الاقتصاد العالمي لم يتجاوز مرحلة الخطر بعد
تاريخ النشر: 16th, January 2024 GMT
أيهان كوس و إنديرميت جيل
مع بداية عام 2024، يبدو أن آفاق الاقتصاد العالمي تتجه نحو التحسن. إذ تخرج الاقتصادات الكبرى الآن سالمة في الأغلب الأعم من أسرع ارتفاع في أسعار الفائدة في الأعوام الأربعين الأخيرة، ومن دون الندوب المعتادة الناجمة عن انهيارات مالية أو معدلات بطالة مرتفعة.
نادرا ما تنجح البلدان في ترويض معدلات التضخم الحادة دون التسبب في إشعال شرارة الركود.
لكن الحذر مطلوب. تشير أحدث التوقعات الاقتصادية العالمية الصادرة عن البنك الدولي إلى أن معظم الاقتصادات -المتقدمة والنامية على حد سواء- سوف تنمو بشكل أبطأ كثيرا في عامي 2024 و2025 مقارنة بما كانت عليه في العقد الذي سبق كوفيد-19.
ومن المتوقع أن يتباطأ النمو العالمي للعام الثالث على التوالي -إلى 2.4%- قبل أن يرتفع إلى 2.7% في عام 2025. ومن المتوقع أن يبلغ نمو نصيب الفرد في الاستثمار في عامي 2023 و2024 نحو 3.7% في المتوسط، أي بالكاد نصف متوسط العقدين السابقين. تتشكل فترة العشرينيات من القرن الحادي والعشرين لتصبح عصر الفرص الضائعة.
سوف تمثل نهاية عام 2024 نقطة منتصف الطريق لما تصورنا أنه سيكون عقدا تحويليا للتنمية -حيث كان من المفترض القضاء على الفقر المدقع، واستئصال أمراض مُعدية رئيسية، وخفض انبعاثات الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي إلى النصف تقريبا. ما يلوح في الأفق بدلا من ذلك هو مَعلَم بائس: أضعف أداء للنمو العالمي على الإطلاق خلال نصف عقد منذ عام 1990، حيث من المتوقع أن يكون متوسط دخل الفرد في ربع جميع البلدان النامية أقل في نهاية عام 2024 مقارنة بما كان عليه عشية اندلاع جائحة كوفيد-19. يهدد النمو الاقتصادي الواهن بتقويض عدد كبير من الضرورات العالمية ويزيد من صعوبة تمكن الاقتصادات النامية من توليد الاستثمار اللازم للتصدي لتغير المناخ، وتحسين الصحة والتعليم، وتحقيق أولويات رئيسية أخرى. كما يهدد بترك أكثر الاقتصادات فقرا عالقة مع أعباء ديون كفيلة بإصابتها بالشلل. ومن شأنه أن يطيل من بؤس ما يقرب من واحد من كل ثلاثة أشخاص في البلدان النامية الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي. وهذا يرقى إلى كونه فشلا تاريخا: عقد ضائع، ليس فقط لِـقِـلة من البلدان، بل والعالم أجمع. ولكن لا يزال من الممكن تحويل التيار. يشير تحليلنا إلى أن أداء معظم الاقتصادات النامية في النصف الثاني من عشرينيات القرن الحادي والعشرين قد يكون في أقل تقدير ليس أسوأ مما كان عليه في العقد السابق لجائحة كوفيد-19 إذا فعلت شيئين.
أولا، يتعين عليها أن تركز سياساتها على توليد طفرة استثمارية مفيدة على نطاق واسع -طفرة تدفع نمو الإنتاجية، وترفع الدخول، وتحد من الفقر، وتزيد من الإيرادات، وغير ذلك الكثير من الأمور الطيبة.
ثانيا، يتعين عليها أن تتجنب ذلك النوع من السياسات المالية التي كثيرا ما تعرقل التقدم الاقتصادي وتسهم في زعزعة الاستقرار.
