محكمة العدل الدولية: جنوب أفريقيا ستغيّر "النظام العالمي"

دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بمحكمة العدل الدولية دشنت مرحلة مليئة بالتطورات، وسيكون العالم بعدها ليس كما قبلها.

جريمة "إبادة الجنس" أخطر وأضخم الجرائم ضد الإنسانية، ووصفتها الاتفاقيةبأنها "الجريمة النموذج" ضد الإنسانية، بل "جريمة الجرائم"، نظراً إلى التداعيات الناجمة عنها.

مهما تكن نتيجة محاكمة إسرائيل، سيبقَى هذا اليوم علامة فارقة في تاريخ العالم، الذي يشهد نهضة "الجنوب العالمي" في مواجهة القوة الظالمة والبطش والاستعمار متعدد الوجوه.

"مشاهدة النساء والرجال الأفارقة، يقاتلون لإنقاذ الإنسانية والنظام القانوني الدولي ضد الهجمات الوحشية التي يدعمها ويمكّنها معظم الغرب، ستظل إحدى الصور المميزة لعصرنا. وهذا سيصنع التاريخ مهما حدث".

* * *

في أحد التعليقات اللافتة على بدء محاكمة "إسرائيل" أمام محكمة العدل الدولية، في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدها واتهامها بارتكاب إبادة في غزة، قالت فرانشيسكا ألبانيز، المقرِّرة الخاصة للأمم المتحدة في الأرض الفلسطينية المحتلة:

"إن مشاهدة النساء والرجال الأفارقة، وهم يقاتلون من أجل إنقاذ الإنسانية والنظام القانوني الدولي ضد الهجمات الوحشية التي يدعمها ويمكّنها معظم الغرب، ستظل إحدى الصور المميزة لعصرنا. وهذا سوف يصنع التاريخ مهما حدث".

وبالفعل، سوف يذكر التاريخ يوم 11 كانون الثاني/ يناير من عام 2024 بأنه يوم تاريخي في مسار العدالة الدولية، بحيث تبدأ محكمة العدل الدولية الاستماع إلى القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل" واتّهمتها بارتكاب أعمال إبادة في غزة.

وهكذا، لأول مرة، تكون "إسرائيل" عرضة للمساءلة عن جرائمها المرتكبة بحق الفلسطينيين والعرب، بعد أن قام الغرب باستخدام قوته ونفوذه لمنحها حصانة سياسية وحصانة قانونية لم تتمتع بهما دولة عبر التاريخ.

استخدمت جنوب أفريقيا اتفاقية "منع جريمة إبادة الجنس والمعاقبة عليها"، لعام 1948، إطاراً قانونياً للادعاء على "إسرائيل" في محكمة العدل الدولية، انطلاقاً من أنها و"إسرائيل" عضوتان في تلك الاتفاقية وموقعتان عليها.

وتؤكد المادة الأولى من تلك الاتفاقية أن الإبادة الجماعية هي "جريمة بمقتضى القانون الدولي" تتعهد الأطراف المتعاقدة "المعاقَبةَ عليها"، كما تنصّ المادة الرابعة من تلك الاتفاقية على معاقبة مرتكبي الإبادة الجماعية أو عدة أفعال أخرى ذات صلة، "سواء كانوا حكاماً دستوريين، أو موظفين عامين، أو أفراداً".

وعدّت الاتفاقية أن جريمة "إبادة الجنس" هي أخطر وأضخم الجرائم ضد الإنسانية، ووصفتها - على نحو دقيق - بأنها "الجريمة النموذج" ضد الإنسانية، بل "جريمة الجرائم"، نظراً إلى التداعيات الناجمة عنها.

أمّا الأركان التي يجب توافرها في الجريمة لتصنَّف جريمةَ "إبادة جماعية" فهي:

1 - الركن المادي، ويفترض القيام بأحد الأعمال الإجرامية الواردة حصراً في التعريف - الوارد في المادة الثانية من الاتفاقية، أو في المادة السادسة من نظام روما الأساسي - وذلك بقصد "إهلاك جماعة بشرية معينة".

وكان نظام روما الأساسي، في مادته السادسة، اقتبس النص الحرفي لتعريف جريمة "الإبادة الجماعية"، الوارد في المادة الثانية في اتفاقية "إبادة الجنس"، فعرّفها بأنها جريمة تُرتكب "بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه، إهلاكا كلياً أو جزئياً".

وتأتي عبارة "إهلاك" هنا واضحة ومحدّدة، الأمر الذي دعا الباحث الشهير في القانون الجنائي الدولي، روبرت ميلسون، إلى تصنيف أعمال الإبادة بين إبادة جماعية تامة، وإبادة جزئية.

