لجريدة عمان:
2024-10-03@21:26:27 GMT

القـوي يفـرض عـولـمته

تاريخ النشر: 17th, January 2024 GMT

العولمة والقـوة متلازمتان حكـما. لا سبيل إلى وعي الواحدة منهما بمعزل عن الأخرى: صعودا وهبوطا، تمـددا وانكماشا. وليس مبـنى الاقتران بينهما على كون علاقتهما علاقة اعتماد، فحسب، بل على كونها علاقة إيجاد متبادل. هكذا تنشأ العولمة من القـوة -بمعناها الواسع والشامل- عند عتبة عليا من تراكمها، وبالتالي، من فيضها عن حدودها الأصل، وتتعاظم القـوة حجما -في المقابـل- ويتسع نطاق أثرها في ما يقع خارج محيطها المباشر.

يستطيع كل من طـالع مسار العولمة وسيرتها، منذ انطلاقها قبل ثلث قرن، أن يقـف بنفسه على ذلك التـأثير المتبادل بين الظاهرتين.

يعـفينا النـظر إلى العولمة من نافذة التلازم بينها والقـوة من كثير من اليقينيـات التي تكونت لدى كثير منـا عن العولمة -خاصـة في العقـد الأول من ظهورها-، وتحديدا من تلك النظرة إليها بوصفها تعبيرا من تعبيرات الهيمنة الرأسماليـة على العالم، وخاصـة منها الهيمنة الأمريكيـة. ومـوطن القصور في هذه النظرة أنها تربط -على غير بيـنة- بين العولمة ومركز بعينه من مراكز الرأسمالية العالمية هو المركز الأمريكي -ومراكز أخرى استطرادا مثل اليابان وألمانيا- فيما هي تذهل عن حقيقة أعلى من حقائق العصر؛ وهي أنه ما من ظاهرة كبرى في العالم برسم التمليك الحصري لقـوة/ دولة بعينها، وإن كانت الدولة تلك بـدرت إليها قبل غيرها، وإنما ظواهر العالم المعاصر ميدان للمنافسة الحادة بين الدول الكبرى التي تحتاز موارد القـوة التي تسمح لها بالتنافس عليها. هكذا كان التنافس حادا على العلم، وعلى الثـروة، وعلى القـوة الحربية، وعلى التكنولوجيا، واليوم، على الذكاء الاصطناعي بين قـوى عـدة تخوض في ذلك التنافس لإدراكها عظيم جدوى حيازة ما عليه تتنافس. وهكذا كانت فتوحات العالم الحديث في العلم والاقتصاد والتـقانة تنتـقل من مصر إلى مصر وتتداولها مختلف الدول بمقادير قـدراتها على المنافسة عليها، فلا يلبث اقتران أي منها بمركزها (أو مـوطنها) الأصل أن ينـفـك فتصير إلى غيره فإلى غيره الثاني إلى أن تصير عامـة.

هذه حال العولمة اليوم مع القـوى الدولية الكبرى التي تخوض المنافسة عليها قصد السيطرة والتـحكم والتوجيه وفرض السياسات والحقائق. مـن كان يـقوى على أن يفعل شيئا من ذلك في الماضي القريب، حين كانت أرجحيـة القدرة والقـوة له، بات يعجز عن ذلك اليوم حين تكافأت الحظوظ وتغيـرت التوازنات وانمحـت الفوارق. يكفينا المثالان الأمريكي والصيني لبيان كيف أصبح متاحا للإنسانية ذلك التداول على إدارة العولمة بعد حقبة ابتدائـية من احتكارها. إن الانتـقال من الاحتكار إلى التنافس -وقد جرى سريعا- دليل فاقع على أنه ما من شيء في الظـواهر وموارد القـوة ينتمي إلى الملك الحصري، وإنما هو رهـن بتوازنات القـوة أو، قـل، هو دولـة بين الدول والأمم تأخذ كـل منها بحـظ منه بمقدار ما وسعت قدراتها.