تشير الأدلة المستمدة من الاقتصادات المتقدمة والنامية منذ الحرب العالمية الثانية إلى أن المزيج الصحيح من السياسات من الممكن أن يزيد الاستثمار حتى عندما لا يكون الاقتصاد العالمي قويا. فقد تمكنت البلدان في مختلف أنحاء العالم من توليد ما يقرب من 200 طفرة استثمارية منتجة لمكاسب غير متوقعة، والتي يمكن تعريفها بأنها فترات تسارع فيها نمو نصيب الفرد في الاستثمار إلى 4% أو أكثر وظل هناك لأكثر من ست سنوات.
وقد قفزت كل من الاستثمارات العامة والخاصة خلال هذه الفترات. كانت الخلطة السرية تتألف من حزمة سياسية شاملة عملت على توحيد الموارد المالية الحكومية، وتوسيع التدفقات التجارية والمالية، وتعزيز المؤسسات الضريبية والمالية، وتحسين مناخ الاستثمار لصالح المشروعات الخاصة.
إذا نجحت كل من الاقتصادات النامية التي هندست مثل هذه الطفرة الاستثمارية في العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين في تكرار هذا الإنجاز في عقد العشرينيات الحالي أيضا، فإن الاقتصادات النامية ستكون بذلك اقتربت من قطع ثلث الطريق إلى تحقيق كامل إمكاناتها الاقتصادية. وإذا كررت كل الاقتصادات النامية أفضل أداء حققته في غضون عشر سنوات في تحسين الصحة والتعليم والمشاركة في قوة العمل، فإن هذا كفيل بسد معظم الفجوة المتبقية. وسوف يكون النمو المحتمل في الاقتصادات النامية في عشرينيات القرن الحالي أقرب إلى ما كان عليه خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
هناك أيضًا خيار إضافي متاح لثلثي الاقتصادات النامية التي تعتمد على صادرات السلع الأساسية. إذ يمكنها أن تحسن من أدائها ببساطة من خلال تطبيق مبدأ أبقراط على السياسة المالية: «أولا، لا تُـحدِث مزيدا من الضرر».
الواقع أن هذه الاقتصادات عُرضة بالفعل لدورات الازدهار والكساد المنهكة (لأن أسعار السلع الأساسية من الممكن أن ترتفع أو تنخفض فجأة)، وعادة ما تؤدي سياساتها المالية إلى زيادة الأمور سوءا على سوء.
عندما تُـفضي الزيادات في أسعار السلع الأساسية إلى تعزيز النمو بمقدار نقطة مئوية واحدة، على سبيل المثال، تعمل الحكومات على زيادة الإنفاق على نحو يؤدي إلى تعزيز النمو بمقدار 0.2 إضافية من النقطة المئوية.
في عموم الأمر، في أوقات الرخاء، تميل السياسة المالية إلى زيادة نشاط الاقتصاد. وفي أوقات الشِدّة، يؤدي هذا إلى تعميق الركود. وتزداد قوة «مسايرة التقلبات الدورية» على هذا النحو بنسبة 30% في الاقتصادات النامية المصدرة للسلع الأساسية مقارنة باقتصادات نامية أخرى. كما تميل السياسات المالية إلى أن تكون أكثر تقلبا بنسبة 40% في هذه الاقتصادات مقارنة بالاقتصادات النامية الأخرى. وتكون النتيجة إعاقة مزمنة لآفاق نموها. ومن الممكن الحد من هذا التراجع من خلال -بين أمور أخرى- إنشاء أطر مالية لتنظيم الإنفاق الحكومي، وتبني أنظمة أسعار صرف مرنة، وتجنب القيود المفروضة على تحركات رأس المال الدولية.
إذا طُــبِّقَت هذه التدابير السياسية كحزمة واحدة، فسوف تحقق الاقتصادات النامية المصدرة للسلع الأساسية زيادة في نمو نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة نقطة مئوية واحدة كل أربع إلى خمس سنوات.
