يمانيون:
2024-07-06@04:13:52 GMT

حوافز التفكر الجديد في الغرب وتأثيرات حرب غزة

تاريخ النشر: 18th, January 2024 GMT

حوافز التفكر الجديد في الغرب وتأثيرات حرب غزة

يمانيون – متابعات
منذ7 أكتوبر 2023 يعيش العالم على وقع انقسامٍ حاد في الآراء والمواقف، بحيث ينقسم إلى مجموعتين: واحدة تناصر الفلسطينيين وتدعمهم وتراهم أصحاب حقٍ ومقاومة، ومجموعة أخرى تناصر المشروع الصهيوني، وترى في حركات المقاومة التحررية “إرهاباً” يجب أن يُعمل، ليس على مواجهته فحسب، بل على إبادته.

حاولت “إسرائيل” في الأيام الاولى لعدوانها، أن تضلّل المجتمع الغربي على المستوى الإعلامي، فاشتغل إعلامها على تسويق أحداث غير صحيحة، وفبركة قصص خيالية، كاتّهام حماس بقطع الرؤوس وإحراق الأطفال وقتل المسنّين، وهي بروباغندا بكائية لم تنطلِ على كثيرين، لكن الرئيس الأميركي جو بايدن صدّقها مع فريقه وإعلامه، ليعودوا بعد أيام ويعتذروا عن تصديق الكذبة، في موقفٍ محرجٍ لرأس السلطة والبلاد والإعلام الأميركي برمّته.

هذا التضليل وما رافقه من شكوك، ثم تدفّق الصور والفيديوهات حول حجم الانتهاكات الصهيونية ضد الفلسطينيين، دفع كثيراً من الناس في أميركا وأوروبا، لإعادة تمحيص الصور الذهنية المتعلقة بقضية فلسطين، ونقد اتجاهاتهم السياسية والاجتماعية والمعرفية.

هل “إسرائيل” على حق؟ وهل الفلسطيني إرهابي ومتوحش فعلا؟ لم تكن الإجابة بحاجة إلى بحثٍ مطوّل، لأنّ يوميات الحرب على غزة أظهرت كل شيء بوضوح تام.

احتجاجات علنية مستمرة

بدأت الاحتجاجات في المجتمع الأميركي (مباشرة بعد7 أكتوبر) في أرقى الجامعات وأهمّها، إذ شهدت جامعات هارفرد وكولومبيا وستانفورد ونيويورك وبنسلفانيا ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا وغيرها، وقفات تضامنية مع غزة، تدين العنف الصهيوني والتسبّب بمقتل الأطفال والنساء وتهجير العائلات، ما أدّى إلى خلافات بين الطلاب والأساتذة والمسؤولين الإداريين، تسببت في جدلٍ ساخن سياسياً وإعلامياُ، وكلّفت البعض خساراتٍ مهنية وتهديدات بالإيذاء المعنوي والجسدي، ما جعل كثيرين يطلقون عليها تسمية “المكارثية الجديدة”.

امتدت الاحتجاجات من الجامعات إلى المتاحف والمؤسسات الثقافية والأدبية، فعدد الشهداء الفلسطينيين (الذي قارب الـ 25 ألفاً في غزة) أجبر العديد من الفنانين والكتّاب على التحدّث علناً ضد الوحشية العسكرية الصهيونية. رافق هذه التحركات الاحتجاجية، انقسامات حادة في الرأي والمواقف، بين من يدعم القضية الفلسطينية ويطالب بوقف المجازر والإبادة التي تمارسها “إسرائيل”، وبين المدافعين عن “إسرائيل” وسياساتها العنصرية والدموية. ربما للمرة الأولى يشاهد العالم الغربي، تحركاتٍ غير مسبوقة لجماهير غاضبة، تلوّح بأعلام فلسطين وصور ضحاياها من الأطفال والنساء وكل شعارات الإدانة ضد الكيان الصهيوني.
وفي اليوم المئة على حرب غزة، وقف زهاء 400 ألف متظاهر أمام البيت الأبيض، يرفعون أعلام فلسطين ويطالبون بحريتها، ويلوّحون بصورة “أبو عبيدة”، لتذهب جهود اللوبي الصهيوني عبر التاريخ أدراج الرياح، فالاحتجاجات كشفت عن الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني، الذي قد يكون من المستحيل، إعادة العمل على ترميم صورته وجعلها مقبولة عالمية.

