رئيس مصلحة الطب الشرعى الأسبق: ناظرت حوالى 800 جثة .. وعاينت العبارة السلام وجثث فض اعتصام رابعة

كتبت تقرير قضية خالد سعيد بيدي.. وتقرير وفاة سعاد حسنى كلام مرسل

أول جثة شرّحتها كانت لطفل ظل يطاردنى فى المنام لـ«يخنقني»

 

مهنته لها طابع خاص، فهى سلسلة من الحلقات المتشابكة بين الطب والقانون والأمن، فرغم امتلاكه كافة الأدوات لا يمكن أن يمارس مهمته دون أذن من النيابة، وبتقريره الطبى المبنى على أسس علمية، قد تكتب البراءة لمتهم أو يصل إلى حبل المشنقة، لكل حالة أسرارها الخاصة التى تخرج فى بيانات رسمية، إنه الطبيب الشرعي، وفى منزله بمدينة الشروق، وعلى مدار 180 دقيقة، فتح لـ«الوفد» كبير الأطباء الشرعيين، ورئيس مصلحة الطب الشرعى الأسبق الدكتور أيمن فودة، خزائن ذكريات عمله التى تجاوزت 40 عاماً، فى حوار مليء بالادلة والبراهين، الخاصة بعدد من قضايا الرأى العام، منها عبارة السلام 2006، والفنانة سعاد حسني، وخالد سعيد، وضحايا ثورة يناير وفض اعتصام رابعة والنهضة، والتطرق لحقيقة اساطير وروايات يتم تداولها عن المهنة وعالم الاموات، فإلى نص الحوار:

كنت لسه متعين فى مشرحة بورسعيد، وحلفت اليمن بعد 6 أشهر فقط، لأبدأ أولى خطواتى فى مجال التشريح، وأول جثة كانت لطفل، توفى بسبب وجبة سجق من الشارع، وأصيب بتسمم غذائي، فلما بدأت فى تشريحه «صعب عليا»، وكنت آراه فى منامى وهو حزين لأنى شرّحت جسده، ويحاول أن يخنقني، طاردنى هذا الكابوس طويلا، لحد الرعب، ولكن مع تكرار تشريح الجثث اعتدت الأمر.

عملت فى مئات القضايا وشرحت اكثر من 800 جثة، ومن القضايا التى عملت بها، كارثة غرق العبارة السلام فى 2006، كنت رئيس الفريق الذى ناظر العبارة السلام، والمعاينة كشفت أن العبارة اصطدمت بالصخور فأحدثت ثقبًا فيها وغرقت، ولم تكن مجهزة بوسائل إنقاذ كاملة، ودرجة حرارة مياه البحر كانت 4 درجات مئوية، فعندما قفز الركاب فى المياه انخفضت درجة حرارة جسدهم للتتناسب مع الوسط المحيط بهم «مياه البحر»، ويموت الشخص عند هبوط درجة حرارة جسده سريعا، فعدد كبير من الضحايا توفوا بسبب ضعف إجراءات الإنقاذ، وجزء مات بسبب برودة المياه.

قبل ثورة يناير، كلفت بقضية خالد سعيد، وكنت طبيبًا شرعيًا استشاريًا، وقدمت تقريرًا مضادًا لتقرير لجنة مصلحة الطب الشرعي، التى تم تشكيلها من أساتذة الطب الشرعى فى جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية، وقال تقريرهم أنه مات مخنوقًا لأنه ابتلع لفافة «بانجو» طولها 8.5 سم، وسمكها 2.5 سم، وحُشرت فى تجويف الحنجرة، فكان ردى أن ليس شرطا أن  تكون الاصابات الخارجية فى الوجه والجمجمة والجسد تعبر عن ما حدث داخل الجمجمة، موضحا فى تقريرى ان طول الحنجرة عند الرجال 3.5 سم، فلو علقت لفافة البانجو فى الحلق بطولها 8.5 سم ، فيتبقى منها فى الفم 5 سم، فلو شعر باختناق يستطيع أن يخرج اللفافة بيده، وخالد سعيد لم يفعل ذلك، إذا اللفافة تم وضعها بعد الوفاة، بدليل عدم وجود إصابات حيوية فى الفم، والسبب الرئيسى للوفاة، هو الارتجاج الدماغي، بسبب تعرضه للضرب.

