دور الأستاذ الجامعي في نهضة وبناء سورية
تاريخ النشر: 17th, July 2023 GMT
الدكتور خيام الزعبي تتجه أنظار السوريين صوب أساتذة الجامعات بعد الحرب الشرسة التي عاشوها على مدار 12 عاماً ولا زالت مشاهدها حاضرة في أذهانهم، ورغم الثمن الكبير الذي دفعه السوريون في تلك الحرب إلا أن الأمل يحذوهم في أن ينجح الأساتذة كشريك فاعل ومؤثر في إعادة الإعمار والمساهمة في تقديم أفكار ومقترحات علمية تساعد في التخفيف من المنعكسات السلبية للأزمة وتخدم مشروع إعادة البناء وتعزز التشاركية بين الجهات الحكومية والخاصة.
يقع على عاتق الأستاذ الجامعي مهام عديدة تنبثق من أدواره المتعارف عليها، حيث تشمل التدريس والبحث العلمي وخدمة المجتمع، بالإضافة الى إعداد شخصية الطلاب بما يتضمن الجوانب المعرفية والوجدانية والمهارية. ونظراً لامتلاك الأستاذ الجامعي شخصية متسامية تعمل بحرص على توجيه الطلاب نحو بناء خبراتهم ببذل أقصى ما يمتلكون من الطاقات بما يسهم في بناء مستقبلهم ومن ثم بناء ورقي مستقبل سورية. ودور الأستاذ الجامعي في نهضة سورية لا ينفك عن جهوده المتواصلة والمستمرة وسعيه الدؤوب في التنمية المهنية والأكاديمية والمشاركات الإيجابية في الملتقيات والمنتديات والمؤتمرات، والعطاء المميز في الإنتاجية العلمية التي تسهم في تجديد المعرفة ، وهذا يرتبط بتمتعه بروح الولاء والانتماء إلى مؤسسته الجامعية وإلى وطنه الجامع، وهو ما تحتاج إليه سورية في تمتين وتعزيز أركانها، لتتبوأ قدرها ومقدارها بين مصاف الدول، وتمتلك مقومات الريادة والتنافسية، وذلك ما يحث عليه الرئيس الأسد دوماً، ويؤكد بشكل مستمر على دور العلم والعلماء في نهضة سورية. مما لا شك فيه، أن استغلال قدرات المؤسسة الجامعية في خدمة المجتمع ونهضته يتأتى من عمل الأستاذ الجامعي ودوره الفاعل في تزويد مجتمعه بمن يمتلكون مهارات سوق العمل المحلي والدولي، ولديهم مقدرة على مواجهة تغير المهن وتطور المهام، ويثابر الأستاذ في تشكيل الوعي الصحيح نحو المشاركة في قضايا المجتمع المتجددة، ويسهم في تعزيز ربط الطلاب بالمؤسسات الإنتاجية والخدمية بالمجتمع، ومن ثم يربط بحوثه العلمية بخدمة مجتمعه والتي تعالج مشكلاته وتساعد في تنميته، ولا يتوقف عن تقديم المشورة لمن يطلبها من مؤسسات المجتمع العامة والخاصة، وبالطبع يشارك بشكل مستمر في الندوات خارج المؤسسة الجامعية، وفي الدورات التدريبية التنموية للفئات النوعية المستهدفة التي تعمل على تطوير ورقي مؤسساتها في سورية. ويقدم الأستاذ الجامعي جميع بحوثه ليخدم مجتمعه وينمي موارده، كما يعمل الأستاذ الجامعي على تنمية الأمن الفكري لدى طلابه، فعندما يؤمن الفرد بثوابت القيم المجتمعية ومبادئه يتأكد الاطمئنان وتتأصل الجذور، ومن ثم يبتعد الفرد عن كل ما هو دخيل من فكر هدام، ويتبلور لديه الفكر السليم والقيم والتقاليد المجتمعية، ويمثل ذلك بعدا استراتيجيا لأمن الدولة واستقرارها. وفي السياق نفسه تقدر سورية العلم والعلماء وترفع من شأنهم ومن مكانتهم الاجتماعية ، وقد برز ذلك جلياً من خلال تقدير أصحاب الكفاءات