في الإبادة الجماعية ككل، هناك محاولة للقضاء على فئة كاملة من الضحايا. في المقابل، هناك إمكان ليكون ثمة قصد إهلاك جزئي، وتدمير الهوية للجماعة وتغييرها، أو ارتكاب أحد الأفعال المحظورة الواردة في تعداد الجرائم التي تدخل في إطارها.

وتبقى هذه، في نظر القانون الدولي، من أعمال الإبادة. وهذا يعني أن ادعاء "إسرائيل" أنها لا تقصد إهلاك الفلسطينيين، بصفتهم الجماعية، بدليل وجود مجموعات منهم تحت نطاق احتلالها الضفة الغربية، لا يمكن الاعتداد به.

2- الركن المعنوي، ويفترض النيّة: يُعَدّ شرط النية من أهم الشروط التي تميّز جريمة الإبادة الجماعية من سائر الجرائم الدولية، ويشترط أن يكون لدى الفاعل نية جرمية تتجه إلى تحقيق الإبادة، لأن هذه الجناية عمدية. ويُشترط فيها، إلى جانب القصد العام، وهو القتل المنهجي المتعمد والواسع النطاق، توافُرُ القصد الخاص، وهو تحقيق الإفناء.

أكد هذا الشرط الكثير من أحكام محكمتي رواندا ويوغوسلافيا السابقة، بحيث أكدت كل منهما أن الأعمال الإجرامية، والتي تشكل العامل المادي لجرائم الإبادة، لا بد من أن تحمل معها مشروعاً تدميرياً ونية في إهلاك مجموعة بشرية.

وعلى هذا الأساس، يتضمّن طلب جنوب أفريقيا، المؤلف من 84 صفحة، والمقدم إلى محكمة العدل الدولية، نحو عشر صفحات (تبدأ من الصفحة الـ59) تشتمل على تصريحات مسؤولين مدنيين وعسكريين إسرائيليين، توثّق "النية" الإسرائيلية في القيام بالإبادة الجماعية في غزة.

وتشمل هذه البيانات تصريحات رئيس الوزراء نتنياهو، والرئيس هرتسوغ، ووزير الأمن غالانت، وخمسة وزراء آخرين، وكبار ضباط الجيش، وأعضاء الكنيست. وفي هذه التصريحات إدانة واضحة، وكشف لزيف الادعاء الغربي أن تصريحات الوزراء المتطرفين وإعلانهم نية القيام بإبادة في غزة، ومنهم بن غفير وسموتريش، لا تعكس حقيقة "نيّات" الحكومة الإسرائيلية.

في كل الأحوال، مهما تكن نتيجة هذه المحاكمة، يبقَ أن هذا اليوم سيكون علامة فارقة في تاريخ العالم، الذي يشهد نهضة "الجنوب العالمي" في مواجهة القوة الظالمة والبطش والاستعمار متعدد الوجوه. إنها مرحلة مليئة بالتطورات، وسيكون العالم بعدها ليس كما قبلها.

*د. ليلى نقولا أستاذة العلاقات الدولية بالجامعة اللبنانية

المصدر | الميادين نت

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: غزة إسرائيل طوفان الأقصى جنوب أفريقيا النظام العالمي محكمة العدل الدولية دعوى جنوب أفريقيا الإبادة الجماعية الجنوب العالمي جرائم الإبادة نظام روما الأساسي محکمة العدل الدولیة الإبادة الجماعیة جنوب أفریقیا ضد الإنسانیة فی غزة

إقرأ أيضاً:

إندبندنت: النظام الدولي يتفكك والتطبيع مع صور الإبادة تهديد للجميع

نشرت صحيفة إندبندنت البريطانية مقالا لأستاذ جامعي تناول فيه بالتعليق والتحليل مخرجات مؤتمر عُقد مؤخرا في مدينة أنطاليا التركية، حيث تداول المشاركون من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط وأوروبا الشرقية أفكارا حول البديل للنظام الدولي الغربي الذي بدأ يتفكك.

وكتب سلمان سيد -أستاذ البلاغة والفكر المناهض للاستعمار في جامعة ليدز بإنجلترا- أن تفكك النظام القائم على القواعد ليس مجرد ظاهرة جغرافية اقتصادية تميزت بظهور الصين بوصفها أكبر قوة اقتصادية في العالم، بل هي أيضا ظاهرة ذات أبعاد ثقافية وأخلاقية عميقة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2محللون إسرائيليون يستبعدون توسيع الحرب أو التوصل لصفقة قريبةlist 2 of 2ليبيراسيون: لماذا لجأت الدانمارك لتعقيم القسري في غرينلاند؟end of list

وقال إن منتدى أنطاليا للدبلوماسية -الذي انعقد في وقت سابق من الشهر الجاري- قدم لمحة مثيرة للاهتمام لما قد يكون عليه هذا المستقبل، في وقت بدت فيه ملامح نظام عالم جديد بالتشكل.