وفى أحداث فض اعتصامى رابعة والنهضة كانت الجثث حوالى 700 جثة، فلم يكن العدد كبيرًا كما روج جماعة الإخوان الإرهابية، وكان من بين الجثث أشخاص تم إلباسهم أكفانًا وناموا وسط الجثث، وعند الاقتراب منهم تحركوا، وخرجوا من الأكفان، وكان هدفهم واضحًا وهو نشر صورة بشعة عن أحداث الفض.

"عُرض عليا" تقرير تشريح جثة الفنانة سعاد حسني، ولم يضم التقرير أدلة قوية تأكد عدم انتحار السندريلا، وجاء فى تقرير الطبيب الشرعى آنذاك، كلام مرسل دون معاينة مسرح الجريمة، ومن المفترض أن ينتقل الطبيب الشرعى لمسرح الجريمة لمعاينتها، بإذن النيابة.

نعم يحق للطبيب الشرعى أن يطلب الإذن من النيابة العامة للانتقال إلى مسرح الواقعة، وهذا حدث معى فى قضية، كان هناك شخص فى وظيفة مرموقة، وكان متزوجًا من راقصة فى منطقة وادى النيل، وكانت والدته عميدة إحدى الكليات، وتزوجها دون موافقة أسرته، وحال تواجد الراقصة فى غرفة نومه فى الطابق الخامس صعدت على المكيف وألقت بنفسها من أعلى، لتسقط أرضا وتموت، وطلبت الانتقال إلى مسرح الجريمة ووجدت أثار قدمى الراقصة على ظهر المكيف، فهاذا دليل أنها وقفت بإرادتها وقفزت من الطابق الخامس، لتزول الشبهة الجنائية من الحادث.

عندما تأتى الجثة إلى المشرحة، تقيد كإشارة  فى دفاتر خاصة بفحص وتشريح الجثث، ويتم تصنيفها حسب نوع الوفاة عارضة، أو جنائية أو انتحارية، ويتم جمع الإخطارات وإحصائها من حيث العدد وطبيعة الوفاة، وبناء على يتم اتخاذ الأوضاع القانونية لتلك الجثث، وإذا كانت هناك ظاهرة عامة، يتم تعديل القانون بما يحكم الظاهرة، فعلى سبيل المثال إذا زادت حالات القتل باستخدام السلاح، هذا يدل على عدم حرص الأجهزة المختصة بمراقبة السلاح، ومنها يتم التشديد على المناطق التى انتشر فيها السلاح.

فالإحصائيات تخرج من مصلحة الطب الشرعى لوزارة العدل، وترفعها العدل إلى مجلس الوزراء، وعليه يجرى تعديل القانون، فمثل إذا أفادت الاحصائيات انتشار جرائم الاغتصاب، يتم تعديل القانون لتكون العقوبة أشد، ونذكر فى إحصائية مصلحة الطب الشرعى المرفوعة إلى وزارة العدل عدد الرجال والسيدات الذين تم فحصهم، وظروف تشريحهم إذا كان انتحار بالسم، أوإلقاء نفسها من علو، أو وجود شبة جنائية، وتظهر إحصائيات  الطب الشرعى، تصنيفات للأعداد الوفيات من الذكور والإناث وأسباب الوفاة.

قواعد التشريح واحدة بالنسبة للرجال والسيدات، يقوم الطبيب الشرعى بعمل فتح فى الجمجمة بجوار الأذن اليمنى وفتح آخر عند الأذن اليسرى، ثم يزيل فروة الرأس، ويستخدم المنشار الكهربائى لفتح الجمجمة، ويناظر المخ وعظم الجمجمة الذى استخرجه، ويستخرج الطبيب الشرعى المخ من الجثة، ويجرى وزن المخ وفحصه نظريا بالعين المجرد، ويتم إرساله الى المعامل المختصة، ثم وزن المخ لفحصه من أى تغيرات، ولا يمكن تأكيد الإصابات إلا بالميكروسكوب.

