هل يمكن أن أطرح عليك سؤالا، لماذا كل هذه الأشياء؟"، كان هذا سؤال الصيدلي الموجه لي بنظراته المريبة، لأنني طلبت منه عددا من اختبارات فحص كورونا، إضافة إلى العبوات التي تستخدم لفحص البول، وعددا من المشارط المعقمة، مهلا، وكذلك بعض القفازات المطاطية.. كان ملحًا أن يعرف الإجابة، فأجبته: "أريد فقط أن أرى ما إذا كانت هناك فطريات حية مختبئة في غسالة الصحون الخاصة بي، هل فهمت؟".
قال لي "إنها قائمة طلبات غير عادية"، قبل أن يذهب إلى زميله لاستشارته.
أعترف بحقيقة ذلك فعلا.
سأشرح لكم ذلك، وسأعود إلى شهر يونيو الماضي، عندما رصدتْ دراسةٌ حول البكتيريا، التي تعيش وفق وصف البشر بظروف قاسية، كدرجات الحرارة العالية، والسوائل الحارقة، أو الأشعة الحادة.
يتجه العلماء نحو مواقع غريبة في محاولة للعثور على تلك الميكروبات، ومن تلك المواقع الينابيع البركانية الحارقة في حديقة "يلوستون" الوطنية، أو الصحاري المتجمدة في القطب الجنوبي.
تقول تلك الدراسة إنه لا داعي للذهاب إلى أقاصي الأرض للعثور على تلك الميكروبات، ومن الوارد جدا أنها تعيش في محيطنا القريب، وأنها لا تبقى على قيد الحياة فحسب، بل كذلك تتكاثر في الأجهزة الموجودة في المطبخ.
لذلك رغبت في معرف ما الذي يعيش في مطبخي، وهل من الممكن أن يكون مطبخي موطنا للميكروبات التي يمكن وصفها بأنها "ذات قوى خارقة".
في هذه العملية التي قمت بها اكتسبت الكثير من المعلومات حول تنوع الحياة، ولن أرى بعد الآن آلة صنع القهوة الخاصة بي بنفس ما كنت أراها سابقا.
إنما عثرت عليه في مطبخي بمثابة منجم من الذهب للبيولوجيين الذين يقصدون العالم الطبيعي في سبيل ابتكار التكنولوجيا الحيوية.
وعلى سبيل المثال، تعتمد آلية تحليل كوفيد "بي سي آر" على انزيم لنسخ الحمض النووي المأخوذ أول مرة من بكتيريا تسمى "ذيرموس أكواتيكس" التي تعيش في الينابيع الحارة، بل وتتحمل درجات حرارة تكفي لسلق البيض، وعلى النقيض تماما يكمن لهذه البكتيريا أن تعيش في الجليد، وبعضها يعيش في تركيزات عالية من الملح، وهناك ما تعيش في الأحماض العالية مثل المعدة، ويمكن لأنواع قليلة كذلك أن تقاوم الاشعاعات والجفاف.
بديهيا، نعتقد أنه من المستحيل أن تكون هناك حياة في مثل هذه البيئات، كما يقول "مانويل بوركار" من جامعة فالنسيا الاسبانية، ولكن هذه الميكروبات تؤكد أنه يمكنها ذلك بالفعل، وهناك بيئات صعبة جدا في منزلنا كذلك، إن متوسط درجة حرارة المنازل هي 20 مئوية، ولكن في المطبخ هناك أجهزة بها درجات حرارة أعلى بكثير تصل إلى 70 و 80 مئوية وأكثر، ومن الأجهزة ما تعمل بالمواد الكيميائية القاسية، ويقول "بوركار" حول ذلك: "من النظور البيئي هذه الأجهزة أقرب إلى (يلوستون) منها في غرفة النوم".
مجتمع آلة القهوة
اكتشف العلماء على مر السنين أن هناك ميكروبات تتآلف بالظروف القاسية في أجهزة متعددة مثل سخانات المياه والغسالات وغسالات الصحون، وكذلك في آلة صنع القهوة سكان يعيشون، ويقول "بوركار": "إنه عالم بحد ذاته في بيئة مرتفعة الحرارة ومليئة بالكافيين". ولقد اكتشف فريقه كيف يمكن أن تتشكل مجتمعات حية ميكروبية تتكيف مع الحرارة في مكب تجميع المياه الساخنة في آلة القهوة.
