الخليج الجديد:
2025-01-19@12:42:42 GMT

بلاغة جنوب أفريقيا وتلعثم المجرم

تاريخ النشر: 17th, January 2024 GMT

بلاغة جنوب أفريقيا وتلعثم المجرم

بلاغة جنوب أفريقيا وتلعثم المجرم

"إمعان الدول في توحُّشها دليلٌ على بدء نكوصها وهزيمتها وأفولها".

لم يكن تحرُّك جنوب أفريقيا مجرد صفعة بوجه الاحتلال ومجرميه وداعميه ورعاته فحسب، بل صفعة أكبر في وجه الأنظمة، ومنها الأنظمة العربية.

كان لائقا تردّد اسم نيلسون مانديلا، الذي رحل عنّا قبل عشر سنوات، وكأنّ ذكراه قد أُعيد إحياؤها بما يليق برحلته الطويلة الممتدّة على عذابات أبناء جلدته.

لم تنته القصّة بعد، لكنّنا الآن نستجوب لعثمة المُجرِم، وبحّة صوته، وقطرات عرقه المتصبب على ورق الكذب أمامه، نستجوبه ونُدرك أنّ مشواره بات قصيراً.

لطالما تبجّحت الأنظمة العربية باحتكار الأزمات وتمثيلها والهتاف باسمها لأجل مكتسبات رخيصة تحت مسمَّيات الأمن القومي والشعارات الكبرى والمصلحة الوطنية.

* * *

لم ينتظر الفلسطيني لحظة حقيقة أكثر سطوعاً ووضوحاً ولمعاناً من هذه اللحظة: كيان الاحتلال في قفص الاتهام أخيراً. لم يدفع العالم أن يفعل ما يجري الآن ولا لمرّة واحدة منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً من المذبحة والتهجير والبطش.

لكنّ لحظة غزّة، وقد جيء بها جثماناً مدّمى، مفرط الوضوح، ومفرط الصوت الذي أصمّ الآذان، لتخرُج "كيب تاون" من لا شيء السياسة ولا شيء الجغرافية ولا شيء الممكن ولا شيء المتوقَّع، تُشعل من جديد نوراً يلوح في نهاية نفق مظلم.

كان لا بدّ للدم الفلسطيني، للأسف، أن يكون فوّاراً حتى يُستعاد ضبط معايير العالم من جديد، واضحة وصارمة أمام القتلة والمجرمين، بعد أن همدت هذه المعايير إلى مستويات الصفر والنوم والغياب، وباتت فكرة تهجير شعب كامل ونفيه، بل والقضاء عليه، متاحةً وممكنة في ظلّ صمت غير مفهوم، وانعدام حيلة لم يذهب إليها أحد في تاريخ البشرية كلّها.

لكن المعايير الجديدة البازغة الآن وإذا بها تفرز من جملة ما تفرز نهايةً لمشروع لم تكن فكرة أفوله وتحطُّمه بمثل هذا الوضوح، بالاتكاء على الكثير من مقولات التاريخ التي تعيد نصاب الأمور كلّما صارت الصورة أكثر ضبابية: "إمعان الدول في توحُّشها دليلٌ على بدء نكوصها وهزيمتها وأفولها".

لقد اكتشف الفلسطيني في المئة يوم الأخيرة، ومن خلفه كلّ الذين روّعتهم مشاهد وأهوال تهشّم صورة القانون الدولي والشرائع الدولية وحقوق الإنسان أمامهم بشكل لا يقبل التأويل، رداءة من يهتفون بصوته ومن ينشدون آلامه في كلّ محفل من محافل العالم، واكتشف من جملة ما اكتشف كيف انهار القانون الدولي وتلطّخ وجهُه في الطين تحت وقع الصواريخ العمياء التي ضربت في كلّ مكان.

استيقظ العالم على كذبة رديئة طال ترديدها اسمها الإنسانية، ليكتشف أنّ الإنسانية محض اختراع أبيض، بارد وانتقائي ومقيت، يُصار إلى التغنّي بها حين تكون الضحية بيضاء، وغربية، وابنة عمّ الأمم المتحدة، سليلة تقسيمة العالم بُعيد الحرب العالمية الثانية.

