لماذا لم يؤد تصاعد العنف في الشرق الأوسط إلى ارتفاع أسعار الغاز حتى الآن؟
تاريخ النشر: 19th, January 2024 GMT
منذ وقت ليس ببعيد، كان إغلاق أحد أهم طرق التجارة في العالم يمكن أن يدفع فواتير الطاقة والوقود للأسر إلى الارتفاع بشكل حاد.
فلماذا إذن، في خضم الأزمة في البحر الأحمر، مع اضطرار ناقلات النفط والغاز الطبيعي المسال إلى اتخاذ طرق أطول بكثير للوصول إلى وجهاتها، لم تتفاعل أسعار الطاقة إلا بالكاد - أو حتى انخفضت - على مدى الأسابيع الماضية؟
تستورد أوروبا معظم احتياجاتها من الغاز الطبيعي، لكن سعر عقد الغاز القياسي انخفض بنسبة 28% منذ أوائل ديسمبر/كانون الأول عندما بدأ المسلحون الحوثيون المدعومون من إيران في تصعيد الهجمات على السفن رداً على حرب إسرائيل ضد حماس.
في الأيام الأخيرة، تصاعدت التوترات بشكل أكبر مع قيام إيران وباكستان بشن ضربات على أراضي كل منهما، ومع قيام حلفاء إيران ووكلائها في الشرق الأوسط - ما يسمى بمحور المقاومة - بشن هجمات على القوات الإسرائيلية وحلفائها على خلفية الحرب في غزة.
ولم تتحرك أسعار برميل خام برنت، معيار النفط العالمي، وخام غرب تكساس الوسيط، مؤشر النفط الأمريكي، إلا بالكاد. لقد ارتفعت بنسبة 4٪ تقريبًا منذ أوائل ديسمبر.
وقال هومايون فلكشاهي، كبير محللي النفط في شركة "كبلر" لتزويد البيانات لـCNN: "سوق (النفط) لم تعد تتأثر بشكل أساسي كما كانت من قبل لأنها تعلم أن معظم هذه التوترات لا تؤدي بالضرورة إلى انخفاض الإمدادات".
بالعودة إلى عام 2022، في أعقاب الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا، كانت أسواق الطاقة العالمية تتأثر بسرعة كبيرة، حيث كانت أدنى علامة على المزيد من الاضطرابات الجيوسياسية من شأنها أن تتسبب في ارتفاع أسعار النفط والغاز والسلع الأخرى.
ومع ذلك، يقول المحللون الآن إن العوامل الاقتصادية - ضعف الطلب في دول مثل الصين وألمانيا، ووفرة إمدادات النفط والغاز - تحل محل المخاوف بشأن العنف في الشرق الأوسط، في الوقت الحالي على الأقل.
فائض نفطي "كبير"
ووفقا لبيانات "كبلر"، فإن ما بين 10% و12% من صادرات النفط الخام العالمية، وما بين 14% و15% من صادرات المنتجات النفطية، مثل البنزين والديزل، تمر عادة عبر البحر الأحمر.
وفي الأسابيع الأخيرة، اضطرت العديد من تلك الناقلات إلى اتخاذ طريق أطول لتجنب الممر المائي. لكنهم ما زالوا يصلون إلى عملائهم، بحسب فلكشاهي.
وأضاف: "إنها في الواقع أزمة في سلسلة التوريد، ولم نفقد كميات (من النفط).. لديك بعض الناقلات التي يتعين عليها الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح (في جنوب إفريقيا). لكن في النهاية تبقى الكميات كما هي."
وبينما لا يزال العرض قويا، فإن النمو العالمي في الطلب على النفط آخذ في الضعف.
وأكد المكتب الوطني الصيني للإحصاء هذا الأسبوع أن اقتصاد البلاد نما بنسبة 5.2% العام الماضي. وقد تجاوز ذلك التوقعات الحكومية، ولكنه لا يزال ضمن أسوأ أداء اقتصادي للصين منذ أكثر من ثلاثة عقود.
