استاء القوم مما ذاع عن تنازل السودان، متى دان للدعم السريع، عن أبيي إثر لقاء رشح عن المنظر فرانسيس دينق وحميدتي. ولكن وجب التذكير بأن حميدتي مسبوق إلى هذا. فكانت معارضة الإنقاذ (التي خرجت قحت وتقدم والجذرية والمسلحون من رحمها كما يفضلون التعبير) قد فرغت من التنازل عن أبيي وتسليمها صرة في خيط لدولة جنوب السودان.

وطعنت في مطلب شعب المسيرية البقارة بحقها في تملك أبيي لأن “الساير عطية”، في لغة اليوم، مثل المسيرية لا حق له في أرض هي ل”المقيم” حيماد”، أو شعب الدينكا نيقوكك. وعليه تناصرت دوائر من معارضي الإنقاذ لمنع المسيرية من أن تكون طرفاً في الاستفتاء حول أبيي ولمن تكون: للسودان أم لجنوب السودان. وأكثر تحامل سلف قحت وتقدم اليوم على المسيرية هو غيظ معارضة لا علماً: فكيف الكيف تتحالف المسيرية مع الكيزان في الإنقاذ (قبل أن يكونوا فلولاً) بل وقبلها مع الإمام الصادق المهدي خلال دولته بعد ثورة إبريل 1985 في المراحيل ضد قرة عينهم الجيش الشعبي لتحرير السودان (ويا يا).

وكتبت في أيامها أعرض لقلمي منصور خالد وعمر القراي (الذي لا يقرأ) اللذين نشطا في حملة تجريد المسيرية من الحق في منطقة أببي إلا كرعاة عابرين للحدود الدولية لجنوب السودان لهم الكلأ والماء ومحل ما تمسى. فإلى المقال القديم الأول

كنت أخشى دائماً أن يصبح تبخسينا ل”العقل البدوي” (لذي تعتقد صفوة الرأي أنه من وراء خيباتنا الكبرى) سبباً لخرق حقوق الجماعات الرحالة بالنظر إلى أسلوب حياتهم. وقد سبق لي القول إن ما عقّد قضية المسيرية في أبيي، التي تقف الآن كعقبة كؤود في طريق السلم السوداني، إلا ظننا أنهم شعب سيًّار “محل ما تمسى ترسى”. فلا يتواشج المسيري مع الأرض معاشاً ووجداناً ومعاداً. فهو “هائم” (roaming) بأرض الله الواسعة. أي أنه في “سواجي ولواجي” في عبارة شايقية. فحتى المؤتمر الوطني، الذي يظن الناس أنه الذي يحرض المسيرية على حق مزعوم بأبيي، باعهم بعد أن حصل من تحكيم لاهاي على بعض حقول النقط بينما خسر المسيرية الأرض. وقال الدرديري محمد أحمد، ممثل الحكومة بلاهاي، إنه يعتقد أن التحكيم جاء نصراً للحكومة.

الاستخفاف بذوق البدوي للأرض وارتباطه بها وحيله لتأمينها فاش. فآخر ما انتهت إليه أحزاب المعارضة بشأن الحقوق في أبيي هو طلبها من أمريكا أن ترفع يدها عن المسألة وأن تترك للدينكا والمسيرية ترتيب تلك الحقوق بالسوية. وهذا هرب للأمام من المعارضة وتنصل عن دراسة تلك الحقوق بصورة مسؤولة لتستقل برأي يعين المسيرية والدينكا معاً على التسوية. وددت مثلاً لو جاءت المعارضة برأي مدروس حول شرط “الإقامة” للتصويت في استفتاء أبيي. فالأمريكان، الذين طلبت المعارضة منهم ترك المسيرية والدينكا لحالهم، حاولوا مراراً وتكراراً تعريف تلك الإقامة بما يقرب من وجهات نظر أطراف النزاع.

ويمكن بالطبع لجهات أخرى أن تدلو بدلوها في الموضوع وتلقى القبول و”ترفف” الأمريكان الذين “دنا إبعادهم”. فالتصويت في الاستفتاء لن ينعقد بدون تحديد لشرط “الإقامة” مقبول للأطراف مهما طال السفر. من جهة أخرى، يكشف رهن المعارضة حل مسألة أبيي بالأطراف “القبلية” المعروفة عن قصور كبير في بروزة الصراع حول أبيي في السياق القومي. وكشفت رسالة للماجستير كتبها عبد الوهاب عبد الرحمن (1982) عن كيف تواثقت الأطراف القبلية مع القوى القومية والحكومية منذ منتصف الستينات وتحالفتا مما يجعل حل النزاع القبلي بعيداً عن تلك القوى المركزية والإقليمية أمراً بعيد الاحتمال. فقد فرضت المسيرية مرتين على حكومة الخرطوم ألا تقبل بتقرير الخبراء ولا تحكيم لاهاي.

