عن الابتكارات الحاسمة للحالات الإنسانية
تاريخ النشر: 16th, January 2024 GMT
طالعتنا الأخبار مؤخرًا بإطلاق تكنولوجيا (Humane AI Pin) وهو مساعد الذكاء الاصطناعي الذي يمكن استخدامه كبديل للهاتف الذكي، ويحتوي على كاميرا وميكروفون وجهاز عرض قابل للتحكم عن طريق التحدث. يمتلك هذا المساعد القدرة على الاتصال وإرسال الرسائل، ويمكنه أيضًا ترجمة المكالمات مباشرة وعرضها على جهاز عرض الليزر الذي ينعكس على راحة اليد، تم تطوير هذه التكنولوجيا الفائقة في شركة هيوماني (Humane) التي أسسها الثنائي عمران شودري وزوجته بيثاني؛ الموظفان السابقان في شركة أبل.
وفي خضم الاحتفاء بهذا التقدم العلمي الكبير لا بد من وقفة لقراءة مختلف أنواع الابتكارات التكنولوجية الأخرى التي تمس حياة الإنسان، لا سيما وأن المشهد العالمي -منذ جائحة كورونا وحتى يومنا- يتضمن العديد من الحالات الإنسانية لضحايا الصراعات أو تغيير المناخ والتي تكابد كل يوم للوصول للاحتياجات الأساسية من الماء والغذاء، فهل تأخرت الابتكارات التكنولوجية عن صناعة حلول ذكية ومستدامة للحالات الاستثنائية من حياة البشر؟
لنعد إلى الأعوام القليلة الماضية خلال ذروة التدابير الوقائية لجائحة كوفيد -19، إذ تشير الإحصاءات بأن عدد الوفيات الناجمة عن الجوع لا تقل عن وفيات الوباء، وعانى ما يصل إلى (800) مليون شخص على مستوى العالم من عدم الوصول لما يسد الرمق، وبجانبهم بقي أكثر من (3) مليارات شخص غير قادر على تحمل تكاليف اتباع نظام غذائي صحي. والأعداد الحقيقية قد تكون أعلى من ذلك بكثير، فقد أجبرت الإغلاقات الجزئية والكلية مصانع الأغذية إلى خفض إنتاجها أو إبطائه بسبب قلة مباشرة العمال لخطوط الإنتاج، في حين أدى إغلاق شركات الطيران لأنشطتها، والقيود الوطنية والدولية المفروضة على السفر إلى تعطيل سلسلة الإمدادات الغذائية بشدة. هذا إلى جانب تأثير نقاط الضعف الهيكلية في النظام الغذائي العالمي المتمثل في اختلال الإنتاج الغذائي والتوزيع، وتذبذب الاستقرار في السلسلة الغذائية.
وقد ساهمت جميع هذه العوامل إلى تعريض المزيد من الشرائح المجتمعية الهشة لأزمة نقص الغذاء والجوع الحاد خلال فترة الجائحة، وإذا أخذنا في الاعتبار أن التعافي الفعلي لأثار وباء كوفيد-19 يتطلب وقتًا، وأن العالم لا يزال يعاني من نشوء عددٍ من دوائر الصراع التي تسببت في اختلالات عميقة في النظم الغذائية المحلية والإقليمية، فإن الحاجة لتوظيف الابتكارات التكنولوجية والمجتمعية صار خيارًا ملزمًا من أجل تعزيز المرونة الاستراتيجية في الحالات الاستثنائية، وهذا يقودونا للسؤال نفسه، هل تأخرت الابتكارات في دعم قدرة النظم الغذائية على الصمود في مواجهة سلسلة الصدمات في عالم ديناميكي سريع التغيير؟
إن حجم التحدي الذي تواجهه النظم الغذائية الإقليمية والعالمية بشأن التكييف مع الحالات الاستثنائية عميق وواسع المدى، وتسعى المنظمات الدولية المعنية بملف الأمن الغذائي إلى إتاحة الدعم في التقليل من آثار هذه التحديات على المدى القصير، والتأسيس للاستدامة على المدى الطويل، فقد نشرت مجلة الاقتصاد العالمي بالشراكة مع منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، خريطة طريق لتسريع وتوسيع نطاق الابتكار الشامل، وذلك في أعقاب قمة النظم الغذائية التي عقدتها الأمم المتحدة افتراضيًا في سبتمبر من عام 2021م، والتي تم فيها الاعتراف أُمميًا ودوليًا بالابتكار كأحد المفاتيح لتمكين تحويل النظم الغذائية نحو الاستدامة، وسميت خارطة الطريق هذه بعنوان: «أداة الابتكار»، وعرفت أربعة مجالات استراتيجية لتحفيز الابتكار الشامل في تحقيق استدامة النظم الغذائية وتحديدًا خلال الفترات الاستثنائية، والمجالات تشمل التالي: أولًا: تعزيز النظم الإيكولوجية الوطنية والإقليمية للابتكار، وثانيًا: تشجيع الابتكارات المجتمعية والمؤسسية، وثالثًا: توظيف ودعم المعرفة والتكنولوجيا الجديدة والحالية، وأخيرًا: إيلاء الأولوية لتطوير وتكامل البيانات والأنظمة الرقمية، وأتاحت أداة الابتكار ثلاث منصات لتسهيل استخدام البيانات بطرق شاملة ومسؤولة ومُمكنة لخلق فرص استراتيجية لاستدامة النظم الغذائية، وهي منصة خريطة البيانات الموحدة، ودليل البيانات، وسوق الرقمية.