التحوّل في التفكير والبحث عن المعرفة

ما يحصل في الجامعات والمؤسسات الثقافية والأدبية منذ 7 تشرين الأول الماضي، يشكّل تحديات لكيفية التعامل مع خطاب الكراهية ومعاداة السامية، الذي أثارته الحرب الإسرائيلية على غزة.

انتبه كثيرون أن الصراع الفلسطيني الصهيوني ليس حديثاُ، بل يمتد لـ 75 عاما، بينها 17 عاما من الحصار لقطاع غزة، وأن أساس المشكلة هو الاحتلال وليس العملية التي بدأت في 7 أكتوبر، ويوجد اليوم أجيال جديدة في المجتمعات، تتابع وسائل الإعلام الجديدة ووسائطها المتنوعة، وتهتم بما يتعلّق بجرائم الحرب الصهيونية، بطريقة تمحيصية أكثر، تشمل المتابعة والتدقيق والنقد. هذه المعرفة المخالفة للتوجّه الصهيوني الحقيقي، جعلت “إسرائيل” تشهر سلاحها الاتهامي الوحيد “إنهم يعادون السامية”، وهو السلاح نفسه الذي استعملته ضد المفكر الفرنسي روجيه غارودي، في تسعينات القرن الماضي، لأنه تجرّأ وشكّك بحثياً وفكرياً، بموضوع المحرقة النازية/الهولوكست وضحاياها المزعومين.

اليوم لم تعد تهمة العداء للسامية تخيف أو ترعب البعض، لأن الوقائع أثبتت زيفها، خصوصا بعد مثول “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية في لاهاي بتهمة الإبادة العنصرية، وبعد فشل الجامعات والمحافل العلمية بتعريف الحد الفاصل بين حرية التعبير وخطاب الكراهية.

كذلك، تعرّضت الجامعات الأمريكية والمؤسسات الثقافية الأوروبية للابتزاز من الداعمين والمموّلين، لأنّ الكثير من الصروح العلمية والثقافية تعتمد على التبرعات، التي يفترض ألا تكون مشروطة، ولكنها مشروطة بالقوة من اللوبي الصهيوني.
هذا الأمر المستجدّ بعد الحرب على غزة، وضع الجامعات، والمؤسسات الفكرية والأدبية، والمتاحف، والمنظمات الثقافية والفنية، في أميركا وأوروبا، أمام معضلة دقيقة، إذ ترى نفسها اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما القبول الذليل بأموال الداعمين لـ “إسرائيل”، أو رفض هذا التمويل المشروط والسماح للطلاب والأدباء والفنانين بالتعبير عن مواقفهم المؤيدة للقضية الفلسطينية ولحقوقها مقابل المزاعم الإسرائيلية الكاذبة.

ما الذي أفرزته أحداث غزة من تحوّلات؟

لأول مرة في التاريخ المعاصر، تشهد المجتمعات غضباً من زيف القيم الغربية ولا جدواها، فقد انهارت المنظومة القيمية التي كانت تستند إلى مفاهيم مثل “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” و”المساواة الاجتماعية والإنسانية” و”حقوق المرأة والطفل”، وانهارت أيضا المنظومة التشريعية ومواثيق القوانين والعدالة الدولية، التي لم تستطع توفير أي حماية أو أي حق لأي مواطن فلسطيني في غزة. بات واضحاً أن القيم الإنسانية والأخلاقية لا وجود لها مع الهمجية الصهيونية والإجرامية ضد الشعب الفلسطيني، لأن القمع الصهيوني تفوّق حتى على نفسه، في أساليب القتل والإبادة الجماعية، التي يراها العالم مباشرة على الهواء ويصمت.