ولعل أوضح صور التحامل على المسيرية من جهة أسلوب حياتهم اختصار مطلبهم في “حق الرعي” في الأرض دون حق التملك. فكانت مساومة الأمريكان للمسيرية في طور من الأطوار أن تجعل ذلك “الحق” جاذباً. بمعني أنها وعدتهم بتطوير المراعي والخدمات في دارهم بما ينسيهم أبيي “وسقطها”. ولم يقبل المسيرية بهذه “الجزرة” الأمريكية.

ويقصر منصور خالد أيضاً مطلب المسيرية على حق الرعي دون المواطنة. فهو يعيد علينا نص بروتكول أبيي (2004) الذي «يحتفظ المسيرية والأشخاص الآخرون (فيه) بحقهم التقليدي لرعي الماشية وتحرك الأفراد عبر إقليم أبيى». وقال إن الحركة الشعبية رعت هذا الحق في أوقات الحرب فكيف تصد عنه في وقت السلم. ومنطق منصور هنا كالعادة فاسد. فقوله إن الحركة رعت حق المسيرية في الرعي وقت الحرب فما بالك في وقت السلم بلاغي لا غير. فالمقارنة في وضعنا الراهن لا تكون بين وقت حرب ووقت سلم كما ذهب منصور، بل بين وقت كان فيه السودان واحداً وقبل به المسيرية بخيره وشره ووقت سيتفرق فيه السودان. ومتى تفرق ربما صارت أبيي، التي للمسيرية حجة حسنة على تملكها، إقليماً في الجنوب. ولهذا يصر المسيرية على التصويت في الاستفتاء كمواطنين (لا مجرد مستخدمين للأرض) لترجيح بقاء أبيي في دولتهم. فليس بوسع منصور نفسه تأمين حقوق جماعة بادية في بلد آخر على علو كعبه في دولة الحركة الشعبية.

ونواصل غداً عرض بقية منطق منصور ونعرج على رأي سقيم آخر لعمر القراي.
كنت أخشى دائماً أن يصبح تبخسينا ل”العقل البدوي” (لذي تعتقد صفوة الرأي أنه من وراء خيباتنا الكبرى) سبباً لخرق حقوق الجماعات الرحالة بالنظر إلى أسلوب حياتهم. وقد سبق لي القول إن ما عقّد قضية المسيرية في أبيي، التي تقف الآن كعقبة كؤود في طريق السلم السوداني، إلا ظننا أنهم شعب سيًّار “محل ما تمسى ترسى”. فلا يتواشج المسيري مع الأرض معاشاً ووجداناً ومعاداً. فهو “هائم” (roaming) بأرض الله الواسعة. أي أنه في “سواجي ولواجي” في عبارة شايقية. فحتى المؤتمر الوطني، الذي يظن الناس أنه الذي يحرض المسيرية على حق مزعوم بأبيي، باعهم بعد أن حصل من تحكيم لاهاي على بعض حقول النقط بينما خسر المسيرية الأرض. وقال الدرديري محمد أحمد، ممثل الحكومة بلاهاي، إنه يعتقد أن التحكيم جاء نصراً للحكومة.

الاستخفاف بذوق البدوي للأرض وارتباطه بها وحيله لتأمينها فاش. فآخر ما انتهت إليه أحزاب المعارضة بشأن الحقوق في أبيي هو طلبها من أمريكا أن ترفع يدها عن المسألة وأن تترك للدينكا والمسيرية ترتيب تلك الحقوق بالسوية. وهذا هرب للأمام من المعارضة وتنصل عن دراسة تلك الحقوق بصورة مسؤولة لتستقل برأي يعين المسيرية والدينكا معاً على التسوية. وددت مثلاً لو جاءت المعارضة برأي مدروس حول شرط “الإقامة” للتصويت في استفتاء أبيي. فالأمريكان، الذين طلبت المعارضة منهم ترك المسيرية والدينكا لحالهم، حاولوا مراراً وتكراراً تعريف تلك الإقامة بما يقرب من وجهات نظر أطراف النزاع.