قالت وكالة الطاقة الدولية في تقرير لها اليوم الخميس إنه من المتوقع أن ينخفض نمو الطلب العالمي على النفط إلى النصف تقريبا هذا العام. وفي الوقت نفسه، من المتوقع أن تصل إمدادات النفط العالمية إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، مدفوعة بالإنتاج القياسي من دول من بينها الولايات المتحدة وكندا، حسبما ذكرت وكالة الطاقة الدولية.
هذا على الرغم من التخفيضات الكبيرة العديدة في الإنتاج من قبل منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، بالإضافة إلى عدد قليل من الحلفاء بما في ذلك روسيا، التي أعلنت العام الماضي عن محاولة لدعم الأسعار.
وقالت وكالة الطاقة الدولية إنه إذا واصل تحالف أوبك+ خطته لإلغاء بعض تلك التخفيضات خلال الربع الثاني، فإن النمو القوي في الإنتاج من الدول الأخرى قد يؤدي إلى "فائض كبير" من النفط عالميًا.
ومع ذلك، يعتقد فلكشاهي أن الاضطرابات في البحر الأحمر ستستمر "لعدة أشهر"، ويتوقع أن يرتفع سعر خام برنت إلى ما يزيد عن 80 دولارًا للبرميل في المستقبل القريب مع اتجاه الأسواق إلى نفس الرأي.
وقال إن السعر قد يرتفع إلى 85 دولارًا للبرميل خلال الأسابيع القليلة المقبلة، ولن يرتفع إلا إذا تصاعد الصراع في المنطقة بشكل كبير، ربما في حالة تورط إيران بشكل مباشر، وهو أمر غير مرجح.
إمدادات الغاز "القوية" في أوروبا
وفي الوقت نفسه، فإن الجهود التي تبذلها أوروبا لفطم نفسها عن الغاز الروسي منذ أوائل عام 2022 - من خلال إيجاد إمدادات بديلة، وتعزيز قدرتها على استقبال الغاز الطبيعي المسال، وملء مرافق التخزين - تؤتي ثمارها.
وقال شي نان، أحد كبار الباحثين في مجال الغاز في شركة "ريستاد إنرجي"، إن المستويات المرتفعة تاريخياً الحالية من الغاز المخزن هي "العامل الحاسم" الذي يبقي سعره تحت السيطرة في أوروبا.
في الأيام القليلة الماضية، تجاوزت عدة سفن تحمل الغاز الطبيعي المسال القطري المتجهة إلى أوروبا البحر الأحمر لتسافر حول الطرف الجنوبي لأفريقيا، وفقا لتحليل تمت مشاركته بواسطة "كبلر" على X.
لكن تقييم نان هو أن الغاز الطبيعي المسال القطري "يتخذ طريقًا أطول، حوالي 10 أيام إضافية". وقال لـCNN: "السوق الآن ليس معرضاً لخطر أي نقص في الإمدادات"، مضيفا أن جميع المصادر الأخرى للغاز الطبيعي، بما في ذلك المصادر الأمريكية، "قوية".
وغطت قطر ما يزيد قليلاً عن 5% من الطلب على الغاز في أوروبا العام الماضي، وهو إجراء يشمل المملكة المتحدة، بناءً على بيانات من شركة "وود ماكنزي" الاستشارية.
وقال نان إن الطلب المتواضع نسبيا يساعد أيضا في منع ارتفاع أسعار الغاز. وأضاف أن مساحات واسعة من سوق الطاقة في أوروبا يتم إمدادها الآن بمصادر الطاقة المتجددة، بدلا من الغاز، كما أن الاستهلاك الصناعي منخفض مقارنة بما كان عليه قبل بدء الحرب في أوكرانيا.
نشر الجمعة، 19 يناير / كانون الثاني 2024تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2024 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.المصدر: CNN Arabic
كلمات دلالية: الغاز الطبیعی المسال البحر الأحمر فی أوروبا
إقرأ أيضاً:
تحديات النمو الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. المشكلات الموضوعية
يمكن للإسلام أن يقدم إطارًا قيمياً وعملياً لمعالجة تحديات النمو الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. الجمع بين المبادئ الإسلامية والسياسات الاقتصادية الحديثة يعزز من قدرة الدول على بناء اقتصادات أكثر عدالة واستدامة، مع ضمان تحقيق التنمية البشرية والرفاهية.