يأخذ الطبيب الشرعى بصمات الجثة، ويجرى وضع علامات الاستعراف عليها ويتم إلباسها كارت وتشريحها، ثم وضعها فى الثلاجة لمدة 3 أشهر، إذ لم يأت أهلها لاستلامه دفنت فى مقابر الصدقة الموجودة أمام المشرحة، بإذن النيابة.

كيف استفاد الطب الشرعى من التكنولوجيا الحديثة؟

التكنولوجيا أحدثت طفرة فى المشارح، والحكومة اهتمت بتطويرها بصفة مستمرة، قديما لم يكن هناك ثلاجات فى المشارح، فكان يتم وضع ثلج على الجثث، ثم جاءوا بالثلاجات الخشب، ثم بالثلاجات الحديثة، التى تحافظ على درجة تبريد موحدة، يتم حفظ الجثث فى درجة هى 4 درجات مئوية، حتى تكون جاهزة للتشريح فورا، مضيفا أن استخدام الـDNA، أحدث ثورة فى الفحص والتشريح، ومصر استفادت من فحص البصمة الوراثية، فى كل المجالات.

كيف كان يعمل الطبيب الشرعى قديما قبل هذا التطور التكنولوجي؟

كان يجرى تشريح الجثامين فى المنازل، وعلى جسور الترع، والأماكن العامة، وفى المقابر لكن منع هذا فى منتصف الثمانينات، فحاليا لا يتم التشريح إلا المشارح العامة ومشارح المستشفيات بأمر من النيابة، وكان طبيب التشريح قديما ينتقل إلى الساحات العامة، يضع الجثة على طاولة خشب، ومشرطه وبجواره «جردل» يحتوى على الماء. 

كل مرحلة لها طريقة للتعامل معها، فالجثة التى تصل إلى المشرحة خلال ساعتين من الوفاة لها تعامل خاص، وبعد 36 ساعة لها تعامل آخر، و72 لها وضع آخر، والجثة التى مر عليها 3 أشهر أو 4 لها تعامل مختلف فتكون فى هذا الوضع عبارة عن رفات «هياكل عظمية، وبالنسبة للجثث المستخرجة من المياه، لها وضع مختلف، فالمياه تعمل كمادة حافظة، فالجثامين لا يحدث لها تعفن فى المياه، فتتفاعل المياه مع الـDNA الموجود فى الجثة، ويحدث لها تصبن، وتحتفظ بآثار الإصابة بها، وفى حالة دفن الجثة فى مكان صحراوى، يحدث لها تحول ممياوي، فتمتص التربة الجافة السوائل الارتشاحية والمياه الموجودة فى الجسم، فتجف وتصبح أشبه بالمومياء.

إذا كان هناك اشتباه فى الوفاة بالسم، نناظرالجثة ولأن السم يحدث نوعًا من الإسفكسيا، فتجد الشفاه زرقاء، والعين محتقنة، وظهور أظافر الجثة باللون الأزرق، نتيجة انخفاض الأكسجين فى الجسم، بفعل المادة السامة، وكل سم يعطى لونًا مختلفًا، للرسوب الدموى، فنأخذ عينات حشوية من الجثة تشمل المعدة ومحتوياتها، وعينات (دماء، وبول، والمعدة، ومن الأمعاء الدقيقة والغليظة، وجزء من الكبد، ونصف كل كلية) يتم وضع كل عينة فى برطمان منفصل، ويتم إرسال هذه العينات إلى المعامل الكيماوية، ويتم استخلاص السوائل نواتج التحضير، ويتم خلطها بمادة حمضية أو قلوية، ويتم إدخالها فى أجهزة حساسة، لاستخراج السم، وفى حالة المخدرات تظهر رسمة بيانية على شاشة الأجهزة توضح نوع المخدر، فيظهر مخدر الحشيش، على هيئة اصابع، كما تمكننا الفحوصات من معرفة كمية السم أو المخدرات الموجودة بالجسم.، وهناك قضايا تسمم بالزرنيخ، مثل واقعة السفاحة صباح سيدة الغربية التى قتلت 4 أشخاص، باستخدام الزرنيخ، لم يظهر سم الزرنيخ على الضحايا، إلا عند اشتباه النيابة فى الوفاة، وفحص الطب الشرعى لشعر الجثث، ويظهر الشخص المسمم بالزرنيخ كحالة مرضية، يتسرب السم فى جسده ويفتك به من الداخل، وأكثر حالات التسمم سواء أكان انتحارًا، أو قتلًا، تكون بحبوب حفظ الغلال، والمبيدات الحشرية.

