فوزي محمد صالح بقوجه بريطانيا

تمر في الأيام القليلة القادمة الذكري الثانية لوفاة الأخ محمد سليمان احمد هانم والذي عُرف بمحمد سليمان ولياب. كان والده المرحوم سليمان احمد رجل ذا مهابة، وعرف بالحزم والشدة وكان من أعيان قري دبيرة والتي تعتبر من أكبر قري وادي حلفا قبل التهجير. عاش محمد سليمان فترة من فترات صباه في القرية 7 هاجر.

كان محمد يتمتع بخصال فريدة وكان واسع الاطلاع ومولعا بالأدب العربي والبلاغة العربية، واما لغته النوبية فكان بحق ضليعا ومدهشا. كان محمد واحدا من أصدقاء الطفولة، وكان واحدا من اميز الانداد في قري دبيرة على اطلاقها في الفترة التي اعقبت التهجير الي خشم القربة. تمتع ولياب منذ صغره بالنقاء والحميمية وبروح مرحة، وباعتداد بالرأي قد يؤدي به بعض الاحايين الي الصدام. رغم تلك الحدة، عرف ولياب بذكاء واضح في حديثه ونجح في تثقيف نفسه بنفسه ويعتبر عصاميا تمكن من اختزان ثقافة واسعة ومعرفة عميقة بالتاريخ النوبي والانساب من خلال قراءاته الواسعة. علي الدوام، كان يأسرك بنبله وحضوره الطاغي في المنتديات في خشم القرية وقري الإسكان. أكمل ولياب الشهادة الثانوية في الخرطوم، وبعدها عمل لبعض الوقت في خشم القربة والخرطوم، ثم هاجر الي المملكة العربية السعودية وعمل بها وبقي فيها حتي مرضه الفاجع والذي ادي لموته في 31 يناير 2022. أنشأ ولياب في مكان اقامته في مدينة الرياض ديوانية للثقافة العربية والنوبية على حد سواء، وصار مسكنه قبلة للنوبيين القاصدين له بحثا عن المعرفة في التاريخ النوبي القديم والمعاصر. لعل شخصية ولياب الاسرة وسحر حديثه عن التهجير والمهجرين قد حول منزله الي مزار من كل انحاء مدينة الرياض وخارجها. لا شك ان سنوات الاغتراب في السعودية مع روحه المتقدة واعتزازه بنوبيته وحسن ضيافته، وكل هذه الخصائص مجتمعة قد وفرت له وسط الجاليات السودانية والعربية والنوبية احتراما استحقه بجدارة. أحسن ولياب بشكل مذهل في إدراك قيمته ومسئوليته في الاغتراب مستفيدا من العلاقات والحساسيات والتجاذبات والتداخلات التي دارت في مساحات الاغتراب في دول الخليج. وكان على الدوام يهتم بأدق التفصيلات في العلاقات الاجتماعية قد لا يكترث لها كثيرون من اقرانه في قري حلفا. وفي الجانب الاخر، وفرت له سنوات الاغتراب أيضا، في بعديها الاجتماعي والمادي فرصة جيدة في تعليم اولاده تعليما عاليا حيث كافح هو وزوجته السيدة اماني داؤد خليفة حتى نالوا شهادات جامعية ممتازة. لم يختار المرحوم محمد سليمان احمد هانم مهر اسمه ب (ولياب) بغرض التعالي والفخر والتميز عن بقية العائلات النوبية، ولكن هذه الإضافة في وجهة نظري، كانت في الاغلب نتيجة التفاعل والتجاوب والاختلاف والتمازج بين الافراد والاسر في المجتمعات السودانية في مدينة الرياض. بالتأكيد، تميزت كل سنوات تغربه في السعودية بالمواقف الجريئة والمناقب المشهودة. فعلي سبيل المثال، حين طرحت عليه في مرة من المرات سعي رابطة النوبيين السودانيين في المملكة المتحدة وتحت إدارة الأخ المرحوم جيلي مصطفي فرح ترتيب يوم مفتوح في أكتوبر 2005 في مدينة لندن لتخليد الأستاذ الراحل جمال محمد احمد في ذكري وفاته، انتاب الأخ محمد حالة من الفرح والابتهاج وتولي هو بحماس منقطع النظير