في سيرة حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) التي سبقت نزول الوحي على قلبه الأمين، محطاتٌ ومناسبات عدة ينبغي الوقوف عندها لأنها مثلت قصة التدبير الإلهي الذي أهّل سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) لحمل رسالة النبوة وتحمّل أعباء الدعوة، فكانت بمثابة تربية ربانيّة لصنع هذه الشخصية العظيمة بكل جوانبها. ومن أبرز تلك المحطات والتفاصيل في سيرته (صلى الله عليه وسلم) عمله في رعي الأغنام أول حياته، وذلك في محاولة منه – كأي إنسان طبيعي – لكسب قوته والكدح طلباً لرزقه، ولا شك أن في ذلك حكم جليلة، لا سيما وأن هذه المهنة هي نفسها التي امتهنها جميع الأنبياء قبله، فما هي الحكمة الإلهية من عمل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) برعي الأغنام ؟ وما الغاية الإلهية من جعل رعي الغنم مهنةً مشتركة لجميع الأنبياء السابقين عليهم السلام؟.

كان أبو طالب مُقِلاً في الرِّزق؛ فعمل النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) برعي الغنم مساعدةً منه لعمه، فلقد أخبر صلى الله عليه وسلم  عن نفسه الكريمة، وعن إخوانه من الأنبياء أنَّهم رعوا الغنم، أمَّا هو فقد رعاها لأهل مكَّة؛ وهو غلامٌ، وأخذ حقَّه عن رعيه، ففي الحديث الصَّحيح قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ما بعث الله نبياً إلا رَعى الغنم» فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم! كنت أرعاها على قراريط لأهل مكَّة» [البخاري (2262) وابن ماجه (2149)].

إنَّ رعي الغنم كان يتيح للنَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) الهدوء الذي تتطلَّبه نفسه الكريمة، ويتيح له المتعة بجمال الصَّحراء، ويتيح له التَّطلُّع إلى مظاهر جلال الله في عظمة الخلق، ويتيح له مناجاة الوجود في هدأة الليل، وظلال القمر، ونسمات الأسحار، ويتيح له لوناً من التَّربية النَّفسيَّة: من الصَّبر، والحلم، والأناة، والرَّأفة، والرَّحمة. فكان رعي الغنم للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم دُربةً ومراناً له على سياسة الأمم.

فرعي الغنم يتيح لصاحبه عدَّة خصالٍ تربويَّةٍ، ومنها:

الصَّبر على الرَّعي من طلوع الشمس إلى غروبها، نظراً لبطء الغنم في الأكل: فيحتاج راعيها إلى الصَّبر، والتَّحمُّل، وكذا تربية البشر. وإنَّ الرَّاعي لا يعيش في قصرٍ منيفٍ، ولا في ترفٍ، وسرفٍ، وإنَّما يعيش في جوٍّ حارٍّ شديد الحرارة، وبخاصَّةٍ في الجزيرة العربيَّة، ويحتاج إلى الماء الغزير؛ ليُذهب ظمأه، وهو لا يجد إلا الخشونة في الطَّعام وشظف العيش، فينبغي أن يحمل نفسه على تحمُّل هذه الظُّروف القاسية ويألفها، ويصبر عليها. التَّواضع: إذ إنَّ طبيعة عمل الرَّاعي خدمةُ الغنم، والإشرافُ على ولادتها، والقيام بحراستها، والنَّوم بالقرب منها، وربما أصابه ما أصابه من رذاذ بولها، أو شيءٌ من روثها، فلا يتضجَّر من هذا، ومع المداومة والاستمرار يَبْعد عن نفسه الكبر والكبرياء، ويرتكز في نفسه خلق التَّواضع.

وقد ورد في صحيح مسلمٍ: أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كِبْرٍ». قال رجلٌ: إنَّ الرَّجل يحبُّ أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً. فقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر: بطرُ الحقِّ، وغَمْطُ النَّاس» [مسلم (91) والترمذي (1999) والحاكم (1/26)].