المجتمع الغربي وإعادة التفكير

طالما يصنّف السياسيون الغربيون عملية المقاومة التي جرت في 7 أكتوبر/تشرين الأول على أنها “هجوم وحشي شنته حماس على “إسرائيل” فإن الوقائع السياسية يصعب تغييرها، خصوصا مع الأخذ بعين الاعتبار، تصريحات أمين عام الأمم المتحدة غوتيريش الذي تكلّم في بدايات الأحداث بصراحة، عن السياق التاريخي والمعيشي الذي يعيشه الفلسطينيون، معتبراً ان الاحداث لم تأت من فراغ، فشُنّت عليه الحملات والأكاذيب وتعرّض لضغوطات، أدّت الى اتهامات له، وتهديدات للأمم المتحدة. بعد مرور أكثر من مائة يوم على العدوان يتحدث القادة الأميركيون عن “الاعتداءات الفلسطينية” على الصهاينة “الأبرياء والمظلومين” كما تراهم العقلية الأميركية الحاكمة.

ولأنَ مواقف أهل السياسة لا يعوّل عليها كثيرا كما دلّت التجارب، أصبح من الضروري الالتفات وبقوة، إلى التحركات الموازية، التي تقوم بها الشرائح الاجتماعية، من طلاب ونقابات وكتّاب وناشطين ومؤثرين.

هذه المستجدات التي تعرّف عليها العالم بعد حرب طوفان الأقصى تسهم اليوم بتشكيل وعيٍ فكريٍ وسياسيٍ جديد، إذ يقف جزء من الشعب الأميركي مثلا، ليعيد صياغة أفكاره ومواقفه، لأن الإدارة الأميركية من رئيسٍ ووزراء ومسؤولين، يقفون جميعاً إلى جانب “إسرائيل”، ويعملون لتقديم مساعدات عسكرية ولوجستية لها أولاً، ولأن هذه الإدارة مارست حق النقض/الفيتو، لمنع أي وقفٍ لإطلاق النار على الفلسطينيين في غزة ثانياً، ولأنَ المظلومية الفلسطينية ظاهرة للعيان ثالثا، وبالتالي قد يظهر التغيير في تشريعات قادمة أو في انتخابات منتظرة.

المعاناة الصهيونية المستجدة

يعاني الصهيوني اليوم (لأول مرة في تاريخه) من تسويق مصطلحات ضده، مثل “الإبادة الجماعية” و”الإجرام” و “التوحّش الدموي” وغيرها، فقد لاحظ العالم مدى الانزعاج، الذي خرج إلى حد الغضب وفقدان الاتزان والصراخ، كما حصل مع مذيعة سي إن في حوارها مع القيادي الفلسطيني مصطفى البرغوثي، وصولاً إلى كلام نتنياهو الذي وصف الحقائق والوقائع بالنفاق والجيش الإسرائيلي بالأكثر أخلاقاً في العالم، وعُدّ كلامه نكتة كبيرة جدا.

لا ينزعج الصهيوني فقط لأن جزءاً من العالم لا يناصره، بل ينزعج لأن هذا الجزء – الذي يزداد عدداً كل يوم- يناصر فلسطين والفلسطينيين بالتحديد، وقد أشارت بعض المواقف إلى أن الأميركيين الأصغر سناً، هم اليوم أقل ميلاً لدعم “إسرائيل” من كبار السن، ويفكرون بشكل أكثر إيجابية تجاه الشعب الفلسطيني، ووفقا لبعض الاستطلاعات، فإن هذه الفجوة في التعاطف بين الأجيال الأمريكية آخذة في الاتساع.