الباحث التونسي في شؤون الاقتصاد الإسلامي الدكتور محمد النوري وبعد أن قدم في الجزء الأول من ورقة خاصة أعدها للنشر في "عربي21" عن "مشكلات النمو الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. رؤية من منظور اقتصادي إسلامي"، عرضا مفصلا عن المشكلات الهيكلية التي تعاني منها معظم اقتصاديات دول المنطقة وهي مشكلات ذات علاقة بهشاشة النمو وطابعه الريعي البارز وارتباطه الشديد بالمديونية الى جانب ضعف الحوكمة الداخلية واستشراء الفساد. يتناول في الفصل الثاني اليوم المشكلات الموضوعية ذات العلاقة بالظروف الخارجية وما يحدث من صدمات مؤثرة مثل تقلبات أسعار الفائدة العالمية وأسعار الطاقة والصراعات المتفاقمة في المنطقة والعالم. على أن يناقش في الفصل الثالث والأخير المقاربة الاقتصادية الإسلامية لمعضلة النمو وتباينها مع المقاربة التقليدية السائدة.
ثانيا ـ المشكلات الموضوعية:
وهي المشكلات ذات العلاقة بالظروف الخارجية وما يحدث من صدمات مؤثرة مثل تقلبات أسعار الفائدة العالمية وأسعار الطاقة والمواد الأولية والصدمات الناجمة عن الصراعات المتفاقمة في المنطقة والعالم.
1 ـ تقلبات أسعار الطاقة والمواد الأولية:
وهي من المشكلات المؤثرة على النمو الاقتصادي في مجمل بلدان المنطقة، سواء تلك المصدرة لهذه المواد أو المستوردة لها حيث تعتمد الأولى بشكل كبير على صادرات الطاقة، وخاصة النفط والغاز، كمصدر رئيسي للإيرادات الحكومية والنقد الأجنبي، بينما تعتمد الثانية على مخزونها الاحتياطي من العملات الأجنبية لاستيراد تلك المواد. ففي البلدان المصدرة للطاقة مثل السعودية، الإمارات، الكويت، والجزائر، وليبيا والكويت، والعراق، تؤدي ارتفاعات أسعار النفط والغاز إلى زيادة العائدات الحكومية، مما يعزز النمو الاقتصادي من خلال زيادة الإنفاق العام على البنية التحتية والخدمات الاجتماعية والتنمية بشكل عام. كما يزيد من الفوائض المالية ويسمح لهذه الدول بتخصيص المزيد من الأموال لمشاريع التنمية والاستثمار في القطاعات غير النفطية، مما يعزز التنويع الاقتصادي. وعلى العكس، فان تراجع الأسعار يمكن أن يؤدي إلى تقليص الإنفاق الحكومي، مما يحد من النمو ويزيد من العجز المالي. كما يمكن أن يؤدي إلى عجز في الميزانية، مما يدفع الحكومات إلى اتخاذ تدابير تقشفية قد تؤثر سلبًا على الاقتصاد.
وفي المقابل، في البلدان المستوردة للطاقة مثل مصر، المغرب، والأردن، وتونس ولبنان وغيرها فإنها تتأثر سلبًا بارتفاع أسعار الطاقة، حيث يؤدي ذلك إلى زيادة تكاليف الاستيراد وتفاقم العجز في ميزان المدفوعات، مما يضع ضغوطًا على احتياطيات النقد الأجنبي ويؤثر على استقرار العملة والنمو الاقتصادي. كما يؤدي إلى زيادة الإنفاق الحكومي على دعم الوقود والطاقة، مما يضع ضغطًا على الميزانيات ويقلل من القدرة على الإنفاق في مجالات أخرى مثل التعليم والصحة والبنية التحتية.