ويمكن بالطبع لجهات أخرى أن تدلو بدلوها في الموضوع وتلقى القبول و”ترفف” الأمريكان الذين “دنا إبعادهم”. فالتصويت في الاستفتاء لن ينعقد بدون تحديد لشرط “الإقامة” مقبول للأطراف مهما طال السفر. من جهة أخرى، يكشف رهن المعارضة حل مسألة أبيي بالأطراف “القبلية” المعروفة عن قصور كبير في بروزة الصراع حول أبيي في السياق القومي. وكشفت رسالة للماجستير كتبها عبد الوهاب عبد الرحمن (1982) عن كيف تواثقت الأطراف القبلية مع القوى القومية والحكومية منذ منتصف الستينات وتحالفتا مما يجعل حل النزاع القبلي بعيداً عن تلك القوى المركزية والإقليمية أمراً بعيد الاحتمال. فقد فرضت المسيرية مرتين على حكومة الخرطوم ألا تقبل بتقرير الخبراء ولا تحكيم لاهاي.

ولعل أوضح صور التحامل على المسيرية من جهة أسلوب حياتهم اختصار مطلبهم في “حق الرعي” في الأرض دون حق التملك. فكانت مساومة الأمريكان للمسيرية في طور من الأطوار أن تجعل ذلك “الحق” جاذباً. بمعني أنها وعدتهم بتطوير المراعي والخدمات في دارهم بما ينسيهم أبيي “وسقطها”. ولم يقبل المسيرية بهذه “الجزرة” الأمريكية.

ويقصر منصور خالد أيضاً مطلب المسيرية على حق الرعي دون المواطنة. فهو يعيد علينا نص بروتكول أبيي (2004) الذي «يحتفظ المسيرية والأشخاص الآخرون (فيه) بحقهم التقليدي لرعي الماشية وتحرك الأفراد عبر إقليم أبيى». وقال إن الحركة الشعبية رعت هذا الحق في أوقات الحرب فكيف تصد عنه في وقت السلم. ومنطق منصور هنا كالعادة فاسد. فقوله إن الحركة رعت حق المسيرية في الرعي وقت الحرب فما بالك في وقت السلم بلاغي لا غير. فالمقارنة في وضعنا الراهن لا تكون بين وقت حرب ووقت سلم كما ذهب منصور، بل بين وقت كان فيه السودان واحداً وقبل به المسيرية بخيره وشره ووقت سيتفرق فيه السودان. ومتى تفرق ربما صارت أبيي، التي للمسيرية حجة حسنة على تملكها، إقليماً في الجنوب. ولهذا يصر المسيرية على التصويت في الاستفتاء كمواطنين (لا مجرد مستخدمين للأرض) لترجيح بقاء أبيي في دولتهم. فليس بوسع منصور نفسه تأمين حقوق جماعة بادية في بلد آخر على علو كعبه في دولة الحركة الشعبية.

ونواصل غداً عرض بقية منطق منصور ونعرج على رأي سقيم آخر لعمر القراي.

أخرجت البادية اثقالها وقالت الصفوة مالها
إذا كان حميدتي بصدد التنازل عن أبيي لفرانسيس دينق فقد سبقه أشاوس معارضة الإنقاذ إلى هذا (2-3)
عبد الله علي إبراهيم
استاء القوم مما ذاع عن تنازل السودان، متى دان للدعم السريع، عن أبيي إثر لقاء رشح عن المنظر فرانسيس دينق وحميدتي. ولكن وجب التذكير بأن حميدتي مسبوق إلى هذا. فكانت معارضة الإنقاذ (التي خرجت قحت وتقدم والجذرية والمسلحون من رحمها كما يفضلون التعبير) قد فرغت من التنازل عن أبيي وتسليمها صرة في خيط لدولة جنوب السودان. وطعنت في مطلب شعب المسيرية البقارة بحقها في تملك أبيي لأن “الساير عطية”، في لغة اليوم، مثل المسيرية لا حق له في أرض هي ل”المقيم” حيماد”، أو شعب الدينكا نيقوكك. وعليه تناصرت دوائر من معارضي الإنقاذ لمنع المسيرية من أن تكون طرفاً في الاستفتاء حول أبيي ولمن تكون: للسودان أم لجنوب السودان. وأكثر تحامل سلف قحت وتقدم اليوم على المسيرية هو غيظ معارضة لا علماً: فكيف الكيف تتحالف المسيرية مع الكيزان في الإنقاذ (قبل أن يكونوا فلولاً) بل وقبلها مع الإمام الصادق المهدي خلال دولته بعد ثورة إبريل 1985 في المراحيل ضد قرة عينهم الجيش الشعبي لتحرير السودان (ويا يا).