وتعزيزًا لهذه الجهود عقد المنتدى العالمي للاقتصاد وشركاء العمل من أجل الغذاء اجتماعًا افتراضيًا بعنوان «الإجراءات الجريئة من أجل الغذاء: المبادرات الإقليمية والقُطرية الرائدة» وذلك للحفاظ على الزخم الذي رافق المؤتمر، ورفع الطموحات بتعزيز ملف الأمن الغذائي، وضمان حضوره المستمر على رأس أجندات العمل الوطني والإقليمي.
ومنذ مؤتمر قمة الأمم المتحدة للنظم الغذائية لعام 2021م وحتى قمة مجموعة العشرين (G20) ومؤتمر الأمم المتحدة السابع والعشرين للتغير المناخي (COP27)، الذي استضاف لأول مرة مناقشات منفصلة للأنظمة الغذائية، تربعت الموضوعات المتعلقة باستدامة النظم الغذائية في صدارة جدول الأعمال الدولي، مع وضع الابتكار في مركز هذه النقاشات رفيعة المستوى، فإذا نظرنا إلى جائحة كوفيد-19 وكأنها جرس الإنذار الذي جاء ليلفت انتباه الباحثين والعلماء والمخططين وصانعي السياسات وشركاء التنمية والقطاع الخاص إلى أهمية توظيف التكنولوجيا والابتكار لتحقيق الصمود في حالات عدم اليقين، وقلة درجة وضوح معالم المستقبل. فخلال أشهر الجائحة لعبت التقنيات الرقمية دورًا كبيرًا ومهمًا في ربط المؤسسات ولاستمرار دفة العمل عن بعد، وهذا يؤكد تفوق الابتكارات في مجالات التكنولوجيا الرقمية بالمقارنة مع الابتكارات الأخرى، مما يفرض أهمية التركيز على عبور الفجوة التقنية والمعرفية بين الوضع الحالي والأداء المأمول، إذ لم تكن الحاجة إلى حلول مبتكرة في نظم الغذاء أكثر أهمية مما هي عليه الآن.
ولعل أهم مسارات العمل ذات الأولوية القصوى تكمن في تشجيع العلماء والباحثين والمبتكرين في تسريع الجهود الابتكارية المرتبطة بالحالات الإنسانية، وذلك بنمذجة جميع هذه الحالات سواءً كانت من أثار تغيير المناخ أو الأوبئة، أو الحروب والصراعات، أو اختلالات خطوط الإمداد، ثم تقييم الاحتياجات الإنسانية العاجلة في ظل انعدام الأمن الغذائي، أو مختلف درجات العجز الغذائي، ووضع سيناريوهات الابتكارات التي لو أنها كانت متوفرة لكانت قللت من الآثار السلبية لهذه الحالات، وبذلك يمكن تطويع الأفكار الابتكارية لتصبح أكثر قابلية للتجريب والتطوير، بدلًا من إطلاق العنان للمبتكرين للقيام بمبادرات متنوعة وفي مختلف الاتجاهات من دون تنسيق أو توجيه لخدمة الاحتياجات الواقعية، وهنا يأتي دور القطاع الخاص والصناعة في إتاحة حزم التمويل التحفيزي لسد عجز التمويل لابتكارات المرحلة المبكرة، أي مرحلة ما قبل اكتمال تطوير الفكرة وتجريبها وتحويلها إلى منتج قابل للتسويق.