في كتابة مقالات ومداخلات عديدة في سودانيزاونلاين عن الرابطة النوبية في المملكة المتحدة وريادتها في تكريم الشخصيات الوطنية. ومن أكثر المواقف السياسية وضوحا وجرأة تلك النقاشات التي خاضها هو معي في مسالة الكيان النوبي الجامع. لم تكن آراؤه في هذا الصدد عنيفة، بل هادئة وحافلة بالاستقراءات والنتائج المستقبلية التي قد تترتب على الحياة النوبية بقيمها وموروثاتها. في مقابل ما طرحت عليه، كان يري ولياب ان الحياة السياسية في السودان تمضي بسرعة غير مسبوقة والتطور في كل مناحي الحياة الاجتماعية في حياة السودانيين عموما والنوبيين بشكل خاص بسبب الاغتراب او الهجرة والاختلاط قد يحطم كل المسلمات وسيقضي عليها. كذلك شهدت تلك الفترة مساهمات عديدة له في الملتقي النوبي على الفيس بوك الخاص به ونشر ملفات عن قواعد قراءة وكتابة اللغة النوبية. وفي الشأن العام، لم يتردد في طرح آرائه من خلال موقع سودانيل وأسهب من خلال هذا الموقع في نشر افكاره بجرأة عرف بها طوال سنوات عمره القصيرة. كتب مهما مقالا في عام 2015، عن مستقبل الخريطة السياسية السودانية في ظل تشتت القناعات وافول المشروعات الوطنية واخفاق حركة الجماهير بسبب القلق والتنافر والتردد، وكأنه يتنبأ ما يحدث الان في السودان. وكتب أيضا مقالا بعنوان " عن التشكيل الوزاري الجديد وأنظومة (التراضيتوافقية)" منتقدا أسلوب الترضيات وتوزيع المناصب الوزارية لمنسوبي المؤتمر الوطني في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير. كتب أيضا عن اصدقاء الغربة واستدعي على غير المألوف في مقاله باللغة العربية اوصافا ودلالات باللغة النوبية. ومقالات اخري منها على سبيل المثال " حتى المنبوذ زدناه وصفات سودانية خالصة "، "سلام لإخوتنا المغتربين خارج الوطن"، ومقالات عديدة لا يتسع الوقت لتحليلها. واخيرا، هل من الممكن ان نتحدث عن ذكراه ودوره المتميز في القضايا الاجتماعية بدون ان نشيد وان نستحضر في محمد عواضة (والدته عواضة حسن خليل ظمبليطة) روح الهوية النوبية المطلقة التي استقرت عنده وعند الجل الأعظم من النوبيين بمنزلة العقيدة. هنا تقضي الأمانة بان نقول بان ولياب اخذ موقعه في التاريخ لكونه صاحب فكرة اليوم النوبي العالمي والذي اختاره ان يصادف السابع من يوليو من كل عام، فهو بدون تردد من وضع الأسس لهذه الفكرة الجبارة. والحيرة التي تشغل غير النوبيين الذين تجاوبوا وبشكل واسع كيف امتزجت عند ولياب حالة الهيام النوبي وحيوية الرمز بهذا الشكل حتى استطاع بهما ان يزرع نبتا جديدا ليوم عالمي للنوبيين في أعماق حدائق قوقل ويحفر لمعلم تاريخي بارز في ذاكرة النوبيين في اركان الدنيا الاربعة. من هنا، يجب ان نعترف بأن الفكرة او القضية التي دفعت محمد سليمان احمد هانم متصلة في الأساس بالغريزة النوبية الموغلة في القدم. هذه الجينات عمرها عمر أول انسان منذ الخليقة كأول نشأة، وكأول وعي، وكأول تأريخ للتاريخ، ولذا ليس غريبا علي محمد سليمان ولياب ان يؤسس وعيا جديدا للنوبيين، ويا له من وعي، ويا له من فخر. رحم الله صديق الطفولة الأخ محمد سليمان ولياب وأمد الله في حياة زوجته السيدة اماني داود حسين خليفة وكريماتهم الدكتورة مرام والدكتورة ماريهان ومهاد وميار وابنهم احمد المجتبى.