حتى الآن، كانت عشرينيات القرن الحالي فترة من الوعود المنقوضة التي لم تتحقق. لقد فشلت الحكومات في تحقيق الأهداف «غير المسبوقة» التي وعدت بتحقيقها بحلول عام 2030: «القضاء على الفقر والجوع في كل مكان؛ ومكافحة التفاوت داخل البلدان وفيما بينها؛ ... وضمان الحماية الدائمة للكوكب وموارده الطبيعية. لكن عام 2030 لا يزال يفصلنا عنه أكثر من نصف عقد من الزمن. وهذه فترة طويلة بالقدر الكافي لتمكين الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية من استعادة الأرض المفقودة. وتحرك الحكومات على الفور لتنفيذ السياسات اللازمة من شأنه أن يعطي الجميع سببا للاحتفال.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القرن الحادی والعشرین الاقتصادات النامیة من الممکن الفرد فی ما کان إلى أن
إقرأ أيضاً:
لماذا لا تستورد بعض البلدان احتياجاتها من الكهرباء ؟
المياه قبالة سنغافورة تعجّ بناقلات النفط وسفن الحاويات وسفن الشحن التقليدية والمراكب الشراعية التي تستورد كل شيء من النفط إلى الأجهزة الإلكترونية. مع ذلك هنالك سلعة واحدة لا تنقلها أيٌّ من وسائل النقل هذه وتحتاجها سنغافورة «الدولة - المدينة»؛ إنها الكهرباء.
هذه الجزيرة الغنية والبالغة الضآلة تحصل على معظم إمداداتها من الكهرباء بحرق الغاز الطبيعي المستورد على الرغم من تعهدها بالحياد الكربوني في عام 2050. فهي ليس لديها مساحة تذكر لإقامة مزارع رياح أو طاقة شمسية. لذلك تخطط سنغافورة للحصول على كهرباء الموارد المتجددة بطريقة مختلفة وتحديدا عبر كابلات المسافات البعيدة من جيرانها.
وافقت حكومتها مبدئيا على تمديد كابلات لنقل الكهرباء من كمبوديا وإندونيسيا وفيتنام. بل حتى من أستراليا التي تبعد عنها بحوالي 4300 كيلومتر. وتريد سنغافورة خلال 10 سنوات استيراد ثلث الكهرباء التي تستهلكها بهذه الطريقة.
منافع استيراد وتصدير الكهرباء
في وقت يشهد تصاعد التوترات الجيوسياسية والتجارية قد يبدو من الجنون الاعتماد على البلدان الأخرى في الحصول على الكهرباء التي ربما هي أهم المدخلات في أي اقتصاد حديث. مع ذلك تفعل بعض البلدان ذلك بالضبط. فالاتحاد الأوروبي يريد من كل أعضائه أن يكون بمستطاعهم استيراد أو تصدير ما يساوي على الأقل 15% من التوليد المحلي للكهرباء بحلول عام 2030. ولدى بريطانيا كابلات ربط بحرية مع 6 بلدان وتبني المزيد منها. كما تتيح كابلات جديدة في إفريقيا مثل تلك التي بين كينيا وتنزانيا وإثيوبيا إمكانية اقتسام المزيد من الكهرباء هناك. وشرعت بنجلاديش في شراء الكهرباء من نيبال عبر شبكة الهند في نوفمبر. وبدأت ماليزيا ولاوس وسنغافورة وتايلاند أيضا تبادلا تجاريا متعدد الأطراف للكهرباء. ووافقت مؤخرا بوليفيا وكولومبيا وإكوادور وبيرو على تحقيق المزيد من التكامل بين شبكاتها وفي بالها الغرض نفسه. مبرر مثل هذه المشروعات بسيط. فعندما تلجأ البلدان إلى استيراد الكهرباء في أوقات ذروة الطلب أو عندما ينخفض توليدها محليا يمكنها تجنب إنشاء قدرة توليد احتياطية زائدة عن الحاجة وبالتالي مكلفة. تنقل الكابلات تحت القنال الإنجليزي الكهرباء من بريطانيا إلى فرنسا في الصباح لأن مستهلكيها الفرنسيين ينفقون وقتا أطول من البريطانيين في تناول وجبة الفطور. لكن الوضع ينعكس بعد الظهر مع شروع البريطانيين في غَلْي أباريق