك فرصة للتحاور بين حزب الله وبعض اللبنانيين بشكل مباشر، أما الثالثة فهي قول "زعيم المختارة" أن نصرالله كان يتمتع بالحدّ الأدنى من التفهم لوضع لبنان ووضع الجنوب.ماذا يعني كلام جنبلاط وما الذي يخشاه؟
أبرز ما يخشاه جنبلاط هو أن يُصبح الحوار مع "حزب الله" غير قائمٍ خلال الحرب الحالية، أو أقله خلال المرحلة المقبلة. عملياً، كان جنبلاط يرتكز على نصرالله في حل قضايا كثيرة يكون الحزبُ معنياً بها، كما أنّ الأخير كان صاحب كلمة فصلٍ في أمور مختلفة مرتبطة بالسياسة الداخلية، كما أنه كان يساهم بـ"تهدئة جبهات بأمها وأبيها".
حالياً، فإنّ الحوار بين "حزب الله" وأي طرفٍ لبناني آخر قد يكون قائماً ولكن ليس بشكلٍ مباشر، وحينما يقول جنبلاط إن الأفضل هو محاورة إيران، عندها تبرز الإشارة إلى أن "حزب الله" في المرحلة الحالية ليس بموقع المُقرّر أو أنه ليس بموقع المُحاور، باعتبار أنَّ مختلف قادته والوجوه الأساسية المرتبطة بالنقاش السياسيّ باتت غائبة كلياً عن المشهد.
إزاء ذلك، فإن استنجاد جنبلاط بـ"محاورة إيران"، لا يعني تغييباً للحزب، بل الأمرُ يرتبطُ تماماً بوجود ضرورة للحوار مع مرجعية تكون أساسية بالنسبة لـ"حزب الله" وتحديداً بعد غياب نصرالله والاغتيالات التي طالت قادة الحزب ومسؤوليه البارزين خصوصاً أولئك الذين كانت لهم ارتباطات بالشأن السياسي.
الأهم هو أن جنبلاط يخشى تدهور الأوضاع نحو المجهول أكثر فأكثر، في حين أن الأمر الأهم هو أن المسؤولية في ضبط الشارع ضمن الطائفة الشيعية تقع على عاتق "حزب الله"، ولهذا السبب فإن جنبلاط يحتاج إلى مرجعية فعلية تساهم في ذلك، فـ"بيك المختارة" يستشعر خطراً داخلياً، ولهذا السبب يشدد على أهمية الحوار مع "حزب الله" كجزءٍ أساسي من الحفاظ على توازنات البلد.
انطلاقاً من كل هذا الأمر، فإنّ ما يتبين بالكلام القاطع والملموس هو أن رهانات جنبلاط على تحصين الجبهة الداخلية باتت أكبر، ولهذا السبب تتوقع مصادر سياسية مُطلعة على أجواء "الإشتراكي" أن يُكثف جنبلاط مبادراته وتحركاته السياسية نحو أقطاب آخرين بهدف الحفاظ على أرضية مشتركة من التلاقي تمنع بالحد الأدنى وصول البلاد نحو منعطف خطير قد يؤدي إلى حصول أحداثٍ داخلية على غرار ما كان يحصلُ في الماضي.
في الواقع، فإنّ المسألة دقيقة جداً وتحتاجُ إلى الكثير من الانتباه خصوصاً أن إسرائيل تسعى إلى إحداث شرخٍ داخلي في لبنان من بوابة استهداف النازحين في مناطق يُفترض أن تكون آمنة لكنة لم تعُد ذلك. أمام كل ذلك، فإن "الخشية الجنبلاطية" تبدأ من هذا الإطار، وبالتالي فإن مسعى المختارة الحالي يكون في وضع كافة القوى السياسية أمام مسؤوليتها مع عدم نكران أهمية ودور "حزب الله" في التأثير الداخلي، فهو العامل الأبرز في هذا الإطار.
المصدر: خاص لبنان24