قلق وارتكاب

وانتقد الكاتب الدول الغربية الكبرى لضعف مشاركتها في المنتدى. وقال لو أن حكومات الأثرياء الغربية شاركت بأي عدد من ممثليها، لشعرت بالقلق والارتباك بسبب المناقشات التي دارت، ليس فقط لأنهم كانوا سيعترضون على مزاعم مثل تأكيد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن هوية أوكرانيا ليست عميقة أو متميزة بما يكفي لتبرير وجودها كدولة قومية مستقلة، ولكن لأن المنتدى خلق مساحة للحجج والأطر التي غالبا ما كان الغرب قد أحالها إلى الهامش.

إعلان

وأعرب الأستاذ الجامعي عن اعتقاده أن السلطة الأخلاقية للغرب قد انهارت تماما، وليس أدل على ذلك مما حدث لأسرى تنظيم القاعدة وحركة طالبان في سجن غوانتانامو الأميركي، وما يحدث الآن في قطاع غزة للفلسطينيين على أيدي الإسرائيليين.

فعندما تدين وسائل الإعلام الغربية اعتقال الصحفيين في مكان ما بحق وبكل حماسة، تلتزم الصمت إزاء القتل الممنهج للصحفيين في مكان آخر، وفق المقال الذي يشير كاتبه إلى أن عديدا من المشاركين في منتدى أنطاليا يرون أن العنصرية نجحت في تقويض ليس فقط المبادئ، بل حتى التضامن المهني.

وسخر كاتب المقال من مواقف الغرب تجاه القضية الفلسطينية، مشيرا إلى أن المنتدى أشار إلى أنه حتى المعلقين والمحللين الذين يحنون إلى عصر التنوير الأوروبي ينسون كل شيء عندما يدينون الاحتجاجات المناهضة للإبادة الجماعية والمؤيدة للفلسطينيين.

إبادة غزة

وفي أنطاليا -كما يقول سيد في مقاله- كان هناك شعور سائد بأن القتل الجماعي في غزة، وتواطؤ كثير من المؤسسات الغربية في المساعدة والتحريض عليه، تسبب في تقويض أي إحساس عام بالمسؤولية والتواضع وإحقاق العدالة.

ويرى الكاتب أن في اللغة الدبلوماسية المنمقة ما يوحي ضمنيا بأن مركز العالم لا يتغير فحسب، بل إن القدرة على توظيف المعرفة والخبرة المكتسبة لم تعد تساعد في التعامل مع الأزمات المتلاحقة التي تعصف بالعالم.

غير أن ما كان يرمي إليه منتدى إيطاليا ليس استعادة سلطة أخلاقية تستند إلى مبادئ ليبرالية ديمقراطية مركزها الغرب، بل يرمي إلى بناء حس إنساني مشترك جديد.

وخلص الكاتب إلى أن منتدى أنطاليا لا يشبه مؤتمر باندونغ الذي عُقد في إندونيسيا عام 1955 وشكّل النواة الأولى لقيام حركة عدم الانحياز التي كانت رمزا لمناهضة الاستعمار في عالم تهيمن عليه قوتان عظميان مسلحتان بأيديولوجيات صريحة ونزعة تدميرية مؤكدة.

إعلان

وأكد أن هناك اعترافا ضمنيا -برز على الأقل بين عديد من المشاركين الحاضرين في أنطاليا- بأنّ جعل الناس يعتادون مشاهد الإبادة الجماعية في غزة لا يهدد الشعب الفلسطيني وحده، بل يجرد جميع شعوب العالم من إنسانيتها.

مقالات مشابهة

  • صربيا تطلب التدخل في قضية السودان ضد الإمارات بمحكمة العدل الدولية.. لماذا؟
  • هيئة: وقفات بعدد من المدن المغربية تضامنا مع غزة وتنديدا بالإبادة الجماعية
  • مبادرة نوبل للمرأة تطالب بوقف الإبادة الجماعية في غزة وتتضامن مع فلسطين
  • “حماس”: تصريحات نتنياهو تكريس لنهج “الإبادة الجماعية”
  • إندبندنت: النظام الدولي يتفكك والتطبيع مع صور الإبادة تهديد للجميع
  • نتنياهو يصر على إبادة غزة "ولو وقفت إسرائيل وحدها"
  • الأمم المتحدة: المساعدات الإنسانية التي نقدمها في غزة تتم وفق مبادئ الإنسانية
  • أهم التهديدات التي تواجه الأمن القومي المصري.. ندوة بجامعة الملك سلمان الدولية
  • أبو الغيط : إسرائيل تمارس حرب إبادة على سكان غزة
  • عباس: حرب الإبادة الجماعية نكبة جديدة تهدد الوجود الفلسطيني