الشاي. فالاختلاف في وقت تناول الوجبة الذي يستمر لساعة واحدة بين البلدين يعني أيضا اختلافا في ذروة الطلب على الكهرباء. يمكن أن تساعد تجارة الكهرباء البلدان على التخلص من انبعاثات الكربون أيضا. لا تتوافر الرياح أو أشعة الشمس في كل الأوقات. لذلك تعاني الشبكات التي تعتمد عليهما إلى حد بعيد في إمداد الكهرباء من ضعف التوليد في الأيام الغائمة أو تلك التي يسكن فيها الهواء. كما تحصل على كهرباء تزيد عن الحاجة عندما تسطع الشمس وتعصف الريح. تمديد كوابل إلى بلدان أخرى يحل مشكلتي الفائض والنقص في توليد الكهرباء. فالبلدان المصدرة يمكنها بيع الكهرباء التي قد تضيع هدرا بخلاف ذلك. والبلدان المستوردة تحصل على كهرباء نظيفة ورخيصة. إجمالا، قدَّرت الجهات التنظيمية المسؤولة عن الكهرباء بالاتحاد الأوروبي مكاسب تكامل شبكات الكهرباء في بلدانه بحوالي 34 بليون يورو (35.5 بليون دولار) سنويا في عام 2021. رغما عن ذلك اقتصر التبادل التجاري في عام 2023 على 2.8% فقط من كهرباء العالم.
تجارة محدودة.. لماذا؟
خارج أوروبا لا تزال تجارة الكهرباء عند حدها الأدنى وفي معظمها مجرد نقل للكهرباء من عدد قليل من المشروعات الكبيرة للتوليد المائي عبر حدود مجاورة مثلا من الباراجواي إلى البرازيل أو من لاوس إلى تايلاند. في الماضي كان انعدام الكفاءة في نقل الكهرباء يعودُ لأسباب فنية. فكميات كبيرة من الكهرباء تفقد أثناء النقل ما جعل تصديرها لمسافات بعيدة غير اقتصادي. لكن اليوم كابلات التيار المباشر عالي الجهد فعالة جدا في نقل الكهرباء. وأثبتت مشروعات في البرازيل والصين جدواها عبر مسافات تمتد إلى آلاف الكيلومترات. المشكلة في الواقع تتعلق بالجغرافيا السياسية. فالحكومات تشعر بالقلق من احتمال وقف البلدان المجاورة إمداد الكهرباء من شبكاتها الكهربائية. ويحتاج الاتفاق على القواعد التي تحكم تجارة الكهرباء وتطبيقها إلى جهات تنظيمية بارعة. كما سيتذمر المواطنون أيضا (في حالتي تصدير واستيراد الكهرباء) إما لأن الكهرباء الوطنية ستذهب إلى الأجانب أو لأن الشركات الأجنبية المتعاقدة لجلبها ستستغل المستهلكين.
المخاوف مفهومة. فأوروبا عوقبت بعد نشوب حرب أوكرانيا لاعتمادها على غاز روسيا. كما تكشف حادثة إتلاف كابل الكهرباء في بحر البلطيق أن الكابلات في قاع البحر عرضة للتخريب من القوى الأجنبية. والنرويجيون مستاؤون من ارتفاع أسعار الكهرباء المحلية بسبب نقص الكهرباء في الجانب الآخر من خليج سكاجيراك (السويد). ويتساءل الآيسلنديون عن فائدة غمر وديان المياه الصافية لتنفيذ مشروعات توليد مائي يُصدَّر كل إنتاجها من الكهرباء إلى الخارج. يمكن أن يحقق الربط الكهربائي بين الهند وباكستان أو اليابان وكوريا الجنوبية فوائد ضخمة لهذه البلدان. لكن فقدان الثقة المتبادل يعني استبعاد حدوث ذلك قريبا. بالقدر نفسه ستستفيد شبكات الكهرباء في أمريكا والمكسيك من الربط لكن «الخلافات حول قواعد اللعبة» تمنع ذلك كما يقول إسماعيل ارسينييجاس رويدا، الاقتصادي بمركز الأبحاث «راند». ويبدو أن الخوف من خطف بلدان أخرى موردا قيِّما ساهم في حظر ماليزيا تصدير الكهرباء من الموارد المتجددة في عام 2021 (رفعت هذا الحظر في عام 2023). يقول يوجين توه، المسؤول بهيئة سوق الطاقة في سنغافورة «من المفهوم أن كل بلد يسعى وراء مصلحته».