وعموما يمكن أن تؤدي تقلبات أسعار الطاقة والمواد الأولية إلى فرص للنمو في بعض الأوقات، كما يمكن أن تشكل أيضًا تحديات كبيرة للاقتصادات في بعض بلدان المنطقة، مما يتطلب من الحكومات اتخاذ تدابير استراتيجية للتخفيف من تأثير هذه التقلبات على النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي.
وقد تراوحت هذه التقلبات خلال العقود الثلاثة الاخيرة بين الانخفاض النسبي في التسعينات (1990 ـ 1999) إلى ارتفاع كبير في العقد الأول من الألفية الجديدة (2000 ـ 2009) حيث تجاوز سعر برميل النفط 140 دولارًا في منتصف 2008. لكن مع بداية الأزمة المالية العالمية (2007-2008) وانخفاض الطلب العالمي، انهارت الأسعار بشكل حاد، لتصل إلى حوالي 30-40 دولارًا فقط للبرميل في نهاية 2008.
يمكن أن تؤدي تقلبات أسعار الطاقة والمواد الأولية إلى فرص للنمو في بعض الأوقات، كما يمكن أن تشكل أيضًا تحديات كبيرة للاقتصادات في بعض بلدان المنطقة، مما يتطلب من الحكومات اتخاذ تدابير استراتيجية للتخفيف من تأثير هذه التقلبات على النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي. أما في العقد الثاني من الألفية الجديدة (2010 ـ 2019) فقد شهدت الأسعار فترة تقلبات حادة اثر أحداث الربيع العربي (2010-2011) حيث أثرت الاضطرابات السياسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على إنتاج النفط، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار مرة أخرى. لكن مع الطفرة النفطية الأمريكية (2014) و زيادة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة، حدثت زيادة كبيرة في العرض العالمي للنفط، مما أدى إلى انهيار الأسعار من جديد بداية من عام 2015حيث انخفضت الأسعار من حوالي 100 دولار للبرميل في منتصف 2014 إلى أقل من 30 دولارًا في أوائل 2016، اثرها بدأت أسعار النفط في التعافي ببطء واستقرت في نطاق 50-70 دولارًا للبرميل، بدعم من اتفاقيات خفض الإنتاج بين "أوبك+".. أما العقد الثالث (2020 - حتى اليوم) ومع اندلاع جائحة كوفيد-19 بداية من عام 2020 عادت الأسعار مرة أخرى الى الانهيار بشكل غير مسبوق بسبب تراجع الطلب العالمي مع انتشار الجائحة.
في أبريل 2020، وقد شهدت أسعار خام غرب تكساس الوسيط (WTI) انخفاضًا تاريخيًا إلى المنطقة السلبية. ومع التعافي التدريجي من الجائحة ومع تخفيف القيود وعودة النشاط الاقتصادي، بدأت الأسعار في التعافي وارتفعت بشكل كبير في 2021-2022 وتجاوزت أسعار النفط مستويات ما قبل الجائحة، مدفوعة بتخفيضات الإنتاج من "أوبك+"، الى حين اندلاع أزمة الطاقة العالمية (2021-2022) نتيجة للصراع في أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا، حيث ارتفعت أسعار النفط والغاز إلى مستويات عالية، مما أثر على الاقتصاد العالمي. هذه التقلبات في أسعار الطاقة تعكس التعقيدات والتغيرات المستمرة في العوامل التي تؤثر على سوق الطاقة العالمي، مما يجعلها محورًا رئيسيًا للاقتصاد العالمي والسياسات الدولية.
بشكل عام، ساهمت تقلبات أسعار الطاقة والمواد الأولية في إيجاد بيئة اقتصادية غير مستقرة، أثرت سلبًا على معدلات النمو الاقتصادي التي تراجعت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة في معظم بلدان المنطقة. كما أثرت أيضا على زيادة التضخم وتراجع القدرة الشرائية، وزيادة التكاليف الإنتاجية، مما يتطلب سياسات مالية ونقدية متوازنة لتخفيف هذه التأثيرات.