يعاني العقل الصهيوني بعد حرب غزة ونتائجها من تحوّل صورته، لأنه يرى ثورة الطلاب أو اعتراضات الأدباء واحتجاجات الفنانين، الذين يعملون ويدرسون في مؤسسات يموّلها هو ويدعمها منذ تأسيها، ورغم كل ذلك انقلبوا ضده، ولم يتبقّ الصهاينة إلا أن يدافعوا عن مواقفهم الإجرامية باعتبارهم “ضحية بريئة” للإرهاب الفلسطيني، ولو اضطرهم هذا الدفاع إلى الكذب والنفاق والوقاحة في القول والاتهامات (كما حصل في الردود الصهيونية الغاضبة ضد جنوب أفريقيا)

لذلك من المطلوب هنا تكاثف هذه التحركات وتعزيزها ودعمها، ولو إعلاميا.

هذا الدعم والتعزيز يتم عبر العناوين التالية:

-متابعة الفعاليات والاحتجاجات المنددة بالإرهاب الصهيوني المستمر في أوروبا وأميركا.

-عدم توقّف التحركات الطلابية والشعبية والقانونية في كل المجتمعات.

-اختراع أنواع جديدة من الدعاية العكسية التي تفضح التضليل الصهيوني والفظائع التي يرتكبها.

-عدم توقف التحركات بعد انتهاء الحرب العسكرية لأن الحرب مع “إسرائيل” حرب وجودية.

استشراف المآلات الثقافية والمعرفية والسياسية المترتبة على هذه التحولات

أصبحت المجازر الصهيونية المرتكبة في غزة، مصدرا للاحتجاجات والمواقف العالمية بشكل لم يسبق له مثيل. وأدّت إلى تحطيم الصورة الشائعة والمتداولة عن “إسرائيل” بأنها قوة عظمى، وأن جيشها “لا يقهر” ولا يمكن منافستها ولا مجاراتها وبالتالي يستحيل الوقوف بوجهها أو تحدّيها.

وإذا صحّ أن يقال، إن لهذه الحرب الشرسة وجها إيجابياً خفيّاً، فهو الإثبات بالدليل القاطع أن قضية فلسطين التي بدأت قبل 75 عاما، لا تزال قضية حيّة في نفوس الشعوب وعقولهم، دون حكامهم وقادتهم، فلا هي نُسيت ولا اندثرت كما نظّر بن غوريون وغولدا مائير يوما ما ” كبارهم يموتون وصغارهم ينسون”.

من أهمّ التحوّلات التي نتجت عن الفظائع الصهيونية، في حرب الإبادة الشاملة لأهالي غزة وسكانها، أنها لفتت العالم كله من جديد، لهذا الكيان العنصري القائم على الإجرام الدموي وقتل الأطفال وتدمير الحياة وقطع المياه والأكل عن الفلسطينيين، ما أدّى إلى المحاكمة الدولية في لاهاي للكيان الصهيوني على جرائمه، بعد الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضده، بتهمة الإبادة العنصرية والجماعية.

من أهم التحوّلات العالية أيضاً، إعادة المراجعات الفكرية والمعرفية في مجالات التشريع والقوانين الدولية وحقوق الإنسان، التي تنتهكها “إسرائيل” كل لحظة بدون أي رادع.

فماذا فعلت كل التشريعات الإنسانية؟ وكل قوانين المحافل القضائية الدولية؟ وماذا قدّمت كل الأعراف والمواثيق؟ لشعبٍ لأعزل ومحاصر يتعرّض للقتل الممنهج الذي يطال النساء والأطفال والمسنّين، والصحفيين، والأكاديميين، والأطباء، والممرضين، والمواطنين العاديين…..

اليوم في العام 2024 ينتبه العالم كلّه إلى كيان استيطاني، يمارس علناً الإبادة والتطهير العرقي، الذي قامت به السلالات الاستعمارية في القرن التاسع عشر وما سبقه، من دون أن يستطيع أحد إيقافه او مواجهته، لكن طريق النهاية بدأت، وما الجموع المليونية الغاضبة التي تجوب عواصم العالم، إلّا الدليل القاطع على هذا التحوّل الغاضب الذي كسر حواجز الرهبة من الفكر الصهيوني الإرهابي.