الشَّجاعة: فطبيعة عمل الرَّاعي الاصطدام بالوحوش المفترسة، فلابدَّ أن يكون على جانبٍ كبيرٍ من الشَّجاعة، تؤهِّله للقضاء على الوحوش، ومنعها من افتراس أغنامه. الرَّحمة والعطف: إنَّ الرَّاعي يقوم بمقتضى عمله بمساعدة الغنم؛ إن هي مرضت، أو كُسرت، أو أصيبت، وتدعو حالة مرضها وألمها إلى العطف عليها، وعلاجها والتَّخفيف من آلامها، فمن يرحم الحيوان يكون أشدَّ رحمةً بالإنسان، وبخاصَّةٍ إذا كان رسولاً أرسله الله تبارك وتعالى لتعليم الإنسان، وإرشاده، وإنقاذه من النَّار، وإسعاده في الدَّارين. حبُّ الكسب من عرق الجبين: إنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يغنيَ محمداً صلى الله عليه وسلم عن رعي الغنم، ولكن هذه تربيةٌ له ولأمَّته للأكل من كسب اليد، وعرق الجبين، ورعي الغنم نوعٌ من أنواع الكسب باليد. إنَّ صاحب الدَّعوة يجب أن يستغني عمَّا في أيدي الناس، ولا يعتمد عليهم، فبذلك تبقى قيمته، وترتفع منزلته، ويبتعد عن الشُّبه، والتَّشكيك فيه، ويتجرَّد عمله لله تعالى، ويردُّ شبهة الكفرة الظَّلمة، الَّذين يصوِّرون للنَّاس: أنَّ الأنبياء أرادوا الدُّنيا بدعوتهم. روى البخاريُّ عن المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحدٌ طعاماً قطُّ خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإنَّ نبيَّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده» [البخاري (2072)].

ولا شكَّ: أنَّ الاعتماد على الكسب الحلال يكسب الإنسان الحرِّيَّة التَّامَّة، والقدرة على قول كلمة الحقِّ، والصَّدْع بها، وكم من الناس يطأطئون رؤوسهم للطُّغاة، ويسكتون على باطلهم، ويجارونهم في أهوائهم خوفاً على وظائفهم عندهم!.

إنَّ صاحب أيِّ دعوةٍ لن تقوم لدعوته أيُّ قيمةٍ في النَّاس، إذا ما كان كسبه ورزقه من وراء دعوته، أو على أساسٍ مِنْ عطايا النَّاس وصدقاتهم، ولذا كان صاحب الدَّعوة الإسلاميَّة أحرى النَّاس كلِّهم بأن يعتمد في معيشته على جهده الشَّخصيِّ، أو موردٍ شريفٍ لا استجداء فيه؛ حتَّى لا تكون عليه لأحدٍ من النَّاس مِنَّةٌ، أو فضلٌ في دنياه، فيعوقه ذلك من أن يصدع بكلمة الحقِّ في وجهه، غير مبالٍ بالموقع الَّذي قد تقع من نفسه.

وهذا المعنى وإنْ لم يكن قد خطر في بال الرَّسول (صلى الله عليه وسلم) في هذه الفترة؛ إذ إنَّه لم يكن يعلم بما سيوكل إليه من شأنٍ في الدَّعوة والرِّسالة الإلهيَّة، غير أنَّ هذا المنهج الَّذي هيَّأه الله له ينطوي على هذه الحكمة، ويوضح أنَّ الله تعالى قد أراد ألا يكون في شيءٍ من حياة الرَّسول (صلى الله عليه وسلم) قبل البعثة ما يعرقل سبيل دعوته، أو يؤثِّر عليها أيَّ تأثيرٍ سلبيٍّ، فيما بعد البعثة.