2 ـ تقلبات أسعار الفائدة:
وهي كذلك من العوامل التي لها تأثيرات كبيرة على النمو الاقتصادي في بلدان المنطقة. وقد تختلف هذه التأثيرات حسب طبيعة الاقتصاد في كل دولة وما إذا كانت تلك الدولة تعتمد بشكل أساسي على الاستيراد والتصدير، أو لديها قاعدة صناعية وخدمية كبيرة. ومع التغيرات الاقتصادية العالمية، في السنوات الأخيرة، كان لتقلبات أسعار الفائدة تأثيرات ملحوظة على اقتصادات المنطقة. وتسري هذه التأثيرات على عدة مستويات منها التأثير على كلفة الاقتراض والاستثمار والتضخم وسعر العملات والسياسات المالية والنقدية وهو ما ينعكس بالتالي على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي بكل بلد من بلدان المنطقة.
فعلى مستوى كلفة الاقتراض لا شك أن ارتفاع أسعار الفائدة يسبب في زيادة الكلفة بالنسبة للحكومات والشركات والأفراد وهو ما ينعكس على تمويل المشاريع ويؤدي الى تراجع الاستثمار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تلعب المشاريع الكبيرة دورًا حيويًا في النمو الاقتصادي، وبالتالي يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى تباطؤ في تنفيذ هذه المشاريع.
وعلى مستوى العملات والتضخم، يقود ارتفاع أسعار الفائدة في الأسواق الدولية عادة الى سحب رأس المال من الأسواق الناشئة، بما في ذلك دول MENA، مما يضع ضغطًا على العملات المحلية ويؤدي إلى تراجع قيمتها. هذا التراجع يمكن أن يؤدي إلى تضخم مستورد بالنسبة للدول التي تعتمد على استيراد سلع أساسية مثل الغذاء والطاقة. كما أن انخفاض أسعار الفائدة يمكن أن يؤدي إلى زيادة في التضخم بسبب ارتفاع الطلب المحلي. في المقابل، يمكن أن تساعد أسعار الفائدة المرتفعة في كبح التضخم، لكنها قد تضعف النمو الاقتصادي. وقد بلغ متوسط التضخم في المنطقة نسبة 17,5% عام 2023، ومن المُتوقع أن يتراجع الى حدود 15% عام 2024.
أما على مستوى السياسات المالية الحكومية فإن ارتفاع أسعار الفائدة، تزيد تكاليف خدمة الديون الحكومية، مما يضع ضغطًا على الميزانيات العامة. هذا يمكن أن يؤدي إلى زيادة العجز المالي، خاصة في الدول التي تعتمد بشكل كبير على الاقتراض لتمويل الإنفاق العام. في بعض دول MENA، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تقليل الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية والبنية التحتية، مما يعيق النمو. إلى جانب ذلك تجد الدول التي تربط عملاتها بالدولار الأمريكي نفسها مجبرة على اتباع تحركات أسعار الفائدة الأمريكية، مما يحد من قدرتها على استخدام السياسة النقدية كأداة للتحفيز الاقتصادي المحلي.
وشهدت أسعار الفائدة العالمية طيلة العقود الثلاثة الأخيرة تقلبات حادة تراوحت بين فائدة صفرية أو سلبية بسبب سياسة التيسير الكمي التي انتهجتها معظم الدول الكبرى بهدف إنعاش النمو والتصدي للركود، وبين أسعار فائدة مرتفعة أدت الى نشوء أزمة في العديد من البنوك الامريكية والدولية بلغ البعض منها حد الإفلاس.
وفي العموم أثرت تقلبات أسعار الفائدة في السنوات الأخيرة بشكل كبير على اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سواء من خلال التأثير المباشر على تكاليف الاقتراض والاستثمار أو من خلال التأثير على تدفقات رأس المال، التضخم، والاستقرار الاقتصادي.