هناك نسبة تمثل 10% من الجثث، لا يتم معرفة سبب الوفاة، ويرجع  لعدة أسباب منها جهل الطبيب، أو قلة خبرته، أو وجود أمراض كامنة غير ظاهرة، أو ضعف الإمكانيات، لكن فى الوقت الحالى كل الامكانيات متوفرة، ويتوقف على خبرة الطبيب نفسه ومستوى تدريبه.

وبالنسبة للأطباء الشرعيين، نعم هناك عجز كبير، بسبب هجرة الأطباء الشرعيين إلى أوروبا بسبب ضعف رواتبهم، فتستقطبهم الدول الأجنبية دون اختبارات، ويمنحواهم تدريبات وشهادات، ويتم الاستفادة منهم فى مجال التشريح فى تلك الدول.

مهنتنا مليئة بالمواقف والمواعظ، أتذكر جاء رجل إلى المشرحة ليتسلم جثمان شقيقه عقب تشريحه، فى يوم الجمعة، فاصطحبته معى للصلاة، وخلال الصلاة بجوارى توفى، وهناك واقعة أخرى لرجل كان ذا سيط فى مجال الإذاعة والتليفزيون، وكان متزوجًا من سيدة إيطالية تعانى من شلل، وسقط على الأرض فمات، وكانت جالسة تنظر لجثة زوجها يومين، وعندما جاء أحد أقاربه، ليطمئن عليهما، وجد السيدة فى حالة جوع، وغير قادرة على النزول من السرير، لأن زوجها المتوفى كان يخدمها.

وحالة أخرى، فى توقيت حرب العراق، كانت هناك سيدة تحمل ابنها وأصيب فى رأسه بشظايا من قنابل عنقودية فتوفى، ولم يكن لها أولاد غيره، فحملته إلى منزلها ووضعته على السرير لمدة شهر، وزوجها لم يستطع أن يبلغ الشرطة، وأما السيدة فأصيبت بحالة نفسية وجلست بجوار جثمان طفلها المتحلل والتى خرجت الديدان من جسده لتأكل باقى أحشائه، فى النهاية أبلغ زوجها الشرطة التى جاءت مع فريق من النيابة العامة والأطباء الشرعيين، لنجد أن شظايا سكنت رأس الطفل وتسببت فى مقتله.

ومن أغرب القضايا، أتذكر أنه كان هناك داعية إسلامى كبير، أنجب طفلا «ماغوليا مصابًا بمتلازمة داون»، ومثل هذه الحالات فى أوروبا يتم إخصاء الطفل، أما فى مصر فالتعقيم محظور، فسألتنى المحكمة عن إذا كان الطفل قادرًا على الزواج والانجاب أم لا، لأن والدته كانت تريد أن تزوجه لأنه ابنها الوحيد وزوجها الداعية توفى، وتريد أن تحافظ على ميراث الأسرة، وفكرت أن الدستور  ينص على أن الأسرة هى نواة المجتمع، فالمجتمع السليم ينشأ من أسرة سليمة، فكتبت فى تقريرى المرفوع إلى المحكمة، أنى أرفض الإنابة القضائية فى هذه الزيجة، لأنه مخالف للدستور، فالأسرة السليمة نواة لمجتمع سليم، فهذا المرض وراثي، سوف ينتقل لجيل بعد جيل، فنجد بعد فترة أن نسبة المصابين بـ»متلازمة داون» ارتفعت فى المجتمع، وهم فئة غير منتجة، وبعد هذا التقرير أصبحت المحاكم تتشدد جدا فى مثل هذه القضايا.