ولأن القوي -في حالتنا التي نبحث- يسيطر على حركة العولمة كـلا أو أبعاضا، فهو يفرض عولمته، أعني: يفرض نمطا منها مرتبطا بنوع نموذجه الاجتماعي- الاقتصادي- السياسي، بل بنوع مواريثه (استعمارية، مثلا، أو لا استعمارية) والمفعول المستمر لقيمها فيه. وبكلمة، إنه يضفي شخصيته وسماته عليها فيطبعها بطابعه حتى لـيكاد الناس يـردونها إليه. وهكذا، إذا كانت العولمة محايدة بما هي إمكانية مفتوحة أمام التدافع العام بين الدول والأمم -كل بما وسعـته حيلته وما تجمع بين يديه من الموارد- فإن من يتداولون عليها ليسوا محايدين، بل يجرون أمورها على المثال الذي يبغون. والنتيجة -أمام هذا التداول المتعدد والمختلف- أننا لا نجد أنفسنا أمام عولمة من نمط واحد وحيد، وإنما تطالعنا العولمة بوصفها عولـمات أو عولمة من نماذج متباينة. هذا ما يفسر، مثلا، لماذا تغيرت أحكام جمهور كبير من النخب في العالم، وخاصة في بلدان الجنوب، على العولمة عما كانـته قبلا: في سنوات التسعينـات على نحو أخص؛ بل هذا ما يفسـر -أيضا- لماذا تغـيـر موقف قـوى كبرى في الغرب من العولمة بعد إذ صار ثـمة شركاء آخرون في العالم يزاحمونها على تلك العولمة ويبـزونها فيها بـزا...

قبل عقدين ويزيد من اليوم، استند الموقف النـقـدي الحاد للعولمة إلى ما كان يطبعها من ميل صريح إلى الذهـاب بفعل الهيمنة الغربيـة إلى حدود الإطباق الكامل على العالم المستهـدف الذي يقع، جغرافيـا، خارج الغرب. والمشكلة في ذلك المنزع الهيمنوي الحاد، الذي أفصحت عنه العولمة (الاقتصاديـة والتـقانية والقيميـة...)، أنه ما اكتفى بتوسـل فعـل الهيمنة بوصف هذه ثمرة موضوعيـة لتعاظم القدرات والقوى فحسب، بل أتى ذلك الفعـل مغمورا بالشـعور المرضي بأن الهيمنة استحقاق له لقاء تفـوقه في الميادين الماديـة! وعندي أن مثل هذا الشعور منبعه من الممايـزة التي يقيمها حامله بين ذاته وخارجها، أو بين الأنا والآخـر، بل ويبنيها على فكرة تفـوق الأنا (الغربية) وعـلو مقامها على الأغيار في العالم! وبيـن أن الوعي المـرضي بالتفـوق والتعالي يبرر لصاحبه -حين يمتلك الوسائل- أن يتصرف مع الآخـر: الذي يقع عليه فعـل الهيمنة، وكأنه هدف مشروع له! إنه موضوع؛ مجرد موضوع لذات فاعلة هي ذاته بوصفه غربيـا! هكذا كان صعبا، حينها، بيان ما يمـيز الهيمنة عن العنصرية فكلاهما سـيئ للآخـر، وكلاهما متمظهـر في علاقة واحدة جامعة هي العولمة: في تلك الحقبة الابتدائية الهوجاء منها التي عيشت في الفترة بين مطلع التسعينـات وبداية النصف الثاني من العقـد الأول من هذا القرن.

يعتقد، اليـوم، وعلى نطاق واسع، أن مضمون العولمة سيشهد على تغييـر فيه نحو الأحسن في هذا الطور الجديد من التداول عليها الذي ولجته الصين وستـلجه الهند والبرازيل. لن يعود مستـبعدا أن نشهد انتقالة حاسمة مقبلة من العولمة الهيمنويـة المجحفة إلى عولمة أخرى أكثر إنسانية مبناها على التعاون والتكافل لا على النهب والسيطرة؛ على المشاركة الجماعيـة بين الأمم والدول في صنع المصير الإنساني لا على الإقصاء والتهميش؛ على احترام الكرامة الإنسانية لا على نزعات التـفـوق والعنصريـة. شيء من هذا قد يحصل لأن قوى العولمة القادمة لا تاريخ استعماري لها، وهي -لذلك- متحررة من قيم الجشع والنهب الذي شكـل أخلاق السياسات الغربية وستكون عولمتها، بالتالي، على مثالها ومثال قـيمها.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی العالم

إقرأ أيضاً:

توكل كرمان من لاهاي أمام تجمع عالمي: العالم يواجه الآن خطراً خطيراً يتمثل في الحرب السيبرانية التي قد تؤدي إلى تقويض الأمن والخصوصية

قالت الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان إن العالم يواجه الآن خطراً جديداً وخطيراً يتمثل في الحرب السيبرانية، التي قد تؤدي إلى تقويض الأمن والخصوصية، مما يؤثر على المجتمعات على مستوى العالم.