بمنحهم الأوسمة لرفع الروح المعنوية لديهم، وتقديم الخدمات الاجتماعية المختلفة لهم في شتى المجالات، كل ذلك يؤكد على أهمية مكانة العلم في سورية ووضع رؤية لرسم معالم سورية الغد. فبالتعليم تبنى وتنهض الأمم، لذلك يعد التعليم في سورية محور التنمية الأول في مختلف أنشطة وخطط الدولة، ووزارة التعليم العالي ماضية في تنفيذ إستراتيجية تطويرية تم إعدادها بعناية بالتشارك مع مؤسسات المجتمع وصُناع القرار، والطموحات لا حدود لها في أن نعايش تعليماً متقدماً يتفق مع آمال وتطلعات المواطن. مهمتنا اليوم وضع المجتمع السوري على سكة النهضة الشاملة المطلوبة وغلق الصفحات السوداء التي ملأتها سيئات الماضي الكئيب وفتح صفحات جديدة ناصعة البياض نرسم فيها مستقبلنا المشرق ونخطط في ثناياها ملامح قادمنا الجميل، ليكن شعارنا منذ هذه اللحظة “الإنطلاقة” نحو البناء وإعمار سورية وبناؤها بالتوعية المجتمعية للوصول بها الى ناصية الدول المتطورة، فسورية ستبقى على الدوام صامدة بفضل محبة والتفاف الشباب حولها، وستنهض من الحرب الحالية أكثر عزيمة في مواجهة الدمار والخراب، فبزوال الأزمة سيعود كل شيء إلى ما كان عليه قبل الأزمة، لأن سورية قادرة على أن تنجب من جديد العلماء والأطباء والمهندسين، سورية التي بنت القاعدة الصناعية من المعامل والمصانع وشيدت الجامعات والمعاهد وبنت المستشفيات قادرة أن تبنيها من جديد والأهم إن الإنسان السوري لم يهزم من داخله ومازال يقف بالمرصاد ضد المشاريع والخطط الاستعمارية ضد أمتنا العربية. وبإختصار شديد، إن وطننا سورية يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى جهودنا وعزائمنا، وهذا يتوقف على قدرتنا في أن نشجع جميع الأفراد على تحمل مسؤوليتهم والمشاركة من موقعهم في العمل على التغيير في أخلاقيات المجتمع وإستعادته لقيم الصدق والصراحة والأمانة، وضرورة العمل بروح الفريق الواحد لضمان نجاحهم بالرغم من كل المعيقات التي ستواجهنا. Khaym1979@yahoo.com جامعة الفرات السورية
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
الخليل بن أحمد الفراهيدي
نابغة علوم اللغة العربية وأستاذها أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، ولد الخليل في ودام الساحل بالمصنعة سنة مائة هجرية وفيها تعلم ونشأ، ثم قرر شق عصا الترحال إلى البصرة للاستزادة في العلم من جانب وطلبا للرزق من جانب آخر، فالبصرة في تلك الفترة كانت مركزا اقتصاديا مهما، ويشكل الأزد فيها النسبة الأكبر من السكان، وكانوا يمتلكون التجارة وخاصة البحرية منها. سافر الخليل بن أحمد إلى البصرة وفيها التقى بعلماء البصرة وجالسهم وناقشهم في علوم اللغة، كان الخليل كثير التدبر في العلم والتفكر فيه وكان كثيرا ما يقول (كن على مدارسة ما في قلبك أحرص منك على حفظ كتابك). حضر الخليل بن أحمد العديد من حلقات العلم في البصرة، فكان يجلس ليتعلم في حلقات كبار علماء البصرة في تلك الفترة مثل أيوب بن أبي العلاء ، وأبي عمرو بن العلاء ، وعيسى بن عمر الثقفي ، وعثمان بن حاضر، وغالب القطان ، والعوام بن الحوشب.