إنَّ إقبال النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) على رعي الأغنام لقصد كسب القوت والرِّزق يشير إلى دلائل مهمَّةٍ في شخصيَّته المباركة؛ منها: الذوق الرَّفيع، والإحساس الدَّقيق اللَّذان جمَّل الله تعالى بهما نبيَّه صلى الله عليه وسلم، فلقد كان عمُّه يحوطه بالعناية التَّامَّة، وكان له في الحنوِّ، والشَّفقة كالأب الشَّفوق، ولكنَّه صلى الله عليه وسلم ما إن آنس في نفسه القدرة على الكسب حتَّى أقبل يكتسب، ويُتعب نفسه لمساعدة عمِّه في مؤونة الإنفاق، وهذا يدلُّ على شهامةٍ في الطَّبع، وبرٍّ في المعاملة، وبذلٍ للوسع.

والدَّلالة الثانية تتعلَّق ببيان نوع الحياة الَّتي يرتضيها الله تعالى لعباده الصَّالحين في دار الدُّنيا، لقد كان سهلاً على الله تعالى أن يهيئ للنَّبيِّ (ﷺ) – وهو في صدر حياته – من أسباب الرَّفاهية ووسائل العيش ما يغنيه عن الكدح ورعاية الأغنام سعياً وراء الرِّزق، ولكنَّ الحكمة الربَّانيَّة تقتضي منَّا أن نعلم: أنَّ خير مال الإنسان ما اكتسبه بكدِّ يمينه، ولقاء ما يقدِّمه من الخدمة لمجتمعه وبني جنسه، وشرُّ المال ما أصابه الإنسان وهو مستلقٍ على ظهره دون أن يرى أيَّ تعبٍ في سبيله، ودون أن يبذل أيَّ فائدةٍ للمجتمع في مقابله.

المراجع:

علي محمد الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، ط1، دار ابن كثير، دمشق، 2004، ص 62-65. محمد أبو فارس، السِّيرة النَّبويَّة دراسةٌ وتحليل، دار الفرقان، الطَّبعة الأولى 1418هـ 1997م، عمَّان. محمد الصادق عرجون، محمَّد رسول الله، دار القلم، الطَّبعة الثانية، 1415 هـ 1995 م، ص (1/177) محمد سعيد رمضان البوطي، فقه السيرة، الطَّبعة الحادية عشرة، 1991 م، دار الفكر، دمشق ـ سورية، ص 50. منير غضبان، فقه السِّيرة النَّبويَّة، معهد البحوث العلميَّة، وإحياء التراث ـ مكَّة المكرَّمة، ص 93.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

المصدر: عين ليبيا

كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم رعی الأغنام الله تعالى رسول الله ل الله

إقرأ أيضاً:

دعاء نزول المطر.. أفضل الأدعية المستجابة كما ورد عن النبي

دعاء نزول المطر.. تشهد البلاد انخفاض في درجات الحرارة، وسقوط أمطار غزيرة، ويتساءل الكثير من المواطنين، اليوم الأحد 24 نوفمبر 2024، عن دعاء المطر، لأن ورد عن النبي «صل الله عليه وسلم» أحاديث عن أن الدعاء عند نزول المطر مستجاب.

دعاء نزول المطر

وتوفر «الأسبوع»، لمتابعيها معرفة كل ما يخص دعاء نزول المطر وذلك ضمن خدمة مستمرة تقدمها لزوارها في مختلف المجالات ويمكنكم المتابعة من خلال الضغط هنا.

دعاء نزول المطردعاء نزول المطر كما ورد عن النبي

ورد عن السيدة عائشة- رضي الله عنها أن النبي صلى ٱللهُ عليه وآله وسلم كان يقول عند نزول المطر: «اللّهم صيبا نافعًا» رواه البخاري، وفي لفظٍ آخر لأبي داود في «السنن» أن الرسول كان يقول: «اللهُم صيبا هنيئا».

وورد عن أبي أمامة- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تفتح أبواب السماء، ويُسْتجابُ الدُّعاءُ في أرْبعة مواطن: عند التقاء الصّفوف في سبيل الله، وعند نزول الغيث، وعند إقامة الصّلاة، وعند رؤية الكعبة».