* المصدر: موقع الخنادق

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: التحو ل فی غزة

إقرأ أيضاً:

السياسة والعقيدة: بؤس الأيديولوجيا أم بؤس غيابها؟

* أفكر أحيانا في شكل المنحنى البياني الذي يمكن رسمه للأيديولوجيا في المنطقة العربية: لصعودها وأفول نجمها بمرور الزمن. كيف لك أن ترسم منحنى كهذا؟ لا أقصد شيئا معقدا على الإطلاق، أقصد رسما بيانيا كلاسيكيا من النوع الذي يتعرف عليه المرء أواخر المرحلة الابتدائية: محور عمودي يمثل حضور الفكر العقائدي بين الجماهير، ومحور أفقي يحاكي الزمن (منذ خروج الأتراك أوائل القرن الماضي، وحتى هذه اللحظة). سيكون رسما مفيدا يختصر تغيرات هذه القوة ويكثّفها، خصوصا لمن يحبون "رسم" المفاهيم ولا يفهمون الظواهر قبل أن يروها محشورة بين محورين على ورقة بيانية.

* لن تكون النتيجة محل اختلاف كبير لمن يحاولون تخيلها، فالأرجح أن المنحنى المنشود سيكون شكلا مقعرا، عاليا على جنبيه وغائرا في الوسط. أي أنه يعبّر عن بداية قوية للفكر العقائدي، يتلوها ضعف وانحسار، ثم عودة -بعد ذلك- للقوة الأولى. آلاف الأحداث ومئات القضايا وعشرات العقود تنطوي الآن في قوسٍ بسيط ورسمٍ معبّر. بداية المنحنى تحاكي زمن المجد العقائدي والأفكار المؤدلجة الكبرى وتنافس الأحزاب الشهيرة بوقتها (بنكهة قومية-اشتراكية غالبة)، ثم تعقب ذلك سنين الخيبات الحادّة وانهيار المشاريع الكبرى (النكسة وكامب ديفيد والاضمحلال السوفييتي ثم غزو العراق وتدميره). لكن القعر الأقصى كان حتما في الربيع العربي، ليس فقط لفشل هذا الحدث والعدمية السياسية التي ولّدها عند كثيرين بتعثّره، بل بسبب ما رافقه من تنكيل نظري في الفكر العقائدي، وتعميم أدبيات التحول الديمقراطي والليبرالية السياسية (حتى بين إسلاميين كثر).

لقد عاد الفتى الأيديولوجي العاقّ بعد أن تاب و"تمشيخ"، ونفض عن نفسه غبارا كثيرا. ليس القصد عودة حركة بعينها أو تنظيم دون سواه، وإنما عودة الإيمان الواسع بالفكرة العقائدية وقدرتها على التغيير. الأمر ليس ميلادا معجزا من الفراغ ولا انبثاقا بدأ ببيان عسكري للقائد العام أعلن فيه انطلاق طوفان الأقصى. العقائدية الإسلامية (أو أي مسمى آخر لهذه الظاهرة) كانت اللاعب الأثبت -وإن لم تكن الأقوى- في الساحة العربية
* لكن لعل أهم ما في المنحنى هو آخِره، والذي يمكن تأريخه بالسابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، حين انعكست الآية وعادت أسهم الأيديولوجيا لتصعد من جديد. ليس الأمر غريبا، فقد ثبت يومها -بالبرهان العسكري القاطع- أن الإسلام الأيديولوجي قادر على اجتراح اختراقات هائلة، عسكريا وسياسيا على السواء.

* لقد عاد الفتى الأيديولوجي العاقّ بعد أن تاب و"تمشيخ"، ونفض عن نفسه غبارا كثيرا. ليس القصد عودة حركة بعينها أو تنظيم دون سواه، وإنما عودة الإيمان الواسع بالفكرة العقائدية وقدرتها على التغيير. الأمر ليس ميلادا معجزا من الفراغ ولا انبثاقا بدأ ببيان عسكري للقائد العام أعلن فيه انطلاق طوفان الأقصى. العقائدية الإسلامية (أو أي مسمى آخر لهذه الظاهرة) كانت اللاعب الأثبت -وإن لم تكن الأقوى- في الساحة العربية منذ نشوء هذه الساحة، ولولا حضورها ولولا نَفَسها الطويل لما كانت هذه المعركة ممكنة من الأساس. ما صنعه الطوفان هو تصعيد كمّي هائل لقوةٍ كانت تعتمل دوما على الأرض.