فوزي محمد صالح بقوجه بريطانيا
15 يناير 2024

fawzisalibrahim@gmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

سليمان الراشدي يكتب سيرة السيد طارق بن تيمور

يحكي سليمان بن جابر بن علي الراشدي في كتابهِ «رجال خلّدهم التاريخ» سيرة صاحب السمو السيد طارق بن تيمور بن فيصل بن تركي آل سعيد، الرجل السياسي العسكري والقيادي المحنك سليل السلاطين الذي عاش في القرنِ العشرين، وعايش أوضاع عُمان العصيبة فتاقت نفسه للتغييرِ والإصلاح ونقلِ عمان من الظلام للنور، وقد كُتِب هذا البحث تعزيزًا لمكانةِ السيد طارق بن تيمور، وإثراء لتجربتهِ، ولتكون سيرته نموذجا يحتذى في القيادة والنضال.

يقع الكتاب -الصادر عن مكتبة بذور التميز- في أربعةِ فصول، ويبلغ عدد صفحاته 168 صفحة، وقد استهلَّ الكاتب كتابهُ بشجرةِ نسبِ السيد طارق بن تيمور، ثمَّ عرج لمقدمة الكتاب تلتها مقولة لصاحب السمو يذكر فيها: «إمكانات عُمان ليست كإمكانات إمارات الخليج، وعُمان دولة قديمة وبإمكانها تقدير هذهِ الإمكانات في المستقبل، وكل من وصل لتقدير الواقع أخذ فكرة جيدة»، ثم أورد رسالة سمو السيد طارق لكافة المشايخِ والعلماءِ والأعيانِ والموظفين والجنودِ والمواطنين العمانيين، كما أورد كلمته التي ألقاها في مقر الأمم المتحدة بمناسبة انضمام سلطنة عمان للمنظمة في 7 أكتوبر 1972م.

بعدها شرع الكاتب في الفصل الأول الذي تحدث فيهِ عن حياةِ سمو السيد طارق بن تيمور عن كثب؛ فقد عرج للحديثِ عن نسبهِ ومولدهِ، ونشأته وتعليمهِ، وعن والديه، وهواياتهِ، وشخصيته، وحياته وزوجاتهِ وأولاده، ويبيِّن الكاتب في هذا الفصل الظروف التي صَحِبت تكوين هذه الشخصية الفذة، فالمحيط له دور في تشكيلِ معالمِ شخصيتهِ، وهمة سمو السيد طارق بن تيمور وعزمه كان لهُما الدور الأكبر في النهوضِ بعمان؛ فقد اهتمَّ السيد بالأصالةِ العمانية التقليدية حتى لا تفقد عمان هويتها، وانتقل بين عدة أمصار لطلب العلم وتحصيلِ المهاراتِ القيادية، وكانت له محاولات كثيرة من أجلِ نهضة البلدِ ورفعِ الظلمِ عن أهله من أجلِ التقدم في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية واستغلال إمكانات البلاد؛ لرفعِ شأنِ الوطنِ وأهلهِ في ظل الشريعة الإسلامية.

أمَّا عن الفصل الثاني فقد تحدث فيهِ الكاتب عن الدور السياسي والتربوي لصاحب السمو السيد طارق بن تيمور؛ فسمو السيد طارق بن تيمور كان قريبا من الشعب متواضعا خلوقًا تتجلى في شخصهِ القيم الإسلامية، كما أورد الكاتب في هذا الكتاب كذلك دوره في القيادة العسكرية، وعمله مفتشًا عامًا للولاة، ونائبًا لرئيس البلادِ عند سفره.

واختتم الراشدي الفصلَ بذكرِ دستور سمو السيد طارق المؤقت الذي ابتكره، وهذا يبرز مدى اطلاع سمو السيد طارق بن تيمور على أنظمة الحكم، ويبين مدى أهمية وجود دستور ينظم البلاد، وهو كذلك سبيل لتنظيم العلاقات المختلفة بين أجهزة الدولة.