كان الخليل بن أحمد حريصا على طلب العلم، يقضي الساعات الطوال في المطالعة والمذاكرة وفي التأمل والتفكر فيما يقرأ ويتعلم، وكان دائما يقول: أحث كلمة على طلب العلم، قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه:" قَدرُ كُلِّ امرِئٍ ما يُحسِنُ".
يُعد أعظم إنجازات الخليل بن أحمد اكتشافه لعلم العَروض، وهو العلم الذي يُعنى بوزن الشعر وتحديد بحوره. استنبط هذا العلم من ملاحظته للأوزان الشعرية وسماع إيقاعات الألفاظ. قسم الخليل الشعر العربي إلى خمسة عشر بحرًا، أضاف عليها تلميذه الأخفش الأوسط بحرًا آخر ليصبحوا ستة عشر بحرًا معروفة حتى اليوم.
ويُقال إن فكرة علم العروض جاءته أثناء مشيه في السوق، حيث لاحظ وقع الأقدام والأصوات المتكررة، فبدأ في تأليف هذا العلم لضبط الشعر وتقييم وزنه، ما أنقذ الشعر العربي من التلاعب وأتاح للناس فهم قواعده . . وحتى في زيارته لبيت الله الحرام ، كان دعاؤه أن يشرح الله صدره للعلم وأن يهديه إلى علوم جديدة ، فكان أن ابتكر علم العروض، ووضع أسسه وقواعده، وكان الكثير من العلماء ينسبون الخليل إلى علم العروض فيقولون هو الخليل بن أحمد العروضي، تقديرا لدوره الكبير في تأسيس هذا العلم وتنظيره، وكان كثيرا ما يغني الأبيات لتحديد بحورها الشعرية، وكان يستغرق في ذلك الساعات الطوال حتى كان يظن من يدخل عليه أن الخليل قد مسه الجنون، وما ذلك إلا من استغراقه في العلم وعدم انشغاله بغيره، وفي إحدى المرات دخل عليه ولده فلم يفهم ما يقول والده، فخرج إلى الناس صائحا بأن والده قد جُنّ، فدخل عدد من الأشخاص بيت الخليل للاطمئنان عليه فوجدوه مشتغلا بعلمه، فأخبروه بما فعل ولده فقال الخليل مرتجلا بيتين يعذر فيها ولده:
لو كُنت تَعلمُ ما أَقول عذرتني أو كنت تَعلمُ ما تَقُولُ عَذلتُكا
لكن جَهلتْ مَقالتي فَعَذلتني وعَلمتُ أنكَ جَاهلٌ فَعَذرتُكا
إن الخليل بن أحمد مفخرة كل عماني وكل مسلم، لاجتهاده في العلم وتفرغه له بشكل كلي وبعده عن المال والمناصب، هذا الاجتهاد مكنه من أن يكون فريد عصره فلقد أسس لعدد من العلوم، فهو واضع أول معجم لغوي عربي وهو “معجم العين”، وسُمّي بذلك لأنه بدأ بحرف العين، أصعب الحروف نطقًا. تميز المعجم بمنهجيه الفريد في ترتيب الكلمات حيث رتبت الكلمات وفق مخارج الحروف من الحلق إلى الشفتين، على عكس الترتيب الأبجدي التقليدي. هدف الخليل من هذا العمل إلى الحفاظ على اللغة العربية من الضياع، خاصة بعد انتشار اللحن بفعل اختلاط العرب بالأعاجم بعد الفتوحات الإسلامية.
رتب الخليل معجمه ترتيبا صوتيا على حسب مخارج الحروف حيث بدأ المعجم بحروف الحلق فكان أولها حرف العين، ثم الحاء ومن بعدها الهاء ثم الخاء ثم الغين ، وشكلت حروف الحلق هذه حوالي نصف الكتاب، وبعدها يبدأ بحرف القاف ثم الكاف وهي حروف اللهاة، ثم ينتقل إلى حروف الشفتين وهي الفاء والباء والميم، ثم يتناول الحروف المعتلة ، وفي كل باب من هذه الأبواب نظم ترتيب الكلمات على النحو التالي: باب الثنائي المشدد ثانيه، باب الثلاثي الصحيح ، باب الثلاثي المعتل، باب اللفيف، باب الرباعي، باب الخماسي.