بالرغم من أن الابتكارات التكنولوجية الرقمية قد قطعت شوطًا كبيرًا في تسهيل الاتصالات وإتاحة الرفاهية للإنسان، إلا أن البشرية تواجه لحظة محورية بالنسبة لاستدامة نظم الغذاء، الأمر الذي يأتي على قائمة المتطلبات الأساسية لبقاء الإنسان على هذا الكوكب، وينظر العلماء والباحثون والممارسون وصانعو السياسات بكثيرٍ من الطموح إلى الابتكار على أنه طوق النجاة في هذه المسألة المعقدة التي تتطلب نهجًا متعدد الأبعاد، وتعد ريادة الأعمال أنها الرديف للجهود البحثية والابتكارية، ولذلك يكتسب قطاع ريادة الأعمال أهمية كبيرة في دعم تسريع الابتكارات المرتبطة بالحالات الإنسانية، في الواقع يمكن لقادة الأعمال والمستثمرين والمبتكرين إحداث ثورة تكنولوجية خضراء جديدة في تاريخ البشرية، بدءًا من دعم الزراعة الرقمية الدقيقة، ودعم خطوط الإنتاج بالتقنيات المتقدمة، واستزراع اللحوم المختبرية، إلى إنتاج وحدات المعالجة الفردية المبتكرة، وغيرها من التقنيات المتاحة للمستهلكين، مع التركيز على الاستثمار في تنمية وبناء المهارات التقنية والعلمية اللازمة في كل مرحلة، والبحث عن أوجه التكامل والتآزر المحتملة بين تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومجالات الابتكار ذات الصلة بالحالات الاستثنائية، مثل تقنيات حفظ الأغذية، وابتكارات سلاسل الإمداد، وهذا لا يتأتى سوى بكسر الحلقة المفرغة بين الشركاء والفاعلين في النظم الغذائية ومنظومة الابتكار، وذلك عن طريق وضع نموذج للتنمية التشاركية التي تعتمد على تسهيل نقل وتوطين التكنولوجيا، والربط بين المعطيات الموجبة للابتكار مع أدوات العالم الرقمي الافتراضي للخروج بحلول ذكية ومستدامة.
فالتقدم الهائل في ابتكارات التكنولوجيا الرقمية ينبغي أن يكون المحرك في دعم مسارات مستحدثة في الابتكار على نحو تكاملي، والتفاعل الإيجابي بين مختلف مدخلات منظومة الابتكار هو العامل الحاسم في تسريع اللحاق بالتقدم المطرد للابتكارات الرقمية، والأهم من هذا كله هو تبني الفكر الاستباقي في بلورة الابتكارات كمتطلب حتمي في سياق صناعة المستقبل لتعزيز الخيارات الاستراتيجية الموجهة للتكييف المستدام أمام أية تداعيات ناشئة، وبأقل درجات التأثير غير المرغوب.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: النظم الغذائیة
إقرأ أيضاً:
جرانفيل وودز.. عبقرية اختراع القطار الكهربائي وصراع مع أديسون على براءة الابتكار
تحل اليوم ذكرى حصول المخترع الأمريكي جرانفيل وودز على براءة اختراع “القطار الكهربائي”، الذي شكل نقلة نوعية في عالم النقل منذ ظهوره لأول مرة في 10 نوفمبر عام 1891، بعد سنوات من ظهور القطار البخاري. يعد هذا الاختراع ثورة تقنية في ذلك الوقت، حيث غير مسار وسائل النقل وقدم بديلاً نظيفًا وفعالًا عن القطار التقليدي.
التحديات والتطورات في اختراع القطار الكهربائي
لم يكن اختراع القطار الكهربائي مجرد إنجاز عابر، بل تطلب سلسلة من الابتكارات التكميلية؛ فقد طور وودز محركًا خاصًا يحمل اسمه يحول الكهرباء إلى حركة، ما سمح للقطار بالعمل على الطاقة الكهربائية. كما عمل على تطوير معدات تنقل الكهرباء إلى القطار، بالإضافة إلى ابتكار نظام مكابح يعمل بضغط الهواء لتأمين وسيلة آمنة للتوقف.
دورة عبد المنعم مدبولى.. افتتاح مهرجان القاهرة الدولى للطفل العربى أبرزها قصيدة السد العالي.. محطات في حياة الشاعر الراحل محمد إبراهيم أبو سنة مسيرة جرانفيل وودز بين التعليم والعمل
ورغم أن وودز لم يكمل تعليمه النظامي حيث التحق بالمدرسة حتى سن العاشرة فقط، فإنه اكتسب مهاراته العملية من العمل في ورش الميكانيكا. ومع بلوغه سن السادسة عشرة، عاد للدراسة والتحق بإحدى المدارس الصناعية، ما أتاح له التدريب الرسمي في مجال الميكانيكا الذي اهتم به بشدة. ولما اكتشف أن العمل لدى الآخرين لن يحقق طموحاته، أسس شركة خاصة به تحت اسم “وودز ريال واي تيليجراف كومباني” لتسويق ابتكاراته في مجال التلغراف والنقل السككي.
المعركة القانونية مع أديسونكان من أبرز ابتكارات وودز جهاز التلغراف الذي يربط بين القطارات المتحركة. ولكنه وجد نفسه في نزاع قضائي مع المخترع الشهير توماس أديسون، الذي قدم هو أيضًا نموذجًا مشابهًا في نفس الفترة. رغم خسارته القضية ضد أديسون، رفض وودز الانضمام لأي من شركاته وفضل الحفاظ على استقلاليته، مسجلاً بذلك موقفًا بارزًا في الدفاع عن حقوقه واختراعاته.
الرحيلتوفي جرانفيل وودز في 30 يناير 1910، تاركًا وراءه إرثًا غنيًا في مجال النقل.