بلاغة جنوب أفريقيا وتلعثم المجرم
تاريخ النشر: 17th, January 2024 GMT
بلاغة جنوب أفريقيا وتلعثم المجرم
"إمعان الدول في توحُّشها دليلٌ على بدء نكوصها وهزيمتها وأفولها".
لم يكن تحرُّك جنوب أفريقيا مجرد صفعة بوجه الاحتلال ومجرميه وداعميه ورعاته فحسب، بل صفعة أكبر في وجه الأنظمة، ومنها الأنظمة العربية.
كان لائقا تردّد اسم نيلسون مانديلا، الذي رحل عنّا قبل عشر سنوات، وكأنّ ذكراه قد أُعيد إحياؤها بما يليق برحلته الطويلة الممتدّة على عذابات أبناء جلدته.
لم تنته القصّة بعد، لكنّنا الآن نستجوب لعثمة المُجرِم، وبحّة صوته، وقطرات عرقه المتصبب على ورق الكذب أمامه، نستجوبه ونُدرك أنّ مشواره بات قصيراً.
لطالما تبجّحت الأنظمة العربية باحتكار الأزمات وتمثيلها والهتاف باسمها لأجل مكتسبات رخيصة تحت مسمَّيات الأمن القومي والشعارات الكبرى والمصلحة الوطنية.
* * *
لم ينتظر الفلسطيني لحظة حقيقة أكثر سطوعاً ووضوحاً ولمعاناً من هذه اللحظة: كيان الاحتلال في قفص الاتهام أخيراً. لم يدفع العالم أن يفعل ما يجري الآن ولا لمرّة واحدة منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً من المذبحة والتهجير والبطش.
لكنّ لحظة غزّة، وقد جيء بها جثماناً مدّمى، مفرط الوضوح، ومفرط الصوت الذي أصمّ الآذان، لتخرُج "كيب تاون" من لا شيء السياسة ولا شيء الجغرافية ولا شيء الممكن ولا شيء المتوقَّع، تُشعل من جديد نوراً يلوح في نهاية نفق مظلم.
كان لا بدّ للدم الفلسطيني، للأسف، أن يكون فوّاراً حتى يُستعاد ضبط معايير العالم من جديد، واضحة وصارمة أمام القتلة والمجرمين، بعد أن همدت هذه المعايير إلى مستويات الصفر والنوم والغياب، وباتت فكرة تهجير شعب كامل ونفيه، بل والقضاء عليه، متاحةً وممكنة في ظلّ صمت غير مفهوم، وانعدام حيلة لم يذهب إليها أحد في تاريخ البشرية كلّها.
لكن المعايير الجديدة البازغة الآن وإذا بها تفرز من جملة ما تفرز نهايةً لمشروع لم تكن فكرة أفوله وتحطُّمه بمثل هذا الوضوح، بالاتكاء على الكثير من مقولات التاريخ التي تعيد نصاب الأمور كلّما صارت الصورة أكثر ضبابية: "إمعان الدول في توحُّشها دليلٌ على بدء نكوصها وهزيمتها وأفولها".
لقد اكتشف الفلسطيني في المئة يوم الأخيرة، ومن خلفه كلّ الذين روّعتهم مشاهد وأهوال تهشّم صورة القانون الدولي والشرائع الدولية وحقوق الإنسان أمامهم بشكل لا يقبل التأويل، رداءة من يهتفون بصوته ومن ينشدون آلامه في كلّ محفل من محافل العالم، واكتشف من جملة ما اكتشف كيف انهار القانون الدولي وتلطّخ وجهُه في الطين تحت وقع الصواريخ العمياء التي ضربت في كلّ مكان.
استيقظ العالم على كذبة رديئة طال ترديدها اسمها الإنسانية، ليكتشف أنّ الإنسانية محض اختراع أبيض، بارد وانتقائي ومقيت، يُصار إلى التغنّي بها حين تكون الضحية بيضاء، وغربية، وابنة عمّ الأمم المتحدة، سليلة تقسيمة العالم بُعيد الحرب العالمية الثانية.
واكتشف على كومة ما اكتشف "تاريخ الكذب"، لا على طريقة جاك دريدا في تفكيك المفهوم واستعادة الأصول، بل على طريقة حاملي صوت العالم في الكذب وغضّ الطرف وازدواجية المعايير المعيبة والمضحكة في ذات الوقت.
حملت جنوب أفريقيا صوت الضحايا بكلّ ما فيه من صرخات ورعب ودم، وحلّقت به بعيداً إلى أرفع محاكم العالم مكانةً. كان التمثيل الأفريقي الجنوبي جديراً باللحظة، وجديراً بتمثيلها، وجديراً بأن يأخذ صوتها، لطالما كان الأفريقي في رحلة عذابه الطويلة مقاتلاً نقيّاً لا يستسلم ليأس اللحظة ولا مغريات الطريق ولا للأصوات التي تهتف به أن يجلس جانباً أو يتراجع.
لم يكن التحرُّك الأفريقي الجنوبي محض صفعة في وجه الاحتلال ومجرميه وداعميه ورعاته وحسب، بل صفعة أكبر في وجه الأنظمة، ومنها العربية، التي لطالما تبجّحت بقدرتها على احتكار الأزمات وتمثيلها والهتاف باسمها من أجل مكتسبات رخيصة تحت مسمَّيات الأمن القومي والشعارات الكبرى والمصلحة الوطنية.