ويذكر الفراهيدي في مقدمته السبب وراء الابتداء بحرف العين حيث يقول:" فلم يمكنه أن يبتدأ التأليف من أول أ، ب، ت، ث، وهو الألف لأن الألف حرف معتل فلما فاته الحرف الأول كره أن يبتدأ بالحرف الثاني وهو الباء إلا بعد حجة واستقصاء فدبر ونظر، فدبر ونظر إلى الحروف كلها وذاقها فوجد مخرج الكلام كله من الحلق" وفي موضع آخر من المعجم يقول:" بدأنا في مُؤلَفنا هذا بالعين وهو أقصى الحروف، ونَضُمُّ إليه ما بعده حتى نستوعب كلام العرب الواضح والغريب".
عرف الخليل بتواضعه وزهده، فكان عفيف النفس، رافضًا قبول العطاء من الخلفاء رغم فقره وحاجته للمال. وقد روي أن الخليفة هارون الرشيد عرض عليه مالًا فرفضه، مؤكدًا قناعته بعيش الكفاف.
كما أرسل له والي الأهواز رسولا يعرض عليه راتبا مجزيا في مقابل تعليم ولده، فرفض الخليل هذا العرض وفضل ألا يترك طلابه، وقال للرسول:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غنى، غير أني لست ذا مالِ
سخي بنفسي أني لا أرى أحدا يموت هزلا، ولا يبقى على حالِ.
تخرج على يديه العديد من العلماء، أبرزهم:
سيبويه: الذي يعد كتابه “الكتاب” من أعمدة النحو العربي ولقد اعتمد فيه كثيرا على محاضرات الخليل التي كان يلقيها على طلابه، ومن طلبة العلم لدى الخليل الأخفش الأوسط الذي أكمل عمل الخليل في بحور الشعر و الكسائي أحد أعلام النحو والقراءات.
كان الخليل يُلقب بأستاذ الأساتذة” لما خلفه من إرث علمي ضخم لم يسبق له مثيل في مجاله. مات هذا النابغة سنة 170هـ ودفن في البصرة. وحضر جنازته جمعا غير من أهالي البصرة وأعيانها، ويقال أن سبب موته أنه اصطدم بعمود مسجد في البصرة لأنه كان غارقا في التفكير حول إيجاد طريقة حسابية تسهل على الناس معاملاتهم التجارة.
أشاد العلماء بالخليل فها هو سفيان بن عُيينة يقول عنه (من أحب أن ينظر إلى رجل خلق من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد). وقال عنه الثعالبي:" كان يقال أربعة لم يُلحقوا، ولم يُسبقوا: أبو حنيفة في فقهه، والخليل في أدبه، والجاحظ في تأليفه، وأبو تمام في شعره". وقال عنه أبو بكر الزبيدي: «الخليل بن أحمد أوحد عصره، وجهبذ الأمة، وأستاذ أهل الفطنة الذي لم يُر نظيره، ولا عرف في الدنيا عديله".
ترك الخليل إرثًا علميًا خالدًا، إذ لا تزال بحور الشعر التي وضعها حجر الأساس لدراسة الأدب العربي، ويُعتبر معجم العين من أعمدة المعاجم اللغوية. تظل مساهماته مرجعًا رئيسيًا في الجامعات والمعاهد إلى يومنا هذا. وحرصت سلطنة عمان على إدراج الخليل بن أحمد كشخصية عالمية مؤثرة في التراث الإنساني ومساهمة في تطور علوم البشرية، فكان ذلك في عام 2006م حين أعلنت منظمة اليونسكو أن الخليل بن أحمد الفراهيدي شخصية استثنائية مؤثرة عالميا وملهمة وجدانيا.