واكتشف على كومة ما اكتشف "تاريخ الكذب"، لا على طريقة جاك دريدا في تفكيك المفهوم واستعادة الأصول، بل على طريقة حاملي صوت العالم في الكذب وغضّ الطرف وازدواجية المعايير المعيبة والمضحكة في ذات الوقت.

حملت جنوب أفريقيا صوت الضحايا بكلّ ما فيه من صرخات ورعب ودم، وحلّقت به بعيداً إلى أرفع محاكم العالم مكانةً. كان التمثيل الأفريقي الجنوبي جديراً باللحظة، وجديراً بتمثيلها، وجديراً بأن يأخذ صوتها، لطالما كان الأفريقي في رحلة عذابه الطويلة مقاتلاً نقيّاً لا يستسلم ليأس اللحظة ولا مغريات الطريق ولا للأصوات التي تهتف به أن يجلس جانباً أو يتراجع.

لم يكن التحرُّك الأفريقي الجنوبي محض صفعة في وجه الاحتلال ومجرميه وداعميه ورعاته وحسب، بل صفعة أكبر في وجه الأنظمة، ومنها العربية، التي لطالما تبجّحت بقدرتها على احتكار الأزمات وتمثيلها والهتاف باسمها من أجل مكتسبات رخيصة تحت مسمَّيات الأمن القومي والشعارات الكبرى والمصلحة الوطنية.

لقد أزاحت بريتوريا، وفي يومين فاصلين حتى اللحظة، صورة باهتة لا ترقى بالطبع لأعقد أزمة مرّت بها البشرية، حملتها الأنظمة التي ما فتئت تخذل المظلومين والمقتولين على مدار خمسة وسبعين عاماً على يد مذبحة لا تقلّ ضراوة ولا وحشية بالطبع عمّا حدث في المئة يوم الأُولى من عمر عدوان الإبادة على غزّة، والذي ما زال يحدث حتى هذه اللحظة.

وأعطت أملاً لما يمكن أن يكون عليه الحال حين تتحرّك الدولة، إذا أرادت بالطبع، لتلعب دورها الطبيعي والمنطقي والمأمول، دون حسابات الخوف من أميركا، ودون مواربة حسابات الربح الدنيئة على ظهر المظلومين.

في الأيام الأخيرة، كان من اللائق أن يتردّد اسم نيلسون مانديلا، الذي رحل عنّا قبل عشر سنوات، وكأنّ ذكرى الرجُل وقد أُعيد إحياؤها بما يليق برحلته الطويلة الممتدّة على عذابات أبناء جلدته، كان حرياً بنا هنا والآن، أن نستعيد أسماء من رفعوا إلى جانب مانديلا ذكرى النضال ضد الأبارتهايد والظلم والعنصرية: جاكوب زوما وسيريل رامافوزا وأوليفر تامبو، وغيرهم كثيرون ممّن كتبوا تاريخاً مشرّفاً يتجاوز حدود القارّة السمراء إلى آفاق العالم الأرحب.

لقد استدعى الإنسان الفلسطيني، وعلى مدار تاريخه الطويل من النضال ضدّ الاحتلال، الكثير من المفاهيم المؤسِّسة من جنوب أفريقيا، بالنظر إلى التجربة النضالية الثرية ضدّ الاستعمار والفصل العنصري والإسكات التام، استدعاء يصل إلى حدّ الإلهام والمرجعية في النضال الشعبي والقانوني ضدّ أعتى أشكال الاستعمار الحديث، الذي لم يتوقّف عن اختراع وابتكار أصناف المعاناة للمعذَّبين تحت جنازير دباباته وأنياب جرّافته.

لم تنته القصّة بعد، لم يذهب المجرم إلى السجن، ولم يُقفل الجرح أبوابه. الطائرة المجنّحة بالصواريخ والرعب والموت ما زالت تحلّق وتضرب وتهدم أينما شاءت وكما شاءت، لكنّنا نستطيع الآن أن نستجوب لعثمة المُجرِم، وبحّة صوته، وقطرات عرقه المتساقطة على ورقة الكذب أمامه، نستجوبه ونُدرك تماماً أنّ مشواره بات قصيراً.