لقد أزاحت بريتوريا، وفي يومين فاصلين حتى اللحظة، صورة باهتة لا ترقى بالطبع لأعقد أزمة مرّت بها البشرية، حملتها الأنظمة التي ما فتئت تخذل المظلومين والمقتولين على مدار خمسة وسبعين عاماً على يد مذبحة لا تقلّ ضراوة ولا وحشية بالطبع عمّا حدث في المئة يوم الأُولى من عمر عدوان الإبادة على غزّة، والذي ما زال يحدث حتى هذه اللحظة.
وأعطت أملاً لما يمكن أن يكون عليه الحال حين تتحرّك الدولة، إذا أرادت بالطبع، لتلعب دورها الطبيعي والمنطقي والمأمول، دون حسابات الخوف من أميركا، ودون مواربة حسابات الربح الدنيئة على ظهر المظلومين.
في الأيام الأخيرة، كان من اللائق أن يتردّد اسم نيلسون مانديلا، الذي رحل عنّا قبل عشر سنوات، وكأنّ ذكرى الرجُل وقد أُعيد إحياؤها بما يليق برحلته الطويلة الممتدّة على عذابات أبناء جلدته، كان حرياً بنا هنا والآن، أن نستعيد أسماء من رفعوا إلى جانب مانديلا ذكرى النضال ضد الأبارتهايد والظلم والعنصرية: جاكوب زوما وسيريل رامافوزا وأوليفر تامبو، وغيرهم كثيرون ممّن كتبوا تاريخاً مشرّفاً يتجاوز حدود القارّة السمراء إلى آفاق العالم الأرحب.
لقد استدعى الإنسان الفلسطيني، وعلى مدار تاريخه الطويل من النضال ضدّ الاحتلال، الكثير من المفاهيم المؤسِّسة من جنوب أفريقيا، بالنظر إلى التجربة النضالية الثرية ضدّ الاستعمار والفصل العنصري والإسكات التام، استدعاء يصل إلى حدّ الإلهام والمرجعية في النضال الشعبي والقانوني ضدّ أعتى أشكال الاستعمار الحديث، الذي لم يتوقّف عن اختراع وابتكار أصناف المعاناة للمعذَّبين تحت جنازير دباباته وأنياب جرّافته.
لم تنته القصّة بعد، لم يذهب المجرم إلى السجن، ولم يُقفل الجرح أبوابه. الطائرة المجنّحة بالصواريخ والرعب والموت ما زالت تحلّق وتضرب وتهدم أينما شاءت وكما شاءت، لكنّنا نستطيع الآن أن نستجوب لعثمة المُجرِم، وبحّة صوته، وقطرات عرقه المتساقطة على ورقة الكذب أمامه، نستجوبه ونُدرك تماماً أنّ مشواره بات قصيراً.
* أمير داود كاتب من فلسطين
المصدر | العربي الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: فلسطين غزة الإبادة الجماعية محاكمة إسرائيل جنوب أفريقيا محكمة العدل الدولية العدوان على غزة نيلسون مانديلا جنوب أفریقیا لا شیء
إقرأ أيضاً:
حجيرة: ما يحققه المغرب من مبادلات تجارية مع أفريقيا لا يحققه مع باقي العالم
زنقة 20 ا الرباط
أكد عمر حجيرة، كاتب الدولة لدى وزير الصناعة والتجارة، المكلف بالتجارة الخارجية، أن “المبادلات التجارية بين المغرب عموما والدول الإفريقية حققت رقم مهما، حيث انتقلت من 36 مليار درهم سنة 2013 إلى 52.7 مليار درهم سنة 2023، بارتفاع 45 في المئة”.
وأضاف حجيرة في جلسة الأسئلة الشفهية اليوم الثلاثاء بمجلس المستشارين، أنه “بالنسبة للصادرات المغربية نحو إفريقيا بلغت في سنة 2023، 32.7 مليار درهم، بنسبة تطور بلغت مئة في المائة بالنظر لسنة 2013..وهي نسبة تتجاوز بكثير معدل نمو الصادرات المغربية نحو باقي أسواق العالم “، مشيرا إلى أن هذا “يجسد توجه صاحب الجلالة على الإنفتاح على إفريقيا”.
وأشار المسؤول الحكومي إلى أن “الصادارات المغربية نحو إفريقيا تتشكل أساسا من الأسمدة والأسماك والسيارات واسلاك السيارات والمواد الغذائية”.
وتابع حجيرة أن ” حجم الواردات المغربية من إفريقيا بلغ حوالي 20 مليار درهم برسم سنة 2023، وتتشكل أساسا من الفحم والتمور والمواد البلاستيكية”.
وأكد حجيرة أن “دراسة أنجزت على مستوى الوزارة أكدت أن للمملكة المغربية قدرات تصديرية إضافية بالنسبة للقدرات التي نسجلها اليوم تتمثل في 120 مليار درهم “.
وأوضح المتحدث ذاته أن “مبلغ 120 مليار درهم من 10 في المئة متمركزة في إفريقيا”، مؤكدا أن “المصدرين المغاربة بالإمكاينات التي يتوفرون عليها اليوم يمكنهم إضافة 12 مليار درهم كرقم إضافي للصادارات المغربية نحو إفريقيا”.
وحسب الدراسة، يضيف حجيرة، فإن “هذه الصادرات تهم قطاعات ذات الأولية منها صناعة السيارات والصناعات الغذائية والنسيج والألبسة والصناعات الميكانيكة تجوه نحو 200 منتوج و1200 سوق إفريقي”.