صراع حول مستقبل العدالة: خلافات تشتعل حول دور رجال الدين في ميدان المحكمة الاتحادية
تاريخ النشر: 16th, January 2024 GMT
16 يناير، 2024
بغداد/المسلة الحدث: تشهد الساحة السياسية العراقية تصاعدًا في خلافات حول دور رجال الدين في هيئة المحكمة الاتحادية العليا. وهذه الخلافات تتجاوز الحدود السياسية لتتحول إلى نقاش حول الطابع الديني للدولة وتأثيره على القضاء.
ويظهر جلياً انقسام القوى السياسية حيال هذا الموضوع، حيث يروج بعضها للرؤية التي ترى أن دور رجال الدين يعزز من تمثيل القيم الدينية في الهيئة القضائية.
مقابل ذلك، تعتبر القوى السياسية الأخرى – كالكتل الكردية والعربية السنية وممثلو الأقليات وقوى المجتمع المدني – هذه الخطوة تجاهلاً لتنوع العراق الديني والطائفي. يُشدد على أن تضمين فقرة تتعلق برجال الدين في مواضيع قضائية يعد توجهًا جديدًا نحو الدولة الدينية، متجاهلًا روح الدولة المدنية التي نص عليها الدستور.
ويظهر أن هذا النقاش يأخذ طابعًا سياسيًا ودينيًا، حيث تجد القوى الشيعية الكثير من التأييد لدور رجال الدين في المحكمة، بينما تعارضه الكتل الأخرى التي ترى فيه خطوة نحو تسييس القضاء وتأثير رجال الدين في قراراته.
هذه الخلافات لا تقتصر على قوانين الدولة فحسب، بل تشير إلى توترات أكبر حول هوية العراق وتوجهه المستقبلي. يبدو أن الساحة السياسية في العراق تتجه نحو مرحلة مصيرية، حيث يجب على السياسيين تحقيق توازن دقيق بين الاحترام للأصول والقيم الدينية وضمان استمرارية الدولة المدنية والتعددية الدينية.
وفُتح ملف قانون المحكمة الاتحادية العراقية آخر مرة عام 2019، وبعد أشهر من الشد والجذب السياسي، انتهت إلى تأجيل الملف حتى الدورة البرلمانية المقبلة، أي الدورة الحالية.
والأسبوع الماضي، قال رئيس الحكومة محمد السوداني، في بيان، إنه كلّف مستشاره للشؤون الدستورية بتأليف لجنة تضم ممثلين عن رئاسة الجمهورية والأمانة العامة لمجلس الوزراء، لإعادة النظر في مشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا، والذي سبق أن أعدته الحكومة عام 2015 وأحالته إلى مجلس النواب.
وتعتبر الفقرة الثالثة في مشروع قانون المحكمة الاتحادية العراقية الأكثر جدلاً، وتنص على “تعيين فقهاء بالشريعة الإسلامية”، كأعضاء مراقبين لسير العمل القضائي وإبداء وجهة نظر الدين، فيما يتم اختيار هؤلاء من خلال الوقفين السني والشيعي، اللذين يبديان ملاحظاتهما المتعلقة بطريقة اختيار رئيس وأعضاء المحكمة أيضاً.
وأنشئت المحكمة عام 2005، ومقرها في بغداد، وتتألف من رئيس وثمانية أعضاء، فيما تختص بالفصل في النزاعات الدستورية، وتعتبر قراراتها باتّة وملزمة للسلطات كافة.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
المصدر: المسلة
كلمات دلالية: المحکمة الاتحادیة رجال الدین فی
إقرأ أيضاً:
عن الدين والدولة في إسرائيل
أوضحت في مقالي السابق عن «الدين والدولة» أن اختلال العلاقة بينهما هو أحد العوامل القوية في تدهور الدولة وتآكلها من الداخل، وأريد في هذا المقال تطبيق هذه الرؤية على حالة الكيان الصهيوني في إسرائيل؛ لأن العلاقة بين الدين والدولة في إسرائيل متضاربة، بل متناقضة: ذلك أن إسرائيل تظل حائرة بين مفهومي الدولة العَلمانية والدولة الدينية:
والواقع أن إسرائيل تزعم دائمًا أنها دولة عَلمانية وليبرالية تتبنى نظامًا ديمقراطيًّا، وتتباهى بأنها في هذا الصدد تعد الدولة الوحيدة في العالم العربي والشرق الأوسط. ولا شك في أن نظام الدولة في إسرائيل يُعد نظامًا ديمقراطيًّا على غرار النظم السائدة في الغرب، فهو نظام يقوم على سيادة الشعب الذي ينتخب حكامه، وعلى الفصل بين السلطات الثلاث: السلطة التنفيذية،
والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية. وهناك مجال واسع من الحريات التي تسمح للإعلام ولسائر المواطنين بتوجيه النقد اللاذع لأي وزير ولرئيس الحكومة نفسه، وبالكشف عن أية انحرافات لهم والمطالبة بإقالتهم، وهذا ما نشاهده يوميًّا على شاشة التلفاز. ومع ذلك، فإننا نلاحظ أن هذا النظام يتفكك الآن في ظل ممارسات حكومة يمينية متطرفة تعصف بالسلطة القضائية، وتناوئ السلطة التشريعية،
وتتجاهل أصوات الشعب التي تعارض سياسات الحكومة بزعامة نتنياهو (الذي اتهمته محكمة العدل الدولية بارتكاب جرائم حرب وإبادة بحق الفلسطينيين، والذي أصبح بالتالي مطلوبًا للعدالة من دون جدوى، لأن النظام العالمي الراهن بسائر مؤسساته الدولية أصبح عاجزًا عن تحقيق العدالة). وفضلًا عن ذلك، فإننا لا يمكن أن نتصور نظامًا ديمقراطيًّا حقيقيًّا لا يؤمن بالعدالة حينما يقوم بالعدوان المتواصل على حقوق شعب آخر، بل يسعى إلى إبادته؛ فالديمقراطية عندئذ تصبح نظامًا ظاهريًّا أو وهميًّا (كما سبق أن أوضحت ذلك في مقال سابق بهذه الجريدة الرصينة بعنوان «أوهام الديمقراطية»).