3 ـ الصراعات الإقليمية:
وهي الصراعات المحتدمة داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو على تخومها والتي تلقي بثقلها على النمو الاقتصادي لكل البلدان وتؤثر بشكل كبير على حركة التجارة البينية والدولية. ومن أبرز هذه الصراعات:
ـ الصراع الأوكراني الروسي وإن كان يدور خارج دول المنطقة الا أن آثاره المباشرة وغير المباشرة غير خافية. فالعديد من بلدان المنطقة له علاقات تجارية مع طرفي الصراع سواء فيما يتعلق بقطاع الطاقة والمواد الأولية أو قطاع المواد الغذائية الاستراتيجية كالحبوب حيث تستورد النصيب الأوفر من احتياجات شعوبها.
لا شك أن الحرب الدائرة في قطاع غزة والتي انتقلت شظاياها إلى الضفة الغربية ولبنان وامتدت كذلك إلى البحر الأحمر لها انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على دول المنطقة وتنذر بعواقب وخيمة على آفاق النمو الاقتصادي لتلك الدولفعلى صعيد الطاقة أدت الحرب الروسية الأوكرانية الى اضطرابات في امدادات النفط والغاز العالمية بسبب العقوبات الغربية على روسيا والتي تعد من أكبر منتجي ومصدري النفط والغاز في العالم. أدّى هذا الاضطراب الى ارتفاع الأسعار بشكل كبير مما أثر على تكلفة الطاقة في مجمل دول المنطقة وذلك من خلال زيادة تكاليف النقل والإنتاج في مختلف القطاعات الاقتصادية. ومما لا شك فيه أن هذا الارتفاع يولّد التضخم.
وعلى صعيد الحبوب وباعتبار روسيا وأوكرانيا هما من أكبر مصدري القمح في العالم، أفرزت الصراع اضطرابات في الإنتاج والتصدير من هاتين الدولتين مما أدّى الى نقص في العرض وبالتالي ارتفاع الأسعار. واذا أخذنا بعين الاعتبار مخلفات أزمة الكوفيد (2019-2022) على مستوى الأمن الغذائي لكل دول العالم وبالخصوص منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تعتمد بشكل رئيسي على الواردات من هاتين الدولتين، فإن الانعكاسات كانت مضاعفة، حيث ارتفعت أسعار المنتجات الغذائية التي تعتمد على القمح والحبوب بشكل عام وخصوصا في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط مثل مصر وتونس ولبنان والأردن. تظافر هذه العوامل لتزيد من حدة الضغوطات التضخمية وارتفاع كلفة المعيشة وزيادة فاتورة الواردات بالنسبة للدول المستوردة مما أدى الى تفاقم العجز في الميزان التجاري وتعثر النمو. ساهمت هذه التأثيرات في إعادة تشكيل التحالفات بهدف تأمين مصادر بديلة للطاقة والغذاء وتعزيز التعاون مع أقطاب دولية جديدة كمجموعة البريكس+ التي انضمت اليها دول مهمة من دول المنطقة كالسعودية والامارات ومصر.
ـ الحرب على غزة:
لا شك أن الحرب الدائرة في قطاع غزة والتي انتقلت شظاياها إلى الضفة الغربية ولبنان وامتدت كذلك إلى البحر الأحمر لها انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على دول المنطقة وتنذر بعواقب وخيمة على آفاق النمو الاقتصادي لتلك الدول. تتجلى هذه الانعكاسات، إلى جانب التدمير شبه الكامل للبنية التحتية لقطاع غزة ودوائر الاسناد لها مع سياسة الإبادة الجماعية التي أقر بها العالم بأسره باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية، في اضطراب التدفقات التجارية والاستثمارية في المنطقة وخاصة في الدول المجاورة مثل مصر والأردن ولبنان وسوريا، وفي زيادة الانفاق العسكري بسبب تعزيز سيناريو شبح الحرب الإقليمية نتيجة تفاقم توتر الأوضاع وفشل المفاوضات، وتراجع بعض القطاعات المهمة في بعض البلدان كالسياحة وتعطل جهود التعاون والتكامل الاقتصادي بين دول المنطقة.