نجاحات الربط الكهربائي
على الرغم من صعوبة العوائق فإن تجارة الكهرباء تحقق في الواقع نجاحات كبيرة. مثلا أقدم رابط مشترك لبريطانيا مع البلدان الأوروبية الأخرى ظل ينقل الكهرباء من بريطانيا إلى فرنسا وبالعكس لما يقارب 40 عاما باستثناء فترات قصيرة لأسباب فنية. وظلت تجارة الكهرباء بين البلدين قائمة طوال فترة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وأضافت بريطانيا 8 خطوط ربط أخرى بطاقة إجمالية تقارب 10 جيجاوات أو 20% تقريبا من استهلاكها للكهرباء في وقت الذروة. إلى ذلك، تريد سلطات الكهرباء زيادة هذه الكمية إلى الضعف تقريبا أو حوالي 18 جيجاوات بحلول عام 2032. وفي عام 2021 قدّرت شبكة الكهرباء الوطنية التي تملك معظم خطوط ربط بريطانيا مع نظيراتها في البلدان الأخرى المعنية أن الروابط الحالية والمخططة ستوفر للمستهلكين البريطانيين 20 بليون جنيه استرليني (24.5 بليون دولار) بحلول عام 2045.
ينشط المستثمرون أيضا. فأول خط رابط لبريطانيا أنشئ بموجب الهيكل التنظيمي الحالي للكهرباء وامتد إلى بلجيكا في عام 2019 كان مربحا في أول 5 أعوام بحيث بلغ الحد الأعلى المقرر له بموجب القانون وتوجب عليه إعادة 185 مليون جنيه استرليني من أرباحه إلى المستهلكين. أثار ذلك اهتمام آخرين. فشركة ميريديام لإدارة الأصول تمول تشييد كابل جديد يربط بريطانيا بألمانيا. والنفق الذي يمر تحت القنال الإنجليزي ينقل الآن كابلات إلى جانب القطارات. ليس ذلك فقط، بل فكرت شبكة الكهرباء الوطنية التي يعَد خطها الرابط بين بريطانيا والدنمارك الأطول في العالم بمسافة 765 كيلومترا في ربط بريطانيا بأمريكا. المسافات الأبعد تعني المزيد من التكاليف الأولية لكن من المستبعد أن يكون لدى شبكات الكهرباء على كلا طرفي الرابط الطقس نفسه (الرياح والسحب) أو نفس أنماط استهلاك الكهرباء ما يعني وجود إمكانية أكبر لاستغلال التفاوت بينهما في التوليد والاستهلاك، كما تقول ربيكا سيدلر، المسؤولة بالشبكة الوطنية للكهرباء في بريطانيا. إحدى ميزات كابلات الربط البريطانية مرونتها في أوضاع غير مضمونة. فالشبكات التي ترتبط بها بريطانيا لديها أنماط من مزيج موارد توليد الكهرباء. فرنسا تعتمد على الطاقة النووية فيما يهيمن التوليد المائي في النرويج. وهذا يمنحها إمدادا كهربائيا أكثر تنويعا وضمانا.