تزداد حالة التفكك حينما يدخل الدين كأساس تقوم عليه هوية الدولة؛ إذ يظهر هنا على الفور التناقض بين مفهوم الدولة الدينية ومفهوم الدولة العَلمانية أو التي تدعي أنها دولة عَلمانية. ومن الضروري هنا التأكيد على أن العَلمانية ليست على تناقض- أو حتى تضاد- مع الدين؛ ولكن المؤكد أيضًا هو العَلمانية- مهما تعددت صورها- تتعارض مع مفهوم الدولة الدينية أو التي تتأسس على الدين باعتباره العنصر الجوهري في ماهيتها، وهذا الوضع المتناقض يحتاج إلى شيء من الإيضاح:
الواقع أن العلمانية قد ارتبطت بالجماعات اليهودية عبر العالم حتى شاع القول بأن اليهود هم المسؤولون عن نشأة العَلمانية وشيوعها في العالم كما تؤكد ذلك بروتوكولات حكمة صهيون، وهذا قول خاطئ: لأن العَلمانية وإن ارتبطت بالجماعات اليهودية منذ القرنين السابع والثامن عشر، إلا أنها قد نشأت بفعل تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية في العالم؛ ولهذا السبب فإننا نجد أن العَلمانية قد شاعت في دول ليس لها علاقة باليهودية (مثل اليابان) أو لها علاقة ضئيلة جدًا بها (مثل يوغوسلافيا في أوروبا). والحقيقة أن ارتباط العَلمانية بالجماعات اليهودية يرجع إلى تبني بعض هذه الجماعات في البداية أفكارًا أساسية تقوم عليها العَلمانية، ومنها: التخفف من سلطة الدين على الحياة الاجتماعية (مثل سلطة الشعائر والشرائع الدينية) وعلى الحياة السياسية (باستبعاد الدين كمصدر رئيس للتشريع)؛ ومنها أن العقل البشري يمكنه الوصول إلى الحقائق الدينية بدون وحي إلهي؛ ومن خلال إحلال الهوية اليهودية بدلًا من العقيدة اليهودية،
وإحلال اليهود بدلًا من الإله كمركز للقداسة؛ وهذا ما يتبدى في اليهودية الجديدة التي تسمي نفسها «اليهودية الإصلاحية» و«اليهودية الإنسانية»، وهذا ما فصَّل القول فيه الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته الشهيرة عن «اليهود واليهودية والصهيونية» (المجلد الأول، صفحات 224-229).
وبذلك يظهر لنا على الفور حالة التناقض الباطني في بنية دولة إسرائيل نفسها؛ لأن نشأتها الحديثة على أراضي فلسطين كانت على أساس من وعد بلفور الذي تعهد بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وذلك تحت إلحاح من المشروع الصهيوني. حقًّا إن الصهيونية ليست مرادفة لليهودية، ولكن المشروع الصهيوني نفسه يدعمه توجه ديني يتمثل في عقيدة اليهود بأن دولتهم تمتد من النيل إلى الفرات. ومن هنا تم استجلاب اليهود من أنحاء العالم لتحقيق المشروع الصهيوني في إنشاء هذا الكيان الجديد الذي يحقق العقيدة اليهودية على أرض الميعاد، وهو مشروع يستخدم الدين لتحقيق أهدافه السياسية،
وهذا ما يفسر لنا السبب في أن بايدن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق عندما زار إسرائيل داعمًا لها في بداية حربها الأخيرة على غزة، قد أكد بمجرد نزوله من سلم الطائرة في تل أبيب قائلًا: إن المرء لا يحتاج أن يكون يهوديًّا لكي يكون صهيونيًّا، وهذا يؤكد على أن الصهيونية هي مشروع سياسي عالمي مدعوم من الغرب منذ نشأته. أتى اليهود من مختلف الأعراق من أوروبا الغربية ومن أوروبا الشرقية، بل حتى من يهود الحبشة،
طامحين أو حالمين بأن اليهودية الإصلاحية سوف تجمعهم، وبأن العَلمانية سوف تكفل لهم العيش الآمن رغم تعدد الأعراق! ولكن هذه العَلمانية تتبدد في ظل هيمنة تيار ديني يميني متطرف على السلطة في الكيان الإسرائيلي، وكلمة «الكيان» هذه مشروعة؛ ليس فقط لأن دولة إسرائيل هي دولة قد تم غرسها عنوة داخل الأراضي الفلسطينية، وإنما أيضًا لأنها دولة بلا حدود معلومة، بل تتوسع حدودها غير المشروعة باستمرار. هذا التناقض في بنية الدولة هو ما يجعلها كيانًا هشًّا مهددًا بالتفكك من الداخل، وهو ما يؤدي إلى التشكيك في هوية هذا الكيان؛ ومن ثم فلا غرابة في أن سؤال الهوية أصبح هو السؤال المهيمن على الإسرائيليين في الآونة الأخيرة.