جاء في كلمة لها عن السلام والعدالة خلال تجمع عالمي بعنوان "ما بعد 125 عامًا: تأمين مستقبل عالمنا الرقمي"، في قصر السلام بمدينة لاهاي في هولندا، نظمته مدينة لاهاي ومعهد السلام السيبراني" (CyberPeace) والتحالف السيبراني العالمي.

وأضافت توكل كرمان: يشكل ارتفاع الهجمات السيبرانية خطراً كبيراً، وبعد 125 عاماً، يتعين علينا أن نواجه هذا العصر الجديد من الصراع.

وتابعت كرمان: إن الحرب السيبرانية لا يرتكبها القراصنة أو المنظمات الإجرامية فحسب؛ بل أعتقد أنه تنفذها الحكومات أيضًا. ونحن بحاجة إلى معالجة هذه التحديات بشكل جماعي وإيجاد طرق لحماية مجتمعاتنا من هذا التهديد المتطور.

وأوضحت كرمان أن أحد العوامل الرئيسية التي تدفع إلى ارتكاب الجرائم والهجمات السيبرانية هو إساءة استخدام التكنولوجيا من قبل الحكومات كجزء من سياساتها الحربية أو ضد شعوبها.

وقالت كرمان: أستطيع أن أتحدث من تجربتي الشخصية؛ فقد كنت ضحية لهجوم سيبراني حكومي في ظل دكتاتورية عبد الله صالح.

وأشارت كرمان إلى أنه غالبًا ما يستخدم الدكتاتوريون أدوات الإنترنت للتجسس على مواطنيهم، وانتهاك خصوصيتهم، وقمع المعارضة، لافتة إلى أنها واجهت مثل هذه الهجمات، وواجهها العديد من الآخرين أيضًا.

وأفادت كرمان: على سبيل المثال، نفذت سلطات الإمارات العربية المتحدة برامج مراقبة تستهدف الأفراد، بما في ذلك الناشطون والمعارضون.

وقالت كرمان: لقد تصاعد استغلال الفضاء الإلكتروني، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الافتقار إلى المساءلة والخبرة المستخدمة لإيذاء الأبرياء. وقد حدث موقف مماثل مع صديقي جمال خاشقجي، الذي استُهدف أيضًا بهذه الطريقة، مشددة على ضرورة الحاجة إلى معالجة هذه القضايا ومحاسبة المسؤولين عنها.

واعتبرت كرمان أن المشكلة الرئيسية في استخدام هجمات الجرائم الإلكترونية ضد دول أخرى هي أنه لا يوجد إعلان رسمي للحرب، وهذا يؤثر على العديد من الناس، مضيفة: كنت أحد ضحايا هجوم إلكتروني حكومي. لقد استخدموا وسائل التواصل الاجتماعي لمهاجمتي وتقويض خصوصيتي. كنت أحد الضحايا في ذلك الوقت.

وبيّنت كرمان أن الحكومات الأجنبية، بما في ذلك الولايات المتحدة، لديها خبرة في هذه التكتيكات الإلكترونية، مستدركة بالقول: هذه الخبرة لا تُستخدم لحماية الناس ولكن للدفاع عن النظام. نفس الشيء حدث لصديقي.

وأكدت كرمان أن الأمر لا يتعلق بمنع البلدان من استخدام هذا النوع من الحرب؛ إنه يتعلق بالاعتراف بأننا لا نريد الحرب على الإطلاق. أنا شخص يحب العالم أجمع ويؤمن بالوحدة.

وشددت كرمان على أن الحل لا يتعلق فقط باللوائح؛ بل يتضمن أيضًا ضمان احترام حقوق الأفراد. لا ينبغي فرض شروط على حقوق الأفراد في التعبير. هذا أمر بالغ الأهمية، وخاصة في مشهد الأمن السيبراني اليوم، حيث قد تستخدم الحكومات الاحتجاجات لتقويض الحقوق الخاصة. إننا بحاجة إلى التركيز على حماية هذه الحقوق مع تعزيز نهج أكثر شمولاً وسلمية.