نظريًا، يمكن للميكروبات أن تقاوم الموت في جهاز المايكروويف الخاص بنا، وتتحمل الموجات المتكررة من الأشعة الحادة والجفاف والحرارة.
وبالنسبة لي كان من الضروري أن أعرف إذا كان مطبخي موطنا للميكروبات ذات القوى الخارقة، مما يجعلني أتساءل "ما الذي أوصلهم إلى هنا؟".
إن العديد من الميكروبات يمكنها فعلا السفر وتحمل الرياح والمياه حول العالم، وثم يمكنهم الاستقرار، ويمكنهم التكاثر في بيئات مناسبة لهم، وبحسب عِلم البيئة الميكروبية فإن "كل شيء موجود في كل مكان، ولكن البيئة تختار". وبمعنى آخر، يبدو أن الكائنات الدقيقة التي تزدهر في مكان معين تتأثر بشكل أقل بالعوامل الجغرافية، وتتأثر أكثر بالظروف الفريدة لتلك البيئة.
وما يثير الاهتمام أن هذا ينطبق على البيئات التي صنعها الإنسان، وقد أظهر "بوركار" وفريقه البحثي أنه يمكن لبعض الميكروبات البقاء حية على الأسطح الأشبه بأسطح الألواح الشمسية في الصحراء، بل أن المجتمعات الميكروبية التي تجدها هناك هي نفسها على اللوحات في أماكن أخرى مثل إسبانيا وكاليفورنيا والقطبين الشمالي والجنوبي، وهذا الفهم دفع فريق "بوركار" لاقتراح مفهوم "الميكروبيوم للأشياء"، وهي فكرة مفادها أن الأجهزة في جميع أنحاء العالم تشترك في ضغوط الاختيار، وعليه اقترح الفريق أن يكون "الميكروبيوم" الموجود في الأجهزة الخاضعة لمواصفات المملكة المتحدة مثل المايكروويف وغسالات الصحون هي نفسها الموجودة في أستراليا أو كندا أو القارة القطبية الجنوبية.
هذا الأمر زاد من فضولي لاكتشاف ما يعيش في مطبخي، وقمت بالاتصال بـ "بوركار" الذي يرأس كذلك شركة تنقيب بيولوجية تسمى "داروين بايوبروسبيستنج أكسيلنس"، ووافق هو وزميله "أدرييل لاتوري" على تحليل عينات من مطبخي، كانت الموافقة أسهل بكثير مما سيحدث بعد ذلك، فلم أكن أملك الأدوات المناسبة لأخذ العينات، فتوجهت إلى الصيدلية وصنعت الذهول على الصيدلي بطلباتي الغربية، ولكن بعد ذلك كان لدي ما أريد.
وبأدوات فحص كوفيد والمعقمات أخذت عينات مختلفة، وأي شيء يشبه الغشاء الميكروبي أخذت منه باستخدام المشرط ووضعته في أوعية الفحص البولي، بعدها قمت بتجميد كل العينات، وأرسلته بالبريد إلى إسبانيا، وكنت متحمسا بأنني سأجد أشياء مثيرة للاهتمام.
وبعد عدة أسابيع جاءت النتائج، فقد نجح فريق شركة "داروين" من استخراج الحمض النووي من العينات المرسلة، وتسلسل أجزاء من جين يرمز له بـ "16SrRNA" وهذا الجين يساعد على التعرف على البكتيريا وأجناسها المختلفة.
ما قام به الفريق لا يعطينا بشكل دقيق أنواع الميكروبات التي تعيش في الظروف القاسية، فالأمر يتطلب كثيرا من التجارب والتكاليف، ولكنه بشكل مبدئ يعطي مؤشرا قويا جدا كما يقول "لا توري".
ومن أكثر الأجهزة في مطبخي التي تحتضن أنواع الميكروبات البكتيرية غسالة الصحون، ففيها يعيش أكثر من 70 نوعا من البكتيريا، رغم أن غسالة الصحون تولد حرارة تصل إلى 65 درجة مئوية، وبها ضغط عالٍ من الماء، وأنواع من المنظفات القوية، إضافة إلى الأملاح، ومن مراحلها التجفيف التام، غسالة الصحون هي المصدر الأهم في نوم البكتيريا القاسية في مطبخي، وتشمل هذه البكتيريا جنسا يسمى "أكسجيكيوم بكتيريوم"، وهو جنس من البكتيريا التي تعيش وتتأقلم وتتكاثر في بيئات قاسية، بما في ذلك المياه الينابيع الساخنة، والأنهار الجليدية، والبحيرات شديدة الملوحة.