مرة وأنا كنت بشرّح واحدا، بحثت عنه فى الثلاجة فلم أجده، ولم أعلم أن زملائى وضعوه بجانب طاولة التشريح، وكانت هناك قطة فدفعت بكوب داخل جردل، فأحدث صوتا رنانًا دوى فى المشرحة بشكل مخيف لأنها كانت فارغة، ونظرت إلى الطاولة لأجد جثة الرجل العجوز، شعر رأسى توقف وقلبى كاد أن يلحق به من شدة الرعب، وكان هذا نتيجة لكثرة الأقاويل التى كنا نسمعها عن تواجد الاشباح والجن فى المشارح، ويرجع ذلك لذكريات الطفولة التى كانت مليئة بالقصص التى كنا نسمعها من الأسرة مثل أمنا الغولة، فيلعب بك عقلك الباطن ويهيئ لك بعض الخيالات، لكن البعض يرى أن المشارح مدرسة فى الحياة، فالطبيب الشرعى يقف على الباب الخلفى للمجتمع، لأنه يرى شخصًا يرتدى بدلة، وبعد فترة يأتيه جثة، ليشرحها للوقوف على كيفية الوفاة، فنظرته تكون ثاقبة ومغايرة عن الإنسان العادي.

والدراما لعبت دورا كبيرا فى انتشار هذه الروايات، بأن الجثث تعطى إشارات وما شاب، ولكنى أؤكد أنه لا توجد أى إشارات من الجثث، أو ميت يبكى أو يضحك ولكنها إشاعات، والتفسير العلمى لحدوث تغيرات فى فم الجثة يرجع للتيبس الرمى فى العضلات، فيكون الفم فى حالة إعوجاج، حسب وضع الوفاة.

 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الدكتور أيمن فودة اعتصام رابعة ض اعتصام رابعة من النیابة إذا کان فى حالة

إقرأ أيضاً:

فى وداع العالم الدكتور محمد المرتضى مصطفى

نقل لى الصديق العزيز الأستاذ سيف الدين عبد الحميد النبأ الحزين جدا عن إنتقال الدكتور محمد المرتضى مصطفى إلى جوار ربه اليوم الأربعاء بمدينة سان ريمون بولاية كاليفورنيا .

رحم الله الأستاذ الدكتور الفاضل ، محمد المرتضى مصطفى وانزله منازل المصطفين المكرمين وجعل البركة فى أبنائه وأحفاده وزوجته الراحلة السيدة منى عز الدين فى برزخها العامر البهى والتى سبقته إلى دار البقاء قبل أربعة أعوام ،وكل أسرته الكبيرة وكل عارفى فضله واحسن عزائهم فيه والزمهم الصبر الجميل ..

الدكتور محمد المرتضى من علماء البلد الأفذاذ والتكنقراط النادرين جدا.. وهو واحد من قلة من السودانيين من ذلك الجيل تلقوا دراساتهم العليا بجامعة هارفارد الأمريكية المرموقة .

شغل منصب وكيل أول وزارة العمل لسنوات إبان حكم الرئيس نميرى وبعض من فترة حكومة الصادق المهدى الذى اقاله بعد أن اختلفا فى التصورات على خطط إصلاحات الخدمة المدنية وقد رأى فيه رئيس الوزراء وقتها نموذجا للتكنقراطي المحترف صعب القياد .

بعد يومين من إقالته تلقى إتصالا من منظمة العمل الدولية بجنيف تطلب منه الحضور إلى مقرها بسويسرا فورا وقامت بتعيننه خبيرا بها ومديرا لمكتبها بإقليم جنوب إفريقيا مقيما فى هرارى عاصمة زيمبابوي وخلال فترة عمله هناك وضع واشرف على خطة إنتقال الخدمة المدنية ونظام العمل فى جنوب إفريقيا من نظام الفصل العنصرى إلى النظام الديمقراطى .وحينما كان يعمل بهرارى لعب دورا مهما فى إلتحاق الدكتور عبد الله حمدوك بالعمل فى اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة .

وبعد أن ساءت العلاقة بين نظام الإنقاذ ومصر فى النصف الأول من التسعينيات إثر تورط نظام الإنقاذ فى عملية إغتيال الرئيس المصرى وقتها حسني مبارك ووصلت إلى الحضيض تم نقله من هرارى إلى القاهرة مديرا لمكتب منظمة العمل الدولية لإقليم شمال إفريقيا وليمثل قناة خلفية لتخفيف التوتر فى العلاقة بين البلدين .

ربطتنى بالرجل محبة كبيرة وخالصة لوجه الله منذ أن تعرفت عليه أوائل الألفين فى زياراته لمقر صحيفتنا "الصحافي الدولي" والتى كان تجمعه صداقة برئيس مجلس إدارتها الدكتور محمد محجوب هارون .

كان يفرح جدا بزياراتنا المسائية له معا انا والاخ والزميل العزيز سيف الدين عبد الحميد مترجم الصحيفة او ايا منا بمفرده منذ أن كان بمنزل الأسرة فى الخرطوم (3) ثم بعد إنتقاله إلى منزله الفخيم بحى قاردن سيتى ويكرمنا غاية الكرم .. وكان يهدينى كتبا واشياء اخرى قيمة كلما عاد إلى السودان من اسفاره بالخارج وقبل كل ذلك كان ينفعنا بعلمه الغزير وتجربته وخبرته الثرة الحياتية والعملية فى السودان وخارجه ويصحح بلطف الكثير من المفاهيم والمعلومات الخاطئة عندى حينما يرى جنوحا من أثر فورة وحماس الشباب وقتها ويبقى على جوهرها الإنسانى . كما كان يلهمنى كثير من الأفكار النيرة التى استفدت منها فى اعمالى الصحافية وفى حياتى الخاصة . كان يفعل كل ذلك بتواضع جم ومحبة توصيل الخير إلى الناس .

كان الدكتور مرتضى شاهدا على العصر وعارفا باقدار الرجال فى بلادنا ومحيطها العربى و الافريقى يختزن مئات القصص والحكايات لاشخاص واحداث ومواقف عاصرها او كان جزءا منها او قرأ عنها فى مظان لا تتوفر ببلادنا خاصة تلك التى تكون قد شاعت بسردية معينة ورسخت فهما بعينه فى تاريخنا الحديث او القديم نسبيا وحينما تسمعها منه بوقائعها الدقيقة وحواشيها ومقدماتها تغير لك كل معرفتك عنها .

كان محبا جدا للاستاذ محمود ويرى فيه عالما ومصلحا دينيا كبيرا عاش فى واقع جاهل وحوكم بواسطة قضاة وفقهاء وحكام ليس لديهم من علمه ولا قلامة ظفر .

يدعونى كتيرا عنده حينما يكون عنده ضيوف مهمين عازمهم عشاء او غداء وخاصة فى رمضان ..
التقيت عنده بشخصيات مهمة سودانية وأجنبية خاصة من مصر وإثيوبيا وارتريا ومن ضمن عرفتهم عنده السياسى الارتري حروى تدلا بايرو الذى يقيم فى السويد وكان والده تدلا بايرو من كبار الزعماء السياسيين فى ارتريا .. عرفه دكتور مرتضى بعلاقتى الفكرية بالاستاذ محمود فتحولت جلستنا كلها للحديث عنه حيث أشار لى للعلاقة القوية التى ربطت قادة جبهة التحرير الارترية بالاستاذ محمود وكيف انهم كانوا يتلقون منه الأفكار والنصائح العميقة المضيئة والاكرام حينما كانوا يزورونه بمكتبه فى عمارة إبن عوف بالخرطوم .