وكتبت في أيامها أعرض لقلمي منصور خالد وعمر القراي (الذي لا يقرأ) اللذين نشطا في حملة تجريد المسيرية من الحق في منطقة أببي إلا كرعاة لهم الكلأ والماء ومحل ما تمسى. فإلى المقال القديم الثاني.
3-أبيي: مواطنون لا رعاة

تسفر الصفوة اليسارية أو المعارضة لنظام الإنقاذ عن خبيئتين متى ما عالجت حق شعب المسيرية في التصويت في استفتاء أبيي الموعود. بالخبيئة الأولى يسترجعون احتجاجهم القديم على ما يصفونه بضلوع المسيرية مع الإنقاذ (وحكومة السيد الصادق قبله) في حرب الحركة الشعبية. فيقول منصور خالد إن المسيرية هي من قبائل الشمال التي “وجدت نفسها في أتون حرب لم تشنها إبتداء ولم تَجنِ فائدة منها في النهاية”. ولا أعرف إن كان في عرف المواطنة والديمقراطية مصادرة حق التصويت من ذلك الذي يشن حرباً بالوكالة ولم يجن فائدة. فلو صح هذا العرف لطوينا وستمنستر في بريطانيا طي السجل لأن توني بلير حمل بريطانيا على شن حرب على العراق بالإيعاز ولم تجن فائدة.

ويمت قول منصور عن استخدام المسيرية وفشلها إلى ما وصفته في حواري مع بلدو وعشاري مؤلفيّ كتاب “مذبحة الضعين” (1987) ب “تخليب” قبائل التداخل العربية في حدود الجنوب. فقد أخذت عليهم نظرهم لتلك القبائل كمجرد “مخلب قط” في حربها الحركة الشعبية. وهو مفهوم يُفرغ القوام العربي في منطقة التمازج من كل هوية أو مطلب “أناني ذاتي” في المراعي، ويجعله “جنجويداً” خالصاً للحكومة. وتستنكر الصفوة اليسارية والمعارضة إدخال الحكومة لتلك الجماعات في دورة حربها لجيش الحركة الشعبية ويغضون الطرف عن إدخال جيش التحرير للدينكا في دورة حربه للحكومة. وصحيح الأمر أنه لا المسيرية ولا الدينكا مجرد مخلب قط. إنهم حلفاء للأطراف لا أجراء.

وأوضح ما تكون خبيئة التخليب على المسيرية عند عمر القراي. فيتفق مع المٌخلبين بقوله إنه “ومع بداية انتصارات الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب، بدأت حكومة الشمال بقيادة السيد الصادق المهدي، تسليح المسيرية، بغرض استخدامهم، لوقف الجيش الشعبي لتحرير السودان من أن يزحف شمالاً.” ولم يكتف بوصف المسيرية بالمخلبين، بل بالجبن. فقال إنه كانت مراحيل المسيرية تنتهز غياب شباب الدينكا في جبهات الحرب الأخرى لتهاجم كبار الدينكا وصغارهم ونسائهم وتتسراهم. هذا عن تخليب المسيرية. ولكنه من الجهة الأخرى يذكر بالزهو والامتنان كتيبة دينكا نقوك كأحدي أولى الفصائل التي قادت حركة الثورة في بداية الحرب الأهلية الثانية (1983-2005م). وهذا هو السبب، بحسب القراي، لتميز أبناء النقوك في قيادة الحركة. ما الذي يجعل هذه قدماً وتلك كراعاً يا دكتور القراي؟

أما الخبيئة الثانية فهي محض حزازة أولاد بندر لا يستمزجون مسألة البادية ويعتقدون أنها من خوالف التاريخ وعار الحداثة. والمسيرية والدينكا سواء في بؤس ظن الصفوة بهم لاشتراكهم في أسلوب للحياة خالف وبدائي. ولولا أن الدينكا نقوك “اتحاوا” في طرف الحركة الشعبية ما أعارتهم صفوة الحداثة نظرة. فحق المسيرية في أبيي عند الصفوة الحداثية المعارضة قاصر على رعي بهائمهم (أو تفسيحها في النكتة القديمة) فقط. وللتأكيد على كفالة حق الرعي للمسيرية عقد منصور مقارنة بين رعاة المسيرية والرعاة عابري الحدود في أفريقيا بعامة. وقد صار الأخيرون، كما قال، موضوعاً لاهتمام الاتحاد الأفريقي الذي ظل يعقد الندوات لتأمين حقوق هذه الجماعات البادية التي لا تُلقي بالاً للحدود الوطنية. ولعل المثال الأقرب لهذه الجماعات هم شعب الأمبرور. وهذه مقارنة عرجاء جداً. فقد نسي منصور أن المسيرية ليست بعابرة لحدود ليست هي طرفاً فيها بالمواطنة ابتداء. فهي ليست مجرد مستخدم عابر للأرض ممن تتبرع الحركة الشعبية أو الاتحاد الأفريقي له بضمان حقوقه في الرعي. فالمسيرية في الاستفتاء القادم في أبيي مواطنون . . لا رعاة.