دعاء نزول المطردعاء المطر

- «اللهم صيبا هنيًا وصيبًا نافعًا».

- «اللّهُمّ اسْقنا غيْثًا مُغيثًا مريئًا نافعًا غيْر ضارٍّ عاجلًا غيْر آجلٍ».

- «اللّهُمّ حواليْنا ولا عليْنا، اللّهُمّ على الآكام والْجبال والآجام والظّراب والأوْدية ومنابت الشّجر».

- «اللهم كما غسلت الأرض بالمطر، اغسل ذنوبنا بعفوك وغفرانك، واغسل قلوبنا من كل هم وضيق، اللهم صيبا نافعا».

- «رب إن لي أحبة تعلمهم، اللهم أرح بالهم وأغثهم من عسراتهم كما تغثنا بالمطر».

- «اللهم أسعد قلوب أحبتي واجعل الخير كالمطر عليهم ولا تحرمهم غفرانك وعفوك».

- «اللهم بقدر حبات المطر اغفر لأصدقائي وأحبتي ذنوبهم وأسعدهم».

دعاء نزول المطردعاء المطر المستجاب

- اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، وضلع الدين، وغلبة الرجال.

- اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

- اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وبصري وشر لساني وشر قلبي وشر منيي.

- اللهم اغفر لي واعف عني وعافني واهدني إلى صراطك المستقيم.

- اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل.

- سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.

دعاء نزول المطردعاء نزول المطر للرزق

- اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم.

- اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات.

- اللهم إني أسألك إيمانًا دائما، وقلبًا خاشعًا، وعلمًا نافعًا، ويقينًا صادقًا، ودينا قيما.

- اللَّهمَّ إنِّي أَعوذ بك مِن الفَقرِ والقِلَّةِ والذِّلَّةِ.

- اللهم إني أسألك العافية من كل بلية.

- اللهم إني أَعوذُ بك أنْ أَظلِمَ أو أُظلَمَ.

- اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني.

دعاء نزول المطرأدعية المطر

- اللهم إني أسالك أن تُطَهّرنا من جميعِ السيئات.

- اللهم إني أسألك أن ترفعني عندك أعلى الدرجات.

- اللهم إنا نعوذ بك من شر أنفسنا وشر الشيطان وشركه.

- اللهم إني أسألك الشكر على العافية، اللهم إني أسألك الغنى عن الناس.

- اللهم إني أسألك أن تَبلِغني أقصى الغايات من جميع الخيرات في الحياة وبعد الممات.

- اللهم إنا تحصنا بك بحق لا حول ولا قوة إلا بالله وتوكلنا عليك أسألك اللهم أن تدفع عنا الشر كله وتحفظنا أينما كنا.

اقرأ أيضاً«يستجاب الدعاء».. ماذا كان يقول «النبي» عند نزول المطر؟

دعاء المطر.. أبرز الأدعية المستجابة للرزق وقضاء الحاجة

تفسير رؤية نزول المطر في المنام.. يحمل العديد من الأمور المفرحة

مقالات مشابهة

  • أنوار الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • تعرف على ورثة الأنبياء
  • دعاء الرياح والعواصف كما ورد عن النبي.. اللهم لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا
  • «اللهم صيبا نافعا».. دعاء المطر المستجاب كما ورد عن النبي
  • عودة: حان وقت إنهاء المغامرة بهذا البلد من أجل أهداف لا تخصه
  • أماكن نهى النبي عن الصلاة فيها.. تعرف عليها
  • دعاء نزول المطر.. أفضل الأدعية المستجابة كما ورد عن النبي
  • اللهم صيبا نافعا.. دعاء المطر المستجاب الوارد عن النبي
  • القِبلة
  • احذر.. فعل شائع بين الرجال نهى عنه النبي يعرضك للعنة 70 ألف ملك