* أمير داود كاتب من فلسطين

المصدر | العربي الجديد

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: فلسطين غزة الإبادة الجماعية محاكمة إسرائيل جنوب أفريقيا محكمة العدل الدولية العدوان على غزة نيلسون مانديلا جنوب أفریقیا لا شیء

إقرأ أيضاً:

الإنتهاكات المتكررة وثقافة الإفلات من العقاب

صلاح جلال (١) منذ إندلاع الحرب العبثية فى السودان فى ١٥ ابريل ٢٠٢٣م فتحت طاقة جهنم ضد المواطن والقوى المدنية بمصادرة كل أدوات السياسة المعتادة وسيادة المسلحين على المشهد ، بإرتكابهم مختلف انواع الإنتهاكات من جرائم إحتلال المنازل ونهب الممتلكات وقتل الأبرياء وإغتصاب النساء والقصف الجوى العشوائي على الأسواق والمؤسسات الحيوية  والمدفعية الجائرة التى راح ضحيتها الألوف من المدنيين ، نسمع من طرفى الحرب خطابات إستنكار وإدانة لكل الإنتهاكات ، ولكننا نشهد غياب العدالة والإفلات المستمر من العقاب وتكرار للإنتهاكات وتبادل الأدوار ضد المدنيين بين الدعم السريع والقوات المسلحة وحلفائها . (٢) لم نرى محكمة واحدة لإدانة الجناة الذين يوثقون جرائمهم  بأيديهم وهم فى منتهى الإطمئنان للإفلات من العقاب !! بالأمس بعد إستعادة القوات المسلحة والمليشيات المتحالفة معها لمدينة ودمدنى حاضرة الجزيرة شهِدنا إنتهاكات فظيعة ضد المدنيين فى الكنابى وبين  شباب لجان المقاومة والخدمات ممارسات بشعة  منها القتل العمد بالرصاص دون محاكمة وقتل جماعى لمدنيين بتهمة التعاون مع الدعم السريع ، ممارسات تشكل جريمة حرب مكتملة الأركان ، هل سيفلت الجناة من العقاب المحلى والدولى كما هى العادة فى السودان  ؟؟؟ من أمِن عدم العقاب ساء الأدب  . (٣) سنناقش فى عمود الراى اليوم كتاب مهم للمؤلف عمر نشابة تحت عنوان الإفلات من العقاب –  لماذا؟  وكيفية ضمان خضوع مرتكبى الجرائم للقانون !! ومحاصرتهم بجرائمهم ،  عبر وسائل وآليات لمعرفة أسباب وتحطيم قيود ثقافة الإفلات من العقاب خاصةً  فى البلدان التي شهدت أنظمة حكم إستبدادية أو صراعات وحروب أهلية  طويلة يستعرص الكاتب  عدة أفكار ومفاهيم رئيسية تدور حول تبرير إستمرار مفهوم الإفلات من العقاب، وكيف يمكن أن تؤثر هذه الظاهرة على نسيج المجتمع  وتغييب العدالة للضحايا وذويهم  . عرّف  الكاتب ظاهرة “الإفلات من العقاب على أنها حالة يتم فيها تجاهل أو تقاعس السلطات العدلية  عن معاقبة مرتكبي الجرائم، خاصة الجرائم المرتبطة بالفساد السياسي أو الانتهاكات الحقوقية الصارخة ضد المجتمع  ، قد حدد المؤلف  الأسباب التي تؤدي إلى الإفلات من العقاب ، مثل ضعف المؤسسات القضائية وخضوعها  للسلطة السياسية  وغياب مفهوم  سيادة حكم القانون، وتسلط الأنظمة السياسية التي توفر الحماية للمتورطين في الجرائم من المؤيدين لها وداعميها . (٤) ترتبط ثقافة الإفلات من العقاب  بطبيعة النظام السياسي  خاصة الأنظمة فاقدة الشرعية Legtimcy التى تأتى عبر الإنقلابات أو حكم الفوضى بأسباب تآكل شرعية الدولة الوطنية ومحاولة فرض شرعية متوهمة  تقوم على القهر والإغواء  وأدوات السيطرة على الجماهير، ناقش  الكاتب  كيف أن الأنظمة السياسية المستبدة أو القمعية تشجع على الإفلات من العقاب لأنها تسعى للحفاظ على سلطتها وقوة مؤسساتها ولا تستهدف العدالة وترسيخ الحقوق ، تتخذ مثل  هذه الأنظمة عادةً تدابير قانونية وسياسية لحماية منسوبيها  من