وأذكر من ضمن الكتب التى اهدانى اياها د. مرتضى الترجمة العربية لكتاب البروفيسور عبد الله النعيم (نحو تطوير التشريع الاسلامى) الذى ترجمه وقدم له المفكر المصرى الدكتور حسين أحمد أمين وحدثنى مطولا عن المترجم وأسرته فقد كان د. مرتضى عارفا دقيقا بالحياة والثقافة المصرية وتاريخها ونخبها .

من ضمن زملاء د. مرتضى فى مرحلة الدراسة الثانوية بمدرسة خور طقت كان الدكتور فرانسيس دينق وحكى لنا كيف انه ولمكانة والده سلطان دينكا نقوك، دينق مجوك وعلاقته المميزة بناظر المسيرية بابو نمر تم استيعابه بالمدرسة المرموقة بعد أن انتهت فترة القبول وذكر لنا أنه استضافه فى غرفته بداخليات المدرسة لقرابة العام .

عندما يكون الدكتور مرتضى موجودا بالسودان وانقطع منه لأسبوعين يتصل بي ليسأل عن صحتى وأسباب غيابي .

عاش الدكتور مرتضى حياته باستقامة وطنية ومع انه لم يكن منتميا سياسيا لحزب ولكنه كان وطنيا غيورا فحينما كانت تغضبه اقوال وتصريحات مسؤولى نظام الإنقاذ وما أكثرها كان يتصل بى ويطلب منى الحضور إليه ويُملينى مقالا كاملا عالما فى نقد وتصويب مقولات ذلك المسؤول .

وكما كان الرجل متواضعا كان أيضا ضحوكا يطرب للطرفة ويحكى كثيرا من المواقف والأحداث الطريفة ويضحك لها بصوت مجلجل محبب إلى النفس.

استضفناه فى منبر صحيفة "الصحافة" عام 2007 تقريبا فى محاضرة عن جذور فشل الدولة السودانية وقد وجدت الأفكار التى اذاعها أصداء واسعة فى ذلك الوقت ولم ترق المسؤولين فى الدولة وقتها ولا زال يتم تدوير الرصد المنشور فى الصحيفة و الذى قام به الزميل قرشى عوض فى السوشيال ميديا كل حين وآخر وكانما كان الدكتور الراحل يحذرنا ويتنبأ لنا بهذا المآل الحزين الان .

الا رحم الله العالم الدكتور الفاضل ، محمد المرتضى مصطفى برحمة الرحيم وجزاه عنا المقامات العُلى عنده ..

لا حول ولا قوة إلاّ بالله
إنا لله وإنا إليه راجعون

علاء الدين بشير - الشارقة
20 نوفمبر  

مقالات مشابهة

  • فى وداع العالم الدكتور محمد المرتضى مصطفى
  • أسبوع فاصل فى قضية الفنان سعد الصغير.. تقرير الطب الشرعى يحدد مصيره
  • لمناقشة الطب الشرعى.. تأجيل محاكمة المتهم بذبح «عريس العياط»
  • الإعلامي محمد فودة: الدكتور أيمن عاشور يصنع "التميز" ويكتب شهادة ميلاد جديدة للتعليم العالي بتوجيهات الرئيس السيسي
  • الاعلامى محمد فودة: الدكتور أيمن عاشور يصنع التميز ويكتب شهادة ميلاد جديدة للتعليم العالي بتوجيهات الرئيس السيسى
  • الاعلامى محمد فودة: الدكتور أيمن عاشور يصنع "التميز" ويكتب شهادة ميلاد جديدة للتعليم العالي بتوجيهات الرئيس السيسى
  • رضا فرحات: إحصاء 2017 كانت نسبة الإيجار القديم في القاهرة 41% والإسكندرية 13%
  • جامعة كفر الشيخ تنعي الدكتور محمود الصيفي عميد كلية الطب البيطري الأسبق
  • في ذكرى ميلاد النمر الأسود.. كيف كانت علاقة الفنان أحمد زكي بنجله هيثم؟
  • مفاجأة .. تقرير الطب الشرعي يدين "الدكتور النصاب" بالغربية