ـ الحرب في السودان:
الحرب في السودان لها آثار متعددة على النمو الاقتصادي في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. على الرغم من أن السودان ليس جزءًا من الشرق الأوسط مباشرة، إلا أن تداعيات الصراع داخله تمتد إلى دول المنطقة بطرق مباشرة وغير مباشرة. فمن التداعيات الاقتصادية المباشرة على السودان تدمير البنية التحتية وتعطل الإنتاج مما يعطل الإنتاج والنقل والتجارة. وهذا يعمق الأزمة الاقتصادية في السودان ويزيد من الفقر والبطالة. كما تسببت الحرب في انخفاض حاد في قيمة الجنيه السوداني، مما أدى إلى ارتفاع كبير في معدلات التضخم. وهذا يزيد من تكلفة المعيشة ويؤثر سلبًا على القدرة الشرائية للسودانيين إلى جانب تعطل الصادرات، مما يزيد من أزمة السيولة ويعمق العجز في الميزان التجاري للبلاد.
إن الحرب في السودان تؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عبر تعميق الأزمات الاقتصادية في السودان نفسه، وزيادة الضغوط على الدول المجاورة، وخلق توترات سياسية واقتصادية تؤثر على الاستقرار والنمو في المنطقة بأكملها.ومن التأثيرات على الدول المجاورة ودول المنطقة: تدفق اللاجئين وهو ما أدى إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان إلى دول الجوار مثل مصر وتشاد وجنوب السودان. وهو ما يفاقم الضغوط على الموارد الاقتصادية والبنية التحتية في هذه الدول، ويعرقل نموها الاقتصادي. إضافة الى اضطراب التجارة الإقليمية بحكم أن السودان يمثل ممرًا تجاريًا هامًا لبعض دول المنطقة. فالحرب تؤدي إلى اضطراب النقل والتجارة عبر السودان، مما يؤثر على حركة السلع بين الدول المجاورة ويزيد من تكاليف النقل. كما ساهمت الحرب في زيادة التوترات السياسية: الصراع في السودان يزيد من عدم الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي وشمال أفريقيا، مما قد يؤثر على استقرار الدول المجاورة ويقلل من فرص التعاون الاقتصادي الإقليمي.
ومن التأثيرات أيضا احداث تقلبات في أسواق النفط، على الرغم من أن السودان ليس من كبار منتجي النفط على مستوى العالم، إلا أن عدم الاستقرار في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي أوجد توترات تؤثر على حركة النفط عبر الممرات المائية الحيوية مثل باب المندب. أي اضطراب في هذه المنطقة يمكن أن يؤثر على أسعار النفط ويزيد من تقلبات السوق. ومن التأثيرات أخيرا تفاقم أزمة الغذاء في المنطقة حيث أن السودان يعتبر من الدول الزراعية الهامة في أفريقيا، والحرب تؤدي إلى تعطيل الزراعة وتدمير المحاصيل، مما يقلل من القدرة على توفير الغذاء محليًا وزيادة الاعتماد على الواردات. هذا يمكن أن يؤثر على الأمن الغذائي في الدول المجاورة التي تعتمد جزئيًا على الواردات الغذائية من السودان.
ومن التأثيرات كذلك ارتفاع بعض أسعار السلع الأساسية وخصوصا تلك التي يعتبر فيها السودان منتجا ومصدر ا رئيسيا مثل الصمغ العربي. فتعطل الإنتاج والتصدير بسبب الحرب يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار هذه السلع في الأسواق العالمية، مما يؤثر على الدول المستوردة في المنطقة.
وعموما فإن الحرب في السودان تؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عبر تعميق الأزمات الاقتصادية في السودان نفسه، وزيادة الضغوط على الدول المجاورة، وخلق توترات سياسية واقتصادية تؤثر على الاستقرار والنمو في المنطقة بأكملها.
إقرأ أيضا: تحديات النمو الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. المشكلات الهيكلية
* أستاذ الاقتصاد والتمويل الإسلامي
[email protected]