ونختم غداً بالتعليق على كلمة جاهلة أخرى للقراي.

عبد الله علي إبراهيم
عبد الله علي ابراهيم

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الحرکة الشعبیة لتحریر السودان على المسیریة فی وقت السلم فیه السودان منصور خالد تلک الحقوق إن الحرکة فی أبیی بین وقت أبیی فی الحق فی إلى هذا من جهة

إقرأ أيضاً:

في أثر فرانسيس دينق: سؤال الهوية بين النهر والمجلس

توطئة: حين يتحوّل الإرث إلى مقام للتأمل

ثمة سِيَر لا تُقرأ كما تُقرأ التواريخ، بل تُلامَس كما تُلامِس آثار الأقدام القديمة ضفاف نهر الجور، حين يُبللها صباحٌ جنوبي جديد: رطبة بالحكاية، متجذّرة في الطين، وتحمل في رائحتها سلالة الذكرى.
فرانسيس دينق ليس فقط صوتًا فكريًا نادرًا خرج من هشيم السودان، بل هو سردية مكتوبة بجمر الذاكرة وسؤال المعنى.
ابن الزعيم دينق مجوك، أحد أعمدة قبيلة الدينكا، تلك القبيلة التي لا تُقاس بحجمها ولا بثقلها الرمزي فحسب، بل بقدرتها العجيبة على حمل الوطن في تفاصيل الحياة اليومية، في الحكاية، في الغناء، في علاقة الإنسان بالنهر والسماء، وفي مقاومة محو الجوهر الوجودي للذات.

فرانسيس، في كتابه عن والده
The Man Called Deng Majok،
لا يكتب فقط عن الأب، بل عن البذرة التي خرج منها سؤال الهوية، سؤال العدالة، وسؤال الدولة.
كان يعرف منذ البدايات أن الشجرة التي لا تتأمل جذورها، تُقلعها أول ريح.

ولأن التكوين لا يتم في أرض واحدة، كان لا بد لفرانسيس أن يعبر نهر المعنى: من أبيي إلى الخرطوم، ومن جامعة الخرطوم إلى كولومبيا في نيويورك، حيث التقى بالعالم لا بوصفه عالِمًا فقط، بل بوصفه شاهِدًا.
في جامعة كولومبيا، كما في الأمم المتحدة، حمل معه ليس فقط أوراق القانون، بل الندبة السودانية التي لا تكف عن النزيف: الهوية كعبء، التنوع كمصدر قلق لا كقيمة، والانتماء كعملية قيد التشكل، كما لو أن كل محاولة للفهم ليست إلا أطروحة لم تكتمل بعد.

في نيويورك، حيث التقى بالعالم، لم يكن دينق مجرد مهاجر يحمل أوراق اعتماد أممية، بل رجلٌ يضع على طاولة الأمم معضلة اسمها السودان.
لم تُغرِه العواصم بالانفصال عن جذوره، بل عمّقت فيه شعور الغريب الذي يتعلم كيف يُعبّر عن محليته بلغة كونية.

في كولومبيا، حيث تتداخل الأنثروبولوجيا مع القانون والفكر السياسي، تبلورت عند البروفيسور فرانسيس دينق تلك الصيغة النادرة: أن تكون مفكرًا أفريقيًا دون أن تُصبح ضحية للابتزاز الثقافي، وأن تصوغ خطابًا أمميًا دون أن تذوب في الرواية البيضاء.

ذلك الإرث القبائلي، المتشعب والعميق، ظلّ حاضرًا في وجدان فرانسيس لا كماضٍ يُروى، بل كصيغة دائمة لتأويل الحاضر.
فيها يتعلم الطفل أن يُصغي لحزن البقرة كما يُصغي لحكمة العجوز، ويعرف الرجل موقع الشمس من ظلّ الأغصان كما يعرف حدود سلطته من صمت السماء.

كان يمكن لفرانسيس دينق أن يكون مجرد رجل قانون آخر، يقف على أعتاب المؤسسات الدولية بوصفه ممثلًا لملف، لا حاملًا لذاكرة.
لكنه، ومنذ البدايات، اختار أن يقف في مواجهة هشاشة التاريخ، لا أن يكتفي بتفسيره.
في سيرته، كما في مرافعاته الأممية، نلمس ذلك التوتر النبيل بين أن تكون منتميًا لجذرٍ قديم، وأن تُعيد صوغه بلغة لم تُصنع لأجله. بين أن تحمل قبيلتك في دمك كإيقاع داخلي، وأن تشرحها للعالم كأنك تترجم حلمًا شفهيًا بلغة لا تعرف الطمي.