مما عُثر عليه في الغسالة جراثيم "باراكوكوكس" وهي جراثيم تقاوم درجات الحرارة المرتفعة وتم العثور عليها كذلك في الينابيع الساخنة، وجدت هذه الميكروبات رغم أن غسالة الصحون والمساحيق تحوي تكنولوجيات للقضاء على الجراثيم ومواد كيميائية وانزيمات تستعمل في صناعة المنظفات للقضاء على تلك الجراثيم، وهي مواد شديدة التركيز ولها استعمالات عديدة، لكنها لم تكن كافية للقضاء على تلك الكائنات.
والجهاز التالي في مطبخي الذي كان بمثابة عالم تعيش فيه الميكروبات آلة صنع القهوة، التي تحتضن 53 مجتمعا من الميكروبات، وهي أنواع نادرة وفريدة، ومن تلك المجتمعات البكتيرية ما يعرف بـ " ميثيلوباكتريوم-ميثيلوروبروم" الذي يضم أنواعًا تتفاعل مع الكافيين، إضافة إلى نوعين يعيشان معها وهي "أسينتوبيكتر" و "بسيدومونس"، وقد يكون مصدها الانزيمات المستخدمة في تقنية تنزع الكافيين من القهوة.
وفي "غسالة الملابس"، التي أعلم أنها ليست آلة في المطبخ ولكنها بيئة مثالية لنمو البكتيريا، اكتشفنا 6 أنواع من البكتيريا، منها نوع يسمى " بسيدومونس بوتايدا" التي من المعروف أنها ذات قدرة على تحليل الملوثات والجزيئات العضوية.
كانت هذه النتائج بالنسبة لي مفاجأة، ولكن "بوركار" يوافقني ويخالفني، فالميكروبات الموجودة في مطبخي تتوافق مع دراسة أجراها سابقا، ولكن مع ذلك وجدت الدراسة على مطبخي نتائج تعتبر مثيرة للاهتمام مثل اكتشاف "ميثيلوباكتريوم-ميثيلوروبروم" كونها من أكثر الميكروبات الموجودة في جهاز صنع القهوة خاصتي، وهو ما لم يتم اكتشافه في دراسة "بوركار" السابقة، واليوم يحاول فريقه زراعة تلك البكتيريا لمحاولة معرفة المزيد عنها.
ما قمت به كان بالنسبة لي دراسة متكاملة تُسلط الضوء على التنوع المذهل للحياة في الأماكن غير المتوقعة. وبعد ذلك، من يرغب منكم في شرب فنجان من قهوتي؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الموجودة فی صنع القهوة التی تعیش تعیش فی یعیش فی على تلک
إقرأ أيضاً:
الحاسية: ليبيا تعيش في فوضى وتواجه تيار ديني يريد الهيمنة على زمام الأمور
قالت أمينة الحاسية، رئيس مجلس إدارة ملتقى التغيير لتنمية وتمكين المرأة:” هناك علاقة بين توجه سلطات طرابلس لتفعيل الحجاب “جبرًا”، والأزمة السياسية في البلاد”.
وأضافت الحاسية، تصريحات لصحيفة الشرق الأوسط، إن المسؤولين في ليبيا عادة ما يضعون المرأة في مكان بين السياسة والدين، ولو تريد الدولة حقًا المحاسبة فعليها أن تبدأ أولاً بمواجهة الفساد، وتدع المرأة وشأنها.
ولفتت إلى أن التيار الديني تغول في غرب ليبيا، وله تأثير على من هم في السلطة، لما يملكه من مال وسلاح ومليشيات.
وتابعت:” أصبحت هناك حالات تعدي على صالات الرياضة والنوادي النسائية بالقوة، وقد حاولوا أن يغلقوها بحجج كثيرة، من بينها الدين والحجاب”.
وأكدت أن ليبيا تعيش في فوضى، ومواجهة من تيار ديني يريد الهيمنة على زمام الأمور والقوانين ودسترة هذه المشكلات.
نوهت بأن الليبيين والليبيات سيرفضون هذا الإلزام، إلا لو فُرض عليهم بقوة السلاح.