* كيفما قلّبت هذا الموضوع، فإن "إسرائيل" في قلبه. أحد المهتمين الأمريكيين بالشأن العقائدي والفكر السياسي (يدعى إريك هوفر) كتب مرة أن الأيديولوجيا لا تحتاج إلها تعبده؛ بقدر ما تحتاج شيطانا تحشد الناس لحربه. من زاوية كهذه، فإن "الشيطان" الذي كانته الدولة اليهودية فريد من نوعه وجليل في قيمته. 74 عاما و"إسرائيل" ترسم -مباشرة وبالمواربة- ملامح النظام الرسمي العربي، وتفرض سقفا علميا وصناعيا على محيطها باستخدام ذراعها العسكرية الطويلة. ورغم هذا كله، بل ربما تحديدا بسببه، فإن "إسرائيل" غربلت -من حيث لم تقصد- كل من تجرؤوا على مواجهتها، سياسيا وعسكريا وفكريا. أمام قوتها العسكرية الماحقة ونفوذها الدولي الهائل، تمايزت صفوف المتقدّمين لقتالها، وتطورت مقارباتهم في محاولة مستمرة لردم فارق القوة أمام كيان هو الغرب الاستعماري بأكمله مركّزا في دولة واحدة. وها نحن اليوم أمام ما وصلته عملية الغربلة هذه، حيث حركات المقاومة الإسلامية تتصدر الصفوف.

* يخطر ببالي تصوير متفلّت لكنه حريٌّ بأن يقال: إن ما جرى في مواجهة "إسرائيل" منذ القرن الماضي وحتى اليوم هو تطور دارويني لصراع العقائد -واللاعقائد- في المنطقة العربية؛ تطورٌ أفضى بالنهاية لانتخابٍ تاريخي وطبيعي لأقدر الأفكار على الصمود والاستمرار: الفكرة الإسلامية. أدرك طبعا أن قراءة الإسلام داروينيا تحمل قدرا من الرعونة وأنها ستكون محط استهجان عند إسلاميين ودراوينيين على السواء، لكن الفكرة الكامنة في كل هذا تبقى جديرة بالاعتبار.

* ما يدركه كثيرون اليوم هو أن مواجهة عربية جادّة لهذا الوحش العسكري يستلزم مزيجا صعبا من الإيمان الغيبي المطلق والتنظيم "الدنيوي" الصارم الذي لا يحتمل الخطأ. قيمة العنصر الغيبي تتعلق بشيء دنيوي بحت: أنه يتجاوز السد الذي ترسمه العقلانية في مواجهة خصم كهذا، وتسمح بالقفز فوق فارقِ قوةٍ يستحيل عبوره بحسبة الأرقام والوقائع. ما منشأ الشلل والموات السياسي قبل طوفان الأقصى إلا هذا الركوع أمام الاستحالة العقلانية لمواجهة إسرائيل؟

* على هامش المشهد العام، تجد مفارقات تفيض بالرمز وتستحق التأمل. وعموما، فأزمنة التحولات الكبرى هي جنة المفارقات ونبعٌ دفّاقٌ لها. قبل أشهر، دعا المفكر الأمريكي نورمان فنكلشتاين أن يُمنح "الحوثيون" جائزة نوبل للسلام، والدافع طبعا هو الحصار البحري الذي فرضه أنصار الله دعما لقطاع غزة. من كان يتخيل شيئا كهذا: أن يدعو باحث أمريكي يهودي مرموق لمنح أرفع جائزة سلام دولية لرجل من صعدة يقود حركة شعارُها: "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام"؟ أمضى الليبراليون العرب ردحا طويلا وهم يهندسون خطابهم على مقاس الحساسيات الغربية، وحاضروا فينا طويلا حول فشلنا العربي في مخاطبة الغرب باللغة التي يفهمها (رغم أنهم أكثر من تسيّد صياغة هذا الخطاب). وفجأة، ينكشف العكس تماما؛ أن محاولة استمالة الآخر لا تستميل الآخر، وأن تسوّل ودّ الغربيين لا يأتي بودّهم. ها هُم من يهتفون بالموت لأمريكا ولا يأبهون كثيرا بالحساسيات ويتحركون بوحي إيمانهم العقَدي، ها هُم يَنفذون في الوعي الأمريكي مسافة لم يقدر عليها ليبرالي من قبلهم. هذه صنائع الأيديولوجيا و"خطابها المتخشب".