الدينكا بالنسبة له لم تكن تصنيفًا إثنيًا ولا إشارة في بطاقات التعريف، بل سردية حيّة، مصنوعة من الطين والدم والماء.

في "رجل يدعى دينق مجوك" لا نعثر على سيرة زعيم فحسب، بل على ما يشبه مخطوطة مغموسة في الحليب المُقدّس ورماد المواقد القديمة؛ عن رجلٍ لم يكن يرى الزعامة سلطة، بل طقسًا من طقوس الحماية، وشكلًا نادرًا من أشكال الأخلاق.
كتب فرانسيس عن والده كما يُكتب عن بلدٍ صغيرٍ يسكنه بكامله، لا كمرافعة في تمجيد خاص، بل كشهادة على إمكان الحكم دون نفي، وعلى معنى أن تُقاس الزعامة لا بمساحة السيطرة، بل بقدرة الصبر على الاستمرار.

لقد فهم فرانسيس، منذ نعومة التجربة، أن الهوية ليست بطاقة تُبرزها عند الحدود، بل مرآة تُكسر عند كل سؤال صعب.
كان يكتب عن النزوح الداخلي لا بوصفه ملفًا إغاثيًا، بل كجرح حضاري: ماذا يعني أن يُقتلع الإنسان من أرضه لا بسبب كوارث الطبيعة بل بسبب عجز الدولة عن أن تكون حضنًا لا سيفًا؟ وماذا يعني أن نطلب من الناس “أن يعودوا إلى ديارهم” حين تكون الديار أول من خانهم؟

لكن الحكاية لم تكن فقط عن الزعامة والهوية، بل عن التمزق الداخلي، عن الغريب الذي كتب عن وطنٍ ظل يخذله دون أن يسقط من قلبه.

لم يكن الشتات عند فرانسيس دينق حادثة عبورٍ خارج الوطن، بل تشكّلًا داخليًا في وجه وطنٍ ظلّ ينفي نفسه. فالسودان الذي عرفه لم يكن خريطة جغرافية بل خريطة قلق، خريطة تتغيّر ملامحها كلما حاول أحدهم أن يعترف بالجميع دون أن يُقصي أحدًا. ومن هذا القلق وُلد صوته: صوتٌ يُسائل لا ليُدين، ويُفكّك لا ليُخرّب، وينتمي دون أن يتورّط في التقديس.

كان يعلم أن في داخل كل “متحدث أممي” ظلّ إنسان يبحث عن وطن، لذلك لم تكن مهمته الأممية تقنية، بل وجودية. كان يُدرك أن النزوح ليس فقط حركة قسرية من مكان إلى آخر، بل أيضًا انزلاقٌ من تعريفٍ إلى آخر، من نظرة ذاتية إلى نظرة فوقية، من لغة البيت إلى خطاب الأمم. وهنا، بالضبط، انحنى ليكتب، لا بالحنين فقط، بل بالمسؤولية: أن تُعيد تشكيل الذات في مواجهة خطاب لا يعترف بذاتك إلا بوصفك قضية إنسانية مؤقتة.

في نيويورك، لم يكن يعيش اغترابًا، بل يكتبه. لم يكن جزءًا من النخبة الدولية التي تتحدث باسم الضحايا، بل كان – ولا يزال – من القلائل الذين يجرؤون على القول: أنا أحد هؤلاء، لا من باب التمثيل، بل من باب الجرح. كانت كلماته، حتى في أكثر لحظات البروتوكول برودة، تحمل أثر تراب أبيي، وصوت دينق مجوك، وشجن الأغنية التي لم تكتمل في صدر الراعي حين جاءت الحرب.

ولعلّ أعظم ما فعله فرانسيس أنه لم يدّع النقاء، بل قبل بالتعقيد. لم يُقدّم قبيلته كـ”نموذج للسلام” ولا نفسه كـ”جسر بين الهويات”، بل قدّم الكلّ كما هو: هشّ، قابل للانقسام، ومع ذلك جدير بالمحاولة.
تلك هي الكرامة كما عرفها: أن تسكن المعنى دون أن تفرضه، وأن تمشي في العالم وأنت تحمل وطنك في صوتك لا في أوراقك.