وتناول الراشدي في الفصل الثالث المناصب التي تولَّاها سمو السيد طارق بن تيمور في أثناءِ حكمِ السلطانِ قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- ومن المناصب التي شغلها منصب رئيس مجلس الوزراء في أول حكومة شكّلها السلطان قابوس، ثمَّ عمل بعدها مستشارًا للسلطانِ وممثلًا لهُ في العديد من القضايا والمحافل الدولية، كما أشرف على جميعِ سفارات سلطنة عُمان بالخارج، وتقلّد منصب مستشار خاص في الشؤون الدبلوماسية، ويضم هذا الفصل كذلك أعمال سمو السيد طارق خلال رئاستهِ لمجلس الوزراء، والمنجزات السياسية والاقتصادية التي تحققت لسلطنة عُمان أثناء شغلهِ رئاسة مجلس الوزراء فقد انضمت السلطنة للعديد من المنظمات الدولية والإقليمية التي كان أبرزها: هيئة الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، كما تخرّج أول فيصل من الشرطة تحت رعايته، وتولى رئاسة مجلس المحافظين العماني فكانت العملة العمانية تحت توقيعه، وعمل سمو السيد طارق على استقطابِ الشخصياتِ العمانية المعارضة الذين كانوا خارج عمان فانضموا إلى الحكومةِ للنهوض بالدولة، ولعل الإنجاز الأخير يعد خطوة شجاعة جريئة من سموه، واختتم الفصل الثالث بذكرِ تفاصيل وفاة سمو السيد طارق، فبعدَ عشر سنوات من عمر النهضة ترجل الفارس عن صهوةِ جياده، وودع حبيبته عُمان بعد تفانيهِ في خدمتها.

وفي الفصل الأخيرِ يورد الكاتب صورا من الوثائق والصحف المحلية والعالمية التي غطَّت أخبار سمو السيد طارق وأنشطتهِ وجهوده السياسية قبل بزوغ فجر النهضة وبعدها، وتشمل الصور أخبارًا وتصريحات وخطابات ووثائق وملفات لسمو السيد طارق، كذا تتضمن صورا تذكارية لسموهِ في العلاقات السياسية.

ختاما يمكن القول أنَّ هذا الكتاب الذي لا يبلغ مائتي صفحة كفيل بإبرازِ عَلَمٍ من أعلام الدولة البوسعيدية، ويمكن عَدُّهُ من القليل الجزيل، فقد جمع الكاتب مادته رغم شحِّ المصادر، وحاول جاهدا إبراز شخصية سمو السيد طارق بن تيمور وذكر مآثره وتأثيرهِ في بلدهِ وتأثُّرهِ بها، وقد تكبد سموه المشقة سعيا للإصلاح، ولم يألُ جهدا في تقديمِ النصحِ والمشورة للارتقاءِ بعُمان.

مقالات مشابهة

  • هاجر أحمد تكشف عن تعرضها لوعكة صحية
  • مساجد الجزائر تحيي الذكرى 62 للإستقلال
  • وفيات الجمعة .. 5 / 7 / 2024
  • راشد بن حميد يعزي بوفاة زمزم صالح مصبح
  • عميد القبول بجامعة الإمام محمد بن سعود: بوابة القبول الموحد والاختبار التحصيلي في التخصصات النظرية جديد القبول الجامعي هذا العام
  • وفيات الخميس .. 4 / 7 / 2024
  • أول مرة في تاريخه.. إنبي بطلًا لدوري تنس الطاولة بعد الفوز على الأهلي
  • محمد احمد فؤاد امين الخبير العقاري يحتفل بعيد زواجه التاسع وبتلك المناسبة يكتب لزوجته
  • حسن الرداد يحيي ذكرى وفاة شقيقه «فادي» بكلمات مؤثرة: «توأم روحي»
  • سليمان الراشدي يكتب سيرة السيد طارق بن تيمور