وقالت توكل كرمان: يمكن اعتبار معاهدة الجرائم الإلكترونية بمثابة سيف ذو حدين. فمن ناحية، قد تنتهك الحقوق الحصرية والابتكارات؛ ومن ناحية أخرى، تقدم فرصة للتغيير الإيجابي. ونحن بحاجة إلى التركيز على استخدام التكنولوجيا ليس فقط كتهديد، بل كوسيلة لتعزيز السلام.

وأعربت كرمان عن اعتقادها بأن المستقبل يمكن أن يكون مشرقًا، وخاصة مع الأفراد المخلصين الذين يتحملون مسؤولية خلق عالم أفضل. يجب ألا نغفل عن وطننا وقيمنا وقيادتنا. من الأهمية بمكان تعزيز التعاون وضمان خدمة بعضنا البعض بمسؤولية.

وتابعت كرمان: تقع علينا مسؤولية كبيرة لوقف الحروب وتعزيز السلام في عالم يتأثر بشكل متزايد بقضايا الإنترنت. يجب أن تكون حماية الخصوصية ومنع الصراع في طليعة جهودنا. ومع ذلك، فإن معالجة هذه التحديات من خلال المعاهدات والإجراءات الصحيحة هي قضية معقدة نواجهها جميعًا معًا.

وشددت كرمان على الحاجة إلى إصلاحات جوهرية توضح من هو المسؤول عن خدمة الصالح العام. وهذا أمر ضروري لتقدمنا الجماعي. وبالإضافة إلى ذلك، تقع علينا مسؤوليات كبيرة، وخاصة في منع الصراعات. ولا ينبغي النظر إلى وقف الحروب باعتباره عملاً تقليدياً فحسب؛ بل يتطلب الأمر اتباع نهج مبتكر لحماية الخصوصية ومعالجة التهديدات السيبرانية مع السعي أيضاً إلى منع الصراعات في المستقبل.

وقالت كرمان إن مجلس الأمن نفسه يتطلب الإصلاح من أجل حماية الناس بشكل أفضل من أشكال مختلفة من انعدام الأمن. وفي الوقت الحالي، غالباً ما يخدم مجلس الأمن مصالح خمس دول أعضاء فقط، وهو ما يحد من فعاليته. ونحن بحاجة إلى تمكين المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من منظمات العدالة التي تعمل من أجل السلام والعدالة، وضمان حصولها على السلطة اللازمة للتصرف دون تدخل من الدول القوية.

وأكدت كرمان وجوب أن تكون هذه المنظمات مجهزة بالكامل للعمل بشكل مستقل، مما يسمح لها بعبور أي حواجز في مهمتها دون الحاجة إلى إذن من سلطات خارجية. إن معالجة هذه الإصلاحات تشكل تحدياً كبيراً يتعين علينا جميعاً مواجهته معاً

 

مقالات مشابهة

  • قائد الثورة يكشف تفاصيل حساسة بشأن الهجوم الإيراني على كيان العدو والمواقع التي تم استهدافها وما الذي حدث بعد الضربة مباشرة
  • ماكرون: الاتحاد الأوروبي لديه عامين أو ثلاثة أعوام فقط لصد الهيمنة الأميركية والصينية الكاملة
  • لمواصلة الهيمنة.. موعد مباراة مانشستر سيتي وفولهام والقنوات الناقلة لها في الدوري الإنجليزي
  • الحزام الأمني بـ عدن يقبض على مطلقي النار في أحد الأعرس بحي عبد القوي
  • الزمالك يفرض حظرًا إعلاميًا على لاعبي الفريق استعدادا للسوبر المصري
  • رئيس الوزراء: تصاعد التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة يفرض ظرفًا استثنائيًا يلقي بظلال تأثيراته على الأوضاع الاقتصادية لبلدان المنطقة
  • الشيخ أحمد بن سعيد يطلع على أكبر مشروع تبريد مناطق في العالم الذي تنفذه “إمباور”
  • توكل كرمان من لاهاي أمام تجمع عالمي: العالم يواجه الآن خطراً خطيراً يتمثل في الحرب السيبرانية التي قد تؤدي إلى تقويض الأمن والخصوصية
  • السفير حسام زكي: غزة واجهت كارثة ستظل وصمة عار على جبين العالم الذي وقف عاجزاً أمامها
  • أغلى أنواع الأرز في العالم.. أسراره وفوائده التي ستدهشك!