تلك العلاقة المرهفة بين الوطن والصوت، كانت عند فرانسيس دينق نثرًا آخر للمقاومة.

لم يكن على فرانسيس أن يخترع قضية، بل أن يستمع لصوتها وهي تنشج في داخل اللغة.
منذ البداية، لم يُغره المجد الأكاديمي ولا بهرجة المؤتمرات، بل كان مأخوذًا بذلك السؤال القديم: من نكون حين نُجبر على أن نكون شيئًا واحدًا؟ كان يدرك أن خطورة الهوية لا تكمن في غموضها، بل في اختزالها. فالهويات، كما كتب لاحقًا، لا تتشكل عبر الانتماء فحسب، بل عبر الألم، وعبر مقاومة تلك اليد التي تريد أن تُلصق بك اسمًا واحدًا إلى الأبد.

ولهذا، كان يكتب كمن يُعيد تشكيل شتاته في جملة. كل كتاب له كان محاولة لفك طلاسم الانقسام السوداني، لا بوصفه سياسيًا أو دينيًا فقط، بل بوصفه انقسامًا بين صورتين للذات: الذات كما تريد أن تُرى، والذات كما تُكره أن تكون. وبين هاتين الصورتين، تتشكّل المنطقة الرمادية التي يسكنها المنفيون في الداخل والخارج، أولئك الذين لا يتكلّمون لغتهم الأم إلا بخجل، ولا يثقون بلغة الآخر إلا بحذر.

ولم تكن كتاباته عن الدينكا نوعًا من الفلكلور، بل تمسكًا عنيدًا بذلك الجزء من الذات الذي لم تمسّه بعد آلة الصهر الثقافي. كان يرى أن في رواية القبيلة مقاومة صامتة للزمن الذي يريدنا بلا ذاكرة. ولعل ذلك ما جعل من كتاباته عن مجتمعه ليست مجرد شهادات إثنوغرافية، بل مرايا ملغزة، تعكس فيها الدينكا ككينونة، لا كهوية عرقية فقط، بل كبنية معرفية: في طريقة السرد، في إيقاع الاسم، في قيمة الحليب والرمز والمجتمع.

في كل سطر، كان يُشبه من يبحث عن اسم قديم في حُطام رسالة، عن نغمة لم تُسجّل لكنها ما زالت تعيش في ذاكرة الجدّات. وربما لهذا لم يكن يكتب ليُقنع، بل ليُذكّر. فالكتابة عنده ليست إثباتًا، بل استدعاء. ليست صراعًا على التعريف، بل دعوة للتأمل في هشاشة هذا التعريف

ولأن الذات لا تُبنى في الفراغ، كان لا بد من العودة إلى البيت الأول، حيث لا تبدأ الحكاية من فكرة، بل من كثافة النسل، وتفرّع الاسم.

في البدء، لم يكن البيت بيتًا واحدًا، بل أرخبيل من البيوت. كان فرانسيس واحدًا من مئات الأبناء الذين حملوا اسم دينق مجوك، ذلك الزعيم الذي لم يكن يكتفي بأن يُدير القبيلة، بل أراد أن يُقيمها في الجسد والذكرى. تزوّج دينق مجوك من أكثر من مئتي امرأة، وأنجب ما يزيد على أربعمائة طفل وطفلة، لا كرمًا نرجسيًا، بل كأنّما يريد للقبيلة أن تتضاعف لتواجه وحدتها بالعُرف، وهشاشتها بالعدد، وشتاتها بالاسم.

في هذا الفضاء العائلي الذي لا تحدّه جدران، تعلّم فرانسيس منذ طفولته أن لا أحد يُقيم لنفسه سردية خاصة، بل كل قصة جزء من نسيج أكبر. كان صوته يتكوّن داخل جوقة واسعة، فيها الكبير والصغير، وفيها النائم بجانب البقرة كما النائم بجانب القصيدة. لم يكن يشعر بالوحدة، لأن المفرد في عرف الدينكا لا يُعوّل عليه. فالفرد ابن الجماعة، والجماعة ذاكرة تمشي على قدمين.

قبيلة الدينكا لم تكن بالنسبة له مجرد انتماء وراثي، بل طريقة في النظر، في الإحساس بالزمن، في تقدير الأشياء، في الصمت كما في الطقوس. فيها، الكلمة لا تُقال عبثًا، والاسم لا يُطلق إلا ليكون توقيعًا على علاقة. وحين غادر الوطن، لم يكن يفرّ من شيء، بل كان يحمل كل هذا الإرث في حقيبة صغيرة، يعرف أن العالم الذي سيواجهه لا يعترف بالقبائل إلا بوصفها عائقًا، وأن عليه أن يعلّم العالم كيف تُصبح القبيلة رؤية لا وصمة.