لا يبدو أن التاريخانية بالبؤس الذي وصفه السيد بوبر، بل لربما يكون العكس تماما ما نشهده الآن، حيث سادة المشهد هم المؤدلجون العقائديون، المؤمنون بالسُّنَّة التاريخية الثابتة، والقانون الراسخ الذي تدور عقارب الزمان على وقعه
* قبل قيام دولة الكيان بأربع سنوات، صدر كتاب بعنوان "بؤس التاريخانية"، كتبه عدو الفكر المؤدلج، كارل بوبر. الكتاب لا يهاجم الأيديولوجيا لكنّه يهاجم فكرة لصيقة بها: فكرة السنن الكونية المتواترة التي تحكم التاريخ، وفكرة القوانين الراسخة التي تدور عقارب الأحداث على وقعها. هذه هي التاريخانية التي لا ينقدها كارل بوبر وحسب، بل يكاد يبدي تقززا وجدانيا منها. هذا كتاب ليبرالي بامتياز، لا قياسا على هوى كاتبه وانحيازاته، وإنما قياسا على مزاج الأفكار الواردة فيه. مزاج كهذا يصحّ أن يسمّى بالمزاج "الذرّي"، فهو يريد تقسيم القضايا لوحدات صغرى، ليدرس كل وِحدة على انفراد، ولذلك فهو يتحسس من أي نظرة شاملة للعالم والتاريخ. ماذا يحصل عندما يتسرب تفكير كهذا لمنطقتنا ووعينا ويتجاوز إطاره الأكاديمي ليصبح مزاجا سياسيا عاما؟ النتيجة واضحة لأنها ماثلة أمامنا منذ سنين: تذرير المشهد العربي، ورفض وجود قضية مركزية، ورفع شعار "بلدي أولا"، والتأكيد المتصاعد على الفردانية وأهمية تحقيق الذات، والتسفيه المستمر بفكرة التضحية في سبيل أفكار كبرى تتجاوز الإنسان تحت ذريعة القول بأنه "ما من قضية أهم من الإنسان". اليوم، بعد سبع عقود على صدور هذا الكتاب (ونشوء هذا الكيان) لا يبدو أن التاريخانية بالبؤس الذي وصفه السيد بوبر، بل لربما يكون العكس تماما ما نشهده الآن، حيث سادة المشهد هم المؤدلجون العقائديون، المؤمنون بالسُّنَّة التاريخية الثابتة، والقانون الراسخ الذي تدور عقارب الزمان على وقعه.

مقالات مشابهة

  • السياسة والعقيدة: بؤس الأيديولوجيا أم بؤس غيابها؟
  • نهائي كأس العالم 2030 في سانتياغو برنابيو
  • بدء التصويت في جولة الحسم لاختيار رئيس إيران
  • مسير لخريجي دورات التعبئة العامة بمديرية زبيد في الحديدة
  • مديرية زبيد بالحديدة تشهد مسيرا راجلا لخريجي دورات التعبئة العامة
  • ما قبل الغرب.. صعود وسقوط أنظمة العالم الشرقي.. قراءة في كتاب
  • غزة.. بين الموت قصفاً والموت جوعاً..!
  • رسمياً.. إطلاق إسم الحسن الثاني على ملعب بنسليمان المرشح لاستضافة افتتاح أو نهائي مونديال 2030
  • "كيف صنع العالم الغرب؟"
  • الجمرة بتحرق الواطيها