ما هو أكثر من ذلك أن بريطانيا في العادة تستورد طاقة كهربائية أكثر من تلك التي تصدرها. لكن عندما بدأت أوروبا تتخلى عن غاز روسيا وتوقفت بعض محطات التوليد النووية الفرنسية في عام 2022 تحول النقل السائد للكهرباء إلى الاتجاه المعاكس وأصبحت بريطانيا لفترة قصيرة مُصدِّرا صافيا. ومع تشييد المزيد من مزارع الرياح في بحر الشمال يتوقع مسؤولو تنظيم الكهرباء في بريطانيا أن يصدّر بلدهم الكثير من الكهرباء مما يسمح بتحولها إلى التصدير بشكل أكثر ديمومة. ونظرا لاتضاح إمكانية الربط الكهربائي في أوروبا لمسافات بعيدة تشرع القارة الآن في تنفيذ مشروعات طموحة إذ يجري تمديد كابل بين اليونان وقبرص. وهذه مهمة صعبة إذا وضعنا في الاعتبار المسافة التي تصل 900 كيلومتر وعمق البحر الأبيض المتوسط.
تتيح نماذج ربط أخرى نقل الكهرباء في اتجاه واحد مثل الكابل المقترح من المغرب إلى بريطانيا. وتعتقد شركة «إكس لينكس» التي تقف وراء هذا المشروع أن الجمع بين توليد الكهرباء بالرياح ليلا وبضوء الشمس نهارا واستخدام البطاريات عند الحاجة يعني قدرتها على تقديم الطاقة الأساسية (الحد الأدنى اللازم من الكهرباء في كل الأوقات) والإمداد المطلوب في وقت الذروة. وتقدم شركة «سن كيبل» التي تأمل في ربط أستراليا وسنغافورة مزيجا مماثلا على مدى مسافة أبعد كثيرا. هنالك تنويعة أخرى لمشروعات الربط الكهربائي وهي إنشاء روابط كهربائية من نفس مزرعة الرياح البحرية إلى أكثر من بلد واحد. ذلك يعني أن من الممكن إرسال الكهرباء المنتجة إلى السوق الأكثر ربحية في أية لحظة معينة ويمكن استخدام الكابلات كرابط بين شبكات هذه البلدان عندما يكون الطقس هادئا (عندما تتوقف المزرعة عن توليد الكهرباء لعدم هبوب الرياح بقدر كاف- المترجم). لقد بدأ تشغيل أول مشروع من هذا النوع في بحر البلطيق بين الدنمارك وألمانيا. وهنالك خطط لمشروعات مماثلة في بحر الشمال.
كهرباء من أجل السلام
أوروبا غنية وبالطبع متكاملة اقتصاديا على نحو غير عادي. فهي لديها هيئات تنظيمية إقليمية بسلطات واسعة تمكِّنها من تطوير وفرض القواعد اللازمة لربط شبكات الكهرباء الوطنية التي كثيرا ما يتم تشغيلها بترددات وفروق جهد (فولتيات) مختلفة ووفقا لأنظمة تسعير مختلفة. كما ارتفع سعر كابلات الجهد العالي مع تنافس المزيد من المشروعات للحصول على إمداداتها الشحيحة. لكن لا يوجد سبب من حيث المبدأ يبرر عجز أجزاء أخرى من العالم عن الاستفادة من تبادل الكهرباء بالقدر نفسه. فبلدان جنوب شرق آسيا على سبيل المثال يمكنها توفير 100 بليون دولار بحلول عام 2040 بإضافة 230 جيجاواط من خلال النقل الجديد والربط بين الشبكات، وفقا لشركة أبحاث المناخ «ترانزيشن زيرو».
أوروبا أيضا لديها جغرافية سياسية مستقرة. وهذا ليس صدفة. فالاقتصادات الأوروبية مربوطة ببعضها عن قصد بهدف التخلص من الصراعات. والاعتماد المتبادل على تجارة الكهرباء في مناطق أخرى قد يساعد على نحو مماثل في تقليل المخاوف من البلدان المجاورة. وإذا لم يفعل ذلك سيكون الحل للخشية من الاعتماد على كابل وحيد لاستيراد الكهرباء إنشاءُ الكثير منها كما فعلت بريطانيا وعلى نحو ما تخطط له سنغافورة. كما هي الحال مع كل أنواع التجارة بيع الكهرباء عبر الحدود يفيد كل أحد. وما يصدُم تجاهلُ بلدانٍ كثيرة الاستفادة من هذه الإمكانية.