من هناك، من تلك الحقول التي تُربّي الأغاني كما تُربّي الماعز، عبر فرانسيس إلى الخرطوم، ومنها إلى نيويورك، وهناك كانت كولومبيا. لم تكن الجامعة مجرّد محطة نُحصل فيها على المعرفة، بل كانت بالنسبة له موقعًا لإعادة صياغة الذات: كيف تظلّ وفيًّا لذلك الطفل الذي يتبع ظلّ والده الزعيم، وأنت في قاعة يُناقش فيها العالم معنى “الهوية التفاوضية”، و”تفكيك الخطاب”، و”التاريخ الشفاهي”؟
في كولومبيا، لم تُفكك القبيلة فيه، بل تعمّقت، اكتسبت لغة جديدة. هناك، أدرك أن النَسَب يمكن أن يتحوّل إلى أداة نظر، وأن الزعامة التي نشأ في ظلّها ليست نهاية، بل بداية لسؤال أطول: ماذا يعني أن تكون ابنًا لزعيم، في بلدٍ يكفر بزعمائه كل صباح.

لم يكن فرانسيس دينق مشروع دولة، بل مشروع ذاكرة. لا يبحث عن دورٍ يلعبه، بل عن أثرٍ يُترك بهدوء، كما تُترك خطوات الأب في تراب القرية حين يعود ليلًا من مجلس الحكم. لم يسعَ إلى الشهرة، بل إلى أن يُحافظ على حكاية كانت مهددة بالذوبان. ولأنه لم يكن مشغولًا بصناعة صورة، ظلّ وجهه يشبه صوته: ناعمًا، حازمًا، لا يُحب الضجيج، ولا يخشى العُمق.

وحين نقرأه اليوم، لا نقرأ مفكرًا من جنوب السودان فقط، بل مرآة قلقة لسودانٍ بكامله، لم يتعلّم بعد كيف يحضن تنوّعه دون خوف، ولا كيف يُصغي إلى صوته الداخلي دون أن يرتبك. فرانسيس لم يُطالب بشيء، بل طرح أسئلته في صمتٍ عالٍ، كما يفعل الحكماء حين لا يملكون سوى لغتهم.

لقد كتب كي يُبقي الباب مفتوحًا بين القبيلة والعالم، بين الأب والهوية، بين الذاكرة والتأمل، وكي يُخبرنا، نحن الذين نُكابر كل يوم بأننا وحدويون أو علمانيون أو ثوريون، أن كل تلك التسميات لا تصمد أمام مشهدٍ واحد: طفلٌ يستمع لصوت والده الزعيم، لا ليتعلم السياسة، بل ليتعلم الصبر.

ربما، في النهاية، لم يكن يريد أن يكون شيئًا آخر سوى هذا: ابن رجلٍ يُدعى دينق مجوك، وساردٌ بارع، لم يتخلّ عن قبيلته وهو يدخل الأمم المتحدة، ولم يتخلّ عن أمته وهو يكتب بالإنجليزية عن الألم.
فرانسيس دينق، بما حمل وما ترك، لم يكن ظاهرة فكرية، بل حارسًا صامتًا لذاكرة ظلّ الناس يفرّون منها، فيما هو ظلّ يعود إليها كلما كتب.

لأن الذاكرة، حين تخذلنا الخرائط، لا تحتاج إلى مؤسسات، بل إلى رجلٍ يعرف أن يكتبها كما تُحكى: ببطء، وبصوتٍ لا يُجيد الاستعراض، لكنه لا يُخطئ الطريق.

zoolsaay@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • من أشعل الحرب في السودان؟ ما الذي حدث قبل 15 أبريل؟
  • معارضة غينيا بيساو تجتمع في باريس لبحث الأزمة السياسية بالبلاد
  • إلى المسيرية بعد فقدان أبيي لقد خاب المسعى فأين المرعى؟
  • اتفاق المنامة السوداني الذي يتجاهله الجميع
  • كلما انهزمت المليشيا وأضطرت إلى الإنسحاب نحو الثقب الذي أطلّت منه نحو السودان
  • السودان.. هل تعلمت المعارضة الدرس؟
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: محاكمة حميدتي بين قانونين
  • عاجل. ترامب: عدم السيطرة على كامل أراضي أوكرانيا هو التنازل الذي يمكن أن تقدم
  • في أثر فرانسيس دينق: سؤال الهوية بين النهر والمجلس
  • سلاح الجو النوعي الذي أرعب الحركة الإسلامية