المحاسبة، مما يعزز حالة من الفساد والظلم فى المجتمع تقود  لعدم  الإستقرار والحروب الأهلية ، كذلك الفساد المؤسسى ودوره في تثبيت مفهوم  الإفلات من العقاب لضمان عدم المسائلة القانونية وقهر الصحافة والإعلام الحر ومصادرة الرأى الآخر وتجريمه (٥) الفساد  السياسى والإفلات من العقاب يؤدي إلى تقويض النظام القضائي وخضوعه لإرادة النافذين حتى تنشأ سلطة خفية ترهب الجميع داخل مؤسسات الدولة وخارجها ، وتجعل الجهر بالحقيقة والمحاسبة أمراً شبه مستحيل يعرض المطالبين  بالعدالة لإنتهاكات خطيرة تهدد حياتهم . (٦) اكد المؤلف  أن  إستمرار ظاهرة الإفلات من العقاب يساهم في تدمير الثقة في مؤسسات الدولة، ويزيد من الشعور بالظلم والقهر  بين المواطنين. مما يقود لتفشي ثقافة العنف والانتقام وسيادة خطاب الكراهية كأدوات لتكريس ثقافة الإفلات من العقاب ، حتى يعتقد معظم الناس أن مبدأ سيادة حكم القانون ليست على الأقوياء ، حيث يتم تعريف القوة بأنها القدرة على تجاوز القانون وفعل ماتريد  وهى فى حقيقة الأمر دعوة للبربرية وسيادة دولة الفوضى  Anarchy State . (٧) ذكر الكاتب أن محاولات مكافحة ثقافة الإفلات من العقاب تقتضى حزمة من الإجراءات السياسية والقانونية  للإصلاح والتغيير ، أهمها إشاعة الحريات العامة وإصلاح المؤسسات العدلية وأجهزة تنفيذ القانون فى الدولة  ، فى حالة فشل محاولات الإصلاح السياسى والقانونى فى المجال الوطنى ، يبدا التدخل الدولى من  خلال المحاكم الدولية لتحقيق العدالة ووضع حد للإفلات من العقاب مثل المحكمة الجنائية ال ICC  لمحاسبة المتورطين في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والتصفية العرقية Genocide يبرز الكتاب أيضاً من بين آليات الإصلاح  أهمية تعزيز  دور المجتمع المدني ووسائل الإعلام الحرة  في فضح الإنتهاكات و الضغط على الحكومات لتحقيق العدالة وجلب الجناة لمواجهة حكم القانون . (٨)  ختامة يجب أن لاتسقط جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم التصفية العرقية بالتقادم ، ما يحدث فى الجزيرة الآن يجب أن لا يفلت منتهكى الحقوق من ميزان العدالة مهما طال الزمن وتشكلت لحان التحقيق الوهمية لإمتصاص الغضب والهجمة الإعلامية الوطنية والدولية ، لابد من الخضوع أمام العدالة مهما تباطئت السلطة السياسية وعجز القضاء الوطنى، لينهض القضاء الدولى لملأ الفراغ ، حتى لاينام منتهك لحقوق الإنسان غرير العين هانيها لابد من صنعاء العدالة وإن طال السفر وبُعدت الشُقة لن نصمت . الوسومصلاح جلال

مقالات مشابهة

  • فشل الغرب في الحرب التي شغلت العالم
  • من صن داونز إلى أورلاندو بايرتس.. عقدة أندية جنوب أفريقيا تطارد الأهلي
  • لماذا حذر النبي من الكذب المتعمد عليه ؟ .. علي جمعة يجيب
  • تاريخ مواجهات الأهلي وأورلاندو قبل موقعة الليلة بدوري أبطال أفريقيا
  • ما هي أفضل مدن العالم لعام 2025.. بحسب تايم آوت؟
  • حماس:الإحتلال المجرم يسعي لإفشال اتفاق وقف إطلاق النار بإرتكاب المجازر
  • شاهد.. طرد صحافي أمريكي وصف بلينكن بـ"المجرم"
  • لحظة هروب المجرم الذي اعتدي علي نجم بوليوود سيف علي خان ..فيديو
  • صمتت حكومة الجنوب على ألاف الضحايا الجنوبيين في المدرعات وبحري والمهندسين والفاشر وبابنوسة، فما الذي جعلها تستيقظ فجأءة ؟
  • الإنتهاكات المتكررة